السنة النبوية وسؤال الشرعية التشريعية؟ (الجزء الأول) - محمد نيات

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

   أن تدرج السنة النبوية كنص مقدس، يضاهي في حجيته النص القرآني، وأن يمنحها فقهاء الإسلام الشرعية التشريعية، على الرغم من كل المؤاخدات الموضوعية التي ووجهت بها، إن قديما أو حديثا، فإن ذاك ما يتطلب تسليط الضوء على مناطق العتمة العديدة التي تعتري تراثنا الديني.

  يجمع فقهاء الإسلام أنفسهم، على أن السنة النبوية ليست إلا ظنية الثبوت، كما وأنها ليست كلها قطعية الدلالة.  يقول النووي: " وذكر الشيخ ( أبو عمرو بن الصلاح ) أن ما روياه أو أحدهما (البخاري ومسلم) فهو مقطوع بصحته، والعلم القطعي حاصل فيه، وخالفه المحققون والأكثرون، فقالوا: يفيد الظن ما لم يتواتر."(1) . وحيث إن الاختلاف هو السمة المميزة في كل القضايا التي خاض فيها رجال الدين المسلمون، فإننا نجدهم هنا وقد اختلفوا كذلك فيما إن كانت المرويات الحديثية قطعية الثبوت أم ظنية. إلا أن النووي يؤكد  في هذا النص، على حقيقة أن أكثرية " أهل العلم" ، تذهب إلى كونها ظنية الثبوت ما لم تكن متواترة. وهذا ما أكده الفقيه الأزهري محمد شلتوت حين قال " وإذا كانت العقيدة لا تثبت إلا بنص قطعي في وروده ودلالته، كان لا بد من تبيين المبادئ التي تقوم عليها قطعية السنة أو ظنيتها. وأول ما يجب التنبه إليه في هذا المقام، أن الظنية تلحق السنة من جهتي الورود والدلالة... ومتى لحقت الحديث على أي نحو ...فلا يمكن أن تثبت به عقيدة يكفر منكرها، وإنما يثبت الحديث العقيدة وينهض حجة عليها إذا كان قطعيا في وروده وفي دلالته " (2)  

  وإذا ما نحن علمنا؛ أن نسبة الأحاديث المتواترة لا تكاد ترى بالمقارنة مع أحاديث الآحاد، إذ لا تتجاوز في أحسن الأحوال خمسون حديثا من أصل آلاف الأحاديث المتضمنة بالمروية السنية المعتمدة؛ (مسند أحمد وحده يضم بين دفتيه ما يقارب 38 ألف حديث) خلصنا؛ إلى حقيقة أن المدونة الحديثية السنية ظنية الثبوت، ولا يصح بالتالي الأخد بها، وهذا بمعايير أهل السنة أنفسهم، وتطبيقا لقاعدتهم الفقهية القائلة بــ: "ما تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال". وهذا ما يحيلنا على حجم معضلة التشريع في الإسلام.

  ولعل أسئلة مشروعة تطرح نفسها هاهنا؛ إذ كيف يعقل أن نجعل من السنة النبوية "وحيا إلهيا ثانيا" كما أصل لذلك فقهاء الإسلام، وهي ظنية الثبوت؟ وكيف يمكن اعتبارها "وحيا إلهيا ثانيا" وهي تخالف الوحي الأول (القرآن) في العديد من مواضعها؟ وكيف يمكن منح الشرعية التشريعية لأصل من دون أن يكون قطعي الثبوت؟

   لقد ووجهت المدونة الحديثية السنية بالكثير من الانتقادلات إن قديما أو حديثا، تخص بالأساس ما تضمنه مثنها من غرائب وأساطير وأحكام، تخالف في العديد منها القرآن نفسه، وتخالف العقل والعلم والفطرة الإنسانية السليمة، وتشرعن للظلم، والقهر، والميز العنصري، والعنف، والكراهية... فكيف يمكن القبول مثلا؛ بمنظومة فقهية تشرعن قتل المرتد، بناء على حديث تشوبه عيوب كثيرة على مستوى السند كما المثن (من بدل دينه فاقتلوه)، في الوقت الذي يؤكد فيه نص قرآني صريح الدلالة،  على حرية العقيدة (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، فأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟)؟ سورة يونس الآية 99.

 

    أن يتم التعامل مع السنة النبوية بكل عيوبها تلك، كوحي من الله، وأن تصنف كوحي ثاني كما أصل لذلك الشافعي، وتبعه رجال الدين من أهل السنة والجماعة، وأن ترقى تبعا لذلك إلى مرتبة النص المقدس الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتدرج كأصل من أصول الفقه، و مصدرا من مصادر التشريع في الإسلام، فذاك ما يعني أن يد البشر قد امتدت للتشريع باسم الإله، وأن البشر قد زاحموه في مهمته التشريعية، وتقمصوا دوره الحصري ذاك، حتى أضحى من الصعب جدا التفريق ما بين التشريع الإلهي الخالص، وبين التشريع البشري المقحم. وهذا ما يقودنا إلى حقيقة أن التراث الديني الذي بلغنا اليوم، تتخلله العديد من نقاط العتمة الواجب تسليط الضوء عليها.

   إن قوة التأثير الخارقة، التي يمارسها تراثنا الديني، في تشكيل العقل الجمعي المسلم، وبالنظر لخصوصيات هذا العقل النصي الدوغمائي المنغلق، المشدود دوما إلى الوراء، وإلى ماضي ذهبي طوباوي متخيل، والمعادي للحداثة والتطور...، والذي أصبح يشكل تبعا لذلك؛ حاجزا ذاتيا حال ويحول دون انخراط المسلمين في عصرهم، هو ما يجعل اليوم من مهمة إعادة قراءة تراثنا الديني؛ قراءة علمية وموضوعية، أولوية حضارية بل وإنسانية، من شأنها تخليص العديدين من سطوة فكر متخلف ومتحجر، يحول دونهم ودون الحياة الكريمة التي ارتضاها الله للإنسان، بما هو أفضل مخلوقاته.

 

   إن المدخل الذي لا محيد عنه في أي محاولة لقراءة تراثنا الديني، القراءة العلمية الموضوعية الكفيلة بنزع القداسة على كل مكوناته البشرية؛ هو فحص كل المسلمات واليقينيات التي فرضها رجال الدين المسلمين فرضا، والتي أدرجوها ضمن دائرة ما يعرف بــ " المعلوم من الدين بالضرورة "، والتي أسسوا عليها منظومتهم الفكردينية.

   هناك قاعدة منهجية متفق على علميتها ورصانتها، تؤكد على حقيقة أنه متى كانت المنطلقات خاطئة، متى كانت النتائج بالضرورة خاطئة. وهذا خيار منهجي من ضمن خيارات أخرى، يمكن أن يتبناه الباحث في التراث الديني الإسلامي، يركز من خلاله على فحص المقدمات التي انبنى عليها هذا التراث، للتأكد من مدى صحتها وشرعيتها؛ فمتى نجح الباحث في التأكيد على أن المنطلقات التي تم الارتكاز عليها كانت خاطئة، متى تأتى له البرهنة على خطأ كل النتائج المتوصل إليها بالضرورة،  وبالتالي على تهافت كل مضامين ذلك التراث الديني.

  في هذا الإطار؛ وعبر تبني هذه الخطة المنهجية، تندرج محاولتنا هاته في نقد التراث الديني السني، من خلال التركيز على فحص مسلماته اليقينية التي أسس عليها خطابه الديني، ومنظومته الفكردينية، لفحص مدى سلامتها المنهجية، وشرعيتها الدينية، وملابسات إقرارها ضمن دائرة المعلوم من الدين بالضرورة، حتى يتسنى لنا في الأخير؛ الحكم على شرعية ما تم التوصل إليه من مضامين، تم دمغها بطابع  القدسية الدينية.

   إن من بين المسلمات اليقينية الرئيسية التي قام عليها الصرح الديني السني، هي تلك التي اعتبرت السنة النبوية وحيا إلهيا، يوازي النص القرآني في حجيته، ووثوقيته، وقدسيته، وقوته التشريعية، بل ويفوقه درجة في الكثير من الحالات؛ خصوصا عندما نجح رجال الدين المسلمون، في ابتكار الآلية المنهجية الجهنمية، التي مكنتهم ـ دون خجل أو حرج ـ  من تعطيل النصوص الدينية القرآنية الصريحة الدلالة، عبر نسخها بالنص الحديثي.

لقد كان من النتائج المباشرة لإقرار السنة النبوية وحيا إلهيا، أن أُحدث انقلاب ديني و تشريعي خطير، كان من نتائجه المباشرة؛ أن انتقل المسلمون من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث (3). ومن هنا؛ تبدو أهمية فحص هذه "المسلمة الدينية اليقينية"، التي اعتمدت كمبدأ ديني تم على أساسه بناء الصرح الفكرديني السني برمته. وهو ما سنعمل عليه في هذا المبحث، ملتزمين منهجيا؛ باعتماد النصوص والمرويات المعتمدة، من قبل أهل السنة والجماعة دون غيرها، وأن نلامس أطروحاتهم من داخل منظومتهم الفكرالدينية، وعبر توظيف جهازهم المفاهيمي، حتى نضمن ـ أو نأمل على الأقل ـ عدم تجريحهم لما سنتوصل إليه من نتائج.

