تعتبر الذاكرة الثقافية شرطا أساسيا من شروط قيام الحضارة، ومن أسس نشوء وتبلور الجماعات البشرية عبر التاريخ. بحيث يمكن القول عموما بأنه لا حضارة ولا هوية حضارية بدون ذاكرة ثقافية.
سأحاول في هذه الورقة أن أقف عند بعض جوانب الارتباط بين السينما المغربية والذاكرة الثقافية الوطنية. بأي شكل تصوغ السينما بوصفها واحدة من أهم الفنون الحديثة، كيف تصوغ علاقاتها بهذه الذاكرة الثقافية الشاملة؟ و كيف يؤسس الفن السابع، ضمن سياق خاص هو هنا السياق المغربي، تصورات ثقافية شاملة تجدد البناءات العريقة للذاكرة المغربية؟1 - الذاكرة الثقافية .. محاولة للتعريف:
يعتبر الباحث و الأستاذ الجامعي الألماني يان أسمان (1938 – 4202) الذي كان عالم حفريات متخصصا في التراث المصري القديم أهم من تصدى لهذا المفهوم بالشرح و التحليل حيث خصص له مؤلفا مستقلا بعنوان " (2)
يميز أسمان بين أربعة أنواع من الذاكرة هي على العموم الذاكرة المحاكاتية وذاكرة الأشياء والذاكرة التواصلية، وبعد أن يعرف كل واحدة من هذه الذاكرات، يخلص إلى أن الذاكرة الثقافية تتميز بشكل خاص بكونها ترتبط أساسا بالمعنى. يقصد بذلك أنها تتجاوز المستوى النفعي المباشر للذاكرات الثلاث السابقة لترقى إلى مستوى أكبر يرتبط ببناء وترسيخ المعنى. هكذا عندما تأخذ الأفعال و السلوكات المحاكاتية وضعية " طقوس" rites أي عندما تكتسب معنى يتجاوز وظيفتها النفعية في الحياة اليومية، فإننا نخرج حينئذ من الميدان المرتبط بالفعل (أو العمل) و ندخل في ميدان آخر أرحب هو ميدان الذاكرة الثقافية. وذلك لأن الطقوس هي عبارة عن نمط لنقل ولتخليد المعنى الثقافي. و نفس الشيء بالنسبة للأشياء عندما لا تكتفي بأن تظل مجرد أشياء نافعة، فهي تشحن بالمعنى: رموز، أيقونات، تمثلات من قبيل شواهد القبور، قبور، أضرحة، أوثان، إلخ... هي جميعها تتجاوز أفق ذاكرة الأشياء، من خلال جعل المؤشر الزمني و الهوياتي المستتر، جعله ظاهرا و واضحا للعيان". والأمثلة على ذلك كثيرة بدءا من الميزان الذي يرمز للعدالة، والمنجل الذي يرمز لطبقة الفلاحين، والحمامة التي ترمز للسلام وكذلك الصفيحة والخاتم.. هذا مع العلم أن لكل حضارة رموزها الخاصة بها التي تشكل عمقها و ثوابتها الثقافية العميقة. (3)
انطلاقا من هذه المقارنات و التمايزات يتضح إذن بشكل جلي أن الذاكرة الثقافية حسب أسمان تستقر على نقاط ثابتة في الماضي. و حتى في ذلك، لا يمكن الحفاظ على الماضي على هذا النحو، ولكنه مجمد في اشكال رمزية تعلق بها الذاكرة. من ذلك يعطي أسمان على سبيل المثال قصص الأنبياء، و قصص الخروج، و عبور الصحراء، و الاستقرار في الأرض الموعودة، و المنفى، و هي هذه الأشكال الذاكرية التي يتم إحياؤها احتفاليا خلال الأعياد، والتي تضيء هذا الوضع أو ذاك في الوقت الحاضر. و يعتبر أن " الأساطير هي أيضًا أشكال و نماذج من صلب الذاكرة: هنا يصبح التمييز بين الأسطورة والتاريخ تمييزا عفا عليه الزمن. بالنسبة للذاكرة الثقافية، ليس التاريخ الواقعي هو المهم، ولكن التاريخ كما نتذكره. ويمكن القول أيضًا إن الذاكرة الثقافية تحول التاريخ الواقعي إلى موضوع للتذكر، وبهذه الوسيلة، تحوله إلى أسطورة. الأسطورة هي قصة تأسيسية، قصة يُطلب منها أن تضيء الحاضر في ضوء أصوله. (...) في الذاكرة، يصبح التاريخ أسطورة. فهو لا يصبح غير واقعي ؛ بل على العكس من ذلك، عندئذ فقط تصبح حقيقة، أي أنها تأخذ قوة معيارية وتكوينية دائمة ". (4)
و إذا نحن انتقلنا إلى السينما، نلاحظ أن كتاب المفكر الكبير إدغار موران " السينما أو الإنسان الخيالي" ( 1956) قد اعتبر أول محاولة بالغة الأهمية لإدراج الفن السابع ضمن التراث الثقافي الإنساني العالمي. و معلوم أن إدغار موران هو إلى جانب اهتماماته الفكرية و الفلسفية الكثيرة ، هو سنيفيلي كبير و باحث له إسهامات بالغة الأهمية في الفنون و السينما بشكل خاص.
