لنسمِّ الأسماء بمسمياتها أو فلنلتزم الصمت على الأقل، وذلك بخصوص قضية التدريس باللغة العربية من عدمها.. لكن قبل الخوض في هذا الشأن أدعو القراء إلى ربط حوار مع تجربة تكاد تشبه ما نعيشه وإن حدثت في زمن بعيد ومكان أبعد. لقد كان الأمر عاديا جدا عند الأوربيين وهم يترجمون ما أبدع فيه العرب أو ما نقلوه هؤلاء عن اليونان، من طب وهندسة وجبر وبصريات وفلسفة وموسيقى.. كانت اللغة العربية حينها لغة منتجة للعلوم وسائر المعارف. صحيح أن أوربا لم تكن تعيش أي سبات يذكر كما يسوقه لنا البعض، لكنها كانت في أمس حاجة إلى النهل من المعرفة وإن كانت بلغة غريبة عنها.
ولنعرج إلى بعض كتابات فرجيل ثم غاليليو بعده، والتي شكلت استثناء شق القاعدة، إذ بدل الكتابة باللغة اللاتينية التي كانت حينئذ لغة المعارف، بدل الكتابة بها استعمل هذان العالمان اللغة الإيطالية التي تكلمت لأول مرة بلسان الأدب عن طريق الأول، ولسان الفيزياء عن طريق الثاني، أما في الفلسفة لا يمكن إلا أن نشير إلى تجربة ديكارت في هذا الشأن عندما قرر صياغة كتابه الموسوم ب مقال في المنهج باللغة الفرنسية وإن كان في الأصل يكتب باللاتينية.. لم تكن اللغة عائقا لدى الشعوب التي تعي أولا تأخرها، لكنها في مقابل ذلك تريد التخلص منه، كما لم تكن في أي حال من الأحوال مجرد رأي متناثر متغير ومتردد..

تُصنَّف أمريكا على رأس قائمة البلدان الغربية التي لا يخضع فيها الدين للاحتكار أو الوصاية، من جانب أي مؤسسة ذات طابع قدسي أو روحي. حيث الدين هو شأن مدنيّ تَسِير أنشطته وِفق قوانين العرض والطلب وضمن ضوابط التنافس الحرّ، على حدّ توصيف علماء اجتماع سوسيولوجيا السوق الدينية، هذا التفرع العلمي الذي شهد تطورا مع كلّ من دارن شِرْكات وكريستوفر إلّيسون ورودناي ستارك ولورانس إياناكوني. وبفعل عدم خضوع الدين في أمريكا لأيّ شكل من أشكال المونوبول والوصاية، يحضر تنوّعٌ لافت في الساحة الاجتماعية للوكالات المروّجة له والمستثمرة فيه، سواء داخل الدين الواحد أو حتى داخل المذهب الواحد. بما يفوق ما عليه الحال في سائر البلدان الغربية الأخرى، التي ما فتئ حقل المقدّس فيها يخضع لكنائس محددة تنعم بمحاباة من الدولة، لا سيما في جنوب قارة أوروبا وشمالها.

بعد أن روى المؤرخ وعالم الآثار إريك كلين في مؤلَّفين سابقين قصة معركتيْ "مجدو" و"هرمجدون"، الوارد ذكرهما في الأسفار التوراتية المقدسة، يسلّط الضوء في المؤلَّف الحالي "القدس تحت الحصار" على مختلف أنواع الصراعات التي تعرضت لها المدينة. وإن تكن مجدو مدينة ميتة منذ قرون، ولا تزيد في الوقت الحالي عن كونها حقلا أثريا، فإنّ القدس رغم قدمها الضارب في أعماق التاريخ لا تزال مدينة نابضة حياة وحقَّ أن يُطلَق عليها المدينة الخالدة. في الكتاب الذي نعرضه للقارئ يروي إريك كلين تاريخ المدينة من خلال أحداث مضطربة ووقائع عنيفة، وهو مدخل مفيد وضروري للإحاطة بقضايا الراهن.

في موضوع الكتاب والكاتب
أصدر حديثا المؤرخ المغربي الطيب بياض كتابا في طبعة أنيقة، يضم حوالي 175 صفحة من الحجم المتوسط، عن منشورات دار أبي رقراق للطباعة والنشر في الرباط، بمساهمة كلية الآداب والعلوم الإنسانية-عين الشق بالدار البيضاء. يحمل عنوان: "الصحافة والتاريخ. إضاءات تفاعلية مع قضايا الزمن الراهن"، من أجل المساهمة في نقد الصراع المصطنع بين التاريخ والصحافة من جهة، والوصل بينهما من جهة أخرى.
يشتغل الدكتور الطيب بياض أستاذا للتاريخ الاقتصادي، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية-عين الشق. تتمحور اهتماماته حول حقول التاريخ الاقتصادي للمغرب المعاصر والراهن[1]، وعلاقة التاريخ بباقي الحقول المعرفية الأخرى، ثم الرحلات المغربية إلى أوروبا[2]، قبل أن يغوص مؤخرا في حقل الصحافة والتاريخ، في صورة ورش معرفي جديد بدأ شق مسالكه منذ سنوات، حيث درّس ولايزال إلى جانب التاريخ الاقتصادي، مواد "الصحافة والتواصل"، "الصحافة الثقافية"، "تاريخ الزمن الراهن"، بأسلاك مختلفة ومؤسسات متنوعة، بالمدرسة العليا للصحافة والتواصل في الدار البيضاء، وبسلكي الإجازة والماستر بكليتي الآداب والعلوم الإنسانية بعين الشق-الدار البيضاء والرباط، كما كان مستشارا علميا بهيئة مجلة زمان في نسختها العربية، وكاتبا لعمود رأيها الشهري، تحت عنوان: "للتاريخ إضاءة" بين سنتي 2013 و2016.

