آخر مقالات علمي الاجتماع والنفس
المزيد
علما الاجتماع و النفس
كتاب ألفه المفكر الأمريكي إريك هوفر (1898- 1983)، خرجت طبعته الأصلية إلى النور في العام 1951، في حين صدرت نسخته المترجمة إلى العربية سنة 2010 عن هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، وقد ترجمه إلى العربية عبد الرحمن القصيبي.
يعد هذا الكتاب بحق أهم عمل بحثي عن الحركات الاجتماعية، وتحديدا التنظيمات الشمولية كالنازية والبلشفية بحيث صدر المؤلف في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لكن نتائج الدراسة يمكن تعميمها لتغطي سائر الحركات الاجتماعية القديمة والمعاصرة نظرا إلى ما تنطوي عليه من سمات مشتركة من حيث طبيعة أتباعها وعوامل جاذبيتها وسيرورة نشاطها.
أولا: المحبطون
تستمد الحركات الجماهيرية قوتها من رغبة المحبطين في التغيير الجذري حتى إذا كان فشلهم ناتجا عن عوامل ذاتية مرتبطة بعيب في شخصيتهم ولا صلة لها بالواقع الخارجي، وبذلك فهي تتغذى على نزعات الإحباط واليأس والشعور بفقدان المعنى: "إن الإيمان بقضية مقدسة – هو - إلى درجة كبيرة – محاولة للتعويض عن الإيمان الذي فقدناه بأنفسنا".
ثانيا: الفقراء
إن أولئك الذين اعتادوا حياتهم البائسة لا ينضمون في الغالب إلى الحركات الجماهيرية، إذ ينظرون إلى فقرهم المدقع على أنه مصيرهم المحتوم الذي لا يتزعزع، ولا يملكون طموحات وأمان عظيمة، فمجرد الحصول على وجبة دسمة يعد إنجازا كبيرا بالنسبة لهم. وفي هذا الصدد يورد الكاتب: "يبلغ التذمر أعلى درجاته حين يكون البؤس محتملا، أي حين تتحسن الأوضاع على نحو يسمح بالاعتقاد بإمكان تحسنها أكثر فأكثر". فقد لاحظ دي توكيفيل أن العشرين سنة التي سبقت قيام الثورة الفرنسية شهدت زيادة غير مسبوقة في مستويات الرخاء المادي.
” إن الوعي اللغوي النقدي ينظر إلى اللغات باعتبارها ظاهرة ديناميكية وليست بناءً ثابتاً من المعايير الراسخة ويتعامل مع ذخيرة اللغة باعتبارها ممارسات اجتماعية. وفي مجال التعليم، تهدف الأنشطة المصممة والمنفذة في الفصول الدراسية إلى تطوير الوعي اللغوي من خلال المناقشة والتحليل والتأمل باستخدام أمثلة وذخيرة لغوية مختلفة للغاية، على النحو الذي يتيح إجراء مناقشة هادفة ونقدية “.
يذهب نورمان فيركلف في كتابه اللغة والسلطة الصادر عام 2001 إلى أن السبب الرئيسي لاختياره التركيز على هذه القضية هو اتصالها بالأحوال الراهنة، ونظراً للتغييرات الكبرى في السياسات والممارسات التعليمية التي يجري تنفيذها أو يعتزم تنفيذها، ونظراً بصفة أخص إلى التقرير الذي قدمته (لجنة كينجمان)، ومداولات (لجنة كوكس) عن تدريس اللغة الإنجليزية في المدارس (والإحالة في ذلك كله بسبب عدم إحراز أي تقدم كبير منذ ذلك الوقت في السياسة الرسمية من حيث الوعي النقدي باللغة).
يطرح المقال التساؤل الرئيسي التالي: كيف يمكن للدراسة النقدية للغة أن تُسهم في تحرير الخاضعين للهيمنة والقهر في مجتمعنا؟ وبعد مناقشة عامة وموجزة لإمكانية مساهمة الدراسة النقدية للغة في التحرر الاجتماعي، سنركز في هذا السياق على مجال تنمية هذه الإمكانية فيه، وهو تدريس اللغة في المدارس. والحجة المركزية في هذا السياق تذهب إلى أن: الوعي النقدي باللغة، المبني على الدراسة النقدية للغة، يجب أن يكون من الأهداف المهمة لتعليم اللغة، من خلال السعي الدؤوب إلى تقديم بعض الاقتراحات حول أساليب تنميته.
ويمكننا تعريف الوعي النقدي باللغة بأنه " فهم مظاهر الاجتماعية والسياسية والاعتقادية للغة والتغير اللغوي والخطاب. ويختص بدراسة سبب تهميش الفرد لتكلمه بطريقة معينة، خاصةً إذا اعتبرت مؤشراً على عنصره أو عرقيته أو دينه أو مركزه الاجتماعي ". أي يشير الوعي النقدي باللغة إلى فهم الجوانب الاجتماعية والسياسية والإيديولوجية للغة والتنوع اللغوي والخطاب. وهو يعمل كتطبيق تربوي لتحليل الخطاب اللغوي بالاعتماد على المنهج النقدي، حيث ينظر إلى اللغة باعتبارها ممارسة اجتماعية. كما يسعى إلى تنمية الوعي النقدي باللغة كجزء من تعليم الطلبة للغة من خلال ترسيخ مهارات تحليل مضامينها التي يستخدمونها هم وغيرهم. وبشكل أكثر تحديداً، فإن الوعي النقدي باللغة هو تنمية مهارات إعادة إنتاج أو تعزيز أو تحدي سمات اللغة مثل: الكلمات والقواعد واختيارات الخطاب لإيديولوجيات معينة وصراعات من أجل السلطة والهيمنة.
إن أحد الأهداف الأساسية لهذا المقال هو رفع الوعي بأساليب إسهام اللغة في تمكين بعض الناس من الهيمنة على البعض الآخر، لأن الوعي يمثل الخطوة الأولى على طريق التحرير. وكون الوعي باللغة عنصراً مهماً من عناصر تلك " الخطوة الأولى "، نتيجة مترتبة على أساليب عمل الهيمنة في المجتمع الحديث، فالهيمنة تعمل، كما دأبت على تأكيد ذلك، بطرائق تزداد شدتها، من خلال " الرضا " لا " القسر "، ومن خلال الإيديولوجيا، ومن خلال اللغة، ولكن ازدياد الشدة المطرد لا يعني الاقتصار عليها، فلا يجوز اختزال أسلوب الهيمنة في توليد الرضا، واستعمال أوعية الإيديولوجيا واللغة، مثلما لا يجوز اختزال التحرر في " إماطة اللثام "، والتغيير وممارسات الخطاب. بل إننا، حتى ونحن نركز على اللغة والخطاب، علينا أن نذكر أنفسنا بأن التحرر الاجتماعي يدور في المقام الأول حول مسائل عملية محسوسة، مثل البطالة، والإسكان، وإمكان الالتحاق بالتعليم، وتوزيع الثروة، وتخليص النظام الاقتصادي من المصلحة الشخصية والربح ونزواتهما.
كانت نظرية "الحداثة السائلة" لـعالم الاجتماع والفيلسوف البولندي البريطاني "زيجمونت بومان" Zygmunt Bauman أحد أهم المنظرين الاجتماعيين في القرنين العشرين والحادي والعشرين، موضوعاً للعديد من المجالات. شدد باومان على أن بيئة اليوم التي تتسم بعدم اليقين وانعدام الأمن، إلى جانب المخاوف التي يعيشها الأفراد، ولدت الحداثة السائلة. بومان الذي وجه نقداً لاذعاً للحداثة قبل تنظيره للحداثة السائلة، ذكر في أعماله أنه مع الحداثة. تدير الحكومات العنف فعلياً وأن العنف يمارس على الأفراد الذين يُنظر إليهم على أنهم الآخر في كل مجال. على الرغم من أن فترة ما بعد الحداثة تبدو بمثابة تحرر من الشمولية التي شهدتها الحداثة، إلا أن باومان يعتقد أن فترة ما بعد الحداثة لم تكن مختلفة تماماً عن الحداثة، بل إنها جعلت حياة الأفراد أكثر غموضاً. قام زيجمونت بومان بدراسة العديد من المجتمعات من منظور نقدي في دراساته. قبل دراسة نظرية باومان حول الحداثة السائلة، من المهم للغاية التعرف عليه وفهم أعماله النظرية.