في مقدمة كتابه " السينما أو الإنسان الخيالي" يكتب إدغار موران: « ما كان يثيرني باستمرار أثناء اشتغالي على كتاب "الإنسان والموت" هو الدهشة أمام هذا الكون الخيالي الرائع من الأساطير، والآلهة، والأرواح، وهذا الكون ليس فقط مرتسما على الحياة الحقيقية، إنه أكثر من ذلك جزء لا يتجزأ من هذه الحياة الأنثروبوسوسيولوجية الحقيقية. كانت دهشتي في الأساس ترجع إلى أن الخيال هو مكون اساسي من مكونات الواقع البشري. [...] ومع ذلك، بطريقة ما، كان الشعور الرائع بالواقع الذي ينبعث من الصور المعاد إنتاجها صناعيًا على الشاشة، يطرح عليّ نفس المشكلة، لكن بطريقة عكسية. [...] وانطلقت من هذا السؤال: بأي معنى وأي طريقة يعيد الكون السينمائي المعاصر إحياء الكون البدائي للأشباح؟ لماذا انحرف السينماتوغراف، الذي كان في بدايته تقنية لإعادة إنتاج الحركة التي كان يبدو أن استخدامها يجب أن يكون عمليًا، بل وحتى علميًا، لماذا انحرف منذ ولادته ليصبح سينما، أي عرضًا خياليًا؟ " (5)
كان ذلك عبارة عن مدخل عام حاولنا من خلاله تقديم محاولة لتعريف مفهوم "الذاكرة الثقافية"، و أشرنا إلى المسعى الأنثروبولوجي لإدغار موران لإدراج الفن السابع ضمن منظور ثقافي شمولي تحضر فيه الأساطير و الأرواح و الطقوس و غيرها. لكن ما يعنينا هنا بصفة خاصة هو السينما المغربية في علاقتها بالذاكرة الثقافية المشار إليها. و هذا ما سنتطرق إليه من خلال الوقوف عند بعض المحددات التاريخية التي نشأت و تبلورت داخلها سينمانا الوطنية، و كذلك بعض المفارقات و الإشكالات التي رافقت هذا التاريخ، قبل أن نحاول استنباط بعض الخصائص المحددة لهذه السينما في علاقتها بالذاكرة الثقافية على مستويين بشكل خاص، هما الأغنية الشعبية و الأسطورة كما يتجلى ذاك من خلال بعض التجارب السينمائية المغربية.
2 - السينما: ثقافة أم إعلام؟
لامناص من التذكير بدءا، و نحن في سياق الحديث عن بدايات السينما المغربية، أن المركز السينمائي المغربي، و هو الجهاز المشرف على قطاع السينما عندنا، كان قد تأسس سنة 1944 خلال فترة الحماية الفرنسية، و هي نفس السنة التي تم خلالها التوقيع على وثيقة المطالبة بالاستقلال من طرف الوطنيين المغاربة. كان ذلك في أوج الحرب العالمية الثانية.
واضح أن هذا التأسيس لم يكن ذا طابع ثقافي سينمائي خالص، و إنما كانت له أغراض أخرى تندرج ضمن المخطط الاستعماري المعروف. لذلك، في نفس السنة أيضا أسست السلطات الاستعمارية مختبرا للتصوير السينمائي هو مختر السويسي، وعيا من هذه السلطات بما للصورة من أهمية في بسط نفوذها و سيطرتها بالمنطقة. و الجدير بالذكر أن السلطات الاستعمارية كانت منذ البداية تحمل هذا الهاجس الخاص بتوظيف الصورة السينمائية لبسط نفوذها في المنطقة. و هو ما عبر عنه الجنرال ليوطي في كلمة موجهة إلى مصلحة الشؤون السينمائية في 20 دجنبر 1920 عندما قال: " لا يمكننا أن نشكك في النتائج المفرحة التي يمكننا أن نتوقع من استعمال السينما كوسيلة لتربية محميتنا ، فالمشاهد و الأفلام المناسبة ستترك بكل تأكيد أثارا عميقة في نفوس المغاربة" (6)
مباشرة غداة الاستقلال سارع المغرب إلى استعادة مؤسسة المركز السينمائي المغربي، و إلحاقها بوزارة الأنباء و السياحة. و ظل المركز السينمائي مرتبطا بهذه الوزارة إلى يومنا هذا، مع أنها اتخذت تسميات جديدة لاحقا كوزارة الإعلام و وزارة الاتصال، إلخ..
و ما دمنا بصدد الحديث عن الذاكرة الثقافية للسينما المغربية، لا بد أن نسجل في البداية هذه الملاحظة الأساسية، و هي أن المنظور السائد للسينما غداة الاستقلال كان منظورا إعلاميا أو إخباريا تواصليا فرجويا أولا وقبل كل شيء، و لم يكن تصورا ثقافيا خالصا. مما جعل السينما الوطنية منذ بداياتها الأولى في وضع ملتبس بين منظور أول هو المنظور السائد، و منظور آخر مختلف ظل دائما يتحرك خلف الستار، هو المنظور الثقافي الذي يجعل من السينما ممارسة تعبيرية ثقافية بامتياز.
و زاد من حدة و ترسيخ هذا المنظور اللاثقافي للسينما لجوء عدد كبير من القاعات السينمائية إلى عرض أفلام سينمائية ذات طابع تجاري فرجوي كالأفلام الهندية و الأفلام البوليسية و أفلام الكاراطي إلخ... و هو ما جاءت الأندية السينمائية لمقاومته و التصدي له من خلال انتقاء و عرض أفلام بديلة غير مألوفة لدى مرتادي القاعات السينمائية التجارية. هذا مع العلم بأن الأفلام المسماة تجارية نفسها لم تكن تخلو من مسحة ثقافية تحضر بدرجات مختلفة. كما أن بعض القاعات السينمائية كانت بين الفينة و الأخرى تقترح أفلاما ذات عمق ثقافي واضح.
هناك ملاحظة أخرى لها أهميتها بهذا الخصوص يسجلها الناقد السينمائي يوسف أيت همو، و هي أن السينما في المغرب لم تكن تعد أو لم تكن ترقى إلى مرتبة التراث الثقافي المغربي إسوة بغيرها من أشكال التراث الأخرى. (7) و هذا الموقف يحمل في طياته ما يمكن اعتباره نظرة تحقيرية بشكل ما للسينما. و هذا الأمر يذكرني بموقف مؤسس التحليل النفسي سيغموند فرويد من السينما. فقد رفض فرويد كل الاقتراحات التي وجهت إليه للتعامل مع الفن السابع. و قد كان ذلك بلا شك بسبب الحذر من هذا الفن الجديد الذي لم يكن الجميع ينظر إليه بعين الرضا بسبب تداخل عوامل متعددة في صناعته و بلورته. كما أن هذا الموقف الحذر ينم أيضا عن موقف أخلاقي إزاء الفن السابع بسبب ما تحلت به العديد من الأشرطة السينمائية من جرأة في التعامل مع الجسد و في تقديمه في أبعاده الحميمية المثيرة.
