1
التحليل الاجتماعي للظواهر الثقافية يُساهم في بناء منطق جديد للتاريخ الخاص ( ذكريات الإنسان وأحلامه الساكنة في أعماقه السحيقة ) والتاريخِ العام ( أحوال المجتمع في الأزمنة المُختلفة ) . وكُلُّ تاريخ يُمثِّل بُنيةً اجتماعية مُتماسكة ، ووحدةً معرفية مُتجانسة ، وشخصيةً وجودية مُترابطة العناصر ، وهذه المُكوِّنات هي أُسُس الهَيكل الفكري للمجتمع، التي تَدفع باتِّجاه توليدِ مفاهيم رمزية قادرة على صِياغة التحولات الجذرية في الشعور الإنساني والسُّلوكِ الاجتماعي ، وإنشاءِ هُوِيَّة عقلانية جامعة تستطيع وضع أُطُر مِعيارية تُنظِّم عمليةَ انتقال المعنى الوجودي من شخصية الإنسان إلى شخصية المجتمع ، أي : انتقال الدَّلالة المعرفية من الجُزء إلى الكُل ، ومِن الخاص إلى العام، من أجل صِناعة منظومة أخلاقية تشتمل على فلسفة العلاقات الاجتماعية ، التي ترسم معالمَ المسار الإنساني للوصول إلى حقيقة المعنى ، وهذه المعالم الأساسية هي: البُنية الاجتماعية ، الظاهرة الثقافية ، الهُوِيَّة التاريخية .

شهد العالم خلال العقود الأخيرة، على إثر تفاقم مشاكل البيئة، نشاطًا مكثّفًا للداعين لاتّباع التقاليد الغذائية الصحيّة والعلاج الطبيعيّ، في ما يشبه ردّة فعل على ما شابَ السلوك البشري من إفراط وانتهاك لضوابط التعامل السليم مع المحيط. فقد بات التحذير من تنكّر الإنسان للمسلك السليم في العيش مدعاة للعديد من المبادرات، الباحثة عن تطوير أعراف جديدة في السلوك العام، تستند إلى ما هو طبيعي وتنأى عما هو مصطَنَع ومتَكلَّف. ومجال العناية بالصحّة هو من أكثر المجالات التي باتت تبحث عن هوية فاعلة في المجتمع، تستند إلى ما هو طبيعيّ وغير مصنَّع. فالاهتمام بالمنتوج الطبيعيّ، الرائج تحت مسمَّى البيولوجي، غير الملوَّث والصحّي، هو جيّدٌ للتناول ومفيد للتداوي أمام زحف ما بات يُعرَف بأمراض العصر.

1
فلسفةُ السلوك الإنساني هي التعبيرُ الوجودي عن حركةِ الفِعل الاجتماعي الظاهري ، والتفسيرُ المركزي للوعي الذهني المُستتر . وبما أن حركة الإنسان في تاريخه الشخصي وتاريخ المجتمع ، لا تتم بمعزل عن العلاقات الاجتماعية الخارجية والخصائصِ النَّفْسِيَّة الداخلية، فإنَّ هُويةً إنسانية جديدة ستنشأ بشكل مُستمر ، وتتولَّد مِن ذاتها لاكتشاف ذاتها. وهذه الهُوية تَجمع بين تاريخ الإنسان وإنسانية التاريخ ، من أجل فتحِ التاريخ الاجتماعي على أسئلة الوجود وتحدِّيات الواقع ، وأيضًا ، تَجمع بين الماهيَّة الاجتماعية والطبيعة النَّفْسية ، مِن أجل توحيدِ الزمان والمكان، وبذلك يتجسَّد الإنسانُ في التاريخ رُوحًا ومعنى ، ويتجسَّد التاريخُ في الإنسان نظامًا ومعرفةً . وهذه التبادليةُ تعني أن كُل صِفة إنسانية لها امتداد تاريخي عميق ، ولَيست وليدةَ اللحظة الآنِيَّة، وأن كُل عامل تاريخي له جُذور اجتماعية راسخة ، ولَيس مقطوعًا عن الوَعْي الإنساني بالزمن المفتوح ( حركة الماضي والحاضر والمستقبل معًا بلا فواصل في مكان يتشكَّل باستمرار ويُعاد صناعته مَعْنًى ومَبنى ) .

