مقدمة
شكل الصراع بين العالم المسيحي ونظيره الإسلامي سجالا رئيسيا طوال عقود وحقب في مناطق مختلفة ،سواء بين الممالك المسيحية والكيانات السياسية الإسلامية المتواجدة في الأندلس ،أو بين الإمبراطورية العثمانية والدول النصرانية ،والتي كانت تخوض جل حروبها  تحت ذريعة الوازع والتعصب الديني الذي كان يربو نشر المسيحية وإعلاء رايتها في العالم الإسلامي .
وقد شكل شمال المغرب منطقة تجاذب بين العالمين من خلال استحضار عدة معطيات أساسية ،تتجلي في موقعه الجغرافي الفاصل بين العالم الإسلامي ،ونظيره الأوربي ،واحتضانه لعدة نزاعات وحروب  بين المسيحية والإسلام  في إطار ما يسمى بصراع الحضارات حسب صامويل هامينلتغون .

تشهد سواحل العالم اليوم تدخلا بشريا بالغ الأنانية في نظامها الدقيق، بفعل العودة الملحمية التي يُدشنها إنسان العصر الحديث باتجاه البحر. فالاقتراب الذي بدا للبعض نوعا من المصالحة مع تاريخنا المائي، ومع ذاكرة الساحل التي تحفظ السجل الأقدم للإنسان العاقل، لم يكن اقترابا ذهنيا وثقافيا بقدر ما كان عودة ترفيهية واقتصادية، تكتسي يوما بعد آخر بُعدا تدميريا للمخلوقات الساحلية.
أصبح العيش على الساحل مليئا بالتحديات، وبحاجة لفهم متجدد لمختلف طرق العيش التي مارسها أسلافنا طوال مالا يقل عن مائتي ألف سنة، بدءا بالصيادين والبحارة القدامى، وصولا إلى المعماريين الهولنديين للأراضي المستصلحة.

في مؤلَّف بعنوان "المسلمون الجدد: المهتدون إلى الإسلام" صادرٌ عن منشورات لافورو الإيطالية، تناول عالم الاجتماع الإيطالي ستيفانو أَلِيافي بالبحث والتحليل ظاهرة التحول الديني إلى الإسلام في الغرب المعاصر. وهي ظاهرةٌ لافتةٌ تمسّ شرائح اجتماعية متنوعة. حيث يرصد الباحث مختلف أشكال الاهتداء، من الاهتداء البراغماتي بقصد الزواج، مرورا باهتداء "البزنس"، كما يطلق عليه، بغرض تيسير الأشغال والأعمال، إلى الاهتداء الروحي المتعطش إلى اليقين، وغيره من ضروب الاهتداء. والمفكر الفرنسي رينيه غينو –René Guénon- (1886-1951م)، الكاثوليكي المنشأ -تلقى تعميده بعد شهرين من مولده- أحد هؤلاء الذين سلكوا طريق الروح للولوج إلى عالم الإسلام، بعد مسار حافل بالتجوال بين مختلف أنواع التقاليد الروحية الكونية، المسيحية والهندوسية والطاوية والبوذية وغيرها، إلى أن انتهى به المطاف عند التقليد الروحي الإسلامي الذي وجد فيه ضالته. وطريق الروح طريق وعرٌ مليءٌ بالبروق الخادعة، كما وصف تشعّباتها أبو حامد الغزالي في "المنقذ": إن اختلاف الخلق في الأديان والملل، ثم اختلاف الأئمّة في المذاهب على كثرة الفرق وتباين الطّرق، بحرٌ عميقٌ غرق فيه الكثيرون، وما نجا منه إلاّ الأقلّون.

