قراءة موضوعية في رأي المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي - سليم ياسين

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

يشكل الذكاء الاصطناعي اليوم محورًا لتحول جذري يمس مختلف أبعاد الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إذ لم يعد مجرد أداة تكنولوجية، بل أصبح رافعة استراتيجية لإعادة رسم خريطة التنافسية العالمية. وفي هذا السياق، يندرج تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي حول الذكاء الاصطناعي بالمغرب، باعتباره وثيقة مرجعية تستشرف آفاق هذا التحول وتقدم رؤية مركبة حول مكامن القوة ونقاط الضعف، وتوصيات استراتيجية قابلة للترجمة إلى سياسات عمومية فعالة.

ينطلق التقرير من تشخيص دقيق لمنظومة الذكاء الاصطناعي في المغرب، حيث يُسجَّل توفّرُ إرادة سياسية ناشئة وتنامي وعي جماعي بأهمية الانخراط في الثورة الرقمية. وتبرز في هذا الصدد بعض المبادرات المؤسساتية الرائدة كمركز AI Movement وبرنامج "الخوارزمي"، إلى جانب انخراط المغرب في التوصيات الدولية بشأن الاستخدام الأخلاقي والمسؤول للتكنولوجيا. غير أن هذه الدينامية تصطدم بجملة من الإكراهات البنيوية، أبرزها غياب إطار قانوني وتنظيمي خاص بالذكاء الاصطناعي، وضعف تحرير المعطيات العمومية، وعجز المقاولات الناشئة عن الولوج إلى التمويل الملائم، ناهيك عن النقص الحاد في الكفاءات المؤهلة، سواء في مجالات البرمجة أو تحليل البيانات أو التسيير المبتكر للمشاريع الرقمية.

لا يقتصر الذكاء الاصطناعي على كونه محركًا للنمو الاقتصادي، بل يشكل أفقًا لتجديد نماذج التنمية، من خلال تحسين الخدمات العمومية، وتعزيز الإدماج الرقمي والاجتماعي، وتوفير حلول أكثر نجاعة في مجالات حيوية كالصحة والتعليم والفلاحة. كما أن ربط الذكاء الاصطناعي بإنتاج المعارف والمهارات يفتح آفاقًا جديدة لإعادة هيكلة سوق الشغل، رغم المخاوف المرتبطة باختفاء بعض الوظائف التقليدية. على هذا الأساس، يشدد التقرير على ضرورة التأسيس لحوكمة وطنية للذكاء الاصطناعي تراعي التوازن بين تسريع وتيرة الابتكار من جهة، وضمان احترام القيم الأخلاقية والحقوق الرقمية من جهة أخرى، مع ما يقتضيه ذلك من حماية للمعطيات الشخصية، والحد من التحيزات الخوارزمية، وضمان الشفافية وقابلية تفسير القرارات التكنولوجية.

وانطلاقًا من هذا التشخيص، يدعو التقرير إلى بلورة استراتيجية وطنية متكاملة تمتد إلى أفق 2030، وترتكز على تطوير استخدامات الذكاء الاصطناعي وبناء صناعة رقمية وطنية قادرة على إنتاج حلول قابلة للتصدير. وتحقيقًا لذلك، يقترح إصلاح الإطار القانوني ليواكب التحديات الجديدة، من خلال مراجعة القانون 09.08 المتعلق بحماية المعطيات الشخصية، ووضع تشريعات خاصة بأنظمة الذكاء الاصطناعي. كما يؤكد على أهمية دعم المقاولات الناشئة عبر إحداث صندوق استثماري مشترك، وتقديم تحفيزات ضريبية ومالية، وملاءمة ميثاق الاستثمار مع خصوصيات الابتكار الرقمي. ويرتبط هذا التوجه بتطوير البنية التحتية الرقمية وتيسير الولوج إلى شبكات عالية الصبيب، إلى جانب تعزيز الأمن السيبراني، وتشجيع انفتاح البيانات العمومية.

أما على مستوى التكوين والبحث، فيوصي التقرير بإدماج الذكاء الاصطناعي في التعليم الجامعي والتقني، مع العمل على سد الخصاص في الكفاءات العلمية والتقنية، وتوفير برامج تكوين متعددة التخصصات تشمل البعد القانوني والفلسفي والأخلاقي، قصد تكوين جيل جديد من المهنيين القادرين على مواكبة التحول الرقمي بشكل نقدي ومسؤول.

إن الذكاء الاصطناعي لا يجب أن يُختزل في بعده التكنولوجي المحض، بل يجب أن يُنظر إليه كأداة لإعادة بناء السيادة الرقمية، وتحقيق تنمية عادلة ومستدامة. ومن هذا المنطلق، فإن مستقبل المغرب في هذا المجال يتوقف على القدرة الجماعية على إرساء حوكمة رشيدة، تقوم على التنسيق بين الفاعلين، والتفكير الاستراتيجي طويل المدى، واستباق التحولات بدل التفاعل المتأخر معها. فالإقلاع الرقمي المنشود لن يتحقق إلا بتملك معرفي وتقني حقيقي، وببناء نموذج تنموي يرتكز على الذكاء لا فقط الاصطناعي، بل الذكاء الاستباقي، والتدبيري، والسيادي.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