على سَـبـيـــــلِ التقدِيـــــــــم:
   ’’ يتّكِـلُـــونَ عَلى البَــاطِل، ويَتكلَّمُون بالكَذب. قَد حَبَلُوا بِـتَعبٍ، ووَلَدُوا إِثْماً. فَـقَسُــوا بَيْضَ أفْعَــى، ونَسَجُــوا خُيوطَ العنْكَبُــوت. الآكِــلُ من بَيْضِهم يَمُــوت، والتّي تُكسَرُ تَخْرُجُ أفعَــى. خُيُــوطُهم لا تَصِــيرُ ثَوباً، ولا يَكتسُون بأعمَالِهم. أعمَالُهم أعمالُ إِثْمٍ، وفِعلُ الظُّلْمِ في أيدِيهم. أرجلُهم إلى الشرِّ تَجرِي، وتُسرِعُ إلى سفكِ الدمِ الزكيّ. أفكارُهم أفكارُ إثمٍ. في طُرُقهم اغتِصَابٌ وسَحقٌ. طريقُ السَّلامِ لم يعرِفُوه، وليسَ في مَسالكِهم عدلٌ. جعلُوا لأَنفُسِهم سُبُلاً مُعوجّة. كُلُّ من يَسِيرُ فيها لا يَعرٍفُ سَلاَمــــــاً‘‘. هكذا يَردُ في الإصحاح التاسع والخمسين من سِفر إشَعيَاء، وهو ما لا نجدُ أبلغَ منه لوصف أولئك الذّين تحدّث عنهم وليام غاي كار في كتابه "أحجار على رُقعة الشطرنج"[1].  في هذا الكتــاب، الذي اعتمدنا عليه لكتابة هذا المقال، يكشف غاي كار (1895 – 1959) الستار عما أسماهُ بـ "المؤامرة الكونية" التي شرعَ في العمل عليها منذُ سنة 1911 ولم يستطع الوصول إلى حقيقتها إلا في سنة 1956! حيثُ بان واتضح له أن ما يعرفه العالم من حروبٍ وثوراتٍ وفوضى تعصفُ بحياة سكانه ليست سوى نتيجة "مُؤامرة شيطانية مستمرة"، ولا يشك غاي كار في أن هذه المؤامرة قد بدأت في ذلك العالم العلوي الذّي يُسمى بالفردوس حينما عصى الشيطانُ اللهَ وتمرّد على الحقّ الإلهي، حقِّ أن تكون كلمةُ الله هي العُليا. ويُشير غاي كار إلى أن هذه المؤامرة الكونية هي نفسُها التي جاء السيّد المسيح إلى الأرض من أجل التحذير منها.

يتباهى الغرب بتقدمه العلمي ويعزيه إلى عبقرية علمائه ولكن مسيرة العلم الحديث في الحقيقة لا يمكن فصلها عن تاريخ الغرب الاستعماري الذي كان العلم جزءا أساسيا في تمكينه وتوطيده، مساهما بذلك في تعميق النظرة العنصرية ضد الشعوب المستعمرة.
كان "السير رونالد روس" قد عاد للتو من رحلة استكشافية إلى سيراليون حيث قاد الطبيب البريطاني الجهود لمكافحة مرض الملاريا الذي قتل العديد من المستعمرين الإنجليز في البلاد. في ديسمبر/ كانون الأول عام ألف وثمانمئة وتسعة وتسعين 1899 ألقى روس محاضرة في غرفة تجارة ليفربول حول تجربته، حيث أعلن بأن "نجاح الإمبريالية في القرن القادم سوف يعتمد إلى حد كبير على النجاح الذي سنحرزه من وراء المجهر" (أي البحث العلمي).

"السير روس"، الذي فاز لاحقا بجائزة نوبل للطب بفضل أبحاثه عن الملاريا، أنكر لاحقا أنه كان يتحدث تحديدا عن دور عمله. لكن هذه المقولة أوجزت بدقة كيف أن جهود العلماء البريطانيين كانت لا يمكن فصلها عن محاولات حكومتهم غزو وإخضاع العالم.
لقد كان "السير روس" ابنا بارا للإمبراطورية البريطانية، فلقد ولد في الهند وعمل في وقت لاحق هناك جراحا في الجيش البريطاني. لذلك عندما استخدم مجهرا لدراسة كيف يتنقل أحد الأمراض الاستوائية، كان من بين دوافعه اكتشاف ما قد يساعد في حماية الجنود والمسؤولين البريطانيين في المناطق الاستوائية من المرض لأن هذا بدوره سوف يمكن بريطانيا من توسيع وتعزيز حكمها الاستعماري.

قدم الأستاذ رشيد بوطيب ترجمة لكتاب محاسن التاريخ ومساوئه للفيلسوف فريدريك نيتشه (1844-1900) وهي إضافة جديدة تغني وتثمر المكتبة العربية، ذلك أن سؤال التاريخ الذي طرحه نيتشه في القرن التاسع عشر لما له من أهمية كبيرة في تقدم الشعوب لا يزال بعيدا في وطننا العربي، وذلك بحكم هشاشة المجتمع الذي يقدس الأموات أكثر من الأحياء ويضفي الهالة القدسية على أشخاص لا يفيدون البشرية في أي شيء، سوى أنهم يضعفون الحياة.لذلك فإن تأملات نيتشه هي دعوة إلى إعادة اكتشاف ملكة النسيان باعتبارها ضرورية للفرد، الشعب، الثقافة، لأنها تساعد على تحرير الحاضر من وطأة الماضي وتحرير الحياة من هيمنة الذاكرة.
يبدأ نيتشه الكتاب بعبارة(لغوته)يقول فيها:
"أكره كل ما لا يفعل أكثر من حشوي بالمعلومات دون أن يرفع نشاطي أو يحييني بشكل مباشر."وهذا الكلام في حقيقة الأمر لا ينطبق على المجتمعات الغربية فقط، وإنما ينطبق أيضا على واقع المجتمع العربي المريض بحمى تاريخية متهالكة، قاتلة ، لأنه لا يستطيع أن يتصور نفسه خارج التاريخ، فيكون بذلك مثل الجمل يحمل أثقالا تعذبه وتسلب منه الحاضر الذي يستحق أن يبذل قصارى جهده من أجله.

