لا تزال العديد من الأوساط في الغرب تذعِن لكنيسة روما، رغم ما دبّ في نسيجها الاجتماعي من "انسلاخ مسيحي" مرفوقٍ بفتور ديني تحت وطأة موجات العلمَنة المتعددة. فالحجّ إلى روما، وتحديدا إلى حاضرة الفاتيكان، مازال دأبَ ساسة ومتنفذين كثيرين، رغم مزاعم العلمَنة والفصل بين السلطتين الدنيوية والدينية. ولم يسلم من التودد للكنيسة حتى عتاة العلمانية والشيوعية. فمنذ فترة، انسحب رئيس "حزب إعادة التأسيس الشيوعي" الإيطالي ورئيس مجلس الشيوخ الأسبق، فاوستو برتينوتي، في خلوة روحية مع رهبان بشبه جزيرة مونتي آثوس باليونان، المخصّصة للذّكور حصرا والمحرّمة على الإناث، بشرا وطيرا وحيوانا، تعبيرا عن ولائه لضمير أوروبا الديني.

في هذا المؤلَّف الصغير الحجم والعميق المضامين، الصادر باللغة الإيطالية من تأليف أحد أبرز الوجوه الإعلامية في الأوساط الكاثوليكية، الكاتب والصحفي جان فرانكو سفيدركوتسكي، رئيس تحرير صحيفة "لوسّرْفاتوري رومانو" الأسبق، اللسان الناطق باسم حاضرة الفاتيكان، يحاول المؤلّف تقديم حوصلة للسنوات الخمس من بابوية حبر الكنيسة خورخي ماريو برغوليو المعروف بفرنسيس. مستعرضًا صاحب الكتاب فلسفة البابا القادم من أقاصي جنوب العالم من الأرجنتين، ومبرزًا مدى نجاحه وإخفاقه. لقد ورث البابا الحالي فرنسيس تركةً ثقيلة خلّفها البابا المستقيل راتسينغر، كنيسةً ترهقها البيروقراطية ويحاصرها الجمود ويستشري فيها الفساد. قدِم البابا فرنسيس محمَّلا برسالة ثقيلة، تتلخّص في خوض إصلاحات عاجلة داخل الكنيسة قبل الغرق، وهو ما بدأت تلوح نُذره.

لا يزال زمن الأزمات الاجتماعية ذات المنحى الطبيعي والبشري في تاريخ المغرب، بأبحاث ودراسات على قدر كبير من الندرة. ولعل مما تزخر به وتحتويه وتحفظه خزانتنا التاريخية من ذخيرة في هذا الاطار، وما يتوزع حول هذا الشأن من بحث وتنقيب وتراكم أكاديمي، الى جانب اسهامات كل من الحسين بولقطيب رحمه الله عن مغرب العصر الوسيط ومحمد تريكي عن زمنه الحديث وبوجمعة رويان حول الفترة المعاصرة، نجد ما أسهم به محمد الأمين البزاز رحمه الله، من عمل رزين يخص تاريخ المغرب الاجتماعي، تحديداً ما توجه اليه بالعناية حول أوبئة ومجاعات مغرب القرن الثامن عشر والتاسع عشر.

تُعدّ الأعمال الصادرة باللغة الإيطالية حول تاريخ التصوف في الغرب قليلةً، وإن تعددت الأعمال التي تتطرق إلى شخصيات وتجارب روحية محددة. ومن هذا الباب يُعدّ كتاب الإيطالي ماركو فَنّيني (من مواليد 1948) المختص بالظواهر الروحية مرجعا لا غنى لدارسي ظاهرة التصوف في الغرب، بقصد الإحاطة بأهم منابعه ورواده وصولا إلى تطوراته في الفترتين الحديثة والمعاصرة. مؤلف الكتاب فَنّيني مترجم قديرٌ أيضا، سبق وأن نقل من اللاتينية والألمانية إلى الإيطالية كافة أعمال المعلم إيكهارت. ناهيك عن أعماله الصادرة في المجال مثل: "دين العقل" (2007)، "التصوف والفلسفة" (2007)، "التصوف في الأديان الكبرى" (2010)، "قاموس التصوف" (2013).

