حين أصدر عالم الاجتماع الإيطالي سابينو أكوافيفا كتاب "أفول المقدّس في الحضارة الصناعية" (1961)، بدا حينها بمثابة النعي للدّين في مجتمعات أوروبية تحثّ الخطى نحو "اللاتدين" و"العلمنة". ولكن تداعيات العولمة على أوروبا في الزمن الراهن أملت إعادة نظر في صيغة العلاقة ومضامينها بين دائرة الإيمان الخصوصية ودائرة السياسة العمومية. لتلوح بوادر رهان على وظائف مغايرة للدين في مجتمعات تشرّبت العلمانية، وتعيش في أجواء مناخات ما بعد العلمانية. وهو جوهر ما تطرّق إليه كلّ من شارل تايلور ويورغن هابرماس في حقبتنا الحالية، عن شيوع نمط جديدٍ من التعايش بين الدين والعلمنة يتغاير مع ما ساد سلفًا. بما يحثّ على تجاوز النظر "العلمانوي" للحداثة، جرّاء حضور الدين في الفضاء العمومي الذي أضحى واضحا وجليّا.

ولربما لإحاطة أشمل بالموضوع، ينبغي تناول العلاقة المستجدّة بين الديني والسياسي ضمن إطار التحول الجاري داخل مرحلة تاريخية. فقد قيل إن الإنسان هو "كائن متديّن"، وقيل أيضا هو "كائن سياسي" أو "مدني"، والواقع أن الإنسان هو تلك العناصر وغيرها مجتمعة، بما يجعل المحدّدات القابعة خلف السلوك البشري لا تعرف الانحباس تحت لون واحد. وضمن السياق المسيحي، الغربي تحديدا، عاد في العقود الأخير مصطلح اللاهوت السياسي للتداول، وإن كان المفهوم يرمي بجذوره بعيدا في طروحات القديس أوغسطين الإفريقي. اُستعيدت الأطروحة في نطاق البحث عن إضفاء شرعية على الممارسة السياسية مع كارل شميت، وكذلك في نطاق التوظيف اليساري للدين مع لاهوت التحرر، وبالمثل في نطاق التوظيف اليميني المكثّف مع السياسات الأمريكية المتعاقبة منذ عهد الرئيس كارتر. لكن الملاحظ أن اللاهوت السياسي العائد يتّسم بطابعين: لاهوت سياسي عمودي على غرار ما يدعو إليه شميت، بحثا عن بثّ حيوية في النظام الليبرالي؛ ولاهوت سياسي أفقي، يمكن إدراج هابرماس وتايلور وتوكفيل ضمن أنصاره، يسعى إلى بناء توازنات مستجدّة داخل الفضاء العمومي.

والسؤال الذي يعنينا بالأساس هو ما معنى أن يطلّ الدين على السياسة في أوروبا اليوم؟ ليست المسألة أَنْجَلة للسياسة أو تسييسا للمسيحية بطريقة اقتحامية فجّة، وإنما تأتي العملية سياقية، يتعايش فيها أحد المكوّنَين مع الآخر بطريقة متداخلة وبطيئة، ويغدو الدين مخزونا أنثروبولوجيا معبّرا عن خصوصيات هوية وليس تعاليم عقدية أو منظورات لاهوتية صارمة.

إذ منذ محاوَرة البابا المستقيل راتسينغر الفيلسوف هابرماس في موناكو (2004)، تحت شعار "حوار العقل والإيمان"، طفت على سطح الفكر الأوروبي إرهاصات لافتة في علاقة الدين بالسياسة. وغدا الخطاب السياسي مستعيرا جملة من المفاهيم والمقولات الدينية، بعد أن كان حضورها ضئيلا أو منعدما. وفي الجوهر بدا سؤال إلى أين تجرّ العلمانية أوروبا حاضرا بقوة؟ لا سيما وأن مصائر العلمانية المتشدّدة، خصوصا في شكلها اللائكي اليعقوبي، جرّت فئات واسعة إلى العدمية وحكمت على مسارات ديمقراطية بالتميّع أو الخواء. فالغرب "البراغماتي" بدا متشكّكا من مؤدى خياراته طيلة العقود الفائتة. لا سيما وأن الجسم السياسي الأوروبي يتحرك داخل خارطة سياسية ذات مشارب إيديولوجية متنوعة، ويعبّر عن روافد شتى وتوجهات عدة تبلغ حدّ التنافر. كما أنه يشتغل داخل ضوابط سياسية يُطلَق عليها تجوزا العلمانية أو اللائكية، وهي في واقع الأمر نظام اشتغال ارتضاه الجميع، وبات متقاسَما بين سائر المكوَّنات بمختلف خلفياتها اليمينية واليسارية والدينية واللادينية.