بومان الذي ولد كيهودي في بولندا، واجه صعوبات أن يكون الآخر طوال معظم حياته، فحص هذه الصعوبات في عيون المجتمع في أعماله. أتيحت لباومان، الذي تحولت حياته إلى منفى بعد الاحتلال النازي، فرصة دراسة مجتمعات مختلفة بسبب تواجده في أماكن عديدة. في المرحلة الأولى من الدراسة تم إدراج حياة باومان وأعماله والأسماء التي أثرت فيه وشرح دراساته النظرية. يرى بومان، الذي يطلق على نفسه اسم مؤرخ الحداثة وما بعد الحداثة، أن الحداثة ليست من بقايا البربرية، بل هي نفسها. على الرغم من أن باومان رأى في البداية فترة ما بعد الحداثة بمثابة خلاص للحداثة، إلا أنه أكد لاحقاً في العديد من أعماله أن ما بعد الحداثة لا تختلف عن الحداثة. من الممكن النظر إلى تنظير الحداثة السائلة، كنقد لما بعد الحداثة. يرى باومان أن البيئة المتغيرة التي تتسم بعدم اليقين وانعدام الأمن اليوم، إلى جانب المخاوف التي يعيشها الأفراد، وأكد أنها ولدت الحداثة. وقبل تنظيره للحداثة السائلة، كان من أشد منتقدي الحداثة.
” التحليل الاجتماعي هو أداة بالغة الأهمية لفهم وفحص الظواهر الاجتماعية المختلفة. وإذا كنت طالباً أو باحثاً في علم الاجتماع، فستحتاج إلى معرفة كيفية إجراء هذا النوع من التحليل إذا كنت ترغب في إنتاج بحث ثاقب وسديد “.
كيف نولد المعرفة عن العالم البشري؟ كيف يمكننا تقديم ادعاءات صحيحة حول الظواهر الاجتماعية؟ الإجابة البسيطة هي إجراء تحليلات جيدة، بناءً على البيانات ذات الصلة. ولكن ماذا يعني إجراء تحليلات (جيدة) في العلوم الاجتماعية؟ يتضمن التحليل في العلوم الاجتماعية دائماً استخدام النظرية بطريقة أو بأخرى. ولكن كيف تتفاعل النظرية مع معطيات الظاهرة؟ كيف ينبغي لنا أن ننظر إلى النظرية في علاقتها بالبيانات الإحصائية؟ وكيف نستغل النظرية بشكل عملي في تحليلاتنا السوسيولوجية؟ هذه التساؤلات سنحاول الإجابة عنها باختصار شديد في هذا المقال.
إن البحث قد لا يزودنا دائما بالنتائج التي تتوقعها أو تريدها بل يعطينا شيئاً مما أشار إليه جون رونالد تولكين (1892-1973) J. R. Tolkein في مؤلفه سيد الخواتم The Lord of Range " " حيث قال " ليس أمامك سوى البحث، إذ كنت تريد اكتشاف شيء ما، ومن المؤكد أنك سوف تكتشف بعد أن تقوم بالبحث شيئاً ما، إلا أنه لا يكون دائماً نفس الشيء الذي كنت تسعى للوصول إليه ".
تعبّر المنهجية عن مجموعة من الخطوات المتعارف عليها بين العلماء، والتي يتبعها الباحث في محاولة فهمه للأمور والعلاقات في المحيط الذي يعيش فيه الإنسان، والعرض الجوهري منها اكتساب المعرفة العلمية والوصول إلى حقائق تتمير بعنصرها الجاد والأصيل، ويعتبرها الفرنسي موريس أنجرس Maurice Angers مجموعة من المناهج والتقنيات التي توجه إعداد البحث العلمي وترتيب الطريقة العلمية. أي في دراسة المناهج والتقنيات المستعملة في العلوم الإنسانية والاجتماعية.
بناءً على ما تقدم يعتبر البحث السوسيولوجي تمرين أكاديمي يهدف إلى تعميق المعرفة وبناء قاعدة معرفية ابستمولوجية حول موضوع ما من خلال عملية التحليل السوسيولوجي، التي تسعى إلى فهم المادة المدروسة وما يحيط بها من أنساق معرفية، بالإضافة إلى التعبير عن المعارف المستنبطة والمستنتجة بلغة علمية موضوعية سليمة، بهدف توضيح المتغيرات الفاعلة التي تقف وراء حدوث الظاهرة المدروسة مما يؤدي إلى فهم معطياتها والتحكم بها وتوقع النتائج المترتبة عليها من خلال استخدام المنهج المناسب.
- مفهوم التحليل الاجتماعي: يُعرف علم الاجتماع بأنه الدراسة العلمية للمجتمع والسلوك الاجتماعي والتغيير الاجتماعي. بذلك يمكننا النظر إلى مفهوم التحليل الاجتماعي باعتباره أسلوب لدراسة المجتمع والتفاعلات الاجتماعية لفهم أنماطها وعملياتها وتأثيراتها على الأفراد والجماعات. وهو يتضمن فحصاً نقدياً للظواهر الاجتماعية وبنيتها الأساسية، بما في ذلك المعايير الاجتماعية، والمعتقدات، وبناءات القوة والضعف. كما يستخدم علماء الاجتماع مجموعة متنوعة من الأساليب، بما في ذلك الملاحظة والاستطلاعات والمقابلات والتحليل الإحصائي، لجمع وتحليل البيانات حول السلوك الاجتماعي والاتجاهات الاجتماعية. وهو أيضاً أداة مهمة لفهم تعقيدات المجتمع المعاصر والقضايا الاجتماعية التي تؤثر على حياتنا. ومن خلال فحص التفاعلات الاجتماعية، يمكن لعلماء الاجتماع اكتساب نظرة ثاقبة للعوامل التي تشكل سلوكنا ومواقفنا، بما في ذلك الطبقة الاجتماعية والعرق والنوع والثقافة والانتماءات الاجتماعية والإيديولوجية. فعلى سبيل المثال، قد يقوم علماء الاجتماع بتحليل أنماط التمييز في مكان العمل أو فحص كيف تؤثر المعتقدات والقيم الثقافية على المواقف تجاه الصحة العقلية.
كتاب من تأليف يوسف شلحت (1977-1917)، والذي يصفه البعض بأنه مؤسس علم الاجتماع الديني العربي، صدر عن دار الفارابي بلبنان في العام 2003، وقد تناول من خلاله الكاتب أهم الجوانب المتصلة بالظاهرة الدينية من منظور علم الاجتماع. وسنعرض فيما يلي لأهم الأفكار والأطروحات التي تضمنها هذا العمل البحثي النفيس:
أولا: العناصر الأساسية للديانة
يشير الباحث إلى العناصر الأساسية التي تشكل قوام أغلب الديانات، وفي مقدمتها التمييز بين فئتين: الحلال، والحرام. فالحرام يحيل إلى الممنوع والمقدس الذي لا يجوز انتهاكه. أما الحلال فلا يُفهم معناه إلا بنقيضه أي الحرام، فهو شيء غير مقدس وغير محرم. هذا بالإضافة إلى عنصر العقائد بوصفها وسيلة اعتمدتها الديانات لتحفظ نفسها من أي شك منطقي أو إمكانية للنظر العقلي.