"ما أن يبدأ استعمال التحليلات التاريخية لأهداف نقد اديولوجية حتى تصير هي نفسها متهمة."
(ر. كوزيليك، تجربة التاريخ، غاليمار، 1997، ص. 88)

التاريخانية كقدر
لدراسة العلاقة بين الفلسفة والتاريخ، الممتدة على خمسين سنة، منذ المقالات المكونة لكتاب العرب والفكر التاريخي(1)، والحاضرة بقوة، تصريحا وتلميحا، في جميع كتابات الأستاذ عبدالله العروي، نعتبر صدور كتابه، الفلسفة والتاريخ (2)، فرصة لا تعوض، فهو يصرح في أول جملة من كتابه: « مشيت دوما على رجلين: التاريخ والفلسفة» (3). مداخل عديدة لمقاربة هذا الإشكال، والمحاولة التالية واحدة منها.

يشكو البحث التاريخي المتعلّق بالفترة الإسلامية في إيطاليا، بوجه عامّ، من حالة من غبن، متأتية بالأساس من وهن التكوين اللغوي في اللسانين العربي والإيطالي من الجانبين، وهو ما مثّل ساترا وحائلا بين الطرفين. لكن إيطاليا تبدو قد فطنت لهذا العَوَر بشكل يفوق ما عليه الحال من الجانب العربي، وتسعى جاهدة لتفادي هذا النقص، وذلك عبْر ما نشهده من تشجيع موجة الاستعراب الإيطالي سيما في أوساط جيل الشباب الذي بدأ يشقّ طريقه بإصرار في تعلّم العربية، سواء ضمن التكوين الجامعي أو خارجه، وهو ما لم يخل من مصاعب وأحكام مسبقة ترهق الدارس أحيانا.

أيها الأزهري، يا سارق النار
ويا كاسرا حدود الثـــــواني
عد إلينا، فإن عصرك عصر
عصر ذهبي ونحن عصر ثان
ارم نظارتيك ما أنت أعمى
إنما نحن جوقة العميــــــان
سقط الفكر في النفاق السيـاسي
وصار الأديب كالبهلـــــوان
يتعاطى التبخير ،يحترف الرقص
ويدعو بالنصر للسلطــــان
نزار قباني في رثاء طه حسين

احتل عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين(1889/1973) مركز الصدارة في العالم العربي في القرن العشرين، فقد كان بحق مالئ الدنيا وشاغل الناس.ويرجع ذلك لأسباب عدة لعل أهمها انه هتك حجب الممنوع وأشرف على مساحات في الوعي العربي ظلت من المسلمات أو المسكوت عنها تحت هيمنة السلطتين السياسية والدينية، وهما تسوغان ما يحفظ مصالحهما البحتة، إضافة إلى قدرة لا حدود لها على المواجهة والمناورة بأسلوب ساحر مشوق يجمع بين عمق الفكرة ونصاعة البيان وقدرة على حشد الأشياع والمريدين.

مقدمة
تمثل الطرق الصوفية ظاهرة دينية بارزة في تاريخ المجتمعات الإسلامية؛ حيث إن هذه الطرق نشأت في وقت مبكر من تاريخ الإسلام وظلت طوال القرون الماضية تنتشر وتتوسع داخل بلاد الإسلام، ويتعاظم تأثيرها الديني ونفوذها الاجتماعي. وقد جسدت هذه الطرق في الغرب الإفريقي خلال الحقبة الاستعمارية طليعة المقاومة الثقافية للغزو الأجنبي للبلاد الإسلامية، وقاد بعض زعمائها جبهات عسكرية مسلحة ضد المستعمر؛ مثل المجاهد الحاج عمر تال الفوتي أحد أبرز شيوخ الطريقة التجانية في السنغال والأمير عبد القادر في الجزائر والشيخ ماء العينين بن الشيخ محمد فاضل في موريتانيا.

غير أن هذه الطرق وإن ظلت تنأى بنفسها عن ممارسة السياسة بشكل مباشر منذ نشوء الدولة الوطنية الحديثة؛ إلا أنها ظلت تشكل رقمًا صعبًا بفعل نفوذها الاجتماعي والديني الكبير، ما جعل هذه الطرق في الغرب الإفريقي تشكل جزءًا من المعادلة السياسية سعت النظم السياسية المختلفة لإدارة العلاقة معها بما يضمن مصالحها، ومع صعود ما أصبح يعرف بـحركات "الإسلام السياسي" دخلت الصوفية في المخططات الدولية وبدأ الاهتمام بها وتشجيع منهجها الفكري والتربوي باعتباره سبيلًا للوقوف أمام مد حركات العنف وحركات الإسلام الاجتماعي السياسي، وقد مثلت توصيات دراسة مؤسسة راند الأميركية "بناء شبكات مسلمة معتدلة" Bulding Mudrate Muslim Networks أوضح مثال في هذا المنحى.