"ليس في الإمكان أبدع ممّا كان"[1].
ترى إلى أي حدّ يصح هذا القول: "أحسن ما يمكن أن يُقال قد تمّ قوله، وأروعُ ما يمكن أن يُكتب، قد تمَّتْ كتابته؟"[2].
"ماذا سأكتب؟ وكيف أُنجز أمرا لم يُنجز قبلُ؟ وفيم أُؤلّف؟ أفي النحو بعد سيبويه؟ أفي اللغة بعد الخليل؟ أم في الأصول بعد الشافعي والجويني؟ ماذا أستطيع أن أُنجز؟ فكل القصائد الرّنّانة قيلت، وكل الكتب العظيمة أُلّفت وجُلّدت ووُضعت في مكتبات بغداد ونيسابور ودمشق وبلخ، وكل البطولات وقعت وخُتمتْ بأسماء أبطالها ورُوّيت"[3]، وأن أمامنا ملايين الكتب قد خاضت في كل روائع الحضارات والمعارف والفنون، تحمل خلاصات العقل الإنساني، وحكمته وتاريخه الحافل بالانتصارات والاخفاقات والخيبات، والآمال، وتطلعاته إلى ما هو كائن وما سيكون، جفّت الأقلام وطُويت الصُّحف؛ فلماذا نريد أن نكتب؟ ما جدوى الكتابة إذن؟ لماذا هذا الإصرار على الكتابة؟ هل نكتفي بما كُتب وقيل ونركن إلى الظلمة ونغوص والعالم في الشقاء ننتظر القيامة، أو نقول مع نزار قبّاني: "أكتب كي ينتصر الضّوء على العتمة"[4]؛ والكتابة انتصار.
وإذا كان "من أجمل اختراعات الإنسان المذهلة هي القلم والكتاب، فإنّهما جعلا تقدم البشرية ممكنا بوضع المعرفة تحت تصرف الإنسان"[5] وقضيا على احتكار المعرفة والاستقواء بها، وفتحا آفاق الدنيا ومغاليقها وأسرارها، ماضياً وحاضراً، أرضاً وسماءً أمام العقول المتعطّشة للمعرفة والعلم، وأغريا الانسان بالبحث والتّعمّق في أسرار الوجود والموجودات، وفي حياة الكائنات وما يحيط بها من اسرار.
بعد هذا، هل من سبب مقنع للكتابة اليوم؟ علماً أن ما يقنع بالكتابة، هو ما يترك صدىً أو أثراً في حياة الإنسان، فكيف يمكن تخيُّل عالمنا من دون كتابة؟ في عالم اندثرت فيه معاني كثيرة، وحلّت محلّها أُخرى، وتغيرت أشياء كثيرة وفرّقتنا أشياء كثيرة، وخرص الصّدى وضاع الأثر.
يقيناً، أنّ الإنسان مجبول على التغيير والسؤال والبحث وعدم القناعة بما هو فيه، والبحث عن مجالات للإبداع والمغامرة وتجاوز الذّات، فهل طرْح سؤال الكتابة وجدواها ضروري اليوم؟ هل ما زالت الكتابة قادرة على التغيير الذي ينشده الإنسان، والبناء في ظل الأزمات والخيبات الكبرى التي تصاحبه والتي اختبر فظاعتها؟ وما دامت هذه التراجعات والانتكاسات تتربص بالإنسان، فإن الكتابة مطلب لا بد منه لتكون فعلَ احتراق واختراق، فعلٌ يقاوم الاندثار وسط الخراب الذي يحيط بالإنسان. تنطلق الكتابة من داخل الكاتب لتبني القيم الإنسانية التي ران عليها القبح بكل أصنافه، وأحاطتها التفاهة من كل جانب؛ وتبثّ الجمال في صحراء الذات اليائسة من الغد المشكوك في سطوع شمسه، وتحيي شعلة الحبّ في زمن الكراهية، وتبعث الأمل في زمن الياس، وتُرمّم ما انفكّ وانكسر من إنسانية الإنسان المُحبط والمهزوم، وتفتح للحلم والإبداع فضاءات بِكر، وتجمع ما فرّقته وتُفرّقه السياسة والمعتقدات والأفكار، بهذا تكون الكتابة قضية تتجدّدُ، حين تمنح الأمل للإنسان في لحظات بؤسه ويأسه وشكّه.