وتعد الأساطير مكونا أساسيا في عدة ديانات، إذ تحيل إلى "مجموعة تخيلات وتصورات عن الآلهة والدنيا، وعن علاقات الفرد بالمجتمع والطبيعة وما وراء الطبيعة، عبر عنها الإنسان بلغة شعرية، يمدها خيال قوي وثاب". إن الأسطورة ما تلبث أن تتضخم وتتشعب حتى تتحول إلى حقيقة بنظر معتقديها. كما عمد الإنسان القديم إلى إسقاط معايناته لأحوال مجتمعه على الكون والعالم الغيبي، فصوَّرَ لنا الآلهة وهي في حالة صدام وصلح وحياة وموت وغير ذلك من الصفات البشرية، ومن ثم فالأسطورة تعبر عن أحوال النظم الاجتماعية والعوائد والعقائد السائدة فيها. وصولا إلى عناصر أخرى مشتركة بين الديانات مثل: الصلاة، الذبيحة، النفس، المعبد، القبر.
ثانيا: النظريات المفسرة لنشأة الديانات
سعى المؤلف إلى التنقيب عن العوامل الاجتماعية والنفسية والعاطفية المفسرة لظهور الديانات، بدءا بالطوطمية التي تعد أول ديانة اعتنقها البشر في نظر العديد من الباحثين، بحيث كانت تدين بها القبائل البدائية التي تحيط طوطمها بالعبادة والتقديس، ويرمز الطوطم إلى "حيوان أو نبات أو شيء آخر يشترك في تقديسه أو عبادته أفراد قبيلة من القبائل ويتَسَمَّوْنَ باسمه ويعتقدون أنه جدهم الأعلى وأنهم من دم واحد".
ومن هنا يمكن اعتبار الشعور بالخوف السبب الرئيسي في نشأة الديانات، فقد كان الإنسان البدائي يقف حائرا وعاجزا أمام الظواهر الطبيعية التي تداهمه (فيضان، زلزال... إلخ) والحيوانات المفترسة التي تفتك به وتقض مضجعه، الشيء الذي جعله يقدسها ويعبدها اتقاء لشرها وجلبا لمرضاتها، لأن تفكيره البدائي كان قاصرا عن الإتيان بتفسير علمي منطقي لتلك الظواهر.
إن المواقف التي يتخذها الأفراد من أفكار ومعاني ومعتقدات وقيم يتعلمونها كأعضاء في المجتمع تحدد طبيعة الإنسان وجميع انتماءاته. فالأفراد هم ما يتعلمونه ويؤمنون به، حيث لا يضع أصحاب النظرة المتفائلة من الحتمية الثقافية أي حدود لقدرات البشر على القيام بأي شيء يريدونه أو أن يكونوا عليه. ويقترح بعض علماء الانثروبولوجيا أنه لا توجد " طريقة صحيحة " عالمية للوجود البشري. فالطريقة الصحيحة هي دائماً " طريقتنا "، وأن " طريقتنا " في مجتمع ما لا تتطابق أبداً تقريباً مع " طريقتنا " في أي مجتمع آخر. ولا يمكن أن يكون الموقف السليم للإنسان الذي يؤمن بالتعددية إلا موقف التسامح والتعايش مع الآخر، لأن الطبيعة البشرية قابلة للتغيير بشكل لا نهائي، وبالتالي يمكن للإنسان اختيار طرق الحياة التي يفضلها.
لكن بالمقابل يعتقد أصحاب النظرة المتشائمة من هذا التفسير أن البشر هم ما تمت تربيتهم عليه، وهذا شيء لا يملكون السيطرة عليه. فالبشر كائنات سلبية منفعلة تقوم بكل ما تمليه عليهم ثقافتهم المحلية. ويؤدي هذا التفسير إلى ظهور نظرية سلوكية تضع أسباب وعوامل السلوك البشري في عالم خارج عن سيطرة البشر تماماً.
في حقيقة الأمر، يشمل مفهوم الثقافة السلوك الاجتماعي والمؤسساتي والمعايير الموجودة في المجتمعات البشرية، بالإضافة إلى المعرفة والمعتقدات والفنون والقوانين والعادات والقدرات وعادات الأفراد في الجماعات الإنسانية. وغالباً ما تنشأ الثقافة من منطقة أو موقع محدد أو تُنسب إليه، حيث يكتسب البشر الثقافة من خلال عمليات التنشئة الاجتماعية والتعلم المتمثلة في التثاقف والتواصل الاجتماعي، وهو ما يتضح من خلال تنوع الثقافات عبر المجتمعات.
إن القاعدة الثقافية تنظم السلوك المقبول في المجتمع؛ فهي بمثابة دليل للسلوك واللباس واللغة والتصرف في موقف ما، والتي تعمل كقالب للتوقعات في مجموعة اجتماعية. إن قبول ثقافة واحدة فقط في مجموعة اجتماعية يمكن أن يحمل مخاطر، تمامًا كما يمكن أن يذبل نوع واحد في مواجهة التغيير البيئي، بسبب الافتقار إلى الاستجابات الوظيفية للتغيير. وبالتالي، في الثقافة العسكرية، تُعَد الشجاعة سلوكاً نموذجياً للفرد، وتُعد الواجب والشرف والولاء للمجموعة الاجتماعية فضائل أو استجابات وظيفية في استمرارية الصراع. في ممارسة الدين، يمكن تحديد سمات مماثلة في مجموعة اجتماعية.
تمهيد: ” التاريخ هو مقبرة من الطبقات الأرستقراطية “ (باريتو).
يعتبر الصراع من أخطر العمليات الاجتماعية نظراً لنتائجه السلبية الناجمة عنه لكونه تصادماً بين القوى الاجتماعية حينما تتحول المنافسة من إنسانية إيجابية إلى شكل هدام، ومن هنا يحاول المنافسون القضاء على الخصم ومن ثم الانقياد للأهواء الجامحة التي تسيطر عليهم، بل ويحكمهم مبدأ البقاء للأقوى، ويستغل كل طرف جميع الوسائل والطرق المشروعة والمحرمة للقضاء على الطرف الآخر المتصارع معه، بما في ذلك القتل، والاغتيال، الدسائس، والمؤامرات، والخيانة، والتنصت، الفتن، ... إلخ.
ويعرف الصراع بأنه " العملية التي من خلالها يرغب كل فرد أو جماعة لتحقيق أهدافه الخاصة عن طريق إبعاد الخصم أو تحطيمه والقضاء عليه والذي يرغب في تحقيق الأهداف نفسها ".
يسعى باريتو من خلال نظريته الصراعية إلى تفسير القوى الحقيقية التي تحدد حالة التوازن داخل النسق الاجتماعي، أي تفسير العناصر التي تعمل داخل النسق وتؤثر عليه بالتالي تتفاعل معه. ويتضمن هذا الهدف التركيز على الديناميكية الاجتماعية للصراع والتغير بدلاً من دراسة النظم الاجتماعية الثابتة.
ويرى باريتو أن العناصر الأساسية التي تكمن وراء تلك العمليات هي عناصر فردية تتكون على مستوى الوحدة الصغيرة وتتكون من حالات نفسية (سيكولوجية) ومبادئ عقلانية من إنتاج المجتمع تحدد بدورها السلوك الاجتماعي والعمليات الاجتماعية. وتستند رؤية باريتو على أساس طبيعي مؤداه النظر إلى الرواسب باعتبارها عناصر أساسية لفهم المجتمع.
بذلك طور باريتو نظريته عن الصراع والتغيير الاجتماعي التي تتناقض تناقضاً صارخاً مع النظرية الماركسية في حين ركزت نظرية ماركس على دور الجماهير، قدم باريتو نظرية نخبوية بشأن التغيير الاجتماعي، التي رأت أن المجتمع تهيمن عليه بصورة حتمية نخبة صغيرة تعمل على أساس المصلحة الذاتية المستنيرة هذه النخبة تحكم الجماهير الذين تهيمن عليهم الأفكار غير العقلانية وفقاً لنظام باريتو، فإنه لافتقار الجماهير إلى العقلانية، فمن غير المرجح أن تكون هذه الجماهير قوة ثورية. يحدث التغيير الاجتماعي عندما تبدأ النخبة الانحطاط ويتم الاستعاضة عنها بنخبة جديدة مشتقة من النخبة غير الحاكمة أو العناصر العليا من الجماهير، وبمجرد وصول النخبة الجديدة إلى السلطة، تبدأ العملية من جديد.