يوجد عدد متزايد من السياسيين والمحاورين الأوروبيين الذين يرون الإسلام كدين يتعارض بشكل مباشر مع الثقافة الأوروبية، وبالتالي يعتقدون أن الإسلام يشكل عقبة أمام اندماج المهاجرين واللاجئين. اكتسب هذا الموقف زخماً بشكل خاص بعد الهجمات الإرهابية في الولايات المتحدة في 11 سبتمبر/أيلول 2001.

يتفق بعض المسلمين في أوروبا مع الرؤية التي قدمها "طارق رمضان" Tariq Ramadan استاذ الفلسفة الذي يقيم في سويسرا، الذي يرى نفسه مسلماً، ويعتبر أن كل شيء في الثقافة الأوروبية لا يتعارض مع الإسلام هو جزء منه.  عملت هذه المجموعة من المسلمين بشكل هادف لتطوير تفسير للنصوص الإسلامية وأسلوب حياة يجمع بين المبادئ الإسلامية، والقيم، والممارسات الأوروبية، والدنماركية. هذا ينطبق بشكل خاص على جيل الشباب من المسلمين الذين يريدون فصل المبادئ الإسلامية عن تقاليد آبائهم أو أجدادهم من دول مثل تركيا وباكستان والعراق.

يعتبر الإسلام الأوروبي Euro-Islam محاولة لتفسير الإسلام في سياق أوروبي حديث، بحيث يصبح من الممكن الحفاظ على تفسير إسلامي للحياة وهوية مسلمة آمنة وفي نفس الوقت المشاركة البناءة والفاعلة في المجتمع. وبالتالي فإن الإسلام الأوروبي هو إعادة تفسير للإسلام يأخذ في الاعتبار الظروف الثقافية والسياسية الخاصة والتاريخ الذي يميز أوروبا، ولكنه لا يزال قائماً على كتاب القرآن الكريم. إنه ليس نصاً دينياً أنيقاً أو مكتملاً أو برنامجاً محدداً تعمل جمعية أو منظمة لعموم أوروبا على تحقيقه. على النقيض من ذلك، يُنظر إلى الإسلام الأوروبي على أنه اتجاه أو حركة في أوروبا اليوم.

يتناقض هذا الاتجاه من جهة، مع المسلمين "العلمانيين المتطرفين" الذين يريدون تحرير أنفسهم من غالبية خلفيتهم الإسلامية من أجل الاندماج والتكيف تماماً في المجتمع الغربي. ومن ناحية أخرى يتعارض مع الجماعات الإسلامية المتطرفة الذين يريدون التحرر من الأعراف الثقافية والنظام الاجتماعي للغرب وتقويضها وإقامة دولة إسلامية بدلاً من ذلك.

المسلمون الثقافيون، والمعروفون أيضاً باسم المسلمين الاسميين، أو المسلمين غير الممارسين أو المسلمين غير الملتزمين، هم أشخاص يعتبرون أنفسهم مسلمين لكنهم ليسوا متدينين ولا يمارسون العبادات. قد يكونون أفراداً غير متدينين أو علمانيين. ما زالوا يتماهون مع الإسلام بسبب الخلفيات العائلية، أو التجارب الشخصية، أو التراث العرقي والوطني، أو البيئة الاجتماعية والثقافية التي نشأوا فيها. ومع ذلك، لا يتم قبول هذا المفهوم دائماً في المجتمعات الإسلامية المحافظة.