هذا الوضع حدد السمة الأولى الأساسية للسينما المغربية، و هي أن السينمائي المغربي المسكون بالهاجس الثقافي وجد نفسه منذ البداية مضطرا للاعتماد، بدرجة ما، على إمكانياته الذاتية، أي على مدى قدرته الذاتية على الحوار و المناورة لفرض و ممارسة هذا المنظور الثقافي الجديد للسينما.
و لذلك جاءت مجموعة من الأفلام المغربية الأولى تحمل في طياتها هذا القلق، و هذا التوتر في سبيل تأسيس سينما وطنية ذات أبعاد ثقافية عميقة كما سيتضح أكثر في الفقرات التالية.
3/ من السينما الكولونيالية إلى السينما الوطنية
نحو امتلاك وطني للذاكرة الثقافية
شكل الانتقال أو العبور من سينما كولونيالية إلى سينما وطنية حقيقية مسارا صعبا و شديد التعقيد، إذ تداخلت و تفاعلت في بلورته عوامل متعددة. إنه مسار صعب لتملك الذات المغربية للصورة السينمائية و جعل هذه الصورة في خدمة الهوية المغربية من خلال إعادة الاعتبار للذاكرة الثقافية باعتبارها ذاكرة فاعلة ، إيجابية، و ليست مجرد ذاكرة منفعلة أو سلبية كما سعت إلى تكريس ذلك السينما الكولونيالية.
و ما كان لهذا الانتقال أن يحدث لولا تحلي عدد من السينمائيين المغاربة المؤسسين بما يمكن أن نطلق عليه المكر و الدهاء السينمائيين، و هو مكر أو ذكاء إيجابي كان الهدف منه من جهة تخليص السينما المغربية من المنظور الاستعماري الذي كان سائدا من قبل، و لكن أيضا تخليص هذه السينما من المنظور الإعلامي الأحادي الضيق، و نقلها إلى البعد الثقافي الشامل، العميق، البعيد النظر، كما تجلى ذلك بخاصة في أشرطة تأسيسية كبيرة نذكر من بينها أفلام وشمة (1970) لحميد بناني، و ألف يد و يد (1972) لسهيل بن بركة ، و الشركي أو الصمت العنيف ( 1975) لمومن السميحي ، و السراب ( 1979) لأحمد البوعناني و تاغونجة ( 1980) لعبدو عشوبة ، و الناعورة (1984) لادريس الكتاني و عبد الكريم الدرقاوي، و الحال (1981) لأحمد المعنوني، و "باب السماء مفتوح" (1987) لفريدة بليزيد، و غيرها..
إن إشكالية الانتقال هذه ، من سينما كولونيالية سابقة إلى سينما وطنية ناشئة، بما هي إشكالية صعبة و معقدة، هي التي تفسر قلق السينمائي المغربي في بدايات تأسيس السينما الوطنية و اضطرابه و حيرته، و قد انعكس هذا القلق و هذا الاضطراب على مستوى الأفلام السينمائية التأسيسية التي جاءت في معظمها أشرطة تجريبية، تتلمس طريقها بمشقة، يظهر هذا القلق على شخصيات الأفلام التي هي في معظمها شخصيات قلقة، مضطربة وحائرة، كما في أفلام "ألف يد و يد" و " السراب " و" تاغونجة" و " الناعورة "و "وشمة" بصفة خاصة، كما يتجلى من خلال الصمت الذي كان سائدا في العديد من الأشرطة. و هذا الصمت، الذي أطلق عليه مومن سميحي تعبير الصمت العنيف، لم يكن مجرد اختيار جمالي للمخرج، إنما كان إجراء فرضته طبيعة و خصوصية الظرفية. كما عبر هذا القلق عن نفسه من خلال مشاهد العنف الكثيرة في هذه الأفلام. (مشاهد العنف الأسري و القتل و الانتحار...إلخ).
و الجدير بالذكر أن هذا الانتقال لم يمر من دون تضحيات جسيمة تكبدها السينمائيون الأوائل بصبر و عناد كبيرين. نفكر هنا على سبيل المثال لا الحصر في تضحيات المرحومين محمد الركاب و إدريس الكتاني التي يعرفها الجميع. و كذلك ما تعرض له السينمائي الكبير أحمد البوعناني من عزل سينمائي " حيث حورب بشتى الوسائل، و أرغم بمكر بيروقرطي فظيع على ملازمة الظل و العمل المستتر، و حيكت له مقالب كثيرة، و اتهم بنعوت سياسية لا صلة له بها" (8)
4 - استراتيجية البحث الثقافي في السينما المغربية:
في بداية فيلم تاغونجة للمخرج عبده عشوبة يدور حوار بالغ الأهمية في أول مشهد يفتتح به الشريط، بين نجمي الأغنية الغيوانية عمر السيد و العربي باطما، يدعو فيه الأول رفيقه إلى ضرورة النهل من التراث و استلهامه لإبداع أغنية من نوع جديد مغاير لما كان سائدا من قبل. و يؤكد على ذلك أكثر من مرة. و بالنسبة له لا يتحقق استلهام التراث إلا من خلال البحث المتواصل في هذا التراث. و هذا البحث بدوره لا يتحقق إلا من خلال السفر و الرحلة. هذا الحوار بالغ الأهمية لأنه لا يرسم فقط استراتيجية الأغنية الغيوانية في علاقتها بالتراث، بالذاكرة الثقافية، و إنما هو أيضا دعوة صريحة للسينمائيين المغاربة للخروج من أبراجهم العاجية، و العبور إلى الشارع و إلى المناطق الهامشية، القصية، المنسية حيث الناس البسطاء يعبرون بأشكال مختلفة عن همومهم و معاناتهم و أحلامهم من خلال أشكال رمزية مختلفة ذات ارتباط وثيق بالذاكرة الثقافية المغربية.
إن هذا الحوار الافتتاحي، و هذا الفيلم الجميل الذي هو بالمناسبة مهدى للسينمائي الإيطالي الشهير بيير باولو بازوليني، هو بمثابة خارطة الطريق لكل السينمائيين المغاربة، في علاقتهم برموز و أشكال و طقوس الذاكرة الثقافية الوطنية.
