الباحث عن قاسم مشترك في أي مجتمع متعدد لا يمكنه أن يستقر سوى على مفهوم المواطنة، فهناك موجتان سائدتان في جميع مجتمعاتنا العربية من خلال القراءات و البحث في التيارات على تنوعها..
الدين بين الأصولية والعلمانية
الأولى: الدينية أغلب تياراته حبيسة "الخطاب الأصولي" الذي يرفض التعددية الثقافية والدينية عدا التيار التجديدي التنويري الذي أعاد التعددية والعقلانية لموقعها في خريطة الثقافة الإسلامية وأدبيات الخطاب الإسلامي،
الثانية: العلمانية، التي تعتبر غالبية تياراتها مفعمة بالإيديولوجيا ومعادية كل ماهو ديني عدا التيار الذي أصبح يعرف بالمتدين أو المعنوي الذي يعادي رجال الدين و الملتزمين مع محاولة إحتواء بعض المتسائلين داخل الساحة الدينية.
هذان العنوانان كمؤثرين مركزيين في الواقع العربي، شكلا إلى حد كبير المأزق الثقافي الذي تعاني منه مجتمعاتنا، مما جعل وعي إنساننا رهن الصدامات الثقافية والمشاكل النفسية لدى جل روادها واقطابها.
الموجة الأولى سيطر عليها تيار الأصولية التكفيرية، الذي عطل مستويات الوعي الديني كلها و خنق الواقع ضمن بوتقة التاريخ و ارتداداته و حرم السؤال، و لم يتجه التكفير لغريمه العلماني فقط بل كان تركيزه أيضا على الديني التجديدي التنويري بشتى تمثلاته و مذاهبه و مطارحاته، فحرمت الجماهير الدينية العربية من نسيم الفلسفة و أسئلتها القائمة على هم إنساني و ضمأ مدني حضاري، وإكتفى التيار الأصولي التكفيري بتجديد فنون تلهيب المشاعر الدينية عبر تشذيب الصواعق وصناعة العنف وترسيخ معالم الدوغمائية الدينية عبر تبرير التطرف بنفي الآخر و تسقيطه وشيطنته ثم تصفيته التاريخية والنفسية و الوجودية الاجتماعية.. بينما الموجة الثانية تراوحت بين خطين:
1. سليل المركزية الغربية عبر اسقاطات تاريخية على الحالة العربية و الإسلامية من خلال خطاب إيديولوجي تبريري فوقي لا يولي اهتماما بسؤال الهوية الثقافية الذاتية لدى شعوبنا، فهو من هذه الناحية يرضي الروح الأيديولوجية لديه من خلال نقد معتقدات المجتمع ورؤيته للحياة سعيا منها الى مطابقة التجربة الغربية مع الكنيسة و اللاهوت المسيحي على الواقع العربي و الإسلامي و تمييع العاطفة الدينية، كل هذا بلباس علمي فلسفي على الرغم من أنها مخالفة لكل ذلك.
2. بينما العلمانية المؤمنة أوالمعنوية نهجت سبيلا ينطلق بين العلمانية والعقيدة العلمانية و هذا إشكال جوهري بين ماهو إجرائي وما هو عقيدي داخل المعبد العلماني، مما صور هذا التيار العلماني كدين بديل يمكن سبر أغواره عبر تتبع التاريخ الثقافي السياسي و الإجتماعي و الإقتصادي لفكرة العلمانية في العالم العربي الحديث و المعاصر، كما أنه يتقارب في بعض التقاطعات المعرفية مع التيار التجديدي الديني..
محنة وعي المواطنة:
من المسائل التي باتت تطرح بقوة في سياقنا الراهن مسألة الصراع بين الفكر الديني الأصولي والعلمانية، حيث تطرح، حسب تقديري، في مشاريع تجديد الفكر الأيديولوجي داخل تيارات الأصولية الدينية و العلمانية المؤمنة، ومنها علاقة الدين بالمفاهيم السياسية والاجتماعية الحديثة و دور رجال الدين في الاجتماع العام و براديغم فهم الدين البديل؛ وذلك تحت ضغط صور الإخفاق والفشل التي صاحبت تجارب كل منهما من طنجة الى جاكرتا منذ إنهيار الاتحاد السوفياتي إلى الربيع العربي، وبصرف النظر عن طبيعة إعادة إنتاج الأفكار و المشكلات و المآزق وتعدد مستويات وزوايا النظر إليها، حيث عبر مسألة وعي المواطنة كتمدن، نجد انفسنا أمام تناقضات مصدرها أدلجة الدين أو تهميشه عبر بديل إيديولوجي أيضا، بينما المدخل الأساسي و العقلاني في تنمية وعي المواطنة من منظور ثقافي-إجتماعي هو خيار الاعتدال الثقافي الذي يتبناه تيار التجديد الديني الأصيل، و الذي يسعى لبناء وعي ديني مدني يعكس ماهية الدين و دوره و مشروعه الحضاري الأمثل كما أنه يسعى جاهدا إلى تنقية التراث ووالموروث الثقافيين الدينيين لدى مجتمعاتنا من أجل تجاوز معاملات التخلف و الضمور الحضاريين ...
يبقى أننا بحاجة ماسة اليوم لنقاش حول إصلاح مؤمن بالدين و التجديد و التنوير يعكس التمدن والرقي و التحضر في ثقافتنا العربية الإسلامية، ويبحث في شروط حضارة العدالة, ويبرز معالم فلسفة العمران في الدين نهجا و سلوكا، كل ذلك يشكل بديلا حقيقيا عن جدالات عقيمة ضيعت على مجتمعاتنا فرص العيش المشترك الكريم و المواطنة السليمة، كما كرست -تلك الجدالات- ثقافة الكراهية بين أبناء الوطن الواحد و الأمة الواحدة، حتى أصبح بديل الدين هنا هو الخلاص بينما هناك عند العم سام عاد الدين للنقاش حتى لا يفقد التمدن بريقه فيما بعد الحداثة، ويبقى السؤال متى نجدد وعينا للدين؟!
*كاتب وباحث في الفكر