  1: السنة النبوية: الوحي الثاني؟

  يعتبر الشافعي أول من أصل السنة النبوية وحيا إلهيا، إذ نجده يقول: " ما فرض رسول الله (ص) شيئا قط إلا بوحي، فمن الوحي ما يتلى، ومنه ما يكون وحيا من رسول الله (ص) ويستن... وقيل: ما لم يتل قرآنا إنما ألقاه جبريل في روعه بأمر الله فكان وحيا ". (4).

   يقسم الشافعي هنا الوحي الإلهي إلى قسمين:

ـ الوحي الذي يتلى على الرسول قرآنا؛

ـ الوحي الذي لم يتل على الرسول قرآنا، ولكن ألقاه جبريل في روعه ويعني به الحديث.

  وجدير بالذكر هنا، أن ما أجمع عليه المؤمنون، منذ النشأة الأولى للدعوة المحمدية، ومرورا بعهد الخلفاء الراشدين، وحتى مجيء الشافعي، أي لمدة تناهز قرنيين من الزمن؛ هو أحادية الوحي الذي لم يعرفوا بغيره والذي هو القرآن، حتى جاءهم يوما فقيها إسمه الشافعي، ليصحح لهم دينهم، وينبههم إلى وجود وحي آخر ثاني، لم يكونوا على علم به، ألا وهو السنة النبوية.

  وإذا ما نحن سلمنا بما ذهب إليه الشافعي، من كون الحديث كان وحيا من الله يلقيه جبريل على الرسول، فمن المؤكد أن أول ما ستصطدم به أطروحته تلك؛ هو هذا الوحي الثاني نفسه (أي الحديث)، خصوصا حينما سيواجهه بنص حديثي مدموغ بأعلى درجات الصحة السنية، كونه ورد في الصحيحين يذكر أن النبي قال:" إنما أنا بشر، وإنكم لتختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه، فلا يأخذنه، فإنما أقطع له قطعة من نار ".

  واضح إذن أن " الوحي الثاني "، بما هو وحي إلهي، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بحسب ما ذهب إلى ذلك الشافعي، يهدم كل أطروحته تلك من أساسها؛ فالنبي يقر في هذا الحديث ببشريته، وبكون كلامه ليس وحيا إلهيا، بدليل أنه قد يصيب وقد يخطئ كما بقية البشر. فلو كان كل ما يقول به النبي، وحيا إلهيا يلقى في روعه، لما كان له أن يخطئ في أمر من الأمور التي كانت تعرض عليه، ولما اضطر في أكثر من مناسبة ـ كما تقر بذلك الرواية السنية المعتمدة ـ إلى استشارة أصحابه في العديد من الأمور الدنيوية، ولما كان له أن يقول ذات رواية " أنتم أعلم بشؤون دنياكم".

  ولتقريب الصورة أكثر بشأن ما يمكن أن ينتج عن التعامل بتلك المسلمة كقاعدة دينية، واعتبار كلام النبي وحيا إلهيا، وبالتالي مرجعية تشريعية ملزمة، نورد هنا الحكم الذي أقره فقهاء الإسلام كقاعدة تشريعية ملزمة، وهي المعروفة بــ " الولد للفراش "، والتي أثارت ولا تزال الكثير من الجدل بشأن معقوليتها ودقتها في تحديد الأنساب. فهذه القاعدة التشريعية تم اعتمادها بناء على رواية، تورد نتائج تحكيم نبوي بين متخاصمين تنازعا حول نسب طفل. فكان أن حكم النبي لصالح أحدهما بناء على قاعدة " الولد للفراش"، وهي القاعدة التي ثبت فيما بعد عدم علميتها ودقتها في تحديد الأنساب.

   وعلى فرض القبول بصحة هذه الرواية، فإنه من المؤكد؛ أن النبي بما هو بشر، قد يصيب وقد يخطئ فيما يقره من أحكام، كما أقر هو نفسه بذلك. فكيف يمكن والحالة هاته؛ القبول بكون كلامه وحيا منزلا من السماء؟

 ولعل أغرب ما في الأمر كله، أن تظل المحاكم في مجموعة من الدول الإسلامية، مصرة على العمل بتلك القاعدة حتى اليوم، على الرغم من كون العلم قد أثبت تهافتها وعدم دقتها في تحديد الأنساب. فقد تشبتت محكمة مصرية، بنسب ثلاثة أطفال لرجل بناء على قاعدة " الولد للفراش "، على الرغم من كونه أدلى لتلك المحكمة، بنتائج تحاليل الحمض النووي، التي تؤكد بصفة قطعية ويقينية، ألا علاقة أبوة تجمعه بهؤلاء الأطفال.

 إن إقرار الشافعي للسنة النبوية وحيا إلهيا، كان الغرض منه تثبيت المقدمة الضرورية، التي ستؤهله لتأصيلها فيما بعد، كمصدر رسمي للتشريع في الإسلام، وهو التأصيل الذي أحدث انقلابا دينيا وتشريعيا خطيرا، كان من نتائجه المباشرة؛ أن أصبحت اليد البشرية مجاورة للإله في صياغة الدين، بعد أن أصبح من الممكن جدا، استخراج أحكام دينية تكتسي صبغة القداسة، بمجرد وضع أحاديث تتم نسبتها للنبي.

   لم تكن لتمر عملية من قبيل تأصيل السنة النبوية مصدرا للتشريع في الإسلام، من دون أن تثير العديد من ردود الفعل من قبل الفرق الإسلامية المعارضة، التي حاججت أهل الحديث في ذلك، وبينت عدم شرعية ما ذهبوا إليه، وبينوا الغايات الحقيقية التي كانت من وراء إقرارالسنة وحيا إلهيا. وإذا كان صوت أهل الحديث، هو الذي كتب له أن يسمع أخيرا، بل ويهيمن على ما دونه من أصوات، فإن مرد ذلك لم يكن نتيجة طبيعية لصراع فكري شريف ومتكافئ، بل فقط لكون السلطة السياسية رجحته على ما دونه باعتباره مذهبا رسميا.

   وحيث أن التراث الديني المسيطر، لم يكن ليحقق تفوقه التاريخي ذاك، إلا من خلال دعم السلطة الحاكمة له، وفرضه فرضا بقوة السيف والاضطهاد. وحيث أن الصوت المعارض لم يكن مسموحا له بالتعبير عن نفسه، وبالتالي بانتقاد الفكر الرسمي للدولة، فإن ذلك التراث الديني، قد ظل في وضعية تعال عن النقد أو المساءلة الصريحين، كان من نتائجها المباشرة؛ أن اكتسى مع مرور الوقت صبغة القداسة الدينية.

  إن المنهجية النصية المعتمدة من قبل رجال الدين المسلمين، تجعل من الضروري أن يستند كل حكم أقروه، على نص ديني إن من القرآن أوالسنة. فهل في هذين المصدرين ما يدعم ما ذهب إليه الشافعي وهو يؤصل السنة النبوية وحيا إلهيا؟

1 ـ 1ـ :  موقع السنة النبوية في النص القرآني:

    بالرجوع إلى النص القرآني، نقف على حقيقة أنه لايتضمن أية إشارة للسنة النبوية بالمفهوم الذي أعطاه إياها فقهاء الإسلام، فقد وردت كلمة "سُنة" 16 مرة  في 11 آية، لكنها لم ترد بمعنى "السنة النبوية" كما حدده فقهاء الإسلام، بل بمعاني: سنة الأولين ـ سنة الله ـ سنن الذين من قبلكم. ويحق لنا أن نتساءل: كيف يمكن للإله أن يتجاهل السنة النبوية، وألا يذكرها  في كتابه إن تصريحا أو تلميحا، إن كان يعتبرها وحيا ثانيا؟ وكيف يمكن للإله أن يتجاهل مصدرا مهما من مصادر التشريع في الإسلام، انبنت عليه معظم الأحكام والتشريعات الإسلامية؟

   إن تجاهل الله للسنة النبوية، وعدم ذكره لها ولو لمرة واحدة في كتابه، هو دليل مؤكد على أنه لم يكن ليعيرها أية أهمية دينية أو تشريعية، إذ لا يعقل البثة؛ أن تكون " وحيا إلهيا " ومصدرا من مصادر التشريع في الإسلام، من دون أن تحضى بما يليق بمكانتها تلك في النص القرآني.

  ما يؤكد صحة هاته الخلاصة، ما ورد في القرآن دائما من كون مهمة الرسول لم تكن تشريعية بقدر ما كانت تبليغية محضة، وهكذا نقرأ مثلا  في سورة الإسراء من 73 حتى 75 " وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخدوك خليلا. ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا. إذ لا ذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا "

وفي تفسير القرطبي لهذه الآية نقرأ: " ومعنى ليفتونك أي يزيلونك... وقيل يصرفونك، والمعنى واحد. عن الذي أوحينا إليك أي حكم القرآن؛ لأن في إعطائهم ما سألوه مخالفة لحكم القرآن ". (6)  وهو ما يستفاد منه؛ أن مهمة الرسول كانت منحصرة في تبليغ ما أوحي إليه من القرآن (وليس شيئا آخر) دون زيادة ولا نقصان، وهو نفس ما يستفاد من مقدمة الآية 176 من سورة المائدة " يستفتونك قل الله يفتيكم"، ومن الآية 67 من سورة المائدة " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ".