تقديم
مخلوقات ضعيفة ومضطهدة مختفية تحت تشادور أو برقع. تلكم هي الصورة الخالدة النمطية عن النساء العربيات التي تقترحها وسائل الإعلام الغربي، عن طريق الخلط باستخفاف بين السياقات والقوميات. هل ستكون إذن هاته النساء خارج التاريخ؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فكيف نفسر النكوص الكبير الذي شهدته حقوقهن خلال العقود الأخيرة؟ عن هذين السؤالين وغيرهما سوف تجيب الكاتبة الفلسطينية سحر خليفة من خلال مقالها الذي كان في الأصل محاضرة ألقتها الكاتبة يوم 05 مارس 2015 بمركز الدراسات الفلسطينية التابع لمدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن. تعميما للفائدة، أقترح ترجمته من الفرنسية إلى العربية.

نص المقال
هذا شيء معروف جيدا: في الثقافة العربية كما في ثقافات كثيرة أخرى، تجسد المرأة الجنس الضعيف، الجنس الآخر، الجنس المختلف، الجنس الذي لا يرث شيئا من شيء، حتى من اسمه العائلي، الجنس الذي يمكن له أن يجلب الدناءة أو المهانة. استقبلت أسرتي (حدث) ميلادي بالدموع. كنت بنتا، الخامسة في الأسرة، قل خيبة الأمل الخامسة و، بالنسبة لأمي، الهزيمة الخامسة. إلى جانب زوجة عمي، التي أنجبت بنجاح عشرة بنين جمالهم يفوق الوصف، تبدو أمي في صورة المرأة المشؤومة. حاولت أن تظهر أكثر جمالا، أكثر ذكاء وكرامة من عمتي (ومن كل نساء العائلة)، غير أن الجميع اعتبروها الأقل خصوبة، المراة التي لا تستطيع أن تنتج ثمارا ذات جودة.

يندرج مؤلَّف الكاتب الإيطالي بييترانجيلو بوتافوكو ضمن مؤلفات المهتدين الجدد إلى دين الإسلام، وهو ليس كتابا كلاسيكيا عن رحلة اهتداء ديني، كما دأبت العديد من السِّير التي حبّرها لفيف من المتحولين نحو عالم الإسلام؛ بل هو مؤلَّف يروي كيف يرى المعتنق-المنتمي لهذا الدين، ابن الواقع الغربي العلماني، عالمَ الإسلام اليوم، الذي بات منتسبا إليه ومنفعلا بأحداثه وإلى حدّ ما معنيا بمصائره. فليس خطّ التحول نحو الإسلام في الغرب الحديث فاصلا سطحيا، لأناس حيارى وجدوا ضالتهم في سحر الشرق كما يروج عادة، بابتذال للظاهرة المركّبة وتسطيحها؛ بل هو دربٌ عسيرٌ وإدراك عميق، سلكته شريحة في الغرب منها قامات فكرية عالية لعلّ أبرزهم رينيه غينو وهنري كوربان وروجي غارودي. فأية مصاعب وأية تحديات يلقاها هذا "المهاجر الروحي" في طريقه؟ لا سيما في حقبة عاصفة يعيشها المهتدون الجدد، متّهَمين بموالاة أجندات أجنبية، أو محسوبين على دول مارقة وتنظيمات متطرفة عابرة للقارات، تجد ملجأ في فضاءات متوترة من العالم الإسلامي، ولا سيما في المشرق العربي، كما نرى اليوم في بلاد الشام وما جاورها.
إذ يدعو العنف المتفجر في البلاد العربية وبلاد الإسلام عامة، إلى تأمل فكري رصين بعيدا عن الإسقاطات المغرضة التي تتحكم بمقاربة هذه الظاهرة والمتراوحة بين الاتهام والتأجيج، ذلك ما تناوله قسمٌ واسع من كتاب بوتافوكو المعنون بعنوان استفزازي "فظاعة السراسنة"، ولفظة السراسنة في معناها الغربي الغائم تعني العرب والمسلمين على حد سواء؛ فضلا عن طرحه إشكالية معنى أن تكون مسلما غربيا اليوم. حيث يتساءل الكاتب منذ مطلع كتابه أين يسحب العنفُ العبثيّ العالمَ الإسلاميَّ وقرآنه المجيد يؤكد بصريح القول: "من قتلَ نَفسًا بِغير نَفسٍ أَو فَسادٍ في الأرضِ فَكأنّما قَتل الناسَ جميعًا"؟ أوَمَا زال معنى لهذه الآية في ظلّ تزاحم تأويليات العنف المستندة إلى نصّ مقدس، وقد تضاربت الفتاوى وتزعزت الثقة في المرجعيات؟ وهل أفلس الشرق من أولياء الله ودعاة اللاعنف ليتحول إلى مرتع لتجار السلاح ومروّجي الفتن ولم يبق سوى مجيء المسيح الدجال (برنار ليفي وفق قول الكاتب) لينقذ الشرق من تيهه. فقد بلغ هولُ التناحر مستوى متقدّما، بات يأتي على الأخضر واليابس، الأئمة والمصلين، المستأمنين والمستجيرين، حتى لكأن الصراع المحتدم في العراق وسوريا صراع أبوكاليبسي، أخروي، كما تصوّرُه رسالة يوحنا في العهد الجديد وفق بوتافوكو. واقعٌ يشبه دورة الفتنة الأبدية، كلّما خرج المرء من واحدة انكبّ في أخرى أشدّ وطأة.