- نظرية باريتو عن الصراع الاجتماعي: يعد فلفريدو باريتو الإيطالي (1848 -1923) من أبرز علماء الاجتماع الصراعين في إيطاليا والعالم. ظهرت نظريته الصراعية في كتابه الموسوم " مقدمة في علم الاجتماع - Introduction to sociology " عام 1916 وهو مؤلف ضخم يقع في جزئين وتُرجم الإنكليزية عام 1935 حيث صدر بعنوان: " العقل والمجتمع - Mind and Society " أما قبل ذلك فقد نشر مجموعة من المقالات في السياسة والاقتصاد. ونشر أيضاً كتاباً بعنوان " النظم الاشتراكية - Socialist systems " عام 1902 وكان عبارة عن تحليل نقدي للفكر الاشتراكي ولتدخل الحكومة في الاقتصاد.
يعتقد باريتو في نظريته الصراعية بأن الصراع يكون بين النخبة والعوام. ذلك أنه يعتقد بأن المجتمع ينقسم إلى طبقتين اجتماعيتين متخاصمتين هما: طبقة النخبة وطبقة العوام. وفي هذا السياق سنحاول توضيح الإطار المفاهيمي لنظرية باريتو تمهيداً لفهم نظريته عن الصراع الاجتماعي من خلال مناقشة أفكاره عن دورة النخبة وتداول السلطة بين الثعالب والأسود.
أولاً- عناصر الإطار المفاهيمي والتحليلي في نظرية باريتو: في هذا العنصر التأسيسي سيتم شرح وتوضيح أهم المفاهيم التي بنى عليها باريتو نظريته عن الصراع الاجتماعي، وهي كالآتي:
1- طبقة النخبة: جماعة من الأفراد يمتلكون خصائص مميزة تجعلهم أكثر قدرة على التميز في أداء أدوار شديدة الأهمية في حياة مجتمعاتهم ولا سيما مجال توجيه المجتمع واتخاذ القرارات السيادية المهمة في مختلف مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية.
تقديم
خلفت الدراسات والأبحاث المنجزة من قبل المؤسسات الاستعمارية حول المغرب، رصيدا معرفيا لا يستهان به. واهتم في مجمله بطبيعة البنيات الثقافية والسياسية والاجتماعية للمجتمع المغربي. وتضمن هذا الرصيد تكثيفا لتصورات ورؤى وقناعات إيديولوجية مسبقة، مصاغة ومنتظمة حسب قوانين وغايات ومرامي وأهداف المؤسسة الاستعمارية.
كما قدم ذلك الرصيد معطيات اتسمت بدرجة عالية من الدقة في التوثيق، والسرد، والتأريخ والوصف الاثنوغرافي. لكن طبيعة الاستعمالات السياسية والعسكرية، والتوظيفات الإيديولوجية له، حوَّلتها إلى دلائل "علمية" لخدمة حاجيات الشؤون الأهلية الفرنسية ومشروعها الاستعماري.
ويندرج اهتمامنا بهذا الرصيد المعرفي ضمن مشروع أكاديمي مغربي. أسس له رواد السوسيولوجيا المغربية أمثال بول باسكون، عبد الكبير الخطيبي، محمد جسوس وآخرون. مشروع يراهن على تأسيس "مدرسة وطنية للسوسيولوجيا". تأخذ مسافة نقدية من السلط المعرفية للتراث الكولونيالي، ومن التحاليل النظرية الجاهزة لكل من الماركسية الارثودوكسية والنزعات الخصوصية الاستئصالية. كما تضع نصب أعينها، تشريح المؤسسات السياسية والثقافية للمجتمع المغربي، لبلورة قضايا نظرية ذات الصلة بالتغير الاجتماعي والتحديث.
السوسيولوجيا الاستعمارية: حالة ميشو بيلير
يعتبر ادوارد ميشو بيلير Edouard Michaux-Bellaire (1857-1930) واحدا من الرواد الأوائل للسوسيولوجيا الاستعمارية بالمغرب. عاش بين المغاربة حوالي نصف قرن، وتدرج من موظف بسيط في طنجة الدولية، إلى شخصية نافدة في أوساط السلطات العسكرية، لتأسيسه سنة 1907 لما سمي " بالبعثة العلمية"، والتي عرَّف أهدافها كالتالي: «البحث في عين المكان عن كل الوثائق التي تسمح بدراسة المغرب، وإعادة تأسيس تنظيمه وحياته، وليس فقط بمساعدة الكتب والمخطوطات، ولكن أيضا بفضل المعلومات الشفوية، وتقاليد القبائل، والجماعات الطرقية والأسر...»[1]
وفي مقال نشره سنة 1927 والموسوم «بالسوسيولوجيا المغربية»[2]، وجه ميشو بيلير اهتمامات دراساته إلى ثلاث محاور:
- منطقة نفوذ المخزن، وأطلق عليها مناطق الشرع. وهو حقل للبحث من اختصاص ما سماه "سوسيولوجيا المخزن".
- حقل المظاهر الإسلامية، (من سلوكات وتعابير دينية وتعبدية)، وهو حقل للبحث من اختصاص ما سماه "السوسيولوجيا الإسلامية".
- حقل دراسة "القبائل البربرية" وعلاقتها بمراكز السلطة وبالأطراف والهوامش. من اختصاص "السوسيولوجيا المغربية".
تبعا لهذا التقسيم، الذي يكرس حاجيات الشؤون الأهلية، أنتج بيلير مونوغرافيات ودراسات كثيرة، تناولت مختلف مناحي النشاط الاجتماعي، ومنظومات القيم الدينية، والعادات، والتقاليد، والأعراف ومختلف مستويات أنماط عيش الساكنة المغربية، في تمظهراتها المختلفة السياسية والثقافية وكذلك الاقتصادية: كنظام الأحباس، ونظام الضرائب، والتنظيم العقاري، والتشريعات الفقهية للسلوك الاقتصادي، بالإضافة الى نظام المبادلات الاجتماعية كالهدايا وغيرها.
” من أقوال " شلايرماخر" المبكرة التي تلقي الضوء على طبيعة التأويل قوله (إن الهرمينوطيقا هي بالضبط طريقة الطفل في فهم معنى كلمة جديدة): إنه يسترشد ببنية الجملة وبسياق المعنى، وكذلك تفعل الهرمينوطيقا العامة. تبدأ الهرمينوطيقا في نظر شلايرماخر من أحكام الحوار، فهي " حوارية " Dialogical في طبيعتها، غير أنه للأسف لم يتفطن إلى المتضمنات الخلاقة لهذه الطبيعة الحوارية، وشغلته عن ذلك رغبته في استخلاص قوانين والحصول على تماسك منهجي، غير أن هذا التخلي بحد ذاته، من وجهة نظرنا الحالية، قد وجه الهرمينوطيقا وجهةً جديدة، وجهها إلى أن تصبح علماً “. (من كتاب فهم الفهم: مدخل إلى الهرمينوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر، عادل مصطفى، ص: 62-63).
تمهيد:
إذا كانت المنظورات الوظيفية والصراعية تؤكد على أهمية البناء الاجتماعي في تشكيل وتوجيه أفراد المجتمع والتأثير على سلوكهم الإنساني، فإن منظورات المدرسة التأويلية المعاصرة على الطرف الآخر تولي اهتماماً كبيراً لدور الفعل والتفاعل بين أفراد المجتمع في تكوين تلك البنى.
في حقيقة الأمر. إن عودة العلوم الإنسانية إلى دائرة الهرمينوطيقا (علم التأويل) هي بمثابة عودة المياه إلى مجراها الطبيعي، حيث تعتبر الهرمينوطيقا علماً لتأويل النصوص كيف ما كان نوعها وطبيعتها، لأن غايتها الأساسية هي الكشف عن المعنى، هذا الأخير الذي لا يمكن أن يتحقق بشكل سليم إلا إذا تمكنت الهرمينوطيقا من خلق علاقات متبادلة ومنسجمة بين الميتافيزيقا والأنطولوجيا والابستيمولوجيا والفينومينولوجيا والاثنوميثودولوجيا، وهذا ما يستدعي التأكيد على أهمية مبدأ التطبيق الذي يعني الانتقال من النص إلى الفعل عبر أو بواسطة العقل، بمعنى استحضار الواقع بكل أحداثه ومعطياته في عملية التأويل، فالواقع إذن يصبح هو دليل التأويل وبرهانه.