إن هذا الفيلم يقدم نموذجا أساسيا في السينما المغربية هو نموذج الشخصية المتسكعة على غرار ما يحدث في فيلم " الناعورة". العربي باطما يتسكع في القرى و المدن، و يصادف في طريقه أشكالا من الطقوس الشعبية، و الأغاني و الأهازيج و الرقصات الممتدة من الماضي، التي يتشبث بها المغاربة البسطاء تعبيرا منهم عن وجودهم في المكان و تملكهم لوجودهم بداخله. وينتهي به المطاف في الأخير عند مشهد فرقة تمضي في الطريق و هي تردد بطريقة مسرحية كلمات تاغونجة. و تاغونجة هذه عبارة عن طقوس خاصة بالاستسقاء و طلب الغيث كلما شحت السماء. " تاغونجا يا تاغونجا.. يا ربي تصب الشتا".. و هذه الطقوس يعتبر عدد من الباحثين في التراث المغربي أنها ذات جذور ضاربة في عمق الثقافة الأمازيغية العريقة.
و بهذا تتحدد بعض السمات الأساسية في ذاكرة السينما المغربية ما تزال تعمل عملها إلى يومنا هذا، و إن كان ذلك بأشكال مختلفة. إن الشخصية السينمائية المغربية هي عموما شخصية متسكعة، دائمة الترحال والتنقل بحثا عما تعزز به هويتها ووجودها. و كما شاهدنا ذلك في تاغونجة و الناعورة، نجده أيضا في وشمة ( في الجزء الثاني تحديدا)، كما نجده في " السراب" و في فيلمي من "الواد لهيه" و " كنوز الأطلس" لمحمد العبازي، و أيضا في فيلم " ابن السبيل " (1981) لمحمد عبد الرحمان التازي، و فيلم "عود الريح" (2001) لداود أولاد السيد، كما نجده أيضا في السنوات الأخيرة في أفلام حديثة من قبيل "طريق لعيالات" (2007) لفريدة بورقية، و " هم الكلاب" (2013) لهشام العسري، و الرحلة الكبرى (2004 ) لا سماعيل فروخي، و " الطين جا" لحسن لجزولي، و انتهاء بـ فيلم" الثلث الخالي" (2023) لفوزي بنسعيدي مع ملاحظة ما توحي به عبارة الثلث الخالي في الذاكرة الثقافية و في المخيال الشعبي المغربي. وبارتباط مع هذا نسجل ظاهرة المجدوب التائه، والمجنون المتسكع في عدد من الأشرطة المغربية.
إن الأمر يتعلق هنا بثابت أساسي في بناء و بلورة الذاكرة الثقافية للسينما المغربية، و هو مرتبط بشكل لاواعي بظاهرة الترحال و التنقل و الهجرة التي كانت منتشرة بكثرة في المجتمع المغربي القبل كولونيالي. لكن السينمائي المغربي إذ يرحل فهو يقوم بذلك لاستكشاف مناطق جديدة، و إضاءتها بأنوار الصورة، أنوار الكاميرا، حتى يخرج بها من عتمات الماضي إلى أضواء الحداثة و المعاصرة.
و بارتباط مع ظاهرة التسكع هذه نسجل خاصية أخرى أساسية من خصائص الذاكرة الثقافية للسينما المغربية هي ظاهرة اليتم. البطل السينمائي المغربي هو عموما بطل يتيم. أو مجهول الأب أو الأم أو هما معا. و هذا اليتم يدفعه للبحث عن ذاته، عن هويته الحقيقية، مع ما يترتب عن ذلك من مشاق و تهديدات و تضحيات جسيمة كما في شريط "وشمة" على سبيل المثال. في فيلم " تاغونجة" يتساءل الطفل الضال و هو من الشخصيات المحورية في الشريط، يتساءل أكثر من مرة: " شكون حنا؟ شكون حنا؟" (من نحن؟ من نحن؟".. و سبق لي أن وقفت عند ظاهرة اليتم هذه في دراسة سابقة بعنوان " موت/قتل الأب في السينما المغربية". (9) في هذا الصدد أشير إلى ما سجله الناقد السيمائي يوسف أيت همو بتعبير جميل منه، و هو أن السينما المغربية ولدت من الافتتان بالموت، الافتتان بتاناتوس، و بصفة خاصة موت الأب (10)
وهاتان السمتان، التسكع واليتم، يشكلان امتدادا، بأشكال واعية أو لاواعية، لبعض الأحداث التأسيسية الكبرى للذات العربية الإسلامية، ولكيانات أخرى أيضا مرتبطة بها، تلعب فيها الهجرة واليتم دورا أساسيا. وهو ما يتناسب مع التعريف الذي يعطيه أسمان للذاكرة الثقافية التي تنهض برأيه على مكونات أساسية كالخروج والهجرة وغيرها.
5 - بعض تجليات الذاكرة الثقافية في السينما المغربية:
انفتحت السينما المغربية منذ بداياتها الأولى على الثقافة الشعبية التي وجدت فيها كنوزا ينبغي استثمارها لتقديم صورة سينمائية مغايرة. و يمكن القول إن تأسيس سينما وطنية ما كان ليتم لولا هذا الزخم الكبير للثقافة الشعبية ببلادنا. و قد احتضنت السينما المغربية هذه الثقافة الشعبية بمختلف ألوانها و أشكالها، لكنها أعادت إليها الاعتبار و خلدتها عبر الصورة السينمائية. و على رأس أشكال هذا التراث الشعبي هناك التراث الغنائي أو الأغنية الشعبية، كما هو واضح في فيلم " الحال " (1981) الذي ركز بصفة خاصة على الأغنية الغيوانية، و فيلم " الشركي أو الصمت العنيف " الذي تحضر فيه الموسيقى الكناوية، و كذلك فيلم " دموع الشيخات" (2004) لعلي الصافي، و "خربوشة "( 2008) لحميد الزوغي و هما شريطان انفتحا على فن العيطة، و كذلك فيلم " أفراح صغيرة" (2015) الذي ركز فيه مخرجه محمد الشريف الطريبق على الموسيقى الأندلسية.