يمكن العثور على المسلمين الثقافيين في جميع أنحاء العالم، ولكن بشكل خاص في البلقان، وآسيا الوسطى، وأوروبا، والشرق الأوسط، وروسيا، وتركيا، وسنغافورة، وماليزيا، وإندونيسيا والولايات المتحدة. وفي العديد من البلدان والمناطق، يمارس هؤلاء المسلمون الثقافيون الدين على مستويات منخفضة، وبالنسبة للبعض، ترتبط هويتهم "الإسلامية" بالتراث الثقافي أو العرقي أو الوطني، وليس مجرد الإيمان الديني فقط.

«معرفةُ أهميّة فهم دور المشاعر لا ينبغي أنْ يدفعنا إلى الظّن أنّ قيمة العقل أقلّ منها، ويجب أن يكتفي بمكان ثانويّ بجانبها، أو أنّه لا جدوى من أنْ يسعى إلى تطويرها. على العكس من ذلك، فإنّ إدراك الدّور الكبير الّذي يمكن أن يلعبه فهمُ المشاعر قد يمنحنا الفرصة لزيادة تأثيرها الإيجابي والحدّ من آثارها السّلبيّة المحتملة. وبشكل أدقّ، ودون الإقلال من قيمة التّوجيه الّذي قد يكون للإدراك العادي للمشاعر، يمكن توقّع حماية العقل من التّقلّبات الّتي قد يُدخلها الإدراكُ غيُر الطّبيعي للمشاعر (أو التأثيرات غير المرغوب فيها على الإدراك العادي) في عملية صنع القرار[1]»

«من المُضحك بنفس القدر الاكتفاءُ بمطالبة المشتغل بالرّياضيّات بالحجج المعقولة، ومطالبةُ الخطيب بالأدلّة العلميّة[2]»

فاتحة:

أَدَرنا المقالةَ الأولى الّتي خصّصناها لاعتراض العمري على الجابري حول الشّقّ "الإجماليّ" لذلك الاعتراض، وسنُدير المقالة الحاليّة على ما اعتبرَه اعتراضا متعلّقا بـ "الأجزاء والفروق والممهدات". وسنسلك نفس النّهج، فَنوزع فقراتها على عنوانين، الأوّل نُخصّصه لِصيغة الاعتراض والثّاني لمضمونه؛ ونُفصّل في كلٍّ منهما. فَلْنَقرأ كلامَه أوّلا:

الملحق التّوضيحي:

يقول العمري: «هذا على الإجمال، أما بالنظر إلى الأجزاء والفروق والممهدات الموصلة إلى تعميم الأحكام فإني لا أجد فيما فهمت من قراءة كل من الباقلاني والجرجاني ما يجعل الخطاب عند هذا مساويا للنظم عند ذاك. بل أميل إلى أن الباقلاني تلافى باستعمال كلمة خطاب استعمال كلمة نظم التي كانت شائعة في عصره وقبله عند علماء الإعجاز من الجاحظ (255ه) إلى الخطابي (386ه)، هروبا من مرجعيتها.

وإذا أضفنا إلى النص المذكور نصوصا أخرى من المبحث نفسه (بنية العقل 148-247)، فيمكننا أن نسجل عدم فهمنا لعدة أمور:

1- اختزال البلاغة في التشبيه

2- حصر مفهوم التشبيه في وجهة نظر عبد القاهر الجرجاني

3- ربط التباعد بين الطرفين بالانفصال والتجويز الناتجين عن البيئة العربية في حين أن عبد القاهر كان في منحاه هذا يصوغ نظرية المحاكاة الأرسطية حسب قراءة الفلاسفة العرب لها.

4- حين نتأمل وجهة نظر ابن سنان في القرب (قرب المأخذ) نصل إلى نتائج عكس التي وصل إليها تحليل الأستاذ الجابري.[3]»

ضمن تفرّعات التخصصات الدراسية الجامعية في إيطاليا، أطلّ في العشرية الأخيرة من الألفية الميلادية الثانية مسمى "الاستعراب" (arabismo)، بمدلول اقتصر على فئة المعنيّين بدراسة وتدريس العربية وآدابها حصرا، وهو ما لم تخض القواميس الإيطالية في تفصيلاته كثيرا. حتى وإن تحدّر كثير من هؤلاء "المستعرِبين" في تكوينهم من مشارب دراسية متنوعة: دينية، أو اجتماعية، أو مجالات ذات صلة بالمخطوطات والفنون العربية أو غيرها من التفرعات المنضوية تحت الدراسات الشرقية عموما. ولم تشمل فئةُ المستعرِبين الأساتذةَ والباحثين والدارسين من مختلف التخصصات الأخرى، المشتغلين بالثقافة العربية والمجتمعات العربية والتاريخ العربي، مثل علماء الاجتماع، والمؤرخين، وخبراء القانون الإسلامي، وعلماء الآثار، ومتتبّعي سائري الفنون والعلوم وغيرهم.

