لاريب أن تراكم العلوم والمعرفة، يعد من بين أهم وسائل التنمية والتقدم، حتى بات ما يمتلكه بلد ما من المتراكم منها في حوزته من المعرفة والعلوم، معيارا لمستوى تقدمه في شتى الميادين، العلمية والتقنية والصناعية والتجارية.
ولأهمية العلوم والمعارف المعاصرة، باعتبارها عنوانا للقوة، فقد دأبت الدول الصناعية المتقدمة على احتكار العلوم والمعارف والتقنيات، بما تراكم لديها من رصيد معرفي هائل يفوق التصور . ولهذا السبب فإنها حرصت على أن تكون مبدعة للعلوم والمعارف والتقنيات، ومصدرة لها إلى البلدان النامية في نفس الوقت، حيث سادت معاييرها المعدة بلغتها، واللغة الإنجليزية بالذات في التلقي، والتعاقد والاستخدام والتطبيق والتشغيل لدى المستهلكين، والمتلقين، مما عمق التبعية العلمية والمعرفية للأسواق العالمية.

 1
وظيفةُ العلاقات الاجتماعية هي استعادةُ الجَوهر الإنساني مِن تقلُّباتِ الحياة وانقلاباتِ المشاعر ، وتَحويلُه إلى واقع مُتفاعل معَ مركزيةِ اللغة في المجتمع ، ومركزيةِ المجتمع في تاريخ المعنى ، مِمَّا يُنتج ظواهر ثقافية حاملة للأفكارِ الإبداعية والرموزِ المعرفية والأسئلةِ المصيرية ، فتنتقل فلسفةُ السلوكِ الحياتي مِن الأنماط المُتوارثة والقوالب الجاهزة إلى البُنى العميقة في الأحداث اليومية والوقائع التاريخية ، وهذا مِن شأنه تحقيق التوازن بين الواقع والأفكار ، وتَوحيد القواعد التفسيرية للحقائقِ الاجتماعية والخصائصِ النَّفْسِيَّة والآلِيَّاتِ المُرتبطة بالرموز اللغوية . وعمليةُ التَّوحيد لا تعني إلغاء الطُّرُق الفَرْعية في فلسفة البناء الإنساني ، اجتماعيًّا ونَفْسِيًّا ولُغويًّا ، وإنَّما تعني مَنْعَ الطُّرُق الفَرْعية مِن طَمْس الطريق الرئيسي ، واستبداله ، والحُلول مَكَانَه . وكُل طريق _ سَوَاءٌ كان رئيسيًّا أَمْ فَرْعِيًّا_ يُمثِّل أهميةً بالغة في المنظور الاجتماعي على الصَّعيدين الواقعي والنظري، لأنَّ تَعَدُّد الطُّرُق الفكرية يُعطي زخمًا للجهود الإنسانية الرامية إلى بناء نظريات ثقافية تُعيد تفسيرَ حركة التاريخ، لتحويلها إلى طاقةٍ عقلانية تَربط بين السبب والنتيجة ، وطبيعةٍ لغوية تربط بين المَتْن ( مَركز المعنى التاريخي ) والهامش ( العُنصر المُغيَّب في التاريخ ) . وإذا قامت اللغةُ بتحليل العلاقة بين المَتْن والهامش في مسارات التاريخ، فإنَّ الإنسان سيصل إلى الحقيقة التاريخية، ويُعيد تَكوينَ الزمان والمكان ذهنيًّا.

- المشكلة الحقيقية الوحيدة في التاريخ هي مشكلة المفاهيم- .ب.فاين.
التاريخ بالتعريف المتواضع عليه، والشائع منه أقرب إلى الحسّ المشترك، هو دراسة أحداث وقعت في الماضي بهدف فهم الحاضر واستشراف المستقبل.
غير أن التعريف المباشر يخفي تعددية التحديد الإبستمولوجي للتاريخ، والمعرفة بموضوعه، وبأدوات إنتاجها، وهو ما قد يفسر تنوع التيارات والمدارس التاريخية، وتباين منطلقاتها النظرية، ومناهجها، ومقارباتها، وغاياتها، بل منها ما يطرح السؤال حول مشروعية الاعتراف بحقل فكري يستحق نعته ب "علم التاريخ" .
يعتبر المفكر بول فاينPaul Veyne أحد أبرز الباحثين الذين انشغلوا بمثل ذلك السؤال، وإذا كان لا يخفي إعجابه بإسهام مدرسة الحوليات وإضافاتها الجريئة، فإنه يرى في التاريخ نوعا من السرد الأدبي الذي يحاكي الكتابة الروائية، وواحدا من الانتاجات الفكرية غير المؤذية التي أبدعتها كيمياء العقل.