   فمهمة الرسول تتحدد في تبليغ الرسالة ليس إلا، ولم يكن له أن يضيف أو ينقص من ذلك شيئا من عنده، وهو نفسه لم تكن له سلطة التحليل او التحريم التي هي سلطة حصرية للإله وحده، وهذا ما يستفاد من الأية 1 من سورة التحريم " يا ايها النبي لم تحرم ما احل الله لك ". فالتحليل والتحريم بحسب هذه الآية، هو مهمة إلهية حصرية، فإذا لم تكن للنبي صلاحية التحريم على نفسه، فكيف يمكنه أن يحرم على أمته؟ لقد كانت مهمته منحصرة فقط في تبليغ ما حرم الله على عباده ليس إلا، وهذا ما يستفاد كذلك من الآية 151 من سورة الأنعام "قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم ". وكذلك؛ نقرا في سورة الكهف الآية 26 ما يلي: " ولا يشرك في حكمه أحدا " وهو ما معناه بحسب تفسير الطبري لهذه الآية " لا يجعل الله في قضائه، وحكمه في خلقه أحدا سواه شريكا، بل هو المنفرد بالحكم والقضاء فيهم، وتدبيرهم وتصريفهم فيما شاء وأحب ".

 واضح إذن؛ أن الله لا شريك له في الحكم في خلقه، وان الرسول تبعا لذلك لم يكن من مهامه الحكم مع الله، بل إن مهمته كانت منحصرة فقط في تبليغ ما اوحي إليه من ربه لا أقل ولا أكثر. وواضح كذلك؛ أن سلطة التحريم بنص القرآن هي سلطة إلهية حصرية. وحيث أن النبي نفسه لم يكن له أن يحرم أو يحلل شيئا من عنده،  فكيف تأتى لفقهاء الإسلام أن يتقمصوا دور الإله في التحريم والإباحة، بناء على روايات تختلف في العديد منها مع القرآن، و تفتقد للدقة والوثوقية والمصداقية؟ ألا يعتبر ذلك تقمصا لدور الإله في التشريع، وانسلالا لليد البشرية في صياغة الدين؟

  وحيث أن النص القرآني، لم يكن ليذكر السنة النبوية بالمعنى الذي حدده لها رجال الدين المسلمون، وبالتالي لم يكن ليسعف الشافعي على تخريج "مسلمته اليقينية" التي اعتبرت "السنة النبوية وحيا إلهيا"، وبالتالي مصدرا من مصادر التشريع في الإسلام، فإننا نجده قد لجئ إلى آلية تأويل النص القرآني، تأويلا بلغ حد القراءة المتعسفة، بل وتعسفا بلغ حد اعتصار ذلك النص اعتصارا حتى يستخرج منه غصبا؛ مرادفة كلمة الحكمة الواردة في القرآن للسنة النبوية، كما سنفصل ذلك في الجزء الثاني من هذه الدراسة.

1 ـ 2 : اعتماد السنة النبوية مصدرا تشريعيا في المروية الحديثية:

   لا تحسم المرويات السنية في أمر اعتماد السنة مصدرا من مصادر التشريع في الإسلام، إذ نقف وكما جرت العادة بذلك، على العديد من المرويات المتناقضة والمتضاربة بهذا الشأن، جميعها مدموغ بطابع الصحة السنية. وهكذا نقف في المدونة الحديثية السنية المعتمدة، على ثلاثة روايات مختلفة بشأن مرجعية المسلمين بعد وفاة النبي، الرواية الأولى رواها مسلم والدارمي وابن حنبل، تقول: " تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا؛ كتاب الله وأهل بيتي ". أما الرواية الثانية، فقد رواها الإمام مالك في الموطأ، تقول " تركت فيكم أمرين، لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي " . وأما الرواية الثالثة؛ فقد وردت في صحيح مسلم وابن ماجه وأبو داود، وتقول: تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي؛ كتاب الله".

   نحن هنا أمام ثلاثة روايات مختلفة المضامين عن نفس الحدث؛ الذي هو خطبة للنبي خلال عودته من حجة الوداع في موقع يقال له "غدير خم"، فأي تلك الروايات يل ترى هي الأصح؟ ويزداد الأمر تعقيدا إذا ما نحن علمنا أن من بين رواة هذه المرويات المتضاربة؛ صحابة كبار من صنف " المبشرين بالجنة "؛ الموثوق فيهم وفي روايتهم، ومن غير الوارد كذبهم على الرسول، وهما عمر بن الخطاب وعلي بن ابي طالب. فالرواية الأولى رواها جمع من الصحابة بألفاظ مختلفة كان على رأسهم علي بن أبي طالب، والرواية الثانية رواها كذلك جمع من الصحابة بألفاظ مختلفة كان على رأسهم عمر بن الخطاب، والشيء نفسه بالنسبة للرواية الثالثة التي كان على رأس رواتها زيد ابن الأرقم.

  ولا بد من الإشارة هنا؛ أن ذاك الاختلاف لم يكن في أمر يسير وعادي، بل كان اختلافا جوهريا وفي موضوع له أهمية دينية كبرى؛ كونه يتعلق بمرجعية المسلمين التشريعية. وهكذا؛ وفي الوقت الذي تؤكد فيه الرواية الأولى أن مرجعية المسلمين هي كتاب الله وأهل البيت، يؤكد الحديث الثاني أن مرجعيتهم هي بالإضافة إلى كتاب الله؛ سنة نبيه. فيما يؤكد الحديث الثالث على أحادية المرجعية الدينية للمسلمين، والمتمثلة في كتاب الله دون غيره. فكيف يمكن والحالة هاته، ترجيح رواية على حساب رواية أخرى، خصوصا وأن كلمة واحدة مضافة أو محذوفة تعني ما تعنيه من الناحية الدينية والتشريعية؟

  ويزداد مأزق رجال الدين المسلمون ضيقا، إذا ما نحن علمنا أن آلية النسخ المعتمدة في ترجيح رواية على حساب أخرى في حال المخالفة، لن تسعفهم في هذه الحالة بالذات؛ كون الروايات جميعها هي لحدث واحد. فكيف حسم يا ترى رجال الدين المسلمون السنة هذا الأمر؟

  المؤكد؛ أنهم لم يأخدوا لا برواية علي بن أبي طالب (كتاب الله وأهل بيتي)، وهي الرواية المعتمدة لدى الشيعة، ولا بالرواية الواردة في صحيح مسلم (كتاب الله) على الرغم من كونها مدموغة بطابع الصحة السنية من الدرجة الممتازة. بل نجدهم قد أخدوا بالرواية الواردة في موطأ مالك (كتاب الله وسنتي)، على الرغم من كون هذا الحديث غير متصل الإسناد.

  لقد كان من المفترض، أن يرجح رجال الدين المسلمون، الرواية الواردة في صحيح مسلم، بالنظر إلى مكانة المصنف الدينية؛ كونه وصحيح البخاري من أصح الكتب بعد كتاب الله بحسب تصنيفهم لكتب الحديث، وهوما يعطي للنصوص الواردة فيه، والمدموغة بطابع الصحة السنية، امتيازا عن غيرها من النصوص الأخرى، وأن يعملوا تبعا لذلك، بأحادية المرجعية التشريعية، كما تؤكد على ذلك تلك الرواية (كتاب الله). لكننا نقف على حقيقة تجاهلهم لها، وعدم أخدهم بها، بل والأخد بالرواية المتضمنة بموطأ مالك (كتاب الله وسنتي)، على الرغم من العيب الذي يعتريها على مستوى السند كونه منقطع. وهذا ما يحيلنا إلى طبيعة الممارسات الانتقائية، التي كان يمارسها فقهاء الإسلام، كلما ووجهوا بنصوص متضاربة ومتناقضة، وكيف أنهم كانوا يتجاهلون بكل بساطة، كل النصوص الدينية التي لم تكن تتماشى وخطهم التشريعي، حتى وإن كانت كاملة الصحة، كما هو الحال في هذه النازلة.

   ولا بد من التذكير؛ أن من بين رواة الحديث الذي أخذ به أهل السنة والجماعة، وهم يقرون السنة النبوية مصدرا من مصادر التشريع في الإسلام، (كتاب الله وسنتي) كان عمر بن الخطاب وإن بلفظ مختلف، وهو ما يطرح إشكالا كبيرا؛ ذلك أنه، وبالنظر إلى موقف عمر بن الخطاب المعروف من السنة النبوية، كما سنوضح ذلك فيما سيأتي، فإنه يبدو من المستبعد جدا، بل ومن المستحيل أن يكون من ضمن رواة الحديث الثاني (تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله جل وعز، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم) خصوصا إذا ما نحن علمنا؛ أن عمر كان أول من رفع شعار " حسبنا كتاب الله"، حتى والنبي لا يزال على قيد الحياة. كما وأنه هو القائل: " إن الله أبقى فيكم كتابه هذا به هدى الله رسوله (ص) فإن اعتصمتم به هداكم لما كان هداه له ". وكذلك " أوصيكم بكتاب الله فإنكم لن تضلوا ما اتبعتموه ". فلو أن عمر بن الخطاب كان قد سمع بل وروى هذا الحديث، ما كان موقفه من السنة النبوية سيكون على ما ذكرته لنا الرواية السنية المعتمدة.