وعادة ما يعرّف المستعرِبون أنفسهم، كونهم شريحة علمية متجاوزة للاستشراق التقليدي (المورَّط في زعزعة ثقافات، والإسهام في تكبيل شعوب، والتحكم بمصائر مجتمعات)، ويسعون في تمييز أنفسهم -كلّما سنحت الفرصة- باستحضار الوجه السلبي للاستشراق، والزعم أنهم بصدد التجريب والاشتغال على تجاوز سقطاته. وليس رميا بتُهمٍ باطلة، ولكن استرجاعا لوقائع حاصلة، أن الفترة التاريخية التي نشط فيها الاستشراق أملت على كثيرين منهم أن يعملوا مخبرين ومستشارين وموظفين سياسيين في مؤسسات كولونيالية وفاشية وإمبريالية (انظر بشأن تورط المدرسة الأنثروبولوجية مع المستعمر الفرنسي كتابَ الفرنسي جان-لو آمسال، إسلام الأفارِقة.. النزوع للتصوف، منشورات ميلتيمي، ميلان 2018).

والبيّن أن مولد الاستعراب الإيطالي قد أطلّ منذ تسعينيات القرن الفائت، وبما لا يعني انتفاء تدريس ودراسة العربية وآدابها قبل ذلك التاريخ في إيطاليا، ولكن، بدايات التفرع الجديد -أو إن شئنا- التمرد على الآباء والسعي لبناء هوية أكاديمية جديدة. فقد خرج رواد الاستعراب في إيطاليا من عباءة المستشرقين، تعلّموا على أياديهم وخبروا أفكارهم ثم انشقّوا عليهم. وقبل التسعينيات كانت دراسات العربية وآدابها في الجامعة الإيطالية، قليلة العدد ضئيلة الأثر. توزعت بين أربعة أو خمسة مراكز رئيسة: في مدن بولونيا وروما ونابولي وباليرمو، إلى جانب مؤسسات تابعة إلى حاضرة الفاتيكان متواجدة في روما مثل "المعهد البابوي للدراسات العربية الإسلامية" الذي انتقل مقرّه من تونس إلى روما سنة 1964، وكذلك "المعهد البابوي الشرقي" في روما أيضا. ويمثُل المعهدان قطبًا على حدة يتبع حاضرة الفاتيكان والمؤسسات التعليمية البابوية. في حين الاشتغال الأهم للأبحاث والدراسات والكتابة بخصوص الشرق، فقد كان يجري في أحضان مركزين، شبه حكوميين، تأسسا وتطورا منذ عقود سابقة، مع بروز حاجة النظام الفاشي للتشوف نحو إفريقيا والعالم العربي، وهما "المعهد الإيطالي لإفريقيا والشرق" (Isiao) و"معهد الشرق كارلو ألفونسو نللينو" (Ipocan)، ففي هاتين المؤسستين جرى التركيز على دراسة اللهجات العربية، وبداية إعداد القواميس العربية، وكتب النحو، وأنطولوجيات الأدب والشعر العربيين، هذا فضلا عن تقديم المشورة السياسية والمعرفية لمختلف الأنظمة والحكومات المتعاقبة التي شهدتها إيطاليا منذ مطلع القرن الفائت تقريبا. وإن كان المعهد الأول قد توارى منذ ما يزيد عن العقد، فقد ظلّ المعهد الثاني بؤرة علمية نشيطة إلى اليوم بخصوص الثقافة العربية ورصد مساراتها.

