اعتبر الشيخ ماء العينين أن أساس التربية الحرص على تعلم ونشر العلم بين الناس، وخاصة لأتباعه وساكنة المناطق المجاورة لمركز الشيخ ماء العينين، أو القبائل التي تنقل إليها بفعل دعوته وحركته التاريخية الجهادية التي امتدت من مكناس وفاس مرورا بمراكش شمالا إلا الجنوب والوسط وإلى أن بلغت تخوم بلاد شنقيط وغرب الجزائر.
أنشأ الشيخ ماء العينين مدارس واختار المدرسين الذين يتكلفون بمهام التعليم مع توفير المأكل والمشرب والملبس لطلاب العلم وخاصة الأطفال الذين توافدوا عليه من كل حدب وصوب ومن أخياف القبائل الصحراوية[1] والسوسية[2] والشنقيطية[3] يقول صاحب كتاب "سحر البيان" في هذا الصدد مثمنا ومتحدثا عن منهجه: "وكان يرتب معلمين قادة حفاظا في حضرته الشريفة لتعليم أولاده الصغار، وسائر صغار حضرته، ومن أحب التعلم من سائر الناس والأغلب في المعلمين أن يكونوا من أقاربه أو تلامذته، وعند كل واحد منهم مدرسة كبيرة فيها بعض أولاده، وما انضم إليهم من سائر الناس، وهو رضي الله عنه القائم بشؤون تلك المدارس ومؤنها وما تحتاج إليه، وكان أولاده الصغار وسائر صغار حضرته يجتمعون كل يوم وليلة عند بيت كتبه – الخزانة أو قاعة الكتب – فيطعم الجميع غذاء أو عشاء، وكان يقدم عليهم واحدا من أبنائه الكبار ليرتبهم على تلك المطاعم ويتفقد أحوالهم"[4].
وللمدارس التربوية العامرة مناهج تدريس... يبدأ الطفل في محطته الأولى بقراءة القرآن الكريم إتقانا وحفظا وتبدأ المحطة الثانية تعلم الإملاء ودراسة مبادئ اللغة العربية من نحو وصرف وشعر، لتأتي المحطة الثالثة يدرس الطفل التوحيد والفقه. علما أنه في الغالب أو في غالب أمر الأطفال تحولهم إلى مريدي الطريقة وتلامذة الشيخ ماء العينين منهم الكثيرين الذين بدأوا حياتهم بالتعلم في حضرته يقول محمد بن عبد الله التكروري وهو من معاصري الشيخ ماء العينين عن نظام التمدرس المعيني: ومما كان يفسر لمريديه نظم أبيه الشيخ محمد فاضل بن مامين، المسمى مطية المجد في التصوف، ونظمه المسمى ضوء الدهور في علم الحساب والفلك.
ومن ذلك نظمه الفريد في علم التصوف الذي سمي منتخب التصوف، وكان يفسره لهم بشرحه مبصر المتشوف. أما كتب المقلدين فأكثر اشتغال مريديه منها إنما هو مختصر خليل ابن إسحاق ورسالة ابن أبي زيد ونظم عبد الواحد ابن عاشر وتأليف الشيخ عبد الرحمان الأخضري بن مالك ويعلمهم مراقي السعود لسيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي في أصول الفقه، وأما كتب البيان، فالتلخيص لسعد التفتزاني ونحوه كعقود الجمان للحافظ السيوطي، وأما كتب قواعد الفقه فقد كانوا يقرأون النظم المسمى بالمنهج للعلامة علي بن القاسم (الزقاق)، ونظم العلامة محمد ميارة. وأما القرآن فكانوا يفسرونه بالجمل على ذي الجلالين ونحوه. وأما المنطق فكان يفسر لهم السلم للأخضري وتفاسيره... وأما كتب التوحيد فقد كانوا يشتغلون بنظمين له فيه"[5] وفي خاتمة كلام يقول ابن تكرور معلقا على المنهج الدراسي المعيني "هكذا كان اشتغال أهل حلقة شيخنا – يعني الشيخ ماء العينين – من أبنائه وقرابته ومريديه لا يفترون عن درس هذه الكتب التي قدمنا وغيرها ومطالعة ما لا يحصى كثرة من غيرها، وكان يفسر لهم ذلك كله"[6].