    واضح إذن؛ خطورة الاعتماد على الرواية الشفوية، في اعتماد نصوص دينية مرجعا تشريعيا، فقد يترتب عن إضافة كلمة واحدة فقط أو حذفها، انقلاب ديني و تشريعي خطير، يترتب عنه إقرارأحكام ما أنزل الله بها من سلطان.

  إن الرواية الشفوية، اعترتها العديد من المؤاخدات فيما يخص دقتها، ووثوقيتها، وصدقيتها، حتى في مجتمع النبي نفسه، وبين صحابة الرسول أنفسهم، والذين كذب بعضهم البعض فيما كان يروى عن النبي من أحاديث.

1ـ 3 : تجريح الصحابة بعضهم البعض بشأن رواية الحديث:

  يذكر ابن عساكر في "تاريخ دمشق" رواية وردت عن عائشة بنت أبي بكر: أن رجلين من بني عامر دخلا عليها فقالا لها: إن أبا هريرة يقول: إن الطيرة في الدار والمرأة والفرس. فغضبت من ذلك غضباً شديداً، وقالت: كذب والذي أنزل الفرقان على أبي القاسم ما قاله. إنما قال: كان أهل الجاهلية يتطيرون من ذلك ". (6)

  نحن هنا أمام رواية لها أهمية خاصة جدا، من صنف " شهد شاهد من أهلها " الموسوم دائما بارتفاع منسوب حجيته، كونها توضح بما لا يدع مجالا للشك، أن الرواية الشفوية لا يمكنها بالمطلق أن تعتمد كمصدر لكتابة مرويات تصنف في مرتبة "الوحي الثاني"، حيث نقف هنا على خلاف عميق بين شخصيتين غير عاديتين لهما مكانتهما الخاصة في مجتمع النبي؛ وهما زوجته من جهة (عائشة بنت أبي بكر)، وأبا هريرة أحد المقربين للنبي، وأحد أشهر من روى عنه الحديث من جهة ثانية. وهما للإشارة؛ عاشرا النبي عن قرب وسمعا منه الحديث أكثر من غيرهم. نقف هنا على حقيقة أن عائشة زوج النبي أقسمت على كذب أبي هريرة (كذب والذي أنزل الفرقان على أبي القاسم). وكان من المفترض، أن يجعل هذا الحادث من أبي هريرة، مجرحا لا تقبل روايته، وهذا بمعايير " علماء الحديث " أنفسهم، كونه كذب عن رسول الله بشهادة شخصية لم تكن عادية، بل هي أم المؤمنين عائشة التي أقسمت على كذبه. لكن عوض ذلك؛ نجد " علماء الحديث" قد صححوا هذا الحديث، بل وصححوا لأبي هريرة 5374 حديثا. وهو ما يعني؛ أن ما تحكم في صناعة الحديث السنية، اعتبارات لم تكن دينية، بل دنيوية سياسوية محضة كما سنعمل على توضيح ذلك في حينه.

   وإذا ما نحن حاولنا استقراء هذه المروية، فيمكننا القول أن الأمر لن يخرج عن الاحتمالات التالية:

 ـ إما أن أبا هريرة كذب عن الرسول متعمدا لغاية في نفسه؛

ـ إما أنه أخطأ عن غير قصد في نقل الرواية؛

ـ إما أن عائشة كذبت عن الرسول متعمدة لغاية في نفسها؛

ـ إما أن عائشة أخطأت غير متعمدة في نقل ما سمعته عن الرسول.

  وفي جميع الأحوال، فإن النتيجة تبقى واحدة؛ وهي أنه لا يمكن بالمطلق الوثوق في الرواية الشفوية للقبول بنصوص مقدسة، يترتب عن اعتمادها دين سماوي، وعن تطبيقها تشريعات باسم الإله، خصوصا إذا ما نحن علمنا أن هذا الحادث، كان بعد وفاة الرسول بسنوات قليلة جدا، وبطلاه هما شخصيتان عايشتاه وسمعتا منه. فكيف سيكون الأمر يا ترى بشأن الروايات التي جمعت ودونت بعد مرور قرنيين من الزمن على وفاة الرسول، وبالاعتماد على سلسلة من الرواة، أغلبيتهم الساحقة لم يعايشوه، ولم يسمعوا منه ولو كلمة واحدة؟

1ـ 4 : النهي عن كتابة السنة النبوية ودلالاته الدينية:

    تخبرنا المدونة الحديثية السنية المعتمدة، على أن النبي كان قد نهى عن كتابة السنة، كما تخبرنا نفس المدونة، على أنه رخص بكتابتها. فكيف يمكن تفسير هذا التناقض، في صنفين من الروايات المدموغة جميعها بطابع الصحة السنية؟

    نقرأ في مسند أحمد بن حنبل، عن أبي هريرة أن النبي حين سمع منهم ما يكتبونه غضب وقال: "أكتاب غير كتاب الله؟ امحضوا كتاب الله، وأخلصوه". قال أبو هريرة: فجمعنا ما كتبنا في صعيد واحد، ثم أحرقناه بالنار ".

  كما جاء في صحيح مسلم، عن أبي سعيد الخدري، أن النبي قال: لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه". وجاء في سنن الترمذي، عن أبي سعيد الخدري أيضاً، أنه قال: استأذنّا النبي في الكتابة فلم يأذن لنا."

 مقابل هذه المجموعة من الروايات الناهية عن كتابة السنة النبوية، نقف على مجموعة أخرى من الأحاديث المرخصة بكتابتها، حيث نقرأ في مسند أحمد دائما، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنّه قال: "يا رسول الله أَكْتبُ ما أسمعُ منك؟ قال: "نعم". قلت: في الرِّضا والسُّخطِ؟ قال: "نعم، فإنَّهُ لا ينبغي لي أن أقولَ في ذلِكَ إلَّا حقًّا".  

  ونقرأ كذلك حديثا آخر، أخرجه أبو داود ( تحت رقم 3646 ) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال " كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله (ص) أريد حفظه، فنهتني قريش عن ذلك، وقالوا: تكتب ورسول الله (ص) يقول في الغضب والرضا، فأمسكت حتى ذكرت ذلك لرسول الله (ص)، فقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق ".

  لدينا هنا مجموعتين من الأحاديث المتضاربة مضامينها، كلاها مدموغة بطابع الصحة السنية، بعضها ينهى فيه النبي عن الكتابة عنه، فيما يرخص في المجموعة الثانية بذلك. فكيف يمكن تفسير هذا الأمر؟ وبأي الأحاديث عمل رجال الدين المسلمون؟ وكيف تم تفسير عملية الترجيح؟

   نقف اليوم على حقيقة أن الخزانة الإسلامية السنية، متخمة بمصنفات السيرة النبوية وبكتب الحديث، بما يعني؛ أن النصوص المرخصة بكتابة السنة، هي التي تم الأخذ بها في نهاية المطاف. فكيف فسر رجال الدين هذا الأمر؟

    لقد لجئ رجال الدين المسلمون، إلى العديد من التخريجات، لدرء تعارض النصوص الحديثية فيما يخص أمر كتابة الحديث، وترجيع كفة تلك المرخصة بكتابته، يمكن الحديث عنها كما يلي:

ـ التخريجة الأولى: كون النبي قد منع بداية الأمر الكتابة عنه، ثم رخص بذلك في مرحلة لاحقة. فكان أن اعتبروا تبعا لذلك؛ أن الأحاديث المرخصة بالكتابة، قد نسخت تلك الناهية عنها، على اعتبار أنها جاءت متأخرة زمنيا عن المجموعة الأولى.  ومعلوم أن النسخ؛ هو إحدى الآليات المنهجية التي ابتكرها رجال الدين المسلمون، لدرء ما تعارض من نصوص القرآن أو السنة، ولترجيح بعض النصوص وتعطيل أخرى.

   لقد تضمنت كتب الحديث السنية، العديد من المرويات المتناقضة والمتعارضة، كنتيجة طبيعية لاعتماد  منهجية خاطئة، في عمليات تجميع الحديث وغربلته وتصحيحه؛ فقد أولى رجال الحديث الأهمية الكبرى للسند على حساب المثن، تحت التأثير المباشر للصراعات السياسية المذهبية التي عرفها تاريخ الإسلام، فكانوا لا يأخدون الرواية إلا ممن ثبتت موالاته مذهبيا وسياسيا إلى مجموعتهم. وهكذا؛ أصبحت الرواية صحيحة متى كان السند موثوقا فيه، بغض النظر عما يتضمنه المثن، حتى أن نفس المروية قد تقبل بسند و تضعف بسند آخر لدى نفس جامع الحديث. وهوما أفضى في نهاية المطاف، إلى تضمين كتب الحديث بما في ذلك كتب الصحاح، مجموعة من المرويات الغريبة، والعجيبة، والمتناقضة فيما بينها، بل والمتناقضة مع النص القرآني نفسه. فلم يكن والحالة هاته؛ أمام رجال الدين المسلمين، لدرء تعارض الحديث، إلا أن ابتكروا آلية النسخ للتغطية على ما اعترى تلك النصوص من تناقضات، بل وأسسوا علما خاصا لهذه الغاية هو ما يعرف بـ " تأويل مختلف الحديث".