تقديم عام:
يندرج موضوع أسيف المال: الموقع وأصل التسمية، ضمن الدراسات الثقافية والاجتماعية في معناها الجامع والشامل، والتي لقيت في الفترة الأخيرة عناية كبيرة من الباحثين وأعطت للبحث التاريخي صبغة الشمولية وفتحت أفقا إضافية للتأويل والتفسير، وأزالت القيود والرؤى وبعض رواسب الكتابة التاريخية التقليدية التي كانت مهيمنة عليه.

         إن محور هذه الدراسة وركيزتها الأساس هو محاولة تتبع وإيجاد معنى لبعض أسماء الأعلام المكانية والوقوف عند حجم التبدل والدينامية الذي طال الثقافة والإنسان في هذه الرقعة الجغرافية، فالانفتاح الجغرافي والسياسي والمزج الفكري والتجاري أدت إلى حدوث تبادل ثقافي ارتسمت معالمها على أسماء أعلامه فجسدت بذلك دور المرآة العاكسة لثقافة المجموعة البشرية التي تستقر هذا المجال.

  • أسيف المال: الموقع

ينتمي مجال أسيف المال جغرافيا وفلكيا، إلى الناحية والجزء الشمالي الغربي لأطلس مراكش([1])، بين خطي طول 8°28’00’’ و8°33’00’’ غرب خط غرينتش، وبين دائرتي عرض 31°4’30’’ و31°5’30’’ شمال خط الاستواء، يحده من الناحية الشمالية مخرج واد أسيف المال، ومن الجنوب والشرق حوض نفيس، وحوض سكساوة غربا([2])، يحتل وادي أسيف المال موقعا هاما ضمن أودية الأطلس الكبير الغربي لإقليم شيشاوة([3])، وهو واد أخذت منابعه من أعلى الأطلس وصنع لنفسه أحواضا واسعة داخلية ومضايق قبل أن يتوسع مجراه عند بلوغه منطقة الدير على مشارف قرية سيدي بوعثمان([4]).

«..على هذا النّحو وحدَه يجبُ أن يكون الشّأن لدى الفيلسوف.  فلا حقّ لنا في أنْ نكون مُتَحيّزين في أيّ مجال: لا حقَّ لنا في أن نخطئ جزئيّا، وفي أن نصيب جزئيّا. ذلك أنّ أفكارنا تنبثق منّا بنفس الضّرورة الّتي تُثْمِر بها الأشجار: قِيمُنا، وما نقوله من «نعم» و«لا» و«متى» و«إذا» ينشأ منّا، وهي كلّها متقاربة ومُرتبطٌ بعضُها ببعض: إنّها شهاداتٌ على إرادةٍ واحدة، وصحّةٍ واحدة، وأرضٍ واحدة، وشمسٍ واحدة. أمّا أنْ تُعجبـكم هذه الثّمار، الّتي هي ثمارُنا، فهذه مسألةٌ أخرى. - ولكنْ ما أهميّة ذلك بالنّسبة للأشجار؟ ما أهميّة ذلك بالنّسبة لَنا نحن الفلاسفة؟»[1]

« القَصص القرآني ليسَ مجرّد حكاية أخبار، بل هو بيان وبرهان: وسيلةٌ في الإقناع تدعو للاحتكام إلى العقل بعيداً عن أساليب اللّاعقل»[2]

فاتحة:

