تلك نجمة عراقية – قصة : لمياء الآلوسي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أنفاسفوق منضدتي الخشبية الصغيرة ، حاولت , لملمت أوراقي المبعثرة ،   لم أكن اعرف أني كتبت ذلك كله وسط  شعور بهذيان بهيجٍ ، هكذا يكون الإنسان عندما يتخلى عن ذاكرة الآلهة ،  نبياً منعتقا من جحيم الخيال  ، ويصبح نافراً بلا لجامٍ , يصبحُ غيرَ مأمون الجانب وكأنه مهرة مجنونة !
 في ذلك الذوق المفروش بالعوسج ،  في ظهيرة يوم  عراقي مليء  بالخوف والترقب  ، وحيث الدخان يدخل إلى القلب ليخدر الحياة فينا , كان صوتها يصلني  ،  فيدفع أفكاري  كأبخرة  تتصاعد لتتبدَّد .
 ماعدت قادرة على الإحتمال في هذه الأجواء المشحونة  ، فبيوتنا التي بُنيتْ منذ عهد بعيد  تتماهى فيما بينها وتتلاصق ، حتى يصبح الهمس مشتركاً  والألم واحداً ، فلقد كنا نسكن في تلك المنازل المُنَضَّدة على التلال المطلة كالأثداء على ضفاف النهر ...
بيوتٍ شهدت دون إرادةٍ منها او بإرادةٍ ! صنوفَ الحكايات المخبأة والسعيدة الحزينة ،  ولازالت تضمنا او نضمها  لا ندري  ...
بيوت شرقية صغيرة ، أسجيتها العالية تهرأت بمرور الزمن  ، وأصبحت تنبئ بخجلٍ ،  أنَّ هناك أسواراً بيننا  بما تبقى فيها من حجارة ، لكن ما بيني وبين جارتي وابنتها ليس سوى علب الصفيح الصدئة عملنا معاً على ملئها بالطين ، وغرزنا فيها بعض النباتات المشتركة التي كنا نتناولها بحميميةٍ مع أقراص الخبز الطازجة   ، كلما أوقدت تنورها الطيني  ، وأوقدت معه حكاياتٍ شجية وكثيراً ما  تُدعو للإستزادة  لغرابتها  ، لكنها لا تلبث أن تبترها فتتركني فريسةً لتذمري او لإشفاقي !

ركضتْ عبر السياج , دخلت باحة بيتها .
كانت تقف بجانب تنورها الطيني ،  في تلك الباحة المكشوفة  ، متشحة بالبياض ، وتتلفع بفوطة عراقية بيضاء  لكن خصلات شعرها الأبيض الممزوجة  ببقايا من سحب الحناء الشاحبة تهلهل متماوجة من خلف ستارها الأبيض
-  أنت هنا  ؟؟
همست لي وفي عينيها بريق أخافني  . وضعتْ كلتا كفيها على فوهة التنور الخامد ، وأحنت رأسها وكأنها غارقة في صلاتها .
-  ستة أولاد  أردتهم أن يطهروني من هذه الدنيا ,  ذهبوا جميعاً  ( صفقت بكلتا يديها وأزاحتهما عاليا ) وتركوني للوحشة , ستة أولاد مع أبيهم  وهذه المسكينة  .
قالتها وهي تشير إلى ابنتها الجالسة في الزاوية البعيدة منتحبة تلطم صدرها العاري .
-  تتصور أني مجنونة .
إقتربت الإبنة خائفة .
-  منذ أن رأت سحب الدخان
-  لكنها تعرف جيداً أنَّ ذلك بسبب الإنفجارات وهذا ليس جديداً علينا .
-  لقد جُنَّت هذه المرأة  , جُنت  , تتصور أنها نهاية الدنيا  ، ويوم القيامة  آتٍ دون شكٍّ .
إندفع صوتها المبحوح
-  دجلة , نهرنا الجلاّب ,  لقد كنتِ صغيرة  ,  ألا تذكرين  ؟
بدأت تجوب المكان  ثم توقفت على حافة التل العالي الباسط كفيه على  كتف النهر و كأنه  يوصيه  ، ثم انحدرتْ بانحدار الطريق الترابي الذي عبدته أقدام من مروا عبر هذا الزمان ...  
فبيتها هو الوحيد الذي أعتقته من الحواجز ، وتركت  المكان مفتوحاً بينه وبين النهر .
 في لحظة وجلٍ يكبلنا أنا والإبنة مشت جارتي المليئة بالحياة ،  باتجاه النهر ، فأمامها  بضعة أمتارٍ في أرض وعرة ...
 مشينا خلفها مبقين على مسافة بيننا ،  لأننا نعرف أنها عنزة جبلية لا تُقهر !
في الأفق البعيد  ... إمتداد عجيب لسحب الدخان المتماوج يمتلك النهر ، فيدفعه بقوة سحرية إلى فسحة السماء فيلتهب العشب المخضل بالقطران  ، ويمد رداءه على طول النهر وعرضه , يتدفق اللهب في كل مكان , ينسحب مرة معتذراً للنهر  , يجرجره  هواءُ تموز اللاهب فيتماوج في كل مكان متناسياً اعتذاره  !
توقفنا نحن الثلاثة غير بعيد عن النهر لكنها انفلتت مندفعة إلى أحضان دجلة  كما العاشقة البكر بعد أن أزاحتْ فوطتها وألقت بها على الشاطئ ، وبدأت تغرف بيديها من مائه لتسكبَهُ عليه في محاولة لإخماد نارهِ ! أية غرابة وأي عجب  ومَن يطفيء النار بالنار ؟
ولكنها - وهذا هو الأغرب -   تؤمن عميقاً بإمكانية ذلك .  
-   لقد جنت , الم أقل لك ( قالتها  الابنة  هامسة وسط ذهولها  )
-   في الصباح عندما سمعنا إنفجار أنبوب  النفط  ,  وتدفقت النيران على ضفاف دجلة ،  وجدتُها تركض إلى خزانة ملابسها لترتدي الملابس التي تدخرها للحج ووجدتها تدور حول البيت , تصرخ : إنه يوم القيامة يا ناس ، وأنا لم أتطهر من ذنوبي  ،  ستحل علينا لعنة الرب ،  حاولتُ تهدئتها لكنها لم تكن تسمعني  .
 