يتعين إنشاء مؤسسة للتدبير، هذه المرة ليس المقصود تدبير المقاولات وإنما تدبير الخلاف..لا تقل مردودية تدبير الخلاف عن تدبير المقاولة، باعتبار أنّ المجتمع هو في نهاية المطاف مقاولة كبرى منتجة وقد تصبح في لحظات تاريخية ما عرضة للإفلاس..هنا الرأسمال الرمزي لا يقلّ أهمية عن الرأسمال المادي إن لم يكن هو الأصل في قيام العمران البشري..ينهار الاقتصاد ويستمر المجتمع يرعى على ذلك المخزون الثقافي بينما لا يستمر المجتمع مع فقد مخزونه الثقافي والرمزي، فماذا لو انهارت القيم الجماعية التي تشدّ عصب الاجتماع؟ الأمة التي تعجز عن إيجاد رابط متين بين الرأسمالين لن تستطيع أن تستمر في التّاريخ..
في الاختلاف ليس من الضروري أن يكون المختلف أقل أو أكثر استيعابا في نظرنا للمطالب وأقل أو أكثر استيفاء للمظان، فحين ينشأ الخلاف ويصبح له عجر وبجر فلا بدّ أن يحلّ التدبير..وإدارة الاختلاف لا تجري بين المتفقين على أصول أو هائمين في قواعد تفكير موحدة أو أذواق متماثلة، بل إنّ موضوع إدارة الاختلاف هو تباين الآراء واختلاف الأذواق..فالتّوحد ليس هو الاشتراك..ففي الاشتراك تظهر الشراكة كبديل حتمي..يتعين النظر أيضا إلى الاختلاف كواقع يجري على الجميع..هو مختلف عنّي لأنني أنا أيضا مختلف عنه..أمر بديهي..وحتى الآن تبدو القاعدة الأثيرة في تدبير الاختلاف هي تحقق موقف مزدوج:
- الآخر مختلف، وهو كذلك في نظري قد يبدو مخطئا..وهذا الخطأ ليس قدره بل هو قدري أنا أيضا - هذا يعزز فكرة التسامح - وهو كذلك خطأ وليس خطيئة، والموقف من الخطأ هو استمرار النقاش المفتوح ، بينما الموقف من الخطيئة: إيقاف النقاش..الخطيئة توجب الخروج..ولا شيء يلزم بالخروج من الاجتماع سوى الكفر بالمشترك.
- ولأنه مختلف لا يقف الأمر عند تخطيئه بعنوان الخطأ لا الخطيئة التي تقتضي موقفا متسامحا، بل يتطلب الأمر في مرحلة أخرى تجاوز مرحلة التسامح إلى مرحلة التعارف التي تقتضي معرفة ومعروفا، أي فهم طبيعة اختلافه وبالتالي تفهم نتائج مقدماته والتفاهم حول المشترك، وهذا يقتضي تأويل المختلف..