تتعلق الهرمينوطيقا كمنهجية للتأويل بالمشاكل التي تنشأ عند التعامل مع الأفعال البشرية الحاملة لمعنى ونواتج هذه الأفعال، وبالأخص النصوص. وهي بوصفها معرفة منهجية توفر مجموعة أدوات لمعالجة هذه المشاكل. يرتبط التأويل كتقليد قديم بمجموعة من الإشكالات السائدة والمتكررة في حياة الإنسان، فالتأويل نشاط إنساني حاضر في كل وقت وحين ينطلق كلما تطلع البشر إلى فهم ما يرونه مهما في نظرهم. ونظراً لتاريخ الهرمينوطيقا الطويل، فمن الطبيعي أن تكون قضاياها، وأدواتها، قد شهدت تحولاً كبيراً مع مرور الوقت، ولحق هذا التحول مبحث التأويل نفسه.
ويُعرف التأويل في اللغة: ترجيع الشيء إلى الغاية المرادة منه، من الأول وهو الرجوع. وفي الاصطلاح: رد الكلام إلى الغاية المرادة منه، بشرح معناه، أو حصول مقتضاه. وفي الفلسفة هي المبدأ المثالي الذي من خلاله تكون فيه الحقائق الاجتماعية (وربما أيضاً الحقائق الطبيعية) رموزاً أو نصوصاً والتي بدورها يجب أن يتم تفسيرها بدلاً من وصفها أو إيضاحها. وفي نظرية الفهم يرى فريدريك شلايرماخر (1768- 1834) أن الهرمينوطيقا هي فن الفهم؛ أي الفن الذي لا يمكن الوصول إلى الفهم إلا من خلاله. وانطلاقاً من أن تفسير الفهم معرض دائما لخطر الابتلاء بسوء الفهم، اعتبر شلايرماخر الهرمينوطيقا مجموعة قواعد منهجية تُستخدم لرفع هذا الخطر.
استهلال
ينبني هذا العمل-قدر الاستطاعة بطبيعة الحال-على ملاحظة تتبعية لِمجموعة من الأعمال المنشورة في حقل علم النفس الاجتماعي في المغرب. فقد أسعف تعاطينا، من غير شك، مع هذا الكم المعرفي، الجدير حقا بالاهتمام، على تحصيل ملاحظتين اثنتين مُؤَدَّاهُما:
1-فتور المواكبة المطلوبة، الرامية، على الأقل، إلى التعريف بالانهمامات العلمية لرواد السيكولوجيا الاجتماعية في الجامعة.
2-برود مَنْزَع القراءة، وتراخي الدًّافعية المُتَطَلِّعة إلى تحليل، وتفكيك أسس وحيثيات الخطاب السيكوسوسيولوجي في أفق نقده فتقييمه بالتساؤل المُهَدِّم للمعرفة المُطمئنة؛ والاستفهام المُكَسِّر للنماذج الرَّكيكة. أَلاَ يُعْتَبَرالنقد الوجيه عَصَبَ المعرفة، ومِهْمَازَها الخَلاَّق للمعاني المُرَجَّحَة، والصانعُ للدَّلاَلاَت المُحتملة؟
فيما أحسب، هذا هو المَسَاق الذي يُؤطرهاته الدراسة التي نَتَوسَّلُ بها الإطلالة على الإنتاج الفكري للمفكر وعالم النفس الاجتماعي الدكتورالمصطفى حدية سَعْياً إلى تقليب تَشَكُّلاَتِ خِطَابِه؛ وغايةً في الوقوف على المَسْأَليَات الأساسية، والطُّرُوحات الكبرى المبثوتة طَيَّ أبحاثه الغزيرة.
أولا: تقاطع الموضوعات والأفْهُومات في الاجتماع النفسي العربي:
بحضوره الوازن في الساحة الثقافية المغربية والعربية على السواء، استطاع الأستاذ المصطفى حدية أن ينحت اسمه ضمن كبار السيكولوجيين العرب. فقد تمكن بفعل اجتهاده ومثابرته من تأسيس مشروع مدرسة قائمة الذات في حقل الاجتماع النفسي بالمغرب تتقاطع، في جزء كبير منها، مع أعمال أكاديميين عرب من عيار حليم بركات، هشام شرابي ومصطفى حجازي على سبيل المثال لا الحصر.
بحرقة لاضديد لها، طَرَقَ هؤلاء المفكرون الجذريون، بين ثنايا أبحاثهم، التي انصبت على المجتمعات العربية، مشكلات التخلف بأورامه المزمنة، وقضايا التنشئة الاجتماعية، والحرية، والهدر بكل أشكاله وألوانه المختلفة...فضلا عن جدلية الثقافة والهوية في عصرمدهش، سِمَتُهُ التَّبَدُّلُ والانقلاب؛ وخِصِّيصَتُه الاحتمال واللاَّيَقِين بفعل نهاية الجغرافيا وهيمنة الأمبريالية الثقافية.2.. فبالاستناد إلى مرجعية متينة تمتح من معين علم النفس، وتنهل من المنهج النقدي الاجتماعي-التحليلي، والإبداع السردي على السواء عمد الدكتور حليم بركات(1933-2023)إلى تفكيك بنيات المجتمع العربي، وخلخلة الطبيعة السلطوية للدولة 3 ليخلص إلى القول بوجود هوة تفصل الإنسان العربي عن مؤسسات مجتمعه وسمها حليم بركات بالاغتراب 4 الذي يرده إلى:
- - التجزئة والتفتت الاجتماعي
- - هيمنة الدولة على المجتمع(=الاغتراب السياسي وأزمة المجتمع المدني) 5
- - تسلط الأنظمة الهرمية القسرية التي يجسدها النظام البطريركي، وهيمنة المؤسسات الدينية، وغلبة التربية المعتمدة على الذاكرة والاستظهار.
- - الاستغلال الطبقي ومايستتبعه من ظلم، وقهر وحرمان، واتساع الفجوات بين المعدمين والأغنياء.
- - التبعية، والهيمنة الخارجية على معظم الثروات والمقدرات العربية
- - سطوة المقدس، وصلابة التقاليد، وثباتية الطقوس التي تعمل على تزمين الصراع بين القديم/التراث والجديد/الحداثة.6
إنَّ عِلْمَ النَّفْسِ قائمٌ على تَحليلِ العَالَمِ الداخلي للإنسان ، وإرجاعِ حياته الباطنية إلى عناصرها البِدائية الأوَّلِيَّة ، وربطِ السلوكِ اليَومي بتأثيراتِ العقلِ وإفرازاتِ الشخصيةِ وأساليبِ التفكيرِ ، مِن أجْلِ فَهْمِ وُجودِ الإنسان كَكَائن حَي وحُر ، والتَّحَكُّمِ بِمَسَارِه ، والتَّنَبُّؤ بِمَصِيرِه . وكُلُّ إنسان لَدَيه حَيَوَات كثيرة وشخصيات مُتعددة ، وَوَحْدَها اللغةُ هي القادرةُ على وَضْعِ الخُطوطِ الفاصلةِ بَين حَيَوَاتِ الإنسانِ ، وتَحديدِ نِقَاطِ الاتصالِ والانفصالِ بَيْنَ شخصياته . وهذا لَيس غريبًا ، فاللغةُ هي الطاقةُ الرمزيةُ التي تَجْمَع بَين السُّلوكِ والشُّعورِ في إطار التَّسَلْسُلِ الفِكري المَنطِقي .