و في هذا الصدد يسجل الباحث مولاي ادريس الجعايدي أن " شريط وشمة لحميد بناني (1970) يتسم بخاصية ينفرد بها لكونه يعرض لفرقة غنائية و رقصات شيخات الأطلس المتوسط المعبرة بشكل إيحائي للعشق الذي في أفئذة الشباب المهمش اجتماعيا و المكبوت جنسيا." و يسجل نفس الباحث أن المخرج سهيل بن بركة سيعمل على " إقحام بعض العناصر الغنائية من الجنوب المغربي في فيلمه " عرس الدم" (11)
و الجدير بالذكر أن فيلم الحال لأحمد المعنوني هو من إنتاج المخرجة المغربية إيزة جينيني التي ما فتئت أن تجندت لإنتاج و إخراج سلسلة من الأفلام الوثائقية التي تعرف بالثقافة الغنائية الشعبية على غرار "العيطة" و " متعة الضرب على العود" ( 1987) و " إيقاع مراكش" ( 1988) و " الملحون" ( 1989) و " كناوة " ( 1990) و غيرها... و عموما تعتبر إيزة جينيني مخرجة عاشقة للتراث الثقافي و الفني المغربي، لذلك ما لبثت بعد عودتها من المهجر أن تفرغت لهذا التراث و خصصت له معظم أفلامها و صورته في تفاصيله الدقيقة.
و يبقى فيلم " الحال " على رأس قائمة الأفلام المغربية التي وظفت الموسيقى و الغناء. يقول الدكتور حميد تباتو عن هذا الشريط: " يعتبر فيلم الحال النموذج و المثال الأول في تاريخ الفيلم الغنائي المغربي. و ما سمح ببناء اختلافه هو قطعه مع أسس النموذج النمطي السائد، حيث عوض جاذبية الملامح بصدق الأعماق، و نجومية البطل بتخريب مفهوم البطولة (...) و إبداعية الغناء و الآلات الموسيقية. ففي " الحال" تتداخل مجموعة من الحكايات لخدمة غاية التوثيق الفاعل لذاكرة الأغنية الغيوانية".(12)
و يلخص تباتو هذه الحكايات التي ينسجها فيلم "الحال" في ثلاث حكايات أساسية هي: حكاية الذاكرة، حكاية التجربة ، و حكاية الحياة و اليومي. إنها حكايات الأغنية الغيوانية كما يرصدها صاحب فيلم " الحال" أحمد المعنوني في فيلمه هذا. و بذلك يؤسس هذا الفيلم المتميز في الفيلموغرافيا المغربية لنموذج مضاد للفيلم الغنائي يقوم حسب حميد تباتو على المرتكزات التالية:
- تجاوز أساس البطولة الفردية. لتحل محلها بطولة أخرى هي بطولة الجماعة، و الآلات، و المونتاج.
- ذاكرة الهامش، و هي هنا ذاكرة الحي المحمدي، بوصفه الحي الشعبي العريق موطن الأغنية الغيوانية.
- ذاكرة المنسي.. المقصود بذلك الإيقاعات الشعبية بما في ذلك الفن الكناوي، و الحمدوشي، و عيساوة، و الفنانين المتجولين و إبداع الحلقة .. و هو ما يربط بعمق الفيلم و التجربة الغيوانية بالمشروع الثقافي الوطني و بتجلياته في الحقل السينمائي" (13)
و على هذا النهج سيمضي من بعد سينمائيون آخرون على رأسهم حكيم بلعباس في فيلمه " الرمى" و علي صافي في فيلمه الوثائقي" دموع الشيخات".
لكن هناك أفلاما أخرى سعت، بالمقابل، إلى تخليد الأغنية المغربية النمطية في الذاكرة السينمائية نذكر من بينها فيلم " الحياة كفاح" ( 1968) للمخرجين محمد التازي و أحمد المسناوي بطولة عبد الوهاب الدكالي، و فيما بعد فيلم " دموع الندم" ( 1982) للمخرج حسن المفتي، و هو عن تجربة الراحل محمد الحياني يضاف إليهما فيلم " القمر الأحمر" ( 2013) لحسن بن جلون حول التجربة المتفردة للملحن الكبير عبد السلام عامر.
7 - طقوس و أساطير في السينما المغربية:
لا يمكننا الإحاطة الشاملة هنا بجميع الطقوس و الأساطير التي قدمتها أو اشتغلت عليها السينما المغربية، و إن كان بإمكاننا الوقوف على بعض النماذج على سبيل المثال أسطورة حمو أونامير في فيلم فاطمة بوبكدي ( فاز هذا الشريط بالجائزة الكبرى و جائزة أفضل إخراج خلال المهرجان الوطني للسينما الأمازيغية سنة 2006 )، و فيلم " عاشوراء.. ليلة الأطفال" للمخرج طلال السلهمي الذي أحرز على الجائزة الكبرى بمهرجان HARDLINE بألمانيا، و جائزة لجنة التحكيم بمهرجان سيدجيس للفيلم الخيالي سنة 2020 . يحكي فيلم "عاشوراء" قصة أربعة أطفال يلعبون في تخويف بعضهم البعض، و يلجؤون إلى منزل اشتهر بين الناس بأنه عبارة عن سكن ملعون، هناك يختفي أحد الأطفال في ظروف غامضة، ليظهر بعد 25 سنة، و يروي الفيلم أيضا حكايات أخرى تتعلق بمواجهة الأطفال للجن و الأرواح الشريرة الخفية... كما ندرج هنا بعض أشرطة محمد عبازي التي تخلد جانبا من الميثولوجيات المغربية كما في شريطيه " كنوز الأطلس" ( 1997 ) و إيطو تيتريت ( 2008)، و فيلم "الطين جا" من إخراج حسن لجزولي، و يبقى أكبر إنجاز بهذا الخصوص برأينا المتواضع هو شريط " محاولة فاشلة لتعريف الحب" (2012) الذي ينفتح بذكاء كبير على أسطورة إيسلي و تيسلي كما قاربها المخرج المغربي حكيم بلعباس.