يَعترض محمد العمري على استدلال الجابري على "لا برهانية الفكر العربي من خلال أعمال اختارت عن وعي مجال عملها وحددت اختصاصها المتمثل في البلاغة"[3] . وقد أراد لاعتراضه أن يكون تقويميّا، يصحّح غلط الجابري ويضع الأمور في نصابها. فالأعمال البلاغيّة ينبغي، حسب ما يُفْهَم من اعتراضه، أن تُناقش في إطار البلاغة، أو ينبغي أن تُحترَم خصوصيتُها على الأقلّ فلا يُنَاقَش البلاغيّون باعتبارهم مناطقة أو فلاسفة أو يطالبون بعمل هؤلاء. لكنَّه بَدل أن يوفّر لاعتراضه صياغة تجعله قابلا للفهم أَوردَه مُلتبسا وفي غاية التّخليط؛ وبدل تفسيره وتقديم سنده في الاعتراض بإظهار ما يدلّ على أنّهم عوملوا معاملة الفلاسفة وطولبوا بعملهم وتوضيح كيف يُمْنَع تناول أعمالهم من زاوية فلسفيّة ومن زوايا تخصّصات أخرى، انتقل إلى موقع المدّعي –وهو ما ليس ممنوعا في ذاته- فأتى بآراء لا تَثْبُت؛ وبدل أن يلتزم بعضَ النّزاهة ويسلك طريق "العلم" الّذي يريد الانتساب إليه، فينظر إلى ما اقتطفه من عمل الجابري في ضوء سياقه المقالي والمقامي ومنطلقاته ومقاصده، نجده لا يكتفي بعزله وإغراقه في مسبقاته الخاصّة، بل يصل إلى حدّ تزييفه وتشويهه. لمناقشة ذلك نبتدئ بتقديم ما قاله في اعتراضه الإجمالي، ثمّ نوزّع فقرات مقالتنا على عنوانين أساسيّين، الأوّل نُخصّصه لصيغة الاعتراض والثّاني لمضمونه؛ وفي كلٍّ تفصيل. أمّا ما اعتبرَه اعتراضا مبنيا على "النظر إلى الأجزاء والفروق والممهدات"، فسنجعله موضوعَ مقالٍ قادم.

الملحق التّوضيحي:

ينهي العمري الفصل الرّابع من القسم الأوّل من كتاب "البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها" بالقول »إن عمل ابن وهب أقرب إلى نظرية معرفية، في حين أن عمل الجاحظ يندرج ضمن النظرية البلاغية: بلاغة الخطابة. وهذا يقتضي منا توضيحا بصدد مفهوم البيان والفكر البياني عند الأستاذ عابد الجابري، حيث وجدنا مجموعة من البلاغيين يناقشون باعتبارهم مناطقة أو فلاسفة، أو يطالبون بعمل هؤلاء [4] «؛ ثم يضع، في الصّفحة الموالية، ملحقا للتوضيح، يستهله بما يلي:

»يقول الأستاذ محمد عابد الجابري:

"انقسمت الأبحاث البيانية منذ نشأتها إلى اليوم إلى قسمين: قسم يعتني بـ"قوانين تفسير الخطاب" وقسم يهتم بـ "شروط إنتاج الخطاب".." .

"إن هذا الاهتمام بنظام الخطاب على حساب نظام العقل قد ترتب عنه جملة أمور: الانشغال والاهتمام بتجنب التنافر بين الكلمات على حساب الاهتمام بتجنب التناقض بين الأفكار"[5]. "

" هل نعيش زمن حراكٍ يتكرّر، أو صورة معدّلة لما وقع في الأزمنة السابقة، أم نحن أمام تحولات جديدة عمّا كان في القرن التاسع عشر وما قلبه؟"

هو ليس سؤالا للتأكيد أو النفي بإطلاقية القول، ولكنه إشكال مركزي موجّه لبحث تاريخي في الزمن الراهن موضوعه الحراك الاجتماعي في مغرب ما بعد الاستقلال، ومنطلق دراسة للباحث المغربي ابراهيم أيت إزي نشرها في كتابه الموسوم بعنوان "الحَراك الاجتماعي في مغرب ما بعد الاستقلال 1956-1975".

الكتاب صدر في طبعته الأولى شهر يناير 2024 عن منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات،،ضمن سلسلة أطروحات الدكتوراه، يقع في 392 صفحة من الحجم الكبير، إلى جانب بيبليوغرافيا وفهرس العام.

 الكتاب يشمل تقديما من المؤرخ لطفي بوشنتوف تحت عنوان "في الحاجة إلى الكتابة في تاريخ الزمن المغربي" ومحتويات تتوزع ما بين ملخص تنفيذي في المدخل وثلاثة فصول، وكل فصل يتضمن مجموعة محاوربحثية، انتهاء بخلاصات وامتدادات .