واللغةُ لا تَتَجَسَّد حُلْمًا وواقعًا إلا في الأدب ، باعتباره الشكل الإبداعي المُعَبِّر عَن عواطف الإنسان ، والتَّعبير الفَنِّي المُظْهِر لأفكارِه وهَوَاجِسِه ، كما أنَّ اللغة لا تَتَشَكَّل كِيَانًا وكَينونةً إلا في التاريخ ، باعتباره الوِعاء الوُجودي للتُّرَاثِ الثقافي ، والتأويل العقلاني للفِعْلِ الاجتماعي المُتَدَفِّق في الزمانِ والمكانِ . وهكذا تُصبح اللغةُ مِحْوَرَ التَّوَازُنِ بَيْنَ الغريزةِ الفِطْرِيَّةِ والإرادةِ الحُرَّة ، ونُقْطَةَ الالتقاءِ بَيْنَ الرُّوحِ والمَادَّةِ .
وعِلْمُ النَّفْسِ على ارتباط وثيق بالأدبِ والتاريخِ _ تأثُّرًا وتأثيرًا _ ، باعتبارهما مِن أهَمِّ العُلومِ الإنسانية التي تَهدِف إلى تَجذيرِ مَعرفةِ الإنسانِ بِوُجوده ، وتحليلِ عَلاقته بالكائناتِ الحَيَّةِ والأنظمةِ الاجتماعيةِ وعَناصرِ الطبيعة .
ومِن أبرزِ الأمثلةِ على تأثير الأدبِ في عِلْمِ النَّفْسِ ، رِوايةُ " لوليتا " ( 1955 ) ، للروائي الروسي الأمريكي فلاديمير نابوكوف (1899 _ 1977 )، وقد تَمَّ تَحويلُها إلى فِيلم سينمائي صدر في سنة 1962 ، مِن إخراج الأمريكي ستانلي كوبريك ( 1928 _ 1999 ) الذي يَعتبره الكثيرون واحدًا مِن أعظم صُنَّاع الأفلام في التاريخ .
كتاب من تأليف المفكر النهضوي المصري سلامة موسى (1887 – 1958)، صدر هذا المؤلف خلال القرن الماضي، لتعيد مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة بالقاهرة نشره في طبعة عصرية. وفيما يهم موضوع الكتاب، يتناول الأخير أحد أهم اكتشافات علم النفس الحديث، ونريد بذلك العقل الباطن لما له من مفعول كبير في سلوك الإنسان ونشاطه الذهني:
ما المقصود بالعقل الباطن؟
يعرف المؤلف العقل الباطن بكونه "العقل الذي يعمل على غير وعي منا. فهذا العقل يعمل كأنه مستقل عنا، وهو يقرر ميولنا وأمزجتنا". ويعتقد سيغموند فرويد (1856 – 1939) الذي دشن البحث في هذا المجال أن الغريزة الجنسية هي أهم محددات العقل الباطن، أما ألفرد أدلر (1870 – 1937) فيقلل من تأثير الغريزة الجنسية، ويركز على دوافع أخرى مثل الرغبة في امتلاك القوة والسلطة. وصولا إلى كارل يونغ (1875 – 1961) الذي ألف بين الرأيين (فرويد وأدلر) وأكد على أن "اللبيد (يُقصد به الرغبات والعواطف المكبوتة في العقل الباطن) هو تلك الغريزة الجنسية قد امتزجت بالنزوع إلى الرقي". فالإنسان بطبعه ميال إلى الرقي والتطور، إذ كثيرا ما ننساق لخواطر لذيذة كأن نحلم بأننا أصبحنا أغنياء أو قادة.
وعليه، فإن العقل الباطن هو "عقل الثقافة القديمة" وما تحيل إليه من غرائز بدائية (حب الشهوة واللذة والانتقام والعنف)، أما العقل الواعي فهو "عقل الثقافة الحديثة"، عقل الحضارة والعلم والمعرفة. بيد أن نوازع العقل الباطن ليست كلها شريرة، لأن الإنسان القديم لم يكن شريرا على نحو مطلق، كما أن العقل الباطن والعقل الواعي كثيرا ما يتعاونان لتحقيق مصلحة الإنسان، كالعالم الذي يتوصل إلى اختراع أو كشف علمي بواسطة الحلم.
الكبت
إن الرغبة أيا تكن طبيعتها (طعام، جنس... إلخ) إذا ما كُبتت من لدن العقل الواعي فذلك لا يعني زوالها، بل هي تندس في العقل الباطن وتتحين الفرصة لتخرج من مخبئها، فالعقل الباطن في هذه الحالة ينفس عن رغباتنا المكبوتة بواسطة الخواطر (أحلام اليقظة) والأحلام. وإذا ما بلغت الرغبة المكبوتة حدا بعيدا من الجموح قد تؤدي إلى الإصابة بالأمراض العصابية كما يعتقد فرويد فيما يخص الغريزة الجنسية، لكن الرغبة المكبوتة قد تفضي إلى سبيل إيجابي وهو التسامي بحيث "نتسامى بالعاطفة إلى فن من الفنون العليا، فأرغب الناس في وصف الجمال ولذات العشق هو المحروم من الحب (كالشاعر)". وتأسيسا على ذلك "إذا كانت العواطف المكبوتة تُحدث الجنون أحيانا فإنها أحيانا أخرى تُحدث النبوغ".
ضمن سياق تحليلنفسي امتد من عام 1919 إلى حوالي عام 1930، ظل فرويد يرى في وليام رايخ (1897-1957) طالبا متميزا، واعدا، ويحميه من هجمات المحللين الآخرين. عندما أعطاه رايش كتابه الأول "وظيفة هزة الجماع " (1970)، صرخ فرويد: "هذا عمل عظيم"! الذي يفيد به هذا التعجب هو أن فرويد درس الجنسانية (النشاط الجنسي)، ولكن لم يسبق له أن درس هزة الجماع، حيث بدت له ظاهرة ثانوية تختتم النشاط الجنسي، أي ظاهرة إفرازات، لن يكون لها في حد ذاتها سوى تأثير فسيولوجي ونفسي ضئيل أو منعدم.
تسمح لنا دهشة فرويد هذه بفهم أين وكيف يتموقع رايخ إزاء عمله: استكشاف ما لم يصل إليه المؤسس. لأنه إذا كان فرويد هو بالفعل المخترع الثوري للجنسانية الطفولية، مستكشف آلياتها وتأثيراتها النفسية المرضية، لم يقترب حقا من التتمة، ما نسميه الجنس التناسلي، الذي يتم إحلاله منذ سن البلوغ، والذي اهتم به رايخ.
من جانب آخر، إذا تحرر فرويد تدريجيا من الأسس العصبية الحيوية للأداء النفسي وكذلك من القواعد الجسدية، فسوف يعود رايخ إليها لتعميقها، لا سيما من خلال رد الاعتبار للجسد وعلم وظائف الأعضاء وإحلاله (الجسد) مكانا مهما في العلاج التحليلنفسي: الجسد له لغته الخاصة، ولكنه أيضا ذاكرة، وبالتالي فهو محاور مهم.
علاوة على ذلك، إذا كان فرويد قد أشار إلى آثار الحضارة على النشاط الجنسي البشري من خلال التنازلات التي تفرضها (فرويد، 1969)، ومساهمته بالتالي في تكوين "الباثولوجيات" (علم الأمراض)، فإن رايخ سيذهب بتفكيره أبعد من ذلك، خاصة مع فكرة الطاعون العاطفي* (emotional plague).