  إن آلية النسخ الرهيبة تلك التي اعتمدها رجال الدين المسلمون، مكنتهم من تعطيل كل النصوص التي لا تتماشى وخطهم التشريعي سواء كانت قرآنية أم نبوية. وهكذا؛ فقد عمدوا إلى نسخ الأحاديث الناهية عن الكتابة بالأحاديث المرخصة بذلك، تمهيدا لمنحها الأهلية التشريعية التي ستمكنهم من استخراج ما شاؤوه من احكام.

    صحيح جدا أن النبي قد تراجع في العديد من المناسبات، عن أوامر أو نواهي كان قد أقرها في مرحلة سابقة، لكن ذلك التراجع كان يأتي دوما بصيغة واضحة، ولا مجال فيها للتأويل أو اللبس؛ وهكذا نقرأ مثلا  في حديث ورد في الصحيحيين أن النبي قال: " كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور، فزورها"، وحديثا آخر رواه مسلم في صحيحه عن الجهني أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاليا أيها الناس إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا "

  نلاحظ إذن؛ أن صيغة النسخ  في هذين الحديثين هي واضحة تمام الوضوح، فالنبي يشير أولا إلى ما كان قد أقره في السابق، ثم يعقبه لاحقا بصيغة النسخ الصريحة التي تفيد أن ما كان قد أقره أصبح لاغيا ولم يعد معمولا به، ثم يؤكد بعد ذلك على الحكم الجديد الذي سيتم العمل به. وهذا ما لم نجده في كل الأحاديث المصرحة بكتابة السنة النبوية، فهي لا تتضمن أية إشارة إلى كون النبي قد سبق له أن نهى عن الكتابة عنه، ولا تتضمن صيغة النسخ الواضحة التي وجدناها في الحديثيين اللذين استشهدنا بهما أعلاه.

  فإذا كان النبي، قد أوضح إلغاء أمر بأمر آخر، بصيغة واضحة وصريحة ولا لبس فيها، في أمور دينية ثانوية، كما هو شأن زيارة القبور، فكيف يمكن تفسير عدم توظيفه لصيغة النسخ الصريحة تلك، في أمر ذا أهمية بالغة، يخص مصدرا من مصادر التشريع في الإسلام، بل ووحيا إلهيا كما قال بذلك رجال الدين المسلمون؟

   ـ التخريجة الثانية : لم يشر بعض " أهل العلم " الآخرين، إلى وجود أحاديث ترخص بكتابة السنة النبوية، كانت قد نسخت الأحاديث الناهية عن كتابتها، وإنما اعتبروا أن النهي عن كتابتها لم يكن مطلقا، بل خاصا فقط في عدم كتابتها مع القرآن في نفس الصحيفة خوفا من اختلاطهما، حيث نقرأ عند جلال الدين السيوطي: " وكان النهي...حين خيف اختلاطه بالقرآن، فلما أمن ذلك أذن فيها وقيل مخصوص بكتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط فيشتبه على القارئ". (7)

    يقدم لنا السيوطي هنا؛ إحدى التخريجات التي ذهب إليها بعض رجال الدين المسلمون، للتأكيد على صحة ما ذهبوا إليه من وجوب كتابة السنة، فهم يذكرون أن الرسول إنما نهى عن كتابتها في نفس الصحيفة مع القرآن، وذلك خوفا من اختلاطهما، وأنه وتبعا لذلك؛ لم ينه عن كتابة السنة في صحف مستقلة.

  وحيث أن المنهجية النصية الأصولية المتبعة، تقضي بأن يتم دعم كل قول قالوا به بنص ديني معتمد، حتى يكتسب قوته الحجية، فإننا نجدهم هنا يخالفون منهجيتهم تلك، فهم  لم يشيروا إلى ما استندوا عليه من نصوص دينية، تدعم ما ذهبوا إليه من كون النهي عن كتابة السنة النبوية، كان محصورا في عدم كتابتها والقرآن في صحيفة واحدة. كما وأن لجوءهم إلى هذه التخريجة، على الرغم من عدم وجود نصوص دينية تدعمها، يؤكد على حقيقة جلية؛ وهي المتمثلة في عدم علمهم بالأحاديث التي رخص فيها الرسول بالكتابة عنه، كونها لم توضع إلا لاحقا. فلو كانت تلك النصوص معلومة وموجودة، لاحتجوا بها ولما اضطروا إلى ابتكار تلك التخريجة من الأصل.

  ولا بد من التأكيد هاهنا، وبالاستناد على المرويات السنية المعتمدة نفسها، أنه لم يكن من الممكن إطلاقا، أن يختلط القرآن بالسنة، بالنظر إلى كل تلك الإجراءات الاحترازية الصارمة التي همت النص القرآني، بدء من اعتماد كتاب للوحي موثوق في صدقيتهم، ومرورا بما كان القرآن يخضع له من مراجعات، سواء من قبل النبي مع كتاب الوحي، أو من قبل جبريل الذي كان يراجع مع النبي كل ما كان يكتب منه على الأقل مرة في السنة، وانتهاء بالتزام الإله نفسه بحفظ القرآن.

 1ـ 5 : السبب المباشر للنهي عن كتابة الحديث هوعدم جواز وجود كتاب مجاور لكتاب الله:

   وبالعودة إلى الحديث الذي ورد في مسند أحمد، عن أبي هريرة أن النبي حين سمع منهم ما يكتبونه غضب وقال: "أكتاب غير كتاب الله؟ امحضوا كتاب الله، وأخلصوه". قال أبو هريرة: فجمعنا ما كتبنا في صعيد واحد، ثم أحرقناه بالنار ".

    نقف في هذه الرواية على الكثير من العناصر، التي توضح لنا موقف النبي الصريح والحاسم، بل و المبدئي من كتابة الحديث، وكيف أن "أهل العلم" تجاهلونها عن قصد، وهم يؤصلون للسنة النبوية كمصدر للتشريع في الإسلام، وهي العناصر التي يمكن الحديث عنها كما يلي:

 ـ أن غضب الرسول كان مباشرة بعد سماعه ما كتبوا عنه (أن النبي حين سمع منهم ما يكتبونه غضب)؛

ـ أن غضب الرسول، كان بسبب مضامين ما كان قد كتب عنه فلم يعجبه، وهوما تؤكده عبارة (حين سمع منهم)، أي أن الرسول قد سمع بداية ما كان قد كتب عنه، فأغضبه ذلك واستنكره. فإذا كان الرسول قد استنكر، بل وغضب مما كتب عنه، من قبل  معاصرين له سمعوا منه مباشرة، ولم تكن لديهم أية نية في تحريف قوله، بدليل أنهم عرضوا عليه ما كتبوه عنه، فكيف يمكن القبول بصدقية ووثوقية روايات نسبت إليه، تم دوينها بعد وفاته بحوالي قرنين من الزمن؟

ـ أن سؤال الرسول الاستنكاري (أكتاب بعد كتاب الله؟)  يعني بكل الوضوح الممكن؛ أن كتابا واحدا فقط هو المعتمد في الإسلام والذي هو القرآن، وأنه لا يجوز البثة وجود كتاب آخر مجاورا لكتاب الله حتى وإن تضمن سيرة رسوله. وهذا ما يفسر نهي النبي عن كتابة السنة؛

ـ أن الرسول عامل الحديث بنقيض ما عامل به القرآن، ففي الوقت الذي أمر بالعناية بكتاب الله ( أمحضوا كتاب الله، وأخلصوه)، نجده قد أستنكر وجود كتاب يتضمن أقواله (أكتاب بعد كتاب الله؟)، بل نقف على حقيقة أنه لم يستنكر عملية حرقهم لما كتب عنه، وهذا دليل على كونه لم يكن ليعير السنة النبوية أية قيمة دينية أو تشريعية، ولم يكن ينظر إليها كوحي إلهي؛

ـ أنه ولو كانت السنة النبوية وحيا إلهيا كما ذهب إلى ذلك رجال الدين المسلمون، لكان الرسول ـ وخوفا على ضياعها ـ قد أمر بحفظها عبر تطبيق نفس الإجراءات الصارمة التي طبقت على النص القرآني، ولكان قد منع صحابته من حرقها.

    وأهم ما يمكن التأكيد عليه بخصوص هذه الرواية، أنها غير قابلة للنسخ بالمطلق، بالنظر إلى سبب المنع الوحيد والأوحد؛ الذي هو عدم جواز وجود كتاب مجاورلكتاب الله (أكتاب بعد كتاب الله؟)، إذ أن سبب المنع هنا؛ هو بمثابة مبدأ من المبادئ الأساسية التي قام عليها الدين الإسلامي، والذي يعتبر القرآن المرجع الوحيد للمسلمين؛ وهو المبدأ التأسيسي الذي لا يمكن تغييره أو التراجع عنه في مرحلة لاحقة، كونه عماد الدين الإسلامي بما هو دين سماوي. وهو ما تؤكد عليه رواية سنية أخرى وردت في مسند ابن حنبل؛ فــ "عن عمرو بن العاص قال خرج علينا رسول الله يوما كالمودع فقال: أنا محمد النبي الأمي...فاسمعوا وأطيعوا ما دمت فيكم، فإذا ذُهب بي فعليكم بكتاب الله أحلوا حلاله وحرموا حرامه ".