ويخصص الشيخ ماء العينين أوقاتا لتربية المريد، بل ويهتم بدقائق الأمور، ولقد بلغ من حرصه الشديد على الإحاطة بشأن تربية وتعليم المريد كان طفلا أو شابا في مقتبل العمر ما جاء عل لسان ابن العتيق صاحب كتاب سحر البيان الذي اعتمدنا عليه في إيراد حلقات المعرفة المعينية: "ثم يقوم فيأتي بيته الذي أعده لوضع الكتب وفيه ما ينيف على المائة من الصناديق المملوءة كتبا في كل فن، فتارة يكون خيمة، فتسمى خيمة الكتب، أو يكون دارا فتسمى دار الكتب، فإذا جلس في البيت اشتغل بأوراده ثم يشتغل بتعليم أولاده، ذكورا وإناثا. كما علم التلاميذ في المسجد، ثم يتذاكر مع أهل الرأي من أبنائه فيما يتوقف عليه الوقت من تدبير الأمور ويرفعون له ما في رؤوسهم فيرشدهم لما يفعلون مما اقتضاه الحال، ثم يشتغل بالتآليف فيؤلف ما شاء من نظم ونشر كأنه يملي ذلك من صدره"[7]
يتسابق تلامذة الشيخ للحصول على حظوة اللقاء أو الحضور لدرس ديني، يقبلون بكثافة منقسمين إلى طبقات: طبقة تتعلم القراءة والأخرى علوم الباطن وطبقات تتعلم فنون علم الظاهر إلى غير ذلك من العلوم التي حاول الشيخ غرسها في أبناء مدرسته الفكرية الصوفية التجديدية. نعود إلى ابن عتيق كمؤرخ للحركة المعينية وأحد مثقفيها وروادها عن هذه الفترة: "فيأخذ – أي الشيخ – في تعليمهم على اختلاف طبقاتهم، فمنهم من يتعلم الحديث والتفسير والأصول، ومنهم من يتعلم الفقه والقواعد والنحو والبيان والمنطق، ومنهم من يتعلم اللغة والعروض والشعر، ومنهم من يتعلم التصوف والحكم إلى غير ذلك من العلوم النافعة"[8].
يوظف صاحب تأليف "نعت البدايات وتوصيف النهايات" القدرات العلمية والفكرية باعتبار شيخ الطريقة وعالم الأحكام والمجتهد ليتابع عن كثب تطور منتسبي الطريقة المعينية، متابعة أستاذ لتلامذته فلا يدع ساعة تمر دون استنفار همم (همة) الأطفال والتلاميذ للمطالعة والتعلم والمذاكرة، وبنفسه وعلى يديه يقدم الدروس ويلقيها على عامة الناس من زواره على أن مدرسة السمارة ظلت على امتداد نشاطها العلمي مزارا شريفا لأبناء القبائل الصحراوية والموريتانية.
دروس ومحاضرات سجلها الفقيه محمد العاقب بن مايابي وعلق عليها بقوله: "فإذا فرغ من صلاة العصر اتخذ مجلسا للحديث، فيدعو باثنين من تلامذته، ويلو أحدهما ما جاء في صحيح البخاري، فيقرأ صاحب النص أولا، ثم الشرح أو الحاشية، والناس منصتون حتى يتم الباب المقروء، ثم يملي معناه – أي الشيخ ماء العينين – على أهل حضرته ويفسر لهم"[9].