لكن لماذا الأساطير و الطقوس في حديثنا هذا عن الذاكرة الثقافية للسينما المغربية؟ ذلك أولا لأنه بات في حكم المؤكد اليوم أن الأساطير هي الأنساق الخيالية الأولى التي حاولت من خلالها الإنسانية أن تستوعب تناقضات و ألغاز و مفارقات الكون، في أبعادها الطبيعية و الاجتماعية و الأخلاقية و الذهنية. و حاولت الإنسانية، اعتمادا بصفة خاصة على ما تملكه من مقدرة هائلة على الخيال و الحلم، حاولت من خلالها أن تقدم أجوبة عن الأسئلة العميقة و العويصة التي تشغل الكائن الإنساني في تلك العصور الغابرة.
تمثل كل أسطورة في حد ذاتها بناء نسقيا محكما يلعب فيه الخيال و الحلم دورا أساسيا، و هو يستجيب للحاجيات الأولية للإنسان في صراعه المستميت مع الطبيعة. لذلك نجد في السينما المغربية عموما على هذا المستوى مسعيين اثنين. مسعى لخلق أساطير انطلاقا من شخصيات واقعية.. مثلا أسطورة العربي بنمبارك في فيلم ادريس المريني عن البطل المغربي في كرة القدم بنفس الاسم، أو أسطورة خربوشة في فيلم حميد الزوغي علما أن الشخصية السينمائية في هذا الشريط لا علاقة لها بالشخصية التاريخية الواقعية. خربوشة الواقعية شاعرة و ليست شيخة كما في الشريط. و أسطورة عايشة قنديشة التي يوضح العربي باطما في فيلم الحال أنها امرأة واقعية مناضلة ضد الغزو البرتغالي و ليست بالصورة التي أعطيت لها في الثقافة الشعبية السائدة.
أما المسعى الثاني فيتمثل في الانفتاح على أساطير عريقة، فعلية، ضاربة في جذور الذاكرة المغربية كما هو الشأن على سبيل المثال في أسطورتي حمو أونامير و إسلي و تيسليت.
و الجدير بالذكر أن هذه الأسطورة الأخيرة، أسطورة إسلي و تيسليت، كانت موضوع فيلم سابق حمل عنوان " بحيرتان من الدموع" ، قام بإخراجه محمد الحسيني سنة 2008 . يحكي هذا الشريط قصة الفتاة سعاد، و هي تلميذة تبلغ من العمر 16 سنة، تتصف بالجرأة و الاستقلالية، و هي كذلك ابنة خياط بسيط متواضع ما لبثت أن وجدت نفسها داخل دوامة قصة حب مستحيل مع شاب يدعى جليل ( 19 سنة ) ينحدر من أسرة واسعة الثراء. لكن البطلين، رغم علاقة الحب القوية التي جمعت بينهما، لم يتمكنا من الزواج تتويجا لهذا الحب البريء. و لم يحل دون زواجهما صغر سنهما فقط بل بالخصوص انتماؤهما إلى وسطين اجتماعيين مختلفين. و قد أقر مخرج الشريط، محمد الحسيني، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء ، أن الفيلم مقتبس من أسطورة إسلي و تسليت التي انبنى عليها موسم الخطوبة بإملشيل. و أفاد المخرج أيضا بهذا الخصوص: " كنت أود أن أحكي قصة عادية أسافر من خلالها بالجمهور إلى عالم الأحلام". كما اعتبر الحسيني شريطه هذا فيلما شخصيا استعرض فيه، حسب قوله، مجمل الأحاسيس التي رسمت حياته بشكل خاص في سني الطفولة (14)
كما أشير أيضا هنا إلى شريط آخر اشتغل بدوره على الذاكرة الطقوسية المغربية هو شريط "طين جا" لحسن الجزولي. و هذا العنوان بالذات لا يخلو من إيحاءات أسطورية واضحة، إذ يحكى أن النبي نوح أثناء نجاته بالسفينة من الطوفان المدمر، لمح طائرا في رجليه طين و قال لهم "الطين جا".. و هذا من التفسيرات التي تعطى لاسم مدينة طنجة. يحكي الفيلم عن مسار البطل نورالدين للعودة بجثة والده إلى حيث ولد لدفنه في التربة التي أنجبته. أو في موطنه الأصلي. بهذا نلتقي من جديد مع تيمة موت الأب التي أشرنا إليها سابقا في ارتباطها بتيمتي التسكع و اليتم و البحث عن الذات. و معلوم أن المخرج حسن لجزولي هو من المخرجين المغاربة المقيمين بالمهجر، و هذه الرحلة قادت بطله نورالدين إلى عالم طفولته في القرية الأمازيغية "أدرج" باحثا عن انتمائه الأول. يقول الناقد السينمائي محمد زروال بهذا الخصوص: " رحلة نورالدين جعلت المخرج يقف عند مظاهر كثيرة من الثقافة الأمازيغية بالأطلس المتوسط مثل الموسيقى ( أغاني عبد العزيز أحوزار و الرقصة الأمازيغية في الحانة بمدينة طنجة) و الملابس الأمازيغية في السوق الشعبية (...) و أسماء الأماكن ..." " و حضرت الأمازيغية كذلك من خلال استحضار المخرج للكثير من القيم الأمازيغية كالكرم مثلا في مشهد استقبال نورالدين و نورة من طرف زوج يامنة في الجبل و ذبح الدجاج و إعداد الكسكس الأمازيغي على روح الميت و مساعدة أهل القرية لنورالدين في عملية الدفن..." (15)
و قبل أن نقف باقتضاب شديد عند كيفية توظيف الأسطورة في شريط " محاولة فاشلة لتعريف الحب" لحكيم بلعباس، نشير بدءا إلى أن هذا المخرج السينمائي يتميز بمسار جد متفرد في تاريخ السينما المغربية. و قد لعبت عوامل عدة في رسم ملامح هذا التوجه الذي أطلق عليه الناقد السينمائي محمد اشويكة تعبير التوجه الأنثروبولوجي في السينما المغربية، أذكر من بينها ثلاثة عوامل أساسية:
1/ نشأة حكيم بلعباس و انتماؤه لمدينة يمكن القول عنها إنها مدينة أسطورية بامتياز هي مدينة أبي الجعد. لما تحفل به من أولياء صالحين و أضرحة و زوايا، و لما تعرفه كل سنة من مواسم تنتعش فيها العديد من الطقوس الضاربة جذورها في عمق الكيان المغربي من قبيل طقوس الفروسية (التبوريدة) أو الرقص و الغناء الجماعيين أو الذبائح و القرابين و التضحيات إلخ..