مقدمة
كان إريك فروم (1900-1980) محللًا نفسيًا ألمانيًا أمريكيًا ، مرتبطًا بمدرسة فرانكفورت ، والذي أكد على الدور الذي تلعبه الثقافة في تنمية الشخصية. دعا إلى التحليل النفسي كأداة لعلاج المشاكل الثقافية وبالتالي الحد من الأمراض العقلية. يعتقد فروم أن الشخصية في البشر تطورت كطريقة للناس لتلبية احتياجاتهم. على عكس فرويد، لم يؤمن أن الشخصية ثابتة، فقد حدد فروم خمس احتياجات إنسانية أساسية: الترابط، التجذر، التعالي، الإحساس بالهوية، وإطار التوجه. إن غياب هذه ، وفقًا لفروم ، من شأنه أن يسبب مشاكل عقلية واجتماعية مثل الاغتراب. تصور فروم نسخًا مثالية للمجتمع والدين تؤكد على الحرية وتلبية احتياجات الإنسان. وبذلك، أصبح أحد مؤسسي الاشتراكية الإنسانية. لقد أكد على المحددات الثقافية للشخصية. بحث في أعماله في المشاكل العاطفية في المجتمعات الحرة ودعا إلى التحليل النفسي كعلاج للأمراض الثقافية وكأداة للمساعدة في تطوير مجتمع غير عصابي. من المعلوم أن فروم وُلِد في فرانكفورت، وتلقى تعليمه في هايدلبرغ وميونيخ قبل أن يؤسس عيادة خاصة للعلاج النفسي في عام 1925. بدأ فروم كتلميذ لسيغموند فرويد ، جامعاً نظرياته النفسية مع المبدأ الاجتماعي لكارل ماركس. استخدم طريقة فريدة للتحليل النفسي تتضمن مواجهة المريض بصفته معالجًا له وكشخص آخر متعاطف، مشددًا على عدم وجود سمة أو عامل في المريض غير موجود لدى أي شخص آخر في ألمانيا، انتقل فروم إلى شيكاغو في عام 1933 لإلقاء محاضرة في معهد التحليل النفسي. قام بالتدريس في العديد من الجامعات الأمريكية ووسع وجهات نظره لتشمل مبادئ زن البوذية. في عام 1957 ، شارك في تأسيس اللجنة الوطنية للسياسة النووية السليمة. كتب فروم أيضًا عددًا من الكتب والمقالات للأكاديميين وعامة الناس على حدٍ سواء. اكتسب فروم شعبية لأول مرة مع عامة الناس من خلال كتابه "الهروب من الحرية" ، والذي شرح خوف الإنسان اللاواعي من الحرية وجاذبية الأنظمة السياسية الاستبدادية. شكل هذا الكتاب إلى حد كبير الفكر الفكري في أمريكا في ذلك الوقت ، وتسبب في تصنيف فروم على أنه فرويد جديد ، جنبًا إلى جنب مع كارين هورني وهاري ستاك سوليفان. على الرغم من اختلاف هذه الأرقام الثلاثة ، وفقًا لفروم ، فإن كل واحد منهم يشترك في التركيز على العوامل الاجتماعية والثقافية والموقف النقدي لنظرية فرويد حول أولوية الغريزة الجنسية. في عام 1951، أصبح فروم أستاذًا في جامعة المكسيك الوطنية، حيث أسس المعهد المكسيكي للمحلل النفسي وسافر بانتظام إلى الولايات المتحدة قبل أن يستقر في سويسرا عام 1971 وطور فروم العديد من الموضوعات الرئيسية، وطور أفكاره وصقلها بشكل تدريجي. هذه الفئات هي شخصية اجتماعية، والتي تربط نظرية التحليل النفسي للدافع الديناميكي بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية. الموضوع الثاني هو مراجعة فروم للتحليل النفسي لفرويد ، لا سيما تأكيده على العدوانية والتدمير.المحور الثالث: نقده للمجتمع الصناعي ، ورابعه: تحليله للدين وعلاقته بالتنمية البشرية. من بني نظرياته عن الشخصية الاجتماعية على مفهوم فرويد أن سمات الشخصية ديناميكية. كان يعتقد أن هيكل الشخصية يشرح الإجراءات والأفكار: ما الذي يحفز الناس وما يجده مرضيًا أو محبطًا. فكيف انتقل بالإنسان من استلاب التملك الخاص إلى تحرر الكينونة المشتركة؟
يتحدد مرمى هاته الدراسة في النظر في مفهومين مركزيين طفقا في السنوات الأخيرة، يشكلان مدار اهتمام عالم الاجتماع العربي الدكتور عبد الصمد الديالمي. نقصد بذلك "الانفجار الجنسي"، و"الانتقال الجنسي" وهما المفهومان اللذان أبدعهما أثناء انهماكه بتحليل معضلة تخلف مجتمعنا؛ وتفكيك السلوكات الجنسية في علاقتها بالمعايير الدينية والمنظومة الأبوية بكل لواحقها القانونية.
في البدء كان " رايش ":
ينتمي د.عبد الصمد الديالمي إلى الجيل الثاني من علماء الاجتماع المغاربة. فمنذ التحاقه أستاذا للسوسيولوجيا بجامعة فاس سنة 1977 عمد إلى رسم الخطوط العامة لمشروعه السوسيولوجي المتمحور حول الجنسانية، والجندرية والنسوية. وبوصف هاته المسأليات مرتهنة بالنص الديني والاجتهاد الفقهي فإنها تدعو الباحث للاشتباك علميا، ولامراء في ذلك، مع ثقافة الفقيه المتمذهب، ومع الإسلامانية، وخلفياتها الإيديولوجية الصريحة والمضمرة حيال الحداثة، والديموقراطية، والعلمنة والحريات الفردية والعامة..
بتفان منقطع النظير سينكب الدكتور عبد الصمد الديالمي على مشروعه هذا منتظما في إنجازه عاملا على تطويره منذ لحظة اكتشافه كتاب " الثورة الجنسية " للمحلل النفساني النمساوي فلهلم رايش؛ الكتاب الذي سيشكل بالفعل نقطة تحول حاسمة، ليس فقط في حياة عبد الصمد الديالمي الشخصية التي وسمها، منذ البداية، تمرد لافت على الأساليب التقليدية في التنشئة الاجتماعية، وانتفاض واع على الأبوية 1 ؛ وإنما انقلاب جذري في حياته العلمية برمتها ستحمله على بناء الأسئلة الحارقة، والمحاور الكبرى فالمفاهيم المركزية التي سينتظم حولها منجزه السوسيولوجي لما ينيف عن أربعين سنة. يكتب عبد الصمد الديالمي في هذا الصدد: " في 1973، قرأت " الثورة الجنسية " ل"رايش" وأنا أستاذ بالثانوي. في الواقع لا أدري لماذا قرأته (...) إنه الكتاب الذي جعلني أعمق تمردي على المجتمع وعلى القيم السائدة (...) إنه الكتاب الذي جعلني أكتشف أن الزواج والأسرة يعوقان الرضى الجنسي، وأنهما يشكلان سجنا للمرأة... إنه الكتاب الذي جعلني أقتنع أن لاثورة دون ثورة جنسية..."2
يَتَحَرَّكُ عمل الأستاذ " سعد ابن الجنوي " المَوْسُوم ب " التحليل النفسي للحياة العادية " داخل مجال النظرية الفرويدية في لَبُوسِهَا الأورثوذوكسي المرتكز؛ فيما يرتهن بتقنياته، من ناحية على الملاحظات النَّبيهَة خلال إجراء المقابلات الإكلينيكية مع المرضى، ثم على القراءة الفاحصة والدقيقة لكل المعطيات المتَحَصِّلَة منها من ناحية ثانية، غاية في فهم تَشَكُّل العُصَابَات؛ كَمَا العديد من الاضطرابات النفسية الكابِحَة لحرية الفرد، والمعيقة لانطلاقه في تجربة الحياة بشكل طبيعي وسليم.
تأسيسا على هذا عَمَد " سعد ابن الجنوي " إلى بناء تَسَاؤُلِه المركزي: " مَا خَبَايا إِصْرَار الناس على الإجابة بهاته العبارة : " الأَمْرُ عَادٍ " مَتَى ٱسْتُجْوِبُوا حول مَعِيشِهِم اليَوْمِي؟ "
فَلَئِنْ كانت فَحْوَى أجوبة المفحوصين تبدو لأول وهلة جَلِيَّةً وشَفَّافة، فإنها لا تُصَرِّح، مع ذلك، بخبايا الذَّوَات؛ وهو ما يقتضي سَبْرَ أَغْوَارِ هذا ال " عَادِي " بوضعه أمام مِبْضَعِ المُحَلِّلِ النفسي الرَّامِي إلى تَشْرِيحِ بَوَاطِن النفس، وتَقْلِيب طبقاتها العميقة.
