قصور ميدلت(3): بوزملاَّ.. السوق الدائم - محمد اعزيرو

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

ميدلت مدينة القصور بامتياز، بمجرد التوغل بين دروب القصبات وأزقتها شيء غريب يشدك إليها، وتحار في أمره، هل هو بساطة ساكنيها أم جمالية المشهد؟ كلما سافرنا في الماضي نقتفي التحولات التي شهدتها المنطقة على مدى متطاولٍ من الزّمن، ونتتبع الحضارات التي كانت ومازالت أثارها ازدادت الحيرة وكثرت الأسئلة. في رحلتنا هذه سنحط الرّحال في قصر من قصور المدينة، لنستفسر مساكنه، فهي تروي الكثير من الحكايات عن الإنسان وقدرته العجيبة على استخدام مواد بسيطة للتكيف بشكل مثالي مع الطبيعة؛ إنه إغرم ن "بُوزْمَلاَّ".
      يتميز هذا القصر المحصّن بشكله المستطيل بأبراج في الزوايا وباب مفتوح جهة الشرق، شكله وحجمه يقارب حجم "إخرمجيون" القديم، وهي من القصور الحديثة كونها حافظت على شكلها الهندسي مقارنة مع قصور أكبر حجما وبأشكال غير متناسقة، فقدت هندستها نتيجة التطور العمراني والنمو الديموغرافي أو نتيجة هدمها. القصر فقد الكثير من معالمه نتيجة الزحف العمراني، حاليا يعرف عملية ترميم قد تعيد له بعضا من تاريخه. موقعه على الضفة اليسرى نزولا لواد أوطاط، يجعله مركزا استراتيجيا بالنظر للمسافة التي تفصله عن باقي التجمعات السكنية المنتشرة على طول الوادي، فاستقرار السلطان الحسن الأول في محيطه خلال حركته سنة 1893م خير دليل، وكذا مكوث المولى إسماعيل بالمنطقة حسب روايات لم يتسن لنا التحقق منها.

الساكنة
على خلاف المؤلفين المغاربة حظيت منطقة ميدلت  باهتمام المستكشفين الأوربيين في القرن التاسع عشر وبداية العشرين، وعلى الرغم من أن أهدافهم كانت استخباراتية بالأساس، إلا أنهم تركوا نصوصا صمدت حتى يومنا هذا، نظرا للكم الهائل من المعلومات المهمة التي سجلتها، وكتاب شار دو فوكو "التعرف على المغرب" يحظى بقيمة علمية كبرى لدقته في الملاحظة ووصف المناطق التي مر منها من كل الجوانب، في معرض تسجيله للمعطيات الاستخباراتية حول قصور واد أوطاط سنة 1883م  أشار  إلى امتلاك القصر 60 بندقية محارب، بهذا العدد يمكن تصنيفه من قصور الصف الثاني من حيث القوة العسكرية مقارنة بقصور تملك 100 إلى 150 بندقية.
قبل حلول الحماية الفرنسية التي أحدثت تغيرات جدرية في البنيات الاجتماعية بالمنطقة وعند استقرار أيت إزدگ بأوطاط، كانت ساكنة القصر في البدايات الأولى لتشييده تنتمي للفروع الرئيسية الثلاث لأيت إزدگ وهي أيت فرگان وأيت مومو وأيت الثّلث تُقسّم الأراضي بينهم على 20 "تمزداغت"، دون نسيان العنصر اليهودي الذي يمتلك نصيبا حازه في الغالب بشرائه، وكما هو الحال في جميع قصور ميدلت فالتركيبة الإثنية تعرف تغيرات مع مغادرة أشخاص وحلول أخرين محلهم كما حصل للعنصر اليهودي.