في مطلع القرن الماضي كان النبوغ المغربي في مجالات الفكر والأدب محط تساؤل من قبل هيئات ثقافية قومية ودولية، فقد غيب الأدب المغربي عن مصادر الأدب العربي، وتجاهلت أخرى الحديث عن وجود إبداع أدبي مغربي يضاهي ما أفرزته أنامل الشرق، فكانت هذه النظرة وتلك امتدادا لما استقر في أذهان نقاد قدامى من تصور مضمونه أن الشرق ينتج والغرب الاسلامي يقرأ، مما حذا ببعض أسلافنا الأجلاء كمحمد بن العباس القباج وعبد الله كنون ومحمد بن تاويت إلى وضع منتخبات تضم بعض ما جادت به أقلام المغاربة، كما انشغل رواد آخرون مثل: عبد العزيز بن عبد الله ومحمد حجي وأحمد زياد بالبحث في التاريخ الفكري والأدبي على عهد الدول التي تعاقبت على حكم المغرب، من أجل تصحيح التمثلات الخاطئة لدى المشارقة حول المشهد الأدبي والفكري في المغرب على مر العصور، وهو ما أثبت مكانة المغرب ثقافيا على الصعيد العربي، وليست دعوة عميد الأدب العربي طه حسين العلامة المغربي عبد الله كنون لإلقاء محضرات أمام طلبة قسم الدراسات الأدبية واللغوية بمعهد الدراسات العربية العالية لجامعة الدول العربية سوى اعتراف وإقرار قومي بأن جانبا مهما من الأدب العربي لم يعرف طريقه إلى القارئ في المشرق، إما بحكم البعد الجغرافي  والمتغيرات السياسية والاجتماعية، وإما بتأخر ظهور وسائل الطباعة والنشر في المغرب.

من نافلة القول التأكيد على أنّ  قدر المفكّرين  الأحرار الخارجين عن دائرة السلطة، إن السياسيّة أو الدينيّة، أن يجري تبخيس وتهجين أفكارهم الحرّة وتحقير مجهوداتهم العلميّة وشيطنة مواقفهم الثوريّة الجريئة إلى حدّ تقزيمهم وترذيلهم. وذلك بهدف تحريض وتأليب العوامّ والجهلة عليهم، أملا في الزجّ بهم في مستنفع النسيان وبالتّالي في مزبلة التاريخ، من قبل رهط ممّن يستعصي عليهم إدراك مضمون الأفكار المستنيرة التي تتخطّى النمطيّة ولا تساير طاحونة الشيء المعتاد ومقاييس العرف السائد. ذلك أنّها تشكُل عليهم وتفسد عليهم، لذّة الاستغراق في سبات عميق مردّه فكر ولّى زمانه، بل و تشوّش على جمودهم الفكري الذي استمرؤوه وركنوا إليه، أفليس الجلوس على الربوة أسلم كما قال الأقدمون ؟!. ولكن أنّى لهم ذلك إذ» يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَه (...) « على هؤلاء النوابغ النّابهين المتفرّدين ولو بعد حين.

يُعدّ أبرز إنجاز لمدرسة النّقد الإنجيلي الحديث، التي انطلقت مع ريتشارد سيمون (1638-1712م)، وهـرمان صامويل ريماروس (1694-1768)، ويوهان دافيد ميخائيليس (1717-1791)، كشْف الإسهام البشري في صياغة الأناجيل والرسائل ونزْع الطابع القداسي الوهمي عنهما. ولكن ينبغي أن نعي أن ما أثبته العلماء، عبر التمحيص والتدقيق والمراجعة، ليس ما تقرّ به الكنيسة، وهو ما خلّف تضاربا بين المنظور العلمي والمنظور الكنسي. كتاب "إنجيل الطفولة السرياني" الذي نتناوله بالعرض، والذي يُرجَّح أن أصله يعود إلى القرنين السادس والسابع، نسخته المعروفة هي النسخة العربية المنقولة عن أصول سريانية دُوِّنت في أواخر القرن الثاني عشر، وقد تم اكتشافها خلال العام 1967 من قِبل المستشرق الألماني هنري سيك. لذلك عادة ما يسمى هذا الإنجيل بـ"إنجيل الطفولة السرياني" أو "إنجيل الطفولة العربي".

يدخل هذا العمل الذي نتشرف بعرض أفكاره، محاولين في الوقت ذاته مناقشتها متى أمكن ذلك، ضمن الأعمال التي تسعى إلى كتابة التاريخ الوطني العام انطلاقا من الرغبة في رسم معالمه، و ظواهره، وقضاياه الكبرى، انسجاما مع التراكم الكمي و النوعي الذي أصبح يعرفه المجال التاريخي خدمة للباحثين و المختصين و الأجيال الصاعدة .
        هذا الكتاب يأتي ليضيف قيمة مضافة تتسم بالجدة، و تزكي الصور المشرقة التي يتمتع بها البحث التاريخي في المجال الأكاديمي من خلال العديد من الأعمال التي راهن أصحابها على الاستفادة من الثورة المعرفية و المنهجية التي سادت في العقود الأخيرة .
       و وفق ما هو مبين في الصفحات الأولى، فإن هذا المؤلف هو عمل جماعي شارك فيه العديد من الأساتذة الباحثين، و ثلة من الشخصيات العلمية المهتمة بالقطاعات المعنية، و التي لها صلة بالموضوع تناقحا و تفاعلا،رغبة في تقديم عمل متكامل من الناحية المعرفية و المنهجية .