الكتابة من هذا المنطلق، فعلُ عتقٍ وتحرُّرٍ؛ فهي تحاور الخوف لتتخطّاه، وتهدم القبح لتتجاوزه، وتبني قيم الإنسان العليا ليكون، هي في صناعة مستمرة ومتجددة للعالم من حولنا، وتعيد ترتيبه بشكل أكثر إنسانية، وهي حوار لا ينتهي، فإذا انتهت انتهى العالم وتداعى. نكتبُ ليظل الإنسان ممسكاً بتلابيب الشجاعة على احتمال معْيوشِه، وبأطراف سعادته التي يلمْلمها في وجوه الناس والأشياء، الكتابة لصُنع عالم للاحتماء من قسوة الواقع وضنك العيش.
إذا كان العالم يسير بسرعة نحو التغيير، وإذا كان التغيير ظاهرةَ العالم المعاصر؛ فإن الكتابة، رغما عنها، وبآلياتها التحليلية والإبداعية، وبما أنها ليست مفصولة عن العالم، فإنها مجبرة على مواكبة التغيير، بل تنظيم منطلقاته ومُخْرجاته، بل تكون هي التغيير وجوهره، خصوصا في زمن الرداءة والتفاهة التي أصبحت من أهم سمات المجتمعات الفاشلة، حيث تتسيّدُ الكتابات التافهة، والأسئلة الرديئة، ويتصدّر التّافهون المشاهد اليومية، وفي زمن الكتابات المتعددة المتجاوزة لحدود الزمان والمكان والإنسان، أو السائرة جنب الواقع، تزوِّقه متزَلِّفةً لذوي السلطان والجاه والمال، والخارجة من أجواف المطابع مُنمّقة مُثيرة بأوراق تتعدى المئات، من دون جودة وحسٍّ جمالي أو فكر تغييري يتغيّا تفكيك الواقع ونقد الحال، لتدخل رفوف المكتبات والخزانات لتستقر هناك جامدة جمود الخشب البارد الذي يحملها ويُخبّئها.
في زمن الصّورة والهواتف الذكية، على الكتابة أن تعرف جدواها في زمنها المرير، وتعرف أهميتها القصوى، وأن تتصدّى للرّداءة والتفاهة وتدرُس آليات توغُّلها في قلب المجتمع ساعيةً إلى سَكْتَتِه القلْبية، وتوغل بحكمة وصبر لتفْتيت أسباب الجذب فيها، وفهم آليات تأثيرها في المجتمع والإنسان، ومعرفة سطوتها وسلطانها رغم صعوبة خرق أنظمة التفاهة الحصينة والرداءة المُسيّجة، والفردانية التي تباعد بين الإنسان وحاضره ونفسه وبين قيم الخير والجمال، تزجُّ به في صراع موحش لاهثٍ لتحصيل ملاذّ ضيقة في قلق وجودي دائم وخواء روحي وغربة قاتلة.
تملك الكتابة من القوة ما يجعلها قادرة على التّصدّي للقبح رغم استفحاله، والتفاهة رغم استشرائها كداء خبيث في جسم لا تحميه مناعة قوية، شرط أن تبني أساسات جديدة تنهض على قواعد صلبة، وتنظر في الأساسات القديمة لتدعيمها وجعلها قادرة على التّصدّي والمواجهة، رغم صعوبة الأمر في زمنٍ تتراجع فيه مؤشّرات القراءة والبحث العلمي وإعمال الفكر، ومؤشرات إنسانية الإنسان، وأن تؤمن أن ولادةً إنسانية جديدة أمرٌ ممكن، فقط تراهن على الوقت، دون تسرّع، وما تملك من ذكاء ودهاء وتخطيط ووعيٍ بِجدواها، وإذا أرادت الكتابة أن يكون لها تأثير وصَوْلَة، عليها أن تتغيّر؛ أن تُغيّر مواقعها، وتؤمن بجدواها في زمن التفاهة، كما عليها أن تواجه، أن تُكشّر عن حروفها، لتواجه القباحات التي أفرزتها وتُفرزها التفاهة والرداءة، وتسد الطريق على توالدها وتكاثرها، وتضربها في عمقها، لا أن تتفرّج متأسّفةً وتترك المجال مفتوحا لانحدار الأخلاق والقيم والثقافة.
"نحن منذورون لأن نقاوم"[6]، والكتابة فعل مقاومة، مقاومة اخطبوط التفاهة والبلادة التي تضرب عميقا بجذورها في كل مجالات الحياة، ومقاومة القبح الذي يغزو العالم ناشراً أرديته كداء عضال على كل مجالات الحياة، فعلى الكتابة أن تَثِق في جدواها وضرورتها، وتكون سلاحاً للبناء والمواجهة، لا سلْعةَ إرضاءٍ وصوتاً صارخاً موقظاً، وسؤالاً حارقاً لا يرتاح لجواب، ولا يستكين حيث استكان التّافهون.
