1
التفاعلُ اللغوي في الظواهر الثقافية لَيس شكلًا من أشكال التنظيم الاجتماعي فَحَسْب ، بَل هو أيضًا تعبيرٌ رمزي عن الهُوية الإنسانية في تَجَلِّيَاتها النَّفْسِيَّة المُنعكسة على الواقع ، التي تُؤَسِّس منهجًا معرفيًّا لاستيعاب الفِعْل الاجتماعي ، وتأويله في سِياقات الوَعْي الذي تُولِّده الأحداثُ اليومية بين التنظيرِ ( وضع النظريات اعتمادًا على الربط المنطقي بين الخَيَالات والمُشَاهَدَات ) والتكوينِ ( صناعة الواقع الخارجي معرفيًّا وماديًّا ) . وتأويلُ الفِعل الاجتماعي لا يعني حَصْرَه ضِمن منظومة الأسباب والمُسَبِّبَات ، ومُحَاصرته في خانة رُدود الأفعال المُؤَقَّتَة ، وإنَّما يعني فَتْحَه على جميع الاحتمالات ، التي تشتمل على الصُّوَرِ الذهنية للأشياء ، والتراكيبِ المنطقية للعناصر، والمفاهيمِ المُجَرَّدة للكِيَانات، والأفكارِ العملية للمَوجودات.وكُلُّ احتمال فِكري يُمثِّل تاريخًا جديدًا للواقع الذي يُعَاش في الصُّوَرِ الذهنية المَرئية ، والتطبيقاتِ المادية الفِعلية . وهذا يُشير إلى أن الواقع يُعَاش مَرَّتَيْن ، معنويًّا وماديًّا ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى بناء تصوُّرات مركزية عن الوجود ، وتمثيلها عقليًّا لتفسيرِ طبيعتها ، وتحديدِ أبعادها ، وبيانِ مُحتوياتها ، في إطار الأفكار الاجتماعية والرموز اللغوية والظواهر الثقافية .

حقيقة، ما يزال موضوع الحداثة كما يقول الأديب نبيل عودة يشغل بال المثقفين والمفكرين في العالم العربي، وقد أسالت هذه الإشكالية حبرا كثيرا في مقالات جادة وعقلانية طرحها باحثون و مفكرون في مختلف جوانبها الفلسفية والحضارية، لكن الملاحظة التي قدمها الأديب نبيل عودة هي أن الكثيرين من أصحاب الرأي والفكر حصروا نصوصهم في إطار العلاقة بين الحداثة والأدب و لم يربطوا الحداثة بالدين والسياسة مثلا ، حتى و لو كانت علاقة ما تربطهما، ولا يمكن باي حال من الأحوال فسخها، سؤال وجيه طرحه الأديب نبيل عودة حول ما إذا أمكن تحقيق الحداثة بدون حرية اجتماعية و فكرية بدون مساواة و تعددية ثقافية؟ وهل يمكن تحقيق الحداثة بدون دولة مؤسسات ورقابة واستقلال السلطات عن بعضها البعض؟ وهو بذلك ينطلق من الرأي القائم على فكر هيغل Hegel القائل بأن الغرب هو النموذج للعالم، وهذا الرأي يعكس فرضية ياسبرس الذي تحدث عن وجود حداثات متعددة، إلا أنه تبقى الحداثة الغربية هي الأكثر تطورا بفضل قدرتها الفائقة على السيطرة على الطبيعة عن طريق التقنية وتطور القوى الإنتاجية وقوى الاتصالات.

إنَّ التفلسف بعد فوات الأوان لا يقدِّم ولا يؤخِّر، بل هو ضربٌ من التلهِّي بالكلمات والأفكار، وصرفٌ للجهود عمَّا هو أهدى وأجدى.
ما يحدث لدينا أنَّ ما كان محرَّمًا بالأمس قد يُصبح اليوم مندوبًا، بل ربما أصبحَ هَوَسًا مَرَضيًّا، ولكن بعد انقراض أوانه وعصره! ذلك أنَّنا غالبًا إنَّما نقلِّد ماضيًا، أو آخَرًا، وإنْ متأخرين. لا بُدَّ من تقليدٍ، وإنْ طال السَّفَر، وإنْ تَحَنَّى كُلُّ عَوْدٍ ودَبِر!
تُرَى أ نحن نسعَى إلى استعادة عصور التنوير بعد أن صَوَّحَت أغصانها؟
أم صحيحٌ أنَّ العِلم لا ينهض إلَّا على أساسٍ فلسفي؟
تلك نظرةٌ تقليديةٌ بدَورِها، كانت تُعلَّق لافتاتها قديمًا في الممرَّات والأروقة التنويريَّة.
إنَّ التفلسف اليوم، وفي عصر العِلم والتقنية وغزو الكون، يُعَدُّ ظاهرةَ تخلُّف، وتراجُعٍ إلى القرون الغابرة! على أنَّ هذه ليست بظاهرتنا اليتيمة في ميادين التقاليد المتأخِّرة، التي تقفز بين حينٍ وآخَر في مسعًى لاستدراك ما فات، ولو في هزيعٍ أخيرٍ من التاريخ، وبعد أنْ يندثر عصر السِّلعة الباهرة. وإنَّما يأتي هذا أحيانًا في خطابٍ متطرِّفٍ، يَرُدُّ على خطابٍ متطرِّف. الأوَّل كان يخشى من التفلسف لخشيته من حُريَّة التفكير أصلًا، الذي قد يُهدِّد حصون إجاباته المتوارثة، والآخَر صار يُظهِر، في المقابل، هوسًا مفرِطًا بالتفلسف، بمناسبةٍ وبغير مناسبة، وفي كلِّ شيء، لا لشيء، إلَّا في سبيل مناكفة الدِّيك الأوَّل. وكلا الدِّيكَين ما ينفكُّ على كلِّ عودٍ يصيح، عبثًا، صُبحًا وعشيًّا!