 أصل التسمية    
كالعادة سنتتبع أصل اسم "bouzmella" وتطوره علّنا نتمكن من التعرف على التنوع الثقافي الذي عرفته المنطقة على امتداد الفترات السابقة مع تعاقب عدد من الحضارات عليها، فلكل اسم تاريخ، وهو ما نحاول معرفته عن هذا الطبونيم الذي نجده كاسم قصر في بادية مدينة الريصاني كما تحمله جماعة قروية ووادٍ بإقليم تازة مع تغيير طفيف "buzmlan"، التغير راجع  إما لسقوط "n" في أخر الاسم لتشابه مخارج الحرفين "n وl" حيث تم إدغامهما في اللام"bouzmlan=bouzmella"، وإما لصيغة جمع الاسم المذكر في الأمازيغية إذ يكون بتغيير  الصائت الأول للمفرد "a" في البداية ب "i" وإلصاق لاحقة الجمع "n" أو أحد متغيراتها في أخر الاسم ‎ (afrdo/ifrda) ‎أو‎ (adar/idarn)‎‏.‏ في اعتقادنا تتمثل الفرضية التأصيلية الأرجح لاسم القصر في "bu-izmlan" وهو اسم مركب يمكن تمثيله ب (أداة+اسم مضاف إليه) يتكون من لفظتين "bu وizmlan" فالمقطع "bu/ بو" أداة للانتساب للمذكر، أما "izmlan" فهو جمع "azmul/ أَزْمُولْ"   وهو النَّدَبُ وأثر الجُرح ويطلق مجازا على الأثر الذي تتركه السيول على سطح الأرض نتيجة التعرية، وقد أخد الموقع هذا الاسم لكون سطح الأرض يتميز بتواجد الشّعاب ومجاري السيول.
التأسيس
إذا كانت بعض القصور نعتقد لعدة اعتبارات، لا مجال لذكرها الآن، شُيّدت في فترة سيطرة اتحادية أيت يدراسن على المنطقة قبل حلول أيت إزدگ ‏بين نهاية القرن 18 وبداية القرن 19،‎ ‎"كتشاويت" و"عثمان وموسى"  فإن "بوزملا" ‏من الراجح أن يكون بُني بعد قدومهم نتيجة إما للنمو الديموغرافي أو لصراع داخلي بين مكونات قصر ما كما حدث بين عثمان ‏وموسى وإخرمجون. بالعودة إلى مرحلة ما قبل مرور "دو فوكو" خلال حكم السلطان مولاي إسماعيل، في حركته الشهيرة لتأمين الطرق التجارية وتهدئة المنطقة سنة ‏1096هـ/1685م ‏ التي ‏كانت مجالا لاتحادية أيت يدراسن المكونة من أيت أوفلا وأيت يوسي وأيت عياش وإمجاط وگروان ‏وبني مطير، القبائل التي تشايع حينها الزاوية الدلائية قبل أن ينزع سلاحها ويُرغمها عند إقامته ببلاد ‏ملوية على الاستقرار وكلفها بتأمين الطريق التجاري تافيلالت-فاس والطريق تافيلالت-‏مكناس، في هذه المرحلة بالضبط سيتم بناء القلاع لتأمين الطرق منها قلعة تمايوست وقلعة القصابي ‏وقلعة وطاط، هذه الأخيرة نجهل هل المقصود بها وطاط أيت إزدگ أم وطاط الحاج، فسياق ورود النص ‏في الجزء السابع من كتاب الاستقصاء للناصري والذي يشير إلى أن بناء هذه القلاع جاء بعد فرار القبائل ‏إلى جبل العياشي، لكن إن لم يكن المقصود أوطاط أيت إزدگ، على الأقل نعتقد أن قصر بوزملا كان مرحلة من مراحل ‏الطريق التجاري وكانت محطة لابد منها لمرور القوافل. ‏
سوق دائم