الفصل الأول خصصه الباحث لتحديد الجهاز المفاهيمي ولائحة المصطلحات المستعملة في الدراسة التاريخية سواء كانت منتمية لحقل الموضوع أم مرتبطة بالذاكرة الشفوية أو منتسبة لبنية ثقافية- نظرية محددة. ومن تلك المفاهيم التي وقف عندها الباحث مفهوم "الحراك الاجتماعي" وموقعه المحوري في درس الحركات الاجتماعية والأبحاث ذات الصلة بنظرية "سيكولوجية الجماهير" منذ القرن التاسع عشر، وما عرفه من توسع في الدلالة وفي العناصر الوظيفية المكونة له منذ منتصف القرن العشرين، وكذا الشروط المؤسسة للحركة الاجتماعية ومبادئها التي تتحقق معها في المبنى والمعنى من حيث التنظيم والأهداف والقضية، مع التأكيد هنا على أننا لسنا أمام ظاهرة جديدة "بل ميزة رافقت الحياة البشرية منذ بدايتها"(ص51).

في فترة الثمانينيات، دارت فصول حوار فكري مثير وشائق في صفحات مجلة اليوم السابع بباريس بين اثنين من أهم أعلام الانتلجنسيا العربية، المغربي محمد عابد الجابري (1935-2010)  والمصري حسن حنفي (1935 – 2021)، وهو الحوار الذي جرى ضمه لاحقا في كتاب صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت في العام 1990، بحيث يعكس أهم القضايا والمواضيع التي شغلت عقول النخبة المثقفة العربية وكيفية تعاطي الأخيرة معها، بالتزامن مع التحولات الدولية التي كانت تلقي بثقلها على الثقافة العربية في سياق الانتقال إلى نظام القطب الواحد والعولمة المكتسحة لكافة مجالات الاجتماع الإنساني. وسنعمد فيما يلي إلى تلخيص أهم مواقف المفكريْن من القضايا والأسئلة موضوع هذا الحوار:

الأصولية والحاجة إلى "كتلة تاريخية"

يرى حنفي بأن ما يسمى ب "الظاهرة الأصولية" تتسم بسمات عامة اعتبارا لهيمنة الجناح اليميني عليها: القراءة الحرفية للنصوص دون مراعاة "أسباب النزول"، التشبث بإسلام طقوسي شكلي عوض الالتفات إلى روح الشريعة ومقاصدها السامية، رفض وإقصاء المكونات السياسية والأيديولوجية الأخرى (يساريين، ليبراليين، قوميين... الخ). ومن ثم فإن التحدي أمامنا – عند حسن حنفي - هو تقوية الجناح اليساري في الحركة الأصولية الذي برغم أفكاره العميقة ما زال يفتقر إلى الإطار التنظيمي الملائم.

بينما يرفض الجابري التحزب لهذا التيار الفكري أو ذاك (سلفي، ليبرالي، قومي، ماركسي) بالرغم من إقراره بشرعية وجود تلك الاتجاهات الفكرية. وبدلا من ذلك، يدعو إلى البحث عن "نقط التقاء" بينها في إطار كتلة تاريخية تستوعب جميع الأطياف الأيديولوجية للتفكير بجدية في قضايا المصير المشترك التي تهم الأمة بأسرها.

الموقف من العلمانية

يذهب المفكر المصري إلى أن العرب والمسلمين في غنى عن التمسك بأهداب العلمانية الغربية، إذ يكفي الإنصات لروح ومقاصد الشريعة التي تتصف بقدر كبير من المرونة والقدرة على مواكبة التطور التاريخي والعمراني لكونها جاءت لتحقيق مصالح العباد وحقوقهم: "الإسلام دين علماني في جوهره، ومن ثم لا حاجة له لعلمانية زائدة عليه مستمدة من الحضارة الغربية".

وبالمقابل لا يوافق الجابري محاوره على العبارة التي استخدمها (الإسلام دين علماني)، ويذهب إلى أنها تعمق سوء الفهم بدل تبديده. لكنه يتفق من حيث الجوهر مع حنفي من خلال إقراره أن مفهوم العلمانية كما طرح في الغرب لا يجيب عن الحاجات التاريخية والموضوعية للمجتمعات العربية لما يكتنفه من لبس شديد، وبدلا من تلك اللفظة يطرح مفهومي الديمقراطية والعقلانية كخيارين لا مندوحة منهما لنهوض العرب.