2/ نشأته أيضا وسط أجواء قاعة سينمائية شعبية، حيث أهله تواجده الدائم بداخلها و حضوره المستمر لأنشطتها و عروضها إلى التعرف عن قرب و معاينة العديد من الأفلام السينمائية التي كانت تعرض بالقاعات المغربية. و له مع هذه الأفلام حكايات سعت كاميراه إلى رصدها في بعض أفلامه نذكر من بينها بصفة خاصة شريطه " هذه الأيادي"
3/ سفره المباغث إلى الولايات المتحدة حيث تمكن من الانفتاح على تجارب سينمائية أخرى مغايرة، و كذلك تعميق رؤيته السينمائية المختلفة.
يقول الناقد السينمائي محمد اشويكة في كتابه " السينما المغربية – تحرير الذاكرة، تحرير العين" : " يوظف حكيم بلعباس الكاميرا بطريقة شبيهة بمنهج المعايشة الذي يسلكه الباحث الأنثروبولوجي الذي تتطلب منه ضرورات البحث و مناهجه الإقامة بين العينات المدروسة، و التحدث إليهم بلغتهم، و الاندماج معهم". (16)
و يرصد محمد اشويكة أربع مظاهر أنثروبولوجية في أفلام حكيم بلعباس نوردها معه باقتضاب كالتالي:
1/ الطقوسية: " ترصد أفلام حكيم بلعباس العديد من مظاهر الطقوسية المرتبطة خصوصا بالأضرحة ( سيدي بوعبيد الشرقي مثلا) ، و تقف عند الإيمان المطلق لبعض الشخوص بالبركة، إضافة إلى رصد طقوس زيارة الموتى، و الختان، و طقوس غسل الميت، و الوضوء."
هذا الاهتمام الكبير بالأضرحة و المزارات نجده أيضا بشكل كبير لدى سينمائي آخر هو محمد العبازي. و يسجل الناقد السينمائي محمد زروال ملاحظة هامة بهذا الخصوص و هي أن " هذه الفضاءات لشدة ما لعبته من أدوار في تاريخ المغرب بل و لا زال تأثيرها واضحا إلى اليوم على مستوى الذهنيات، و كونها جزءا هاما من ذاكرة المغاربة الجماعية المشتركة، و التي تعبر عن قيم التسامح و التعايش السائدة في أزمنة غابرة، هذه الفضاءات كان لها دور في تغذية مسارات شخصية الإنسان المغربي روحيا و ماديا." و ينفتح محمد عبازي كذلك على مزارات أخرى غير إسلامية ، منها مثلا قبر اليهودي في " كنوز الأطلس" وسط الجبال، و كذلك إشارته لدير تومليلين" المسيحي في فيلم " إيطو تتريت. (17)
و في هذا الصدد نسجل حضور ظاهرة الموت بشكل مثير في أفلام حكيم بلعباس لدرجة يمكن القول معها إننا إزاء مخرج مهووس بالموت، و إن هوسه هذا هو الذي يفسر تشبثه الكبير بالذاكرة، بالطقوس و التقاليد، في مسعى حثيث منه لمقاومة الموت بأشكال أخرى سينمائية راقية تنتصر للحياة في أبعادها الإنسانية الرحبة.
2/ العادات و التقاليد: و هي عند المخرج حكيم بلعباس مرتبطة بالطقوس التي سبق ذكرها. و تتمظهر هذه العادات بصفة خاصة في طرق الطبخ و الأكل و التعامل بين أفراد الأسرة و بينهم و بين جيرانهم بنفس الحي.
3/ المقدس/ المدنس: تتجلى هذه الثنائية من خلال اقتحام الكاميرا و تصويرها للأماكن الروحانية كالأضرحة و في نفس الوقت الاشتغال على الأشياء المدنسة كالسبسي مثلا، و كذلك الاشتغال على رمزية العناصر الأساسية كالطين مثلا كما يتجلى ذلك في فيلم خيط الروح : عجن الطين، طهيه، علاقته بالعناصر الأخرى( الماء، الهواء، الدخان، النار)..
4/ الطابع القرباني للشخصيات: " تسير كل الشخوص نحو مصير قدري لا يخلو من أبعاد قربانية، إذ يقدم المجتمع أبناءه قربانا للزمان.. أناس بدون تاريخ، مغمورون، منسيون، مهمشون، يذهبون ضحية للفقر و البؤس و الظلم و المرض و اليأس و الفساد و الإهمال و النسيان و الفاقة و الحاجة.. يعانون بشكل فجائعي يحولهم إلى" أبطال " تتقاطع مصائرهم – و لو جزئيا – مع أبطال الأساطير، فتتحول مآسيهم في الحياة إلى مسارات تستبطن كل أنماط العنف الاجتماعية و النفسية و الإنسانية". (18)
و عموما نستطيع القول إن ما يقوم به حكيم بلعباس في مجموع أفلامه هو امتداد لذلك النداء الاستراتيجي الذي سبق أن وجهه عمر السيد، و من خلاله عبده عشوبة إلى كل الفنانين المغاربة بضرورة العودة إلى التراث، إلى الذاكرة، لأنها تنطوي على كنوز لا تنضب، ما فتئ السينمائيون المغاربة ينقبون عنها من فيلم لآخر. مع أن الدافع الأساسي للتشبث بالذاكرة الثقافية، و بالسينما كذاكرة ثقافية هو الخوف من الموت.
و تكمن قوة تجربة حكيم بلعباس في كونه أولا سينمائي مواظب، حرص على إنجاز أفلامه بشكل منتظم، كما تكمن بشكل خاص في كونه تمكن من تحقيق هذه المعادلة الصعبة، لتي تتمثل في تصوير الطقوس و الشعائر و العادات و التقاليد الخاصة بالناس البسطاء، و في نفس الوقت ظل محافظا و متشبثا بوضعه المتميز كأحد أعمدة سينما المؤلف، و بذلك جنب نفسه السقوط في مطبات الطابع الفولكلوري الذي من شأنه أن يسيء لذاكرتنا الثقافية.