  1ـ 6: كتابة السنة السنة النبوية زمن الصحابة:

    تخبرنا الرواية السنية المعتمدة دائما، عن الكيفية التي تعامل بها الخلفاء الراشدون مع موضوع كتابة السنة النبوية، إذ نقرا في تذكرة الحفاظ للإمام الذهبي " عن عائشة، أن أبا بكر جمع عن النبي خمسمئة حديث، ثم بات ليلته يتقلب، ولما أصبح قال لعائشة: أي بنية هلمي الأحاديث التي عندك فجئته بها فدعا بنا فحرقها فقلت: لم أحرقتها؟ قال: خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت ولم يكن كما حدثني فأكون قد نقلت ذاك". (8)

  وهكذا يمكننا الوقوف من خلال دراسة هذا النص، على العديد من المبادئ التي حكمت تعامل الدولة الرسمي مع مسألة كتابة الحديث، والتي تجاهلها رجال الدين المسلمون وهم يؤصلون للسنة مصدرا من مصادر التشريع في الإسلام، يمكن الحديث عنها كما يلي:

ـ أن كتابة الحديث كانت زمن خلافة أبي بكر بمبادرات شخصية وفردية، ولم تكن عملية رسمية منظمة تشرف عليها الدولة؛

ـ أن تردد أبا بكر في الاحتفاظ بتلك الأحاديث، في مرحلة أولى، ثم قراره إعدامها في مرحلة لاحقة، يؤكد على أنه لم يكن على علم بالأحاديث المرخصة بكتابة السنة النبوية، وإلا لما تردد للحظة واحدة في الاحتفاظ بها، بل ولرسم ونظم عملية تدوينها وهو الخليفة الأول للرسول؛

ـ أن السنة النبوية، لم يكن مرخصا بكتابتها زمن أبي بكر، بل وكان منهيا عن ذلك، وإلا لما كان رئيس الدولة قد اتخذ قرارا بحرقها؛

ـ أن السنة النبوية لم تكن لها أي قيمة دينية أو تشريعية تذكر، ولم يكن بالتالي أبا بكر ينظر إليها على أنها وحي من السماء، وإلا لما تعامل معها ـ وهو إمام المسلمين ـ بكل ذلك الاستخفاف وهو يعمد إلى حرقها؛

ـ أن نسبة الوثوقية في الروايات الحديثية عند أبي بكر، كانت سببا مباشرا من وراء اتخاذ قراره بعدم الاحتفاظ بها؛ (خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت ولم يكن كما حدثني فأكون قد نقلت ذاك").

     وتخبرنا الرواية السنية المعتمدة دائما، بأن نفس منطق الريبة والتحفظ ثم المنع من كتابة الحديث، بل وحتى روايته، هي ما حكم موقف الخليفة الثاني للرسول؛ عمر بن الخطاب. ذلك أنه تعامل بشأن كتابة السنة النبوية بحدة أكبر مما تعامل به أبو بكر، فهو لم يكتف بحرق ما تمت كتابته من السنة النبوية وحسب، بل ومنع تداولها الشفوي، حتى أنه لجأ إلى ضرب وحبس كل من لم يلتزم بأوامره في هذا الشأن. وهكذا نقف على نفس رواية حرق الحديث، تتكرر على عهده، إذ نقرأ في كتاب "تقييد العلم" للخطيب البغدادي رواية، جاء فيها  " أن عمر بن الخطاب، بلغه أنه قد ظهر في أيدي الناس كتب فاستنكرها وكرهها، وطلب من الناس رؤيتها، فظنوا أنه يريد أن ينظر فيها ويقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف، فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار، ثم قال: أمنية كأمنية أهل الكتاب " (9)

   ونقرأ كذلك؛ في نفس المصدر، رواية أخرى عن عمر بن الخطاب: " أنّه أراد أن يكتب السنن فاستخار الله شهرا فأصبح وقد عزم له، ثم قال: إني ذكرت قومًا كانوا قبلكم كتبوا كتابا فأقبلوا عليه وتركوا كتاب الله ".

   تؤكد هذه الرواية، صجة ما ذهبنا إليه أعلاه، من كون سبب منع كتابة السنة النبوية، هو عدم جواز وجود كتاب موازي لكتاب الله (فأقبلوا عليه وتركوا كتاب الله)، وهو نفس المبرر الذي ساقه النبي لمنع الكتابة عنه في حديث أبي هريرة المشار إليه أعلاه (أكتاب بعد كتاب الله؟)، وهذا ما يؤكد أن حكم عدم كتابة السنة النبوية، ظل ساريا حتى زمن الخليفة الثاني، ولنفس السبب؛ أي عدم جواز وجود كتاب مجاور لكتاب الله.

  موقف عمر من كتابة السنة النبوية، كان صارما وواضحا وغير قابل للتأويل. فالرواية السنية المعتمدة، تذكر أنه لم يكن ليكتفي بمنع كتابة الحديث وحسب، بل وكان يمنع حتى روايته الشفوية في المجالس، وبأنه اضطر في العديد من الحالات، إلى اتخاذ إجراءات صارمة في حق كل من لم يلتزم بقراره ذاك، شملت حتى كبار الصحابة، وبلغت حد الضرب والسجن، وهكذا نقرأ  في " سير أعلام النبلاء " ما يلي: " عن أبي هريرة، قال : ما كنا نستطيع أن نقول: قال رسول الله (ص) حتى قبض عمر، كنا نخاف السياط". (10)

 كما أن ابن كثير يذكر في مصنفه  "البداية والنهاية"، أن عمر بن الخطاب قال لأبي هريرة: " لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس، وقال لكعب الأحبار: لتتركن الحديث عن الأول أو لألحقنك بأرض القردة ". (11)

كما نقف على رواية أخرى، وردت عند أبي يعلى الخليلي في الإرشاد، أن عمر بن الخطاب حبس جماعة من رواة الحديث منهم أبو هريرة "وكانوا في حبسه إلى أن مات ". (12)

   واضح إذن؛ أن الحديث لم يكتب، ولم يكن مرخصا بكتابته حتى زمن عمر بن الخطاب، كما وأن الأحاديث المرخصة بكتابته لم تكن معلومة حتى ذلك العهد، وإلا لما اتخذ عمر قرارا بحرقها، ولما اضطر إلى الاستخارة شهرا كاملا  حتى يلهمه الله بالقرار الصائب بشأنها.

  إن استشارة عمر لمقربيه بشأن كتابة السنة النبوية، وعدم أخده بالرأي الذي أفتوه إياه بكتابتها، واستخارته الله شهرا كاملا جتى يلهمه بالقرار الصائب بشأنها، وهو المعروف بجرأته الكبيرة في مجال التشريع، حتى أنه عطل أحكاما واردة في نصوص قرآنية صريحة الدلالة. كل ذلك يؤكد على أن الموضوع لم يكن عاديا، بل وكان ذا أهمية بالغة جدا كونه متعلق بمسالة دينية، قد يترتب عن الحسم فيها تداعيات كثيرة، على مستوى المكانة الدينية والتشريعية للقرآن، ويتضح هذا الأمر جليا، من خلال السبب المباشر، الذي كان من وراء اتخاذه قرارا، بعدم التصريح بكتابة السنة النبوية "إني ذكرت قومًا كانوا قبلكم كتبوا كتابا فأقبلوا عليه وتركوا كتاب الله". ويشهد التاريخ؛ أن ذاك بالضبط ما حدث فيما بعد، حينما كتبت السنة النبوية على عهد الدولة العباسية، فأضحت مكانتها أكثر قيمة من القرآن نفسه، حتى أن فقهاء الإسلام أجازوا نسخها للقرآن.