في الحاجة إلى التحليل النفسي:
لا مِراء في أن عالم اليوم هو عالم التقلبات العنيفة والمتسارعة بلا منازع. فالملاحَظ أن هاته التحولات التي تعد استجابة لِطُوفَان العولمة الكاسح، المُتَمَخِّض عن سقوط جدار برلين؛ وانهيار المنظومة الشرقية ، ومستتبعات كل ذلك على جغرافيات بعينها من العالم أضْحَت تطرح اليوم، وأكثر من أي وقت ولَّى ، أسئلة لاَهِبَة حول المؤسسات، والعلاقات الاجتماعية، والهويات الثقافية، والتاريخ، والتراث، والشغل، بالإضافة إلی قضايا التربية والتكوين، والأزمات الاقتصادية، ومآل النزاعات المسلحة المندلعة هنا وهناك، وانعكاساتها الوخيمة على كينونة الإنسان ومصيره..
لقد غدا الصراع، والقوة، والتطاحن، والتنافس على كافة المستويات والصعد من أجل الحصول على حصة الأسد من خيرات، وموارد، ومقدرات الأرض في عالم بات يدبر اقتصاد الندرة بكل الوسائل والطرق.. فلِتَطَالَ تدَاعيات كل هذا الصحة العقلية، والسَّلاَمَة النفسية للأفراد والجماعات وهو ما تُجليه الاهتزازات والرجَّات السيكولوجية التي رَصَدتها الأبحاث الميدانية لدی شرائح عُمرية عريضة نحو الاكتئاب، والرُّهاب، والكبت، والقلق، والوساوس، والتطرف، ووصولا إلى الإحساس بالذَّنب والشعور بالاضطهاد... أَفلَمْ يُسْهِمِ الانتقال التاريخي من حالة الطبيعة إلى حالة الاجتماع البشري / الحضارة برأي " سيغموند فرويد "، في إعطاب دوافع الإنسان من خلال كبح غرائزه وقمعها؟ ( فرويد:1971. ص: 74-75)
" إننا نحب ونكره، ونخاف ونشجع، ونشمئز ونقبل، ونفعل ونترك، عواطف كَمُنَت فينا منذ الطفولة، ولا ندري بها، إلا بعد التحليل الشاق " سيغموند فرويد
مقدمة:
تسجل صدمة الولادة المشهد الاغترابي الأول للإنسان، وفي هذه اللحظة التي يتدفق فيها نور الحياة يجد الطفل نفسه في عالمٍ مدهش يضج بالغربة والاغتراب، وهنا تبدأ اللحظة الصدامية الأولى بين الإنسان والوجود بانتقال الطفل من وطن الأنس المطلق إلى عالم يفيض بالمجهول ويغص بالآلام ([i]). فالولادة هي الرحلة من وطن الحنان المطلق إلى عالم يضج بالألم ويرتجف بالأحزان، ومن كون يغدق بالعطاء إلى كون المواجهة والتحدي؛ وفي هذه النقلة الأولى يتجسد معنى الاغتراب الوجودي للإنسان في لحظة ميلاده الأولى. وتلك هي الحقيقة التي يؤكدها رانك Rank في مختلف دراساته وأبحاثه حيث يعلن بأن صدمة الولادة هي الحدث الأكثر أهمية في تاريخ الفرد في المستويين البيولوجي والسيكولوجي، لأن الولادة هي الانفصال الأول للكائن الإنساني (الجنين) عن الأم.
في مرحلة الطفولة المبكرة تكمن أسرار الوجود الإنساني، أسرار القوة وأسرار الضعف، فالشخصية الإنسانية تشكيل طفولي تحددت سماتها وملامحها في المحطات الأولى من مرحلة الطفولة المبكرة. والطفولة الإنسانية ليست فراغا بل وجودا حيويا متدفقا، وهي ليست نسيانا، بل فيضا أصيلا يتدفق في الذاكرة الوجودية. فالعلبة الأسود للوجود الإنساني مشحونة بتاريخ الطفولة، وفي كل منعطف من هذا التاريخ ترتسم ملامح الشخصية الإنسانية وتتحدد معالم وجودها. وليس غريبا أبدا أن تكون الطفولة مستودعا لطاقات النمو، وذخيرة لأسرار الحياة الإنسانية، وبذورا لسمات الشخصية للإنسان. وهذا يعني أن أسرار التصدع وعوامل التكامل مسجلة في العلب السوداء للطفولة الإنسانية ([ii]).
فالمعاناة الوجودية لصدمة الولادة، التي تضع الكائن الإنساني وللوهلة الأولى في لحظة اتصاله الأول بالعالم الخارجي، تأخذ مداها وتتعاظم أهميتها في غضون السنوات الثلاثة الأولى من عمر الكائن الإنساني، وتشكل المرحلة الحاسمة التي تلعب دورا كبيرا في رسم الملامح الأولى لشخصية الكائن الإنساني لاحقا، وتلك حقيقة تكاد تحظى بإجماع العاملين في مجال علم النفس والتربية ([iii]).
في ثقافتنا السَّائدة، يُنظر تقريباً إلى جميع أنواع "الاضطرابات النفسيّة" الفرديّة نظرةً شاذّة تستدعي العلاج الفوري، وتأتي جميع طُرق العلاج الكلاسيكيّة في الطّب أو الدّعم النفسيّ إمّا بوساطة عقاقير مُهدِّئة ومثبّطات أو في البحث عن آليات إعادة التّكييف والتّنميط والدّمج مع الواقع الاجتماعيّ..
فعلى سبيل المثال لو أُصيبَ أحدهم بمرض "الاكتئاب" اتُّهِمَ بتشويهه للواقع وعدم قدرته على الاندماج فيه، دون مُساءلة هذا "الواقع" نفسه فيما إذا كان مشوّهاً أساساً، وأنّ "المكتئبين" يستطيعون أن يروا الواقع أكثر وضوحاً من الآخرين وهذا هو سبب اكتئابِهم، وهنا يستطيع مفهوم (واقعيّة الاكتئاب) أن يقلب فهمنا للحالة المرضية رأساً على عقب، ويساعدنا في عملية استثمارها. كتب "ديستويفسكي" يوماً: "اللهم لا تحرمني معاناتي"!.
في كتابها المعنون (ممسوس بالنَّارwith fire Touched) عالجت "كي جاميسون" علاقة الإبداع الأدبي والموسيقى والفنّ التّشكيليّ باضطراب المزاج ثنائي القطب، من خلال دراسة السّير الموثّقة للمبدعين أدبياً "همنغواي" أو تشكيلياً كما في حالة "فان غوخ". كما أنّ عالمة اللسانيات الأمريكيّة الطّبيبة النفسيّة "نانسي أندرياسين" قاربت الموضوع من زاوية دراسة تركيب وخرطنة الدّماغ تشريحيّاً ووظيفيّاً (Brain Mapping) لمجموعات تُعاني من اضطرابات المزاج مع مجموعات لا تعاني منها، وخلصت إلى أنّ نسبة المبدعين وتمثيل العباقرة في مجال الإبداع العلمي والأدبي والموسيقى والتّشكيلي من مضطّربي المزاج تفوق نسبتهم أولئك الذين يوصفون عادةً بالطّبيعيين. وكان قد عرّف "سُقراط" الجّنون بأنَّه (فنُّ الهَوس Mania) ولا يبتعد "أفلاطون" عن هذا الفهم. وكذلك يعتبر "أرسطو" أوّل من تفطّن للعلاقة بين العبقرية والجنون منذ خمسة وعشرين قرنًا. وفي ذروة عهد الرومانسية في القرن التاسع عشر دافع الطبيب النفساني الإيطالي "تشيزاري لومبروزو" عن وجهة النظر هذه بقوة، حتى إنه انتهى إلى صياغتها في شكل معادلة بسيطة: العبقرية = الجنون.