يقول محمد العاقب كذلك عن فترة الشيخ ماء العينين: "كان شيخنا حفيا بالتلاميذ رفيقا بالمريدين يرحم الضعيف ويعظم الشريف، ويعلم مصالح الناس ويسوسهم على قدر طاقاتهم ويخاطبهم على قدر عقولهم، ويلين لهم القول كما قال الله تعالى لنبيه عليه السلام" (فيما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر). وكان يربي مريديه بمقتضى الكتاب والسنة، فيأمرهم بذكر الله علانية وسرا ويحضهم على التعلم، ويزجرهم على التطواف في البيوت والاختلاط بالناس، وكان ينظر في حالة المربي، فإن كان ذا قلب متعلق بالله تعالى لا همة إلا إليه كان عونا له على مراه، وهاديا له إلى ربه، فيرتدعه على حاله حتى يصل إلى ربه في أسرع سلوكه"[10].
ومما يؤكد تفاني الشيخ ماء العينين وحرصه وشدته على تعلمي وإرشاد أبناء طريقته والموالين له ما قاله واحتفظت به ذاكرة ابن العتيق، إذ يقول: "وكان من عادته إذا أتاه المريد أن يتركه مرة في المسجد، ولا يكلفه بخدمة تصرفه عنه، ويأمره بدوام الذكر والتعلم وحضور الصلاة معه، والمحافظة على مجالسته، حتى يسري له من إمداد، ما يصفو به باطنه، ويستقيم ظاهره، ويتخلق بأخلاقه الزكية، ويقتدي بسيرته المرضية، ثم يقدمه بعد ذلك بما يليق به من الخدمة التي ترقيه إلى مقام الوصلة"[1].
يتبين لنا نم خلال هذه القراءة في كتب المؤرخين الذين واكبوا تطور المدرسة المعينية وشاركوا في بناء رؤيتها ومنهجها الصوفي ملاحظات عدة منها:
- الحضور القوي والفاعل للمذهب المالكي ويمكن إرجاع هذا الحضور لما عرف عن الشيخ ماء العينين من انتسابه فكريا وفقهيا لدائرة علماء الأصول الصوفية ودفاعه عن المذهب المالكي كمذهب وحدوي يركز على الأخلاق والتربية وكمذهب يقبله الصوفية.
- وقوف الشيخ ماء العينين ومراقبته المستمرة لسير الدراسة والمراقبة المستمرة.
- العلاقة بين التعلم والإطعام والملبس أي تعليم متكامل.
- إشراك الأبناء إلى جانب التلاميذ في مهام التدريس والمراقبة.
- التداخل في المنهج الدراسي بين ما هو فقهي ونحو وعلوم التصوف.
- رقة التشنج والإلمام بالشورى.
- غياب المناهج التقليدية المعمول بها في بعض الأوساط كالضرب والعقاب.
الحضور القوي لكتب وشروحات الشيخ محمد الفاضل بن مامين، وبعض أقطاب المدارس المغربية والشنقيطية .
________________________________________
[1] - ابن العتيق، سحر البيان، ص: 54 (ورقة).
________________________________________
[1] - يراجع على الخصوص كتابات المؤرخين لهذه الفترة.
[2] - المختار السوسي/ ماء العينين، ابن العتيق وآخرون.
[3] - ماء العينين العتيق/ ماء العينين ابن العتيق وآخرون.
[4] - ابن العتيق: ماء العينين، سحر البيان، ورقة 52.
[5] - التكرورت عبد الله، رسالة في ترجمة الشيخ ماء العينين، مخطوط.
[6] - التكرورت عبد الله، رسالة في ترجمة الشيخ ماء العينين، مخطوط.
[7] - ابن العتيق، سحر البيان، ص: 42.
[8] - ابن العتيق، سحر البيان، ص: 42.
[9] - محمد العاقب بن مايابي، مجمع البحرين، ص: 117.
[10] - محمد العاقب بن مايابي، مجمع البحرين، ص: 117.
محمد الاغظف بوية كاتب وباحث من الصحراء المغرب