الباحث عن قاسم مشترك في أي مجتمع متعدد لا يمكنه أن يستقر سوى على مفهوم المواطنة، فهناك موجتان سائدتان في جميع مجتمعاتنا العربية من خلال القراءات و البحث في التيارات على تنوعها..
الدين بين الأصولية والعلمانية
الأولى: الدينية أغلب تياراته حبيسة "الخطاب الأصولي" الذي يرفض التعددية الثقافية والدينية عدا التيار التجديدي التنويري الذي أعاد التعددية والعقلانية لموقعها في خريطة الثقافة الإسلامية وأدبيات الخطاب الإسلامي،
الثانية: العلمانية، التي تعتبر غالبية تياراتها مفعمة بالإيديولوجيا ومعادية كل ماهو ديني عدا التيار الذي أصبح يعرف بالمتدين أو المعنوي الذي يعادي رجال الدين و الملتزمين مع محاولة إحتواء بعض المتسائلين داخل الساحة الدينية.

مثّلَ الانشغال بقضايا اللّاهوت المسيحيّ، وبأشكال حضور الدين في المجتمعات الغربيّة محورَ اهتمامي، على مدى العقديْن السالفيْن. فقد كان لِعامل العيش في مجتمع كاثوليكي الدور البارز في تيسير الوعي من الداخل بالواقع الدينيّ الغربي، وفي التنبّه إلى قوّة نفاذ المؤسّسات الكَنَسيّة فيه، بعد أن كنتُ أحسبها وهنت، بفعل الغشاوة المضلِّلة لمقولة تَعلْمُن المجتمعات الغربيّة. وجدت نفسي، في مستهلّ مجيئي إلى روما، آوي إلى ديرٍ للرهبان، وما يقتضيه العيش في الدير من حرصٍ على التكوين العلميّ في مجمل تفرّعات اللاهوت المسيحيّ وانشغال بالبحث، بدءًا في جامعة القدّيس توما الأكويني ثم لاحقا في الجامعة الغريغورية وكلتاهما من الجامعات البابوية.

تسببت تداعيات عولمة الثورة الصناعية والرقمية ، والحضور الدائم في فضائها الصاخب، والانشغال المستمر بمتابعة مستجداتها، والهوس الزائد في تلقف تطبيقاتها، وتبني مصطلحاتها، والتفاعل المتواصل مع ما يتداول في فضائها المفتوح في كل الاتجاهات، من ثقافات، وافكار وقيم وافدة ،باستهلاك الوقت المتاح لإنساننا المعاصر، واستنزاف طاقته الوجدانية، الروحية منها، والتأملية .

وقد تجسدت هذه التداعيات بعزلة اجتماعية مقرفة ، سواء على مستوى الأسرة والأقارب، أو على مستوى الجيران، والمجتمع، وما نجم عنها من انفصام أسرى، وتفكك اجتماعي مقلق، حتى كادت تختفي في مجتمع اليوم، ظاهرة ترادف الأجيال، بانحسار التواصل الإجتماعي الحي، وغياب دفء الحس العاطفي معه، ناهيك عن تبني الكثير من المفاهيم والمصطلحات والترندات، التي تعج بها ساحة الفضاء الرقمي ، والفضائيات، ووسائل الاعلام المعاصرة، الأمر الذي أمكن تلمسه في تشويش واضح لمرتكزات أصالة الهوية، بعد أن طالت العولمة ، بآثار الكثير من تداعياتها السلبية، صميم حياتنا اليومية الراهنة، والثقافية، والمعرفية منها، بشكل مباشر ، حيث انسلاخ الجيل الجديد ، عن الكثير من العادات والتقاليد تدريجياً ، والانزياح في نفس الوقت عن الموروث الاجتماعي، بتبني مفاهيم ثقافة العولمة ، بعد أن تفاقمت فجوة الجيل، وغابت ظاهرة الترادف التقليدي بين الأجيال، مع الغزو الصاخب للعصرنة، الأمر الذي بات يهدد بتفكك البنى القيمية ، والاجتماعية، والدينية، وبما قد يقود إلى ضياع الأجيال، واستلاب معالم الهوية التراثية ، في قادم الأيام .