على الكتابة أن تعرف خريطة الفضاءات التي تتحرّك في إطارها، لتخوض مجالاتها ومجاهلها، ولا تعيد نفسها مكرورة ممجوجة لا يستقيم عودها، ولا توقظ حياة، وأن تكون حاملةً لهمٍّ يستنهض الهِمم، ويوقظ الفكر للتّغيير والتّحرّك نحوه، وللتّطهير لإيجاد توازن نفسي لفهم المعاناة الإنسانية ومواجهتها. كلُّ كتابة لا تسعى إلى إحداث تغيير، لا يُعوّل عليها؛ لأن التغيير هو هدف الكتابة، والتّغيير لا يحدث بما قيل ووُجِد وكُتب، بل بكتابة جديدة تعرف مواقعها أولاً، وتدرس خريطة تأثير عدوها ثانيا؛ لأن الحرب خطّة، لا خُدعة، والخروج على مألوف ما كُتب، بما أنّه لم يُحدث أي تغيير، بل ساهم في تفاقم الأزمات وتعنّت التفاهات والرّداءة، وطُغيان الخطابات الظلامية المغلقة التي ترفض التّدخل الإبداعي الساعي إلى ترميم الأعطاب، بل، استئصالها من جذورها وقد استوطنت جسد المجتمع المتهالك؛ لأن الكتابة بهذا المعنى، هي المشكلة والحل إذا تأكّد لنا أنّ "كل شيء في هذا العالم، يعيش أزمة. وأن نقول أزمة معناه أن نقول إن ملامح اللايقين تكبر، ففي كل مكان، وفي كل شيء يكبر الغموض.. بحيث نلفي أنفسنا في عالم يبدو لنا في الآن الواحد في تطور، وفي حالة ثورة، وفي تقدم، وفي تأخّر، وفي أزمة، وفي خطر.. وإننا نعيش في الآن الواحد كل هذا"[7]، وحين تشتدُّ قوى التفاهة والرداءة والبلادة، وتسوق الإنسان إلى الضياع والهاوية بسرعة تفوق سرعة قوى الجمال والنّباهة، وتغيّر وسائل هيمنتها، وحين يُقْمع كل إبداع يدعو إلى الحرية وإعمال الفكر الحر والخلّاق الذي يضع في صُلب اهتماماته مصير إنسان هذا العالم البائس الذي يمور بشتى الصّراعات الدموية والعمياء؛ فهل هناك خلاص إنساني يحد من السباق المحموم للتفاهة التي تحيل المستقبل فناء للإنسانية، ومقبرة للعالم تبتلع كل شيء يقف في طريقها؟
حين يصعب الصّعود، يُصبح السقوط في الوحل أسهل، لأن الوحل أقرب إلى الأقدام، ولا نجاة إلا بالمواجهة وحفر سلّمٍ على جدار الهاوية للصّعود، ولا منجاة إلا بتحولٍ عميق في علاقة الفرد بنفسه، والفرد بالفرد، والفرد بالمجتمع، والمجتمع بالإنسانية، وهذا التّحوّل لا تقوم ركائزه إلا بالكتابة الواعية بشرطها وشرط وجودها، وحين تثق في قوتها وآلياتها ورجالها.
وبعد، فهل استنفدنا جميع المواضيع، وخارت قوى الكُتّاب وانطفأت فيهم جذوة الإيمان بضرورة المواجهة، ووقفوا يتفرّجون أمام بوّابة التاريخ والإنسانية ينتظرون الضّربة القاضية، توقظهم أو تقضي عليهم، أو نضع أرجلنا في بدايةٍ جديدةٍ تستنفر الطّاقات، وتقضي على العفَن في عقر سطوته، وتُحيي العالم من جديد؟
[1] الإمام الغزالي. إحياء علوم الدين. (4/275)
[2] يحيى إبراهيم حقي. معايشة النّمرة وأوراق أخرى. (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ط1، 1992)، ص 18.
[3] أحمد فال الدين، دانَشمَند (سيرة الغزالي ـ رواية). (تونس: منشورات ميسكلياني 2023). ص 260.
[4] نزار قباني، الأعمال السياسية الكاملة. (بيروت: منشورات نزار قباني، ديوان قصائد مغضوب عليها، ج 6, ط 2 1999)،
[5] يحيى إبراهيم حقي. معايشة النّمرة وأوراق أخرى. (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 1992)، ص 43.
[6] . إدغار موران. هل نسير إلى الهاوية. ترجمة عبد الرحيم حزل. (الدار البيضاء: إفريقيا الشرق، 2012)، ص 143.
[7]. إدغار موران. إلى أين يسير العالم. ترجمة أحمد العلمي. (بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2009)، ص 43.