من المعلوم أن قاعدة التبادل التجاري كانت تتمثل في شبكة الأسواق التي تعرف تراتبا واضحا، وتتفاوتا في إشعاعها ونشاطها، بالرجوع للمعلومات التي أورد "دو فوكو" نجد أن سوق "بوزملا" ينعقد طوال الأسبوع ماعدا السبت، استثناء السبت دليل على تحكم العنصر اليهودي في التجارة، فقد أورد المستكشف " De Segonzac "  أن اليهود يحضون بوضعية خاصة ويتحكمون في التجارة.  بأوطاط يوجد ملاّحان ببوزملا وعثمان وموسى، الملاحان كانا يعرفان تنافسا كبيرا بين العائلات اليهودية والتي وصلت حدّ المواجهة بالسلاح في العديد من المرات وقد أشار"De Segonzac" إلى المواجهة في معرض حديثه عن يهود عثمان وموسى والتي أثارت انتباهه بحكم أن اليهود لا يشاركون في المواجهات المسلحة. السوق الدائم ميزة يتقاسمها مع سوق قصابي الشرفاء ما يجعلنا نتساءل ما السر في هذا التميز؟
السوق هو المكان الذي تحدث فيه العمليّات التجاريّة والذي يُوفّر تفاعلاً بين البائعين والُمشترين من أجل تقديم الخدمات وبيع السلع مُقابل المُقايضة أو المال. في القرن التاسع عشر حسب "عمر أفا" ليس من السهل إيجاد تعريف دقيق للأسواق يعطي تفاصيلها وأحوالها، لكنه يضيف أنه في نهاية القرن 19 وبداية 20 ظهرت أسواق احتكارية سيطر عليها الوسطاء الذين يقفون حاجزا بين المنتج والمستهلك أو المُصَدّر وأصبحت الأسواق مبنية على علاقة شبه إقطاعية تتحكم فيها إرادة الوسطاء من كبار التجار اليهود والمسلمين الذين يجمعون السلع المختلفة ويفوتونها للمصدرين ، فديمومة السوق لها تفسير واحد كون تجار سوق بوزملا وسطاء يمكن لأيّ القيام بمعاملات معهم طوال الأسبوع إما ببيع منتوجه أو مقايضته أو الاستفادة من بعض الخدمات كإصلاح الأدوات الفلاحية مثلا عكس أسواق غير احتكارية تتيح التواصل مع المستهلكين مباشرة، هذه الأخيرة تنعقد مرة أو مرتين في الأسبوع، ونجرد منها الأسواق المذكورة في كتاب "دو فوكو" وأيام انعقادها على طول المسافة الرابطة بين "قصر السوق" حتى أوطاط أيت إزدگ وهي: قصر السوق (الاثنين)، زاوية سيدي بوكيل (الاثنين والخميس)، ايت وليل (الأحد والثلاثاء والخميس)، قصابي الشرفاء (دائم)، ميدلت(دائم) أيت عياش (لا وجود لسوق)، في هذه الأسوق كانت تباع وتقايض مختلف المنتجات الفلاحية المحلية من أصواف وجلود وحبوب بالقليل من السكر والشاي والصابون والأثواب القادمة من فاس وفي مرحلة لاحقة من الجزائر، وقد كان لليهود دور ريادي واضطلعوا بأدوار طلائعية في السوق، لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو إن كان لليهود دور مهم في انعقاد السوق، لماذا بقصر بوزملا وليس عثمان وموسى الأكبر حجما وكثافة سكانية والمحتضن لملاّح يهودي؟
من جهة، على مرّ التاريخ كان الملَّاح القلبَ النابضَ للمدن التي يتواجد فيها، فقد كانت فيه أهم الأسواق وكان سكانه اليهود يمتهنون أهم الحرف آنذاك، من صائغي الحلي، خياطين، نجارين، وإسكافيين وغيرهم، ولا تخلو هذه التجمعات السكانية اليهودية من تراتبية اجتماعية يكون في أعلى هرمها الإقطاعيون ملاك الأراضي والمتحكمون في التجارة ثم الحرفيون وأخيرا الفلاحون، وحسب الروايات الشفوية فيهود بوزملا أغلبهم من الطبقة الأولى والثانية مقارنة مع يهود عثمان وموسى الذين يمتهنون حرفا ويزاولون الفلاحة.