المجتمع بوصفه خيالا
مع البنينة الجديدة للمجتمع المغربي في القرن الثاني عشر الميلادي نتيجة التطور السياسي والاقتصادي وبروز طبقات وفئات أخرى، تطورت – كما سيكتب أكثر من مؤرخ- مظاهر البذخ والسمر والمجالس ، كما كثُرت السرقة والغش والتدليس، وانتشر – مثلما سيروي ابن عذارى- السحرة وأهل التخيّل والتنبؤ بالغيب، والذين يظهرون شيئا من غير فعله. وفي المقابل، كان الزهد والتنسك، وانتشرت رباطات وزوايا ومدارس في أهم المدن، بفاس ومراكش وأغمات ووريكة وقصر كتامة وسجلماسة وسبتة وسلا، وفي بعض البوادي أيضا، تعبيرا عن هذه التعددية التي يراكمها المجتمع في جميع الاتجاهات.
كان هذا التصادي والصراع الذي أفرزه المجتمع المغربي في العهدين المرابطي والموحدي، بين طبقتين متناقضتين، شرطا ضمن هذه التحولات، الأولى للحكام المدافعين عن العقيدة لما لها من تراتيبة اجتماعية، ومعهم أهاليهم ورجال الدولة وأرباب البيوت الكبرى وتوابعهم، ويلحق بهم فئة مقربة وسطى تضم الفقهاء والعلماء والأدباء والمغنين وبعض التجار والصناع؛ أما الطبقة الثانية فهي من عامة المجتمع،من الفلاحين والفقراء وأصحاب الحرف وعامة الشعب من المجتمع السفلي، ومعهم الأدباء والفقهاء والمتصوفة.

لماذا عرْضُ هذا الكتاب الذي يدور حول شخصية الباحث والأستاذ الجامعي غرشوم شوليم؟ يُعدّ شوليم من أعلام الفكر اليهوديّ (1897-1982)، وقد خلّفَ أثرًا واضحًا في مسار الدراسات اليهودية المعاصرة، بفضل أبحاثه التأصيلية في الموروث الصوفيّ العبريّ، وفي الثقافة اليهودية المعاصرة بشكل عامّ. لكنّ الإسهام الأكبر لشوليم في مشاركته في قيام الجامعة العبرية في القدس، وفي تمثيله للصهيونية الثقافية النقدية على مدى فترة حاسمة. نتابع مع الكاتب دافيد بيالِه، أستاذ التاريخ العبريّ في جامعة كاليفورنيا (دافيس)، إعادة كتابة سيرة الرجل، من خلال إبراز دوره الثقافي داخل إسرائيل وخارجها، وقَبل قيام الدولة العبرية وبَعده.

1
تفسيرُ التاريخ يُشكِّل تاريخًا جديدًا للمَعنى الوجودي، وحياةً مُوازية لحياة الإنسان . وبما أن عملية التفسير تشتمل على الأسئلة المصيرية والأجوبة المنطقية ، فإنَّ التاريخ سَيَؤُول إلى تواريخ مُتعدِّدة ومُتكاثرة . إذْ إنَّ كُلَّ تفسير للتاريخ ولادةٌ جديدة له، وكُل ولادةٍ ظاهرةٌ معرفية تمتاز بالاستمرارية في سُلطة الأفكار، وتتمتَّع بالدَّيمومة في الظواهر الثقافية . وهذا يعني أن التاريخ يُولَد باستمرار كنشاط ذهني خارج الزمان والمكان . وهذا الانبعاثُ التاريخي الدائم يَمتلكُ القُدرةَ على التواصل معَ عوالم الإنسان الداخلية بلا انقطاع ، ويستطيعُ تجميعَ قواعد المنهج الاجتماعي المتناثرة في البيئات المُحيطة بالإنسان بلا توقُّف ، مِمَّا يدلُّ على أن التاريخ يَكتسب شرعيته من داخله ، ولَيس مِن علاقته مع المراحل الزمنية . ومعَ أنَّ التاريخ يتماهى مع بُنية الزمان المركزية ، وطبيعةِ المكان الرمزية ، إلا أن يَمتلك وُجودًا خاصًّا به عابرًا للتجنيس ، ومُتَجَاوِزًا للصراع الوهمي بين الماضي والحاضر . ومِن أجل حمايةِ التاريخ مِن التَّشَظِّي الوجودي والتَّشَعُّب الفكري ، وإحكامِ السَّيطرة على وِلادات التاريخ المُتواصلة، ينبغي ربط تفسير التاريخ بالتحليل النَّفْسي للأفراد والجماعات، للكشف عن منطقِ التاريخ، والوَعْيِ العميق الذي يُحرِّك الأحداثَ ، ويُحدِّد معالمَ الهُوية التاريخية قلبًا وقالبًا ، وهذا مِن شأنه تحليل الخِطاب المعرفي القائم على أنسنة التاريخ ( إضفاء الصفات الإنسانية على التاريخ ) ، وُصولًا إلى تجسيد تاريخ الإنسان ذهنيًّا وواقعيًّا. وهذه العلاقةُ الفلسفية التبادلية بين التاريخ والإنسان تُشير إلى أنَّهما كائنان حَيَّان، يتحرَّكان بشكل مُتوازٍ معَ مصادر المعرفة ومرجعيات الثقافة ، ويَلتقيان في مجالات التفكير العقلاني ، ومنظومة الأخلاق، والتجارب الاجتماعية، وأشكال الوَعْي ، وانعكاسات المعنى على مسار الحركة الفكرية في المجتمع.