 1
شُعورُ الإنسان بالضغوطات الاجتماعية يُمثِّل واقعًا جديدًا ، يقوم على الربط بين العُمْقِ المعرفي للإنسان والبُنيةِ الجذرية للمجتمع . وكُلُّ واقع جديد هو بالضَّرورة منظومةٌ فكرية تشتمل على قواعدِ تفسير المعرفة الإنسانية ومَصَادِرِ الفِعْل الاجتماعي ، وإطارٌ تنظيمي يشتمل على أبعادِ السُّلوك الإنساني وعناصرِ النشاط الحياتي . وهذه المُكوِّناتُ الوجودية تُشكِّل ملامحَ هُوية الإنسان داخل المُحيطِ البيئي ، وتُجسِّد منطقَ اللغة الرمزي في الظواهرِ الثقافية المُتعلِّقة بأنماطِ الوَعْي ، والمفاهيمِ الوظيفية للجَوهرِ ( المَعنى الشمولي ) والهَيكلِ ( الفِكر الإبداعي) والنَّسَقِ (حقيقة البناء الاجتماعي). ومِن أجل منع الاصطدام بين عناصر المجتمع ومُكوِّناته، ينبغي تأسيس علاقات اجتماعية ذات طبيعة إنسانية ، تأخذ بعين الاعتبار حاجة الإنسان إلى الانتماءِ وتبادُلِ المشاعر مع الآخرين ، والارتباطِ بهم فكريًّا . وهذا مِن شأنه كشف تفاصيل الأجزاء المُتفاعلة في الأنساق الاجتماعية الظاهريَّة والباطنيَّة ، التي تُعْتَبَر شبكةً مِن الأنظمة العقلانية والروابط العاطفية والمعايير الأخلاقية . وإذا حافظت هذه الشبكةُ على تجانسها وتوازنها ، فإنَّ المُجتمع سَيُحافظ على التماسك والدَّيمومة وصَيرورة التاريخ . والتَّحَدِّيات الصادمة في هذا السِّياق ، تتجلَّى في كَون العلاقات الاجتماعية في غاية التعقيد ، والأدوات التحليلية للأفكار والمعاني شديدة التشابك ، والإنسان في سِباق معَ الزمن ، مِن أجل ابتكارِ آلِيَّات الوصول إلى فلسفة المعنى الاجتماعي ، وتكوينِ تطبيقات واقعية لتغيير الواقع ، وإنشاءِ تصوُّرات منطقية في عَالَم يَبتعد عن قُوَّة المنطق، ويَقترب مِن منطق القُوَّة. وهذه التحديات عبارة عن امتحان صعب لِقُدرة الإنسان، وإظهار لِمُستوى إمكانياته المعنوية والمادية .

ليس التقارب والرغبة في الفهم من قبل الألمان للعالمين العربي والإسلامي وليدي اليوم ووليدي مستجدات الحياة الاقتصادية بزخمها بل إن ذلك عريق يعود إلى زمن ما قبل غوته صاحب" الديوان الشرقي للمؤلف الغربي"  والذي أطلق فيه مقولته الكبيرة المفارقة للأطروحة الاستشراقية العدائية :( إذا كان الإسلام يعني القنوت فعلى الإسلام نحيا ونموت).

 فالمثقفون الألمان الذين عنوا بمقاربة الثقافة العربية والإسلامية بغية فهمهما انصرفوا أولا إلى القرآن باعتباره دستور الثقافة العربية والإسلامية فأول ترجمة للقرآن إلى اللغة الألمانية تمت عام 1616 عن الإنجليزية، فالقرآن كما أسلفنا هو دستور هذه الثقافة من طنجة إلى جاكرتا ،غير أن الألمان لم يحبذوا الترجمة عن طريق لغة وسيطة أي عبر الإنجليزية أو الفرنسية بل النقل عن لغة القرآن الأولى العربية ، واحتفت هذه الأوساط بصدور أول ترجمة لمعاني القرآن إلى الألمانية عن العربية مباشرة بواسطة ديفيد فريدريش ميجيرلين ولو أنها ترجمة ناقصة ويعتورها سوء الفهم والمقصد كما يوحي العنوان المختار لها  "التوراة التركية أو القرآن"  مع صورة للنبي كتب تحتها  "محمد النبي المدعي" هكذا عنون ميجيرلين ترجمته وهي ترجمة رديئة وصفها غوته بالإنتاج البائس وقد كان غوته نفسه يعتمد في دراسة  القرآن على ترجمة تيودور آرنولد عن الإنجليزية، لكن أحسن ترجمة إلى الألمانية والتي توصف بالشعرية والجيدة هي ترجمة فريدريش روكرت عام 1843 فقد كانت شعرية حقا واقتربت كثيرا من روح القرآن.