من جهة أخرى، يرى "عبد الأحد السبتي" أن ارتياد السوق يفترض أمن الطريق، ويتطلب تدبير العنف داخل المجال القبلي، وأمن السوق أمر منوط بقائد القبيلة غير أنه لا يجب إغفال مجموعة من الأليات التي تلتقي فيها الأعراف القبلية مع المكونات الدينية، وهي أنماط تخضع هيكلتها لنموذج الحرم، فالعرف القبلي أو ما يسمى "إزرف" ينظم العلاقة بين الأشخاص وهو قانون يتضمن خصائص اقتصادية تعكس البيئة الاقتصادية للمجال الذي ينظمه، في هذا السياق نسرد واقعة استقيناها من مصادر شفوية وتتناول حادثة سرقة بغلة سيدة قادمة من إحدى قرى إيتزر في طريقها لسوق بوزملا لبيع حِمل من الملح، لكن حظها أوقعها في شابان تعمدا إخافة البغلة بإطلاق النار في الهواء لتفرّ مذعورة ويتمكنا من الاستلاء عليها، وبما أن ارتياد السوق للقرى المجاورة يفرض التوفر على حامٍ إما عن طريق الذبيحة أو بتقديم إتاوة، فالسيدة التجأت إلى الشخص الذي يضمن حمايتها والذي تمكن من استعادة بغلتها بطريقة دموية بعد استنفاد الطرق السلمية. المقتضيات أسفله في نصّان مختلفان لعُرف أيت إزدگ المنقولان إلى الفرنسية من طرف " Martel "و" Nehlil‏" واللذان أوردتهما الدكتورة أمينة عوشر في كتابها بعد ترقيم موادهما يحددان بجلاء دور القبيلة في تأمين الطرق التجارية حيث نجد في المادة السادسة من النص الأول:
( كل من هاجم شخصا يحميه أحد "بالعَارْ" في منزل أو قرية أو قافلة، وفي حالة ما إذا عفا عنه الحامي من القتل، فيجب عليه أداء خمسون مِثْقَالاً للحامي الذي يحلف اليمين هو وعشرة أخرين يختارهم من عشيرته، وعلى المُعتدي تعويض كل ما سرقه للضحية مع تأدية اليمين)
عُرف أيت إزدگ لم يغفل الزطاط ففي المادة 10 من نفس نص "Martel"
(يجب على زطاط قافلة تعويض كل ما قد يُسرق من القافلة، الخروف بالخروف والمعزة بالمعزة والجمل بالجمل، من نفس سن المسروق)
وتضيف المادة 32 من النص الثاني ل"‏Nehlil‏":
(...أعيان البلد وحلفاؤهم يحرصون على تطبيق هذه المقتضيات.)
القانون العُرفي حدد مكان أداء اليمين في كل أراضي أيت إزدگ وبالضبط في ضريح وليّ صالح أو في أي مكان يتواجد فيه إمام، بالنسبة لأوطاط أيت إزدگ فاليمين يؤدى بضريح المولى إسماعيل بقصر بوزملا والذي يُعتقد أن بناءه كان تخليدا لمرور المولى إسماعيل بالمنطقة، هنا يتضح سبب إقامة السوق ببوزملا فحضور الضريح يخلق مركزا رمزيا يجسد صورة الحياد وقدسية وحرمة المكان، دون إغفال احتضان القصر كذلك لضريح سيدي عثمان، وموسمه الذي كان موعدا سنويا تنتظره قبائل المنطقة شيبها ‏وشبابها.  العُرف لم يغفل مكان تأدية اليمين في حالة كان طرفا الخلاف مسلم ويهودي فالمادة 29 من نص "Martel" تقول أن المسلمين يؤدون اليمين في ضريح وليّ صالح أما اليهود فيحلفون على كتابهم المقدس ويجب أن يكون عددهم خمسة.
كثيرا ما كانت المدينة امتدادا لنواة كانت سوقا في الأصل، فلو حدث نفس الأمر مع "بوزملا" لأصبح مركز مدينة ميدلت حاليا، ومن يدري ربما كان مصير ساكنيه سيكون كمصير ساكنة القصر القديم لإخرمجون الذين تم ترحيلهم، لكن المصادفات والصغائر أحيانا تُغيّر مجرى التاريخ. سوق بوزملا سيتراجع تدريجيا لصالح ملاّح عثمان وموسى وفي مرحلة الاحتلال الفرنسي أصبح الملاّح الجديد القلب النابض للتجارة لميدلت مع مغادرة اليهود للقصور والاستقرار في "الفيلاج".

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