إن التركيز على الحاضر، أو على الماضي القريب جدا، يجعلنا عاجزين عن تفسيرهما، مِثل عالِم بحار يرفض رفع عينيه إلى النجوم بحجة أنها بعيدة جدا من البحر، وحينها لن يكون بوسعه أبدا معرفة أسباب المد والجزر. هكذا يدعو مارك بلوخ، المهووس بمهنة المؤرخ، قارئ شهادته حول الهزيمة الغريبة لفرنسا للبحث، وهو يستقصي الحقيقة، في أسباب الاندحار السريع أمام ألمانيا النازية، وتجنب التفسيرات السطحية والمتهافتة .
بعد الانسحاب من الجبهة، والعودة إلى درس التاريخ في جامعة السوربون شهر ماي 1940 كتب مارك بلوخMarc Bloch شهادته حول الحرب الثانية، وكان يتمنى أن يبقى لديه، كما الشعب الفرنسي، دمٌ لبذله في سبيل الوطن، وفي الوصية كان الرجاء لديه في أن تُنقشَ على قبره عبارة: " كان يعشق الحقيقة" .
نص الشهادة L’étrange défaite, témoignage الذي جاء بنبرة تأنيب الضمير لمواطن يعشق وطنه، صدرت الترجمة العربية له في طبعتها الأولى عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن سلسلة ترجمات في شهر ماي 2021،وهي للباحثة في العلوم السياسية عومرية سعيد سلطاني .الكتاب من الحجم المتوسط (184صفحة).
يقدّم المترجمُ شهادة المؤرخ مارك بلوخ من خلال ثلاثة فصول، الأول منها تعريف بالشاهد، والثاني تحت عنوان شهادة مهزوم، ثم الثالث بعنوان فرنسي يفحص ضميره، مع وصية المؤرخ التي كتبها بتاريخ 18مارس1943.(توفي مارك بلوخ يوم 16يونيو 1944).

هل يمكن اعتبار القرن الثاني عشر الميلادي بالمغرب، مرحلة جديدة في تشكّل مغرب آخر، ثقافيا وسياسيا واجتماعيا ؟
تمتلك هذه الفرضية مجموعة من العناصر التي تؤكدها، انطلاقا مما استجدّ من تطور وتحوّل ملموسين، وذلك بالخروج من حالة الممالك المتفرقة، ضمن نفس المجال المشترك تاريخيا، إلى نظام الدولة والمخزن وتوحيد المذهب، واستحداث عاصمة سياسية معلومة، ونشوء مدنية وحركة ثقافية في عدد من المدن المغربية، وترسيخ أهمية التبادل الثقافي بين المغرب والمشرق وعدد من الرباطات في كل مكان، بلغ صداها كل المغرب والمشرق، وكذلك صدور تأليفات في شتى العلوم جوهرها الأنا والمجتمع المغربي من داخله، عقلا وشعورا، بعدما عاش لحظات تحول ذاتي بطيء ومتقطع، عنيف في كثير من الأحيان ولكنه مُدهش، منذ مرور حانون القرطاجني على السواحل الأطلسية وبعده الرومان والوندال والبيزنطيين. تاريخ كان فيه المغرب، في الأعم، فاقدا لتلك المبادرة المستقلة والموحِّدة، وربّما لرؤية ناضجة، كما لم يستقل ثقافيا لتكون لديه ثقافة ومؤرخين وأدباء يحكون عنه باعتباره أرضا وشعبا وليس هامشا في وجود المحتل.