تذكرتُ وأنا  أتأملها أن بعض المتصوفة  أجازوا أنْ يطوف  الإنسان حول  بيته  ، بعد أن يعطره  ويغتسل ويرتدي ثياباً بيضاء نظيفة  ،  فيكون كمَن أدَّى فريضة الحج !! 
ولكن هذه المرأة ...  أية طريقة صوفية تتبع !!  وهي بكل هذه البساطة  ؟
 
خرجتْ باتجاهنا وقد التصق ثوبها  , الذي غدا بنياً , بما علق به من بعض العشب المحترق ،  والحلفاء المتفحمة  , بجسدها المختلج    , وبقايا حشائش على شعرها المجدولِ خلف ظهرها ...
تربعتْ على الشاطئ كسيرةً حزينة  فأحطنا بها ونحن نرى الحريق يمتد باتجاه الريح إلى الجنوب  ، فيشتعل العالم حولنا ،  وإذا اشتعل فسينطفئ  ويُذرّى ذات يوم , ساعةٍ , هنيهةٍ  ولكنَّ ما في القلوب مَن سيذرِّيه ؟  
سمعتها تهمس :
-   كنا نوقظ الفجر ,  نسابق الدنيا وننزل إلى النهر ، وخلفي أولادي الستة وأبوهم ، عبر طريقنا الوعرة , وبطوننا خاوية والماء البارد يلسعنا في كل مكان وعندما تتجمع السحب فوق الرؤوس الصارخة بالحياة ، وتنشب أظفارها فينا بزخات كحمم البراكين , يصبح وقع القطرة على جلودنا المنسوخة  كأنها من صلب الشياطين ! كما الموت القاتل  ، لكننا كنا نرفع ملابسنا ونتعرى فحياتنا رهنٌ بما يجود به هذا النهر الغاضب  , وفي كثير من الأحيان أرفع كل ملابسي  ,  يسترني الغبش الربيعي , وكان جسدي بضاً لم تطله الشمس  ، وربما لهذا السبب لم يكنْ  أحدٌَ  يبالي !
فكان علي أن أغوص في وسط النهر فترطمني أمواجه ،   تسحقني لكني أتشبث بالطين , بغريَنهِ كي أجمع ما جرفه رغم  إحساسي بما يشبه اليقين بعضَ الأحيان أنني أصبحتُ من بين ما يجرفه ... كان يمنحنا هداياه  ، فنتشبث بكل شيء حتى القشة الصغيرة ،  فإن تركناها ،  سيأخذها جيراننا الذين جاءوا بعدنا  !  
نعرف أنه خرَّبَ القرى الفقيرة البعيدة  ، لكننا فقراء أيضا  ،  وهو  يعمر بيوتنا حولاً  كاملاً  ...
كنت أسمع امتعاضَ الستة  وشكواهم من البرد والمطر ،  ومن هذا العمل الذي يسرق منهم نشوة التباهي أمام أقرانهم  , بقدرة تنوري على إدخالهم المدارس  ، ورغبتي في أن يطالوا الشمس ذات يوم   ، ويتمكنوا من أن يسألوا السماء  :
 لماذا تنثر غبارها الأسود علينا وليس على أعدائها ؟  لماذا يمهر ناسنا بالألم والحزن في هذا الوقت فيتركه مُحدِّقاً كالهاوية ؟
 ثم أين هم الآن ؟ تناثرت أشلاؤهم وأضحت الأرض تنحني أمام عالمهم السماوي  . .
نهضت ثم عادت إلى النهر ورفعت هذه المرة فوطتها ثم ألقتها إلى النهر ..................
-         لو كانوا هنا لما  حدث ذلك كله  .
بعد عدة أعوام رأيتها على الضفة الثانية  وكان مساءاً .
 كانت جالسة على  بساط  ،  في حقلٍ يطفح من بين ثناياه عشبٌ ملونٌ لم أرد أن أصدق أنها هي لذا اكتفيت بأن أسمع  بعض همسات تفوح منها .
قالت للستة ومعهم البنت وهم متحلقون حولها  كهالةٍ من الحبور والإصغاء : كان هذا جيلاً وحكاية ,حكايةً  ظلت تخشى أن ترى لها خاتمة ,  فمَن منكم سيشْرع  بتدوين عنفها لتكون أغنية أنتم أنغامُها والقلوبُ التي تُصغي اليها !؟