يتمحور كتاب "أوروبا صانعة التحول في العالم" حول المسألة الاقتصادية، وتحديدا حول الريادة الأوروبية في هذا المجال الحيوي والحاسم في التطور الحضاري. حيث تحاول أستاذة التاريخ الاقتصادي الإيطالية فيرا زامانيي تفسير تلك الريادة من خلال تتبّع التطورات الحاصلة في هذه القارة على مستوى تنامي القوة الاقتصادية، ومن ثَمّ تسرّب تلك التحولات التنموية وانتشارها في كافة أرجاء العالم. ومقارنة تلك الريادة بما حصل من محاولات مماثلة في حضارات أخرى، لم يسعفها الحظ في تحقيق انتشار واسع أو بسط هيمنة فعلية، وكذلك لم تكن مغرية حتى تُقلَّد أو تُحتَذى خارج مجالها الذي تشكّلت فيه. إذ ثمة تساؤل مطروح في الأوساط العلمية ألا وهو لماذا حصلت الثورة الصناعية في أوروبا دون غيرها من الفضاءات، مثل آسيا أو إفريقيا، برغم وجود حضارات عريقة وغنية حازت تقدّما تقنيا وعسكريا في زمانها؟ فيرا زامانيي في إجابتها عن هذا السؤال تدعم أطروحتها حول ريادة أوروبا بإبراز محورية التطور الحاصل على مستوى المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية، ولا سيما على مستوى القيم التي تمثّل الدافع المتين المتواري لتلك التحولات. حيث تضافَرَ التقدّم في أوروبا مع اقتراب من تحقيق مطلب العدالة الاجتماعية (الحقوق) وترسيخ مبدأ المساواة الاقتصادية (الرفاه الاجتماعي).

تهزّ أوروبا أزمات دورية في علاقتها بمسلميها، متنقّلة من بلد إلى آخر ومتحوّلة من قضية إلى أخرى. وهي في الواقع أزمات نابعة من طغيان الخواء الثقافي، وتدنّي حضور المثقّفين العاملين وسط هذه الجموع المسلمة، أو لنقل إشراكهم في تقييم الأمور وطرح حلول عملية لها. إذ ينبغي أن نقرَّ أنّ العنصر الثقافي وسط ملايين المسلمين المقيمين والمستوطنين في دول القارة، البالغ عددهم زهاء الثلاثين مليونا، ضئيل وباهت، بفعل فتور التعويل على ذلك الجانب الرمزي أو الاستثمار فيه. فهناك دول قاحلة، بالمعنى الثقافي، في ما له صلة بالثقافة العربية، وهو ما انعكس ضبابية، وأحكاما مسبقة، وخوفا، وريبة، ونفورا، بين المكوَّنات الاجتماعية "الدخيلة" و"الأصيلة".
والسؤال كيف السبيل الخروج من أسْرِ التوتر الدوريّ في علاقة المسلمين الأوروبيين مع واقعهم الغربي؟ بادئ ذي بدء يبقى حلّ المشكلة بأيدي مسلمي أوروبا، أي هؤلاء المستوطنين والمقيمين في أحضان القارة، أكانوا ممن اندمجوا في سياق مجتمعاتها أو ممن هم في طور الاندماج. إذ ثمة مراجعات وتساؤلات حول هوية المسلمين الأوروبيين، ولا نقول المسلمين في أوروبا لأن الغلبة ستؤول للشقّ الأول، ينبغي تناولها بهدوء وواقعية. فالإسلام الديناميكي، وحده القادر على مراعاة الغيرية، وطمأنة الآخر، وبثّ الثقة لديه. وهو الرهان الفاعل والحاسم، حتى لا تبقى الجموع المستوطنة في أوروبا عائمة. ولِيُحاصَر ذلك التنافر لصالح تآلف وتآنس حقيقيين. فليست أوروبا وحدها أمام هذا الاختبار الحضاري الإشكالي، في استيعاب "الدخيل" وهضمه، بل الجموع المسلمة أيضا هي طرفٌ رئيس في هذا التحدّي، لذلك كلاهما فاعل ومفعول به.