يُعدّ كتاب الباحث الإيطالي فرانشيسكو سترازاري من الدراسات القليلة التي تناولت أوضاع المسيحيين في الوقت الراهن في بلدان الخليج العربي، وهو يندرج ضمن اهتمامات الباحث بالمسائل الأمنية والتعايش الديني بين المسلمين والمسيحيين. فقد أصدر في الشأن عددا من المؤلفات منها: "صوب الأرجنتين لمعرفة البابا برغوليو" 2013، و"الكنائس في أكرانيا والقوقاز بعد 1989" 2011، و"المسيحيون بين الأصولية والحرب في بلاد الرافدين" 2010. والكتاب المخصص لشؤون المسيحيين في الخليج العربي يأتي بشكل عام ضمن مناخ يسود فيه تخوّف على مصائر الأقليات المسيحية في البلاد العربية من الأكثرية المسلمة. ولذلك وجب التنبه إلى ضرورة التعاطي مع المسيحية في الخليج العربي ضمن منطق مغاير، بوصفها مسيحية مهاجرة عابرة ووافدة وليست مسيحية أصيلة، حتى لا تُحشَر ضمن منطق الأكثرية والأقلية.
يستهلّ الباحث بحثه بتقديم عام بقلم جورج إميل عيراني الأستاذ في الجامعة الأمريكية في الكويت، يستعرض من خلاله الخاصيات التاريخية والسياسية لمجمل بلدان الخليج، مبرزا الأوضاع الاقتصادية الجيدة التي ساهمت في جذب المسيحيين وغيرهم نحو هذه البلدان. إذ يفوق عدد المهاجرين في بلدان الخليج 15 مليونا، وتبلغ نِسبهم في قطر والإمارات مثلا أكثر من ثمانين بالمئة، في حين تتنازل في سلطنة عمان والعربية السعودية إلى قرابة ثلاثين بالمئة. يتناول عيراني في تقديمه الخصوصيات الدينية والاجتماعية المحافظة في الخليج، فضلا عمّا يشهده من تحديات متمثّلة في تسرّب التشدد الديني، ناهيك عن التهديدات والمطامع الخارجية، التي جعلت من تلك البلدان محطّ أنظار العديد من القوى الإقليمية والدولية.

 تنبعث فكرة الإصلاح بالبلاد المغاربية خلال القرن التاسع عشر، من عدة اعتبارات فرضت نفسها كقوة ضاغطة حتمت صناعة حل شامل لما هو عليه الوضع بالمنطقة يومها. وقد تجلت هذه الاعتبارات الضاغطة فيما هو داخلي وآخر خارجي، أ كدت بوقعها ضرورة تفعيل هذا الإصلاح. فانتشار الازمات الداخلية المتمثلة في العاملين البشري والطبيعي كالثورات التي ارتفعت الى حد تهديد وجود السلطة الحاكمة والتي كان لها الأثر البالغ فيما آلت إليه الأحوال المغاربية زمنئذ، لعل أبرزها تلك التي قادها الثائر "بوبكر امهاوش" مطلع القرن التاسع عشر بالمغرب، حيث استطاع هذا الشخص أن يجمع تحالفا مهما بالنسبة للقبائل الأطلسية مشكلا بذلك تهديدا خطيرا للسلطة المركزية[1]؛ توازيها حدة في البلاد التونسية ثورة "علي ابن غداهم" 1864م التي جرت على البلاد ويلات التطاحن والصراعات إثر السياسات المغرمية التي انتهجها البايات الحسينيين[2].
ينضاف الى هذا العامل البشري أخر طبيعي أبى إلا أن يزيد المنطقة جروحا الى جروحها، فالجوائح والمصاغب التي كانت تعصف بالبلدان المغاربية من حين لآخر جعلت المنطقة تحت رحمة الطبيعة، فكان من أهمها الطاعون الذي آلم بالبلاد التونسية أواخر القرن الثامن عشر سنة 1784م، حيث تم نقله عن طريق الحجاج والتجار إلى الايالة[3]؛ هذا كما عصفت بالبلاد أيضا جملة من الأوبئة أهمها وباء الكوليرا الذي أزهق سنة 1849م العديد من الأرواح[4].