و بالعودة إلى شريط " محاولة فاشلة لتعريف الحب" الذي سنخصه لاحقا بدراسة مستقلة لما له من أهمية كبيرة في مسار السينما المغربية، أذكر بالمناسبة أنه أحرز على عدة جوائز داخل المغرب و خارجه، نلاحظ أن مخرج الفيلم حكيم بلعباس يلعب في فيلمه هذا، كما في معظم أفلامه الأخرى، لعبة التباسات لا تخلو من ذكاء بين الوثائقي و الخيالي، الحقيقي و الوهمي، النجاح و الفشل، السيناريو و اللاسيناريو ، الإخراج و اللاإخراج ...إلخ. يعرف بلعباس بذكاء أن المهمة المنوطة به هنا، مهمة تعريف الحب، هي مهمة بالغة الصعوبة، لذلك يخوض غمارها بتحوط كبير و بحذر شديد. ثم يعتبرها في الأخير، من خلال عنوان الشريط، مجرد محاولة فاشلة حتى يسد الطريق على من قد يتهمه بأنها فعلا كانت فاشلة أو أن فيلمه فاشل ...إلخ..
يقول المحلل النفسي جاك لاكان في محاولة منه لتعريف الحب: " الحب هو أن تعطي ما ليس لديك لمن لا يريده".. من هذا المنطلق، فإن أية محاولة لتعريف الحب لا يمكن أن تكون إلا محاولة فاشلة. و لكن بالإمكان التعبير عن ظاهرة الحب الشائكة هذه بشكل مجازي. لذلك فإن الشعراء يعتبرون أهم من تمكن من التعبير عن هذه الظاهرة الملغزة من خلال ما أبدعوه من قصائد خالدة في الموضوع. و لكن يحسب لحكيم بلعباس في فيلمه هذا أنه تمكن من اقتحام عالم الأسطورة بجرأة فنية كبيرة، و تمكن أيضا من اقتحام مناطق جديدة، بعيدة عن عالمه و عن موطنه الأصلي. و داخل هذه الفضاءات الجديدة، الرحبة، جعل كاميراه تقف بتلقائية على مآسي شخصياته التائهة، القلقة، المتألمة، من خلال مجموعة من اللقطات و المشاهد التي تداعب تلك الفضاءات الأسطورية بشاعرية كبيرة، و بذلك تمكن من ربط الماضي بالحاضر، بحيث يبدو كما لو أن الزمن توقف في النقطة الصفر، كما ترسم ذلك هذه البحيرات الخلابة، التي أبدعتها دموع العاشقين داخل مسيرة عشق أليمة أبدية.
هوامش:
1/ ألقيت هذه المداخلة ضمن ندوة السينما ذاكرة ثقافية .. ضمن فعاليات مهرجان سيدي قاس للفيلم القصير.. يوم السبت 2 نونبر 2024 .
2/ أنظر كتاب يان أسمان:
Jan Assmann, La Mémoire culturelle, Écriture, souvenir et imaginaire politique
dans les civilisations antiques, 2002 tr. fr. Diane Meur, Aubier, 2010
3/ نفس المرجع – ص: 18 - 19
4/ نفسه ص: 47
5/ Edgar Morin, Le cinéma ou l’homme imaginaire, Paris, Les éditions de Minuit, 1956.
6/ أوردها الباحث أيوب تورار ضمن مقالته بعنوان " جماليات تصوير الواقع في الفيلم الوثائقي المغربي – قراءة في فيلم " الذاكرة 14 " لأحمد البوعناني – ضمن مؤلف: " السينما و معاني التاريخ الاجتماعي" منشورات الكلية متعددة التخصصات ابن زهر – الطبعة 1 – سنة 2020 ص: 187
7/ يوسف أيت همو: Patrimoine et patrimonisation du cinéma au Maroc
ضمن مؤلف: أضواء على التراث السينمائي المغربي – منشورات نادي إيمزار للسينما – الإصدار التاسع – 2015 – ص: 19
8 - وردت ضمن مقالة أيوب تورار .. مرجع سابق ص: 190
9- نورالدين بوخصيبي – تيمة موت/قتل الأب في السينما المغربية – جريدة الاتحاد الاشتراكي المغربية - 13/05/2017
10 - جاء ذلك في مقالته بعنوان : سيمياء الإيروس و التاناتوس في "وشمة" لحميد بناني ( باللغة الفرنسية).. ضمن مؤلف " دلالات الموت و رمزيته في السينما المغربية" منشورات نادي إيموزار للسينما – الكتاب العاشر - القسم الفرنسي ص 2
11 – مولاي ادريس الجعايدي: الموسيقى في السينما المغربية ، ضمن كتاب " التراث الغنائي في السينما المغربية ، مؤلف جماعي" منشورات نادي إيموزار للسينما – 2007 ص: 9
12 - حميد تباتو، الفيلم الغنائي المغربي و آفاق التأسيس، ضمن نفس المؤلف السابق، ص: 20
13 – نفس المرجع ، ص: 20 ، 21
14 – بحيرتان من الدموع حكاية تدعو إلى الحلم، موقع طنجة الأدبية، 13/10/2009
15 – محمد زروال: الأمازيغية في السينما المغربية بين المضمر و المعلن. ضمن كتاب " عناصر الثقافة الأمازيغية في السينما المغربية"، مؤلف جماعي منشورات نادي إيموزار للسينما، 2015 ص: 28 – 29
16 - محمد اشويكة: السينما المغربية تحرير الذاكرة.. تحرير العين ، منشورات سليكي أخوين، ط1 يناير 2014 ، ص: 43
17 - محمد زروال: رمزية الفضاء و الموسيقى في أفلام محمد العبازي" – ضمن كتاب " اللغة السينمائية – قراءات في الفيلم الأمازيغي – الكتاب 11.
18 – محمد اشويكة : السينما المغربية.. تحرير الذاكرة.. تحرير العين، ص: 54 - 55