   سبب آخر يسوقه عمر بشأن موقفه من كتابة الحديث، وهو المتمثل في مدى صدقية الرواية الشفوية في نقل الحديث عن الرسول، إذ نجده يقول: " لو أني أكره أن أزيد في الحديث وانتقص منه لحدتثكم به"(13)، فعمر اتخذ موقفا صريحا بعدم رواية الحديث أو التحدث به، وهو يرجع ذلك لخوفه، بل ويقينه من عدم إمكانية نقل الرواية كما سمعها من الرسول. فهذا عمر بن الخطاب وهو المعاصر للرسول وأحد صحابته الكبار، وأحد المبشرين بالجنة، بل وأمير المؤمنين وخليفة الرسول، وهو الذي كان يسمع منه مباشرة، متيقن من عدم إمكانه نقل الرواية كما سمع بها. وهذه شهادة إضافية كذلك من صنف " شهد شاهد من أهلها " ذات الحجية الكبيرة، تقر لنا بأن الرواية الشفوية منعدمة الوثوقية والمصداقية. فكيف يمكن بعد هذه الشهادة الصريحة، أن يقنعنا رجال الدين بأن ما روي عن الرسول بعد مرور قرنيين من الزمن، تام الصحة إن مثنا أو سندا؟

  موقف عمر بن الخطاب من السنة النبوية، كان واضحا ولا لبس فيه، فهو لم يكن ليعيرها أية قيمة دينية أو تشريعية، بل وكان متوجسا مما يمكن أن يحدثه أمر كتابتها من استغلال سياسوي. ويزداد موقف عمر من السنة النبوية وضوحا، حينما نقف على حقيقة موقفه من القرآن، وهكذا؛ نجده يقول بمناسبة تنصيب أبي بكر خليفة للمسلمين: " إن الله أبقى فيكم كتابه هذا به هدى الله رسوله (ص) فإن اعتصمتم به هداكم لما كان هداه له ". كما نقرأ له في خطبة أخرى بنفس مضمون الخطبة الأولى، لكن هذه المرة كانت في أيامه الأخيرة حيث قال " أوصيكم بكتاب الله فإنكم لن تضلوا ما اتبعتموه ".

  الاتجاه نفسه، صار عليه الخليفة الثالث عثمان بن عفان، كما يتضح ذلك في الرواية الواردة في مصنف أحمد، وفي "الطبقات الكبرى" لابن سعد، عن محمود بن اللبيد أنه قال؛ سمعت عثمان على المنبر يقول: لا يحل لأحد يروي حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا عهد عمر، فإنه لم يمنعني أن أحدث عن رسول الله ألا أكون من أوعى أصحابه عنه، ألا إني سمعته يقول: مَن قال عليّ ما لم أقل فقد تبوأ مقعده من النار".(14)

   وهذا ما يعني أن الخليفة الثالث للمسلمين، صارعلى نفس النهج الذي سلكه سابقيه، فيما يخص كتابة السنة النبوية، حتى أنه ساق نفس مبررات المنع التي اعتمداها في منع كتابتها، وهذا ما يؤكد دائما على أن السنة النبوية، لم تكتب لا على عهد الرسول ولا على عهد الخلفاء الراشدين من بعده.

     النهي عن كتابة السنة إذن، كان ساري المفعول زمن النبي والخلفاء الراشدين من بعده، وهو نهي ذو دلالة دينية جلية وواضحة؛ فلو كان ينظر إلى السنة النبوية كوحي إلهي، ومصدر من مصادر التشريع في الإسلام، لما منعت كتابتها، بل وعلى العكس من ذلك، لعوملت بنفس ما عومل بها القرآن.

والمؤكد أن الأحاديث التي رخصت بكتابة السنة النبوية، قد وضعت في مرحلة لاحقة عن زمن الخلافة الراشدة، كونها لم تكن معلومة في هذه المرحلة التاريخية، وإلا لما كان الخلفاء الراشدون، قد منعوا كتابتها وروايتها وأحرقوا ما كتب منها. وتشهد الرواية السنية المعتمدة، ألا أحدا من الصحابة سبق له وأن احتج على خلفاء الرسول، وهم يعدمون الصحف التي كتبت عليها، ويمنعون كتابتها بل وروايتها، بحديث من تلك الأحاديث الكثيرة التي رخص فيها النبي بكتابة السنة، وهذا دليل إضافي على صحة ما خلصنا إليه.

1ـ 7 : حفظ الوحيين: ودلالاته الدينية:  

   على خلاف السنة النبوية، حضي القرآن بعناية خاصة، سواء من قبل الإله أو من قبل الرسول:

1ـ7ـ1: العناية الإلهية بالقرآن:

    تتجلى العناية الإلهية بالقرآن في صورتين اثنتين:

  الصورة الأولى: تعهد فيها الله وألزم نفسه بحفظ القرآن حفظا تاما في الآية 9 من سورة الحجر(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).

 الصورة الثانية: إشراف الله بنفسه على المراجعة الدورية لما كان يكتب من الوحي، بواسطة الملك جبريل، الذي كان يقوم بتلك المراجعة على الأقل مرة في السنة، ذلك أن الرواية السنية المعتمدة تذكر في في الصحيحين "عن فاطمة رضي الله عنها أنها قالت: أسرَّ إلي (أبي) إن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أرى الأجل إلا قد اقترب."

وفي رواية أخرى عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، يلقاه كل ليلة يدارسه القرآن، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود من الريح المرسلة."

1ـ 7ـ 2: العناية النبوية بالقرآن:

   تخبرنا الرواية السنية المعتمدة كذلك، أن القرآن قد حظي بعناية خاصة من قبل النبي، ضمانا لحفظه وبقاءه في صورته الربانية النقية، وعدم تعرضه لما تعرضت له الكتب السماوية السابقة عنه من تحريف، وقد اتخذت تلك العناية النبوية، العديد من الإجراءات الاحترازية الصارمة يمكن الحديث عنها كما يلي:

ـ اعتماد كتابا للوحي:

 اعتمد الرسول كتابا للوحي موثوقين، اختلفت الروايات في تحديد عددهم وأسمائهم، إلا أن ابن كثير يذكر أن عددهم كان هو ثلاثة وعشرون كاتبا للوحي، وكانت مهمتهم الرئيسية هي كتابة ما كان ينزل من وحي ومراجعته مع الرسول.  

ـ كتابة القرآن أولا بأول وحالما ينزل:

  كان الوحي يكتب أولا بأول وحالما ينزل، فتسمية الله للقرآن بالكتاب هو دليل على أنه كان مكتوبا، كما وأن الحديث " لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه " يفيد نفس الخلاصة. وتخبرنا الرواية السنية المعتمدة، أن كتابة الوحي كانت تتم مباشرة بعد نزوله، وهذا ما نفهمه من الرواية التالية: " عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: " كنت جاره (أي النبي) فكان إذا نزل الوحي أرسل إلي فكتبت الوحي ".

ـ مراجعة الوحي مع كتابه المعتمدين:

     كان الرسول حريصا على مراجعة الوحي مع كتابه المعتمدين، مباشرة بعد أن يملي عليهم ما أنزل عليه، وهو ما تؤكده رواية وردت عند الطبراني عن زيد بن ثابث إذ قال " كنت أكتب الوحي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يشتد نفسه ويعرق عرقا شديدا مثل الجمان، ثم يسرى عنه، فأكتب وهو يملي علي، فما أفرغ حتى يثقل، فإذا فرغت قال: اقرأ فأقرأه، فإن كان فيه سقط أقامه" (15) 

   وتذكرنا الرواية السنية المعتمدة كذلك، بكون " الأصحاب كانوا يراجعون النبي (ص) عند اختلافهم في حرف من القرآن، وكان يحكم بينهم فيه، إما بتعيين إحدى القراءتين أو بإجازتهما، بينما السنة لم يعهد فيها شيء من ذلك ". (16)

    لقد كان الله كما النبي حريصان ـ ودائما حسب الرواية السنية المعتمدة ـ أشد ما يكون الحرص على حفظ القرآن، حتى لا يتعرض للتحريف الذي طال الكتب السماوية السابقة له، ويظل بالتالي في صيغته الربانية النقية الخالصة والخالية من كل الشوائب المحتملة، فالحرص على كتابته أولا بأول، كانت ضمانة لعدم نسيانه وبالتالي تحصينا له من إمكانية اختلاط الأمر فيما بعد على حفظته ورواته، وسدا منيعا لأي إمكانية للتلاعب به إن بالإضافة فيه أو بالبثر منه، كما وأن مراجعته بتلك الصيغتين تحت الإشراف المباشر للنبي ولجبريل، كانتا ضمانتين إضافيتين عمليتين لتحقيق الحفظ في أقصى درجاته. 

    لكن لماذا كان الله ورسوله حريصان كل ذلك الحرص على أن يظل القرآن محفوظا؟ الجواب بكل بساطة، لأن القرآن كان وحيا إلهيا. وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال ملح هو كالتالي: إذا كانت السنة النبوية وحيا إلهيا ثانيا، فلماذ لم يتم التعامل معها بنفس ما عومل به الوحي الأول، ولماذ لم تحظ بما حظي به القرآن من إجراءات احترازية صارمة؟

   تخبرنا الرواية السنية المعتمدة، أن النبي كان قد نهى عن كتابة السنة بداية الأمر، قبل أن يرخص بذلك لاحقا. وإذا ما نحن قبلنا بهذه الرواية، فإن ما يمكن أن نستنتجه هو أن السنة النبوية، وعلى خلاف القرآن، لم تكن تكتب أولا بأول، وهذا ما يعني أن مستوى حفظ الوحي الثاني، لم يبلغ ما بلغه الوحي الأول، بما قد يعنيه ذلك؛ من إمكانية تسرب الأخطاء والتلاعبات إليه.

   ولا تتضمن الرواية السنية المعتمدة كذلك، أية إشارة إلى وجود كتاب معتمدين للسنة النبوية على غرار كتاب الوحي، وهو ما يعتبر كذلك نقصا كبيرا في درجة حفظ " الوحي الثاني"، فالرسول كان يختار بعناية فائقة، كتابا للقرآن موثوق في صدقيتهم، حتى يضمن عدم تلاعبهم بما كان يمليه عليهم مما ينزل عليه من وحي. لكن؛ نجده لم يتعامل بنفس الطريقة مع السنة النبوية، بعدم اعتماده كتابا موثوقين لكتابتها.

  ولا تشير تلك المدونة الحديثية السنية كذلك، إلى مراجعة النبي لما كان يكتب من السنة النبوية، مع كتابها المعتمدين، على فرض قبولنا بكتابتها. بل على العكس من ذلك؛ تورد أخبارا عن منع واستنكار كتابتها، وأوامر بحرق ما كتب منها. وهذا ما يعني؛ أن السنة النبوية وعلى خلاف القرآن، ظلت في متناول المتلاعبين والكذابين والملفقين.

   وإذا ما نحن قبلنا بما ذهب إليه أهل السنة من كون السنة النبوية "وحيا ثانيا"، ألم يكن من الأجدر والحالة هاته، أن تراجع من قبل جبريل كما فعل ذلك مع الوحي الأول؟

   إن عدم التزام الله بحفظ السنة النبوية، باعتبارها وحيا ثانيا كما كان شأن الوحي الأول، وعدم كتابتها حالما كان يتم النطق بها، وعدم اعتماد كتاب موثوقين لكتابتها، وعدم مراجعتها لا من قبل جبريل ولا من قبل النبي، لا يعني إلا شيئا واحدا؛ وهو أن السنة النبوية، ليست بوحي إلهي، كما تم فرض ذلك كمسلمة يقينية، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، من قبل فقهاء الإسلام.

  منطقيا؛ لا يعقل البثة أن يتعامل الله مع ما أوحاه للبشر بطريقتين مختلفتين، فيتعهد بحفظ الوحي الأول، بل ويعمل على تحصينه تحصينا تاما عبر سن مجموعة من الإجراءات الاحترازية الصارمة، بلغت حد إشراف ملكه جبريل على مراجعته مع الرسول بصفة دورية، في الوقت الذي لم يبد فيه أي اهتمام بالوحي الثاني، حتى أنه لم يشر إليه أبدا في القرآن؟

   وإذا كانت الغاية الكبرى، من حفظ الوحي عبر كل تلك الإجراءات الاحترازية الصارمة، هو تحصينه من التحريف والتلاعبات، فإن عدم تطبيقها على السنة النبوية، يعني بمفهوم المخالفة؛ أنها ظلت بمنآى عن أي حفظ أو تحريف أو تلاعبات.

   وإذا ما نحن سلمنا بما ذهب إليه فقهاء الإسلام من كون السنة النبوية "وحيا ثانيا"، فإن خلاصة واحدة هي ما يمكن الخروج به هاهنا؛ وهي أن كل تلك الإجراءات الاحترازية الصارمة التي همت الوحي الأول، و التي كانت ترمي إلى تحصينه تحصينا تاما، حتى يظل بمنآى عن عبث العابثين، تبقى من دون فائدة ولا طائل، إذا لم تطبق وبنفس الصرامة على الوحي الثاني كذلك. ذلك أن عدم تحصين الوحي الثاني، يعتبر ثغرة كبيرة يمكن أن تتسرب منها يد البشر للتشريع باسم الإله، فيصبح تبعا لذلك الهدف الأسمى المتمثل في حفظ الوحي غير محقق، ما دام أن الوحي الثاني غير محصن من إمكانية التلاعب فيه. والتاريخ يشهد، أنه ما كان لليد البشرية أن تمتد للتشريع باسم الإله، لولا أن تمت ترقية السنة النبوية إلى مستوى الوحي الإلهي.  

  من كل ما سبق، يمكن القول؛ أن السنة النبوية لم يكن لينظر إليها كوحي إلهي من قبل النبي، ولم تكن لها أية قيمة دينية أو تشريعية لديه، وإلا لكان قد عاملها بنفس ما عومل به القرآن، ولما نهى عن كتابتها، بل وأمر بحرقها. فلو أن النبي رخص بكتابتها كما ذهب إلى ذلك أهل السنة، لكانت الرواية السنية متخمة بالروايات التي تتحدث عن كتابها المعتمدين، وعن مراجعة النبي لكل ما كان يكتب عنه، ولبلغتنا اليوم بعض من مخطوطاتها.

   إن إصرار أهل السنة، على أن السنة النبوية قد كانت تكتب زمن النبي، بعد أن زال الخوف من اختلاطها بالقرآن، لا يستقيم وما تذكر الرواية السنية المعتمدة من أحداث، فالقرآن لم يكن يخاف عليه من اختلاطه بالسنة بالمطلق، بالنظر إلى كل تلك الإجراءات الاحترازية الصارمة التي طبقت عليه، وإلى كل تلك المراجعات التي كان يخضع لها بصفة مستمرة. هذا بالإضافة؛ إلى كون كلام الله معجزا، وهو بذلك يبقى متميزا عن كلام البشر، ويسهل بالتالي تمييزه عنه.

   إن العديد من الأحداث التاريخية المتضمنة بالمروية السنية المعتمدة، تؤكد على أن التوجه العام للدولة الإسلامية، على عهد الخلفاء الراشدين، كان يمضي في اتجاه منع كتابة الحديث، وبأن الأحاديث المرخصة بكتابته لم تكن معلومة، بدليل أن هؤلاء الخلفاء لم يعملوا بها، وهذا ما يؤكد على أنها قد وضعت في مرحلة لاحقة.

1 ـ 8 : نسخ القرآن بالسنة: النتيجة المرجوة من ترقية السنة النبوية لدرجة الوحي الإلهي:

  من أخطر ما ترتب عن إقرار السنة النبوية وحيا ثانيا؛ أن أصبح من الممكن شرعا نسخ القرآن بالسنة، وأصبح بالتالي وتبعا لذلك؛ من الممكن أن تنسخ حتى أحاديث الآحاد النص القرآني. وإذا كان " أهل العلم " قد اختلفوا كعادتهم في هذا الأمر، إلا أن الرأي القائل بنسخ القرآن بالسنة كان هو الأقوى؛ فقد قال به الحنفية والمالكية وجمهور المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة، وقد أصلوا لذلك بناء على قاعدة الوحيين، وألا مانع بالتالي من نسخ وحي لوحي آخر. يقول القرطبي : " وحذاق الأئمة متفقون على أن القرآن ينسخ بالسنة" (17)

  لقد كان من النتائج المباشرة، للعمل بتلك المسلمة اليقينية؛ أن أصبح تدخل اليد البشرية في التشريع الإلهي أمرا واقعا؛ وأصبح بالتالي من الممكن، تعطيل نصوص قرآنية صريحة الدلالة من قبل البشر، عبر نسخ أحكامها بنصوص حديثية منسوبة للنبي، بل وتخريج أحكام إلهية تكتسي صبغة القداسة الدينية من خلالها، فكان أن استخرجت تبعا لذلك الكثير من الأحكام الكارثية والدموية والمنافية للمنهج القرآني نفسه، تحت يافطة الإسلام وباسم إله الإسلام. ولتقريب الصورة أكثر، نورد مثالا للحد الذي أفرده فقهاء الإسلام للمرتد، ذاك الحد المشؤوم الذي ترتب عن تطبيقه عدد لا حصر له من الجرائم الدموية البشعة، والذي تم استخراج حكمه من حديث يتيم، نسب للنبي يقول فيه " من بدل دينه فاقتلوه ".

   وجدير بالتذكير؛ ألا وجود لحد الردة في القرآن، بل على العكس من ذلك تماما؛ نجد أن العديد من النصوص القرآنية، تؤكد على مبدأ حرية الاعتقاد، وعلى كون اختلاف البشر هو تنزيل للإرادة الإلهية (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكون مؤمنين؟). فالله يؤكد في هذه الآية، على كون اختلاف البشر وإيمان بعضهم دون البعض الآخر، هو تعبيرعن مشيئته وإرادته، إذ إنه لو شاء أن يجعل من جميع البشر مؤمنين لكان له ذلك، وهذا ما يفسر عدم سنه لعقاب دنيوي لتاركي الدين، بل إنه توعدهم بعقاب أخروي، وهذا ما نفهمه من مضمون سورة النساء الآية 137 حيث نقرأ ما يلي: " إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا، بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما ". فالواضح من هذا النص القرآني، أن حد الردة بمفهومه الفقهي، لم يكن معروفا ولا معمولا به زمن الرسول، وإلا لقتل كل هؤلاء ولما كانت لديهم الفرصة ليعودوا مجددا إلى حظيرة الإيمان بعد أن خرجوا منه.

   لكن؛ وعلى الرغم من ذلك، نجد أن فقهاء الإسلام، واستجابة لطلب الحاكم المستبد، قد أفردوا حكما بشعا وقاسيا لكل من غير دينه، فأجمعوا على أن حكم المرتد هو القتل، بالاستناد إلى حديث منسوب للرسول رواه عكرمة، يدعي فيه أنه سمع عن مولاه بن عباس أنه قال، قال رسول الله (ص) " من بدل دينه فاقتلوه ".

   وكما النص القرآني، تخلو الرواية السنية المعتمدة، من مرويات تؤكد على تطبيق حد الردة زمن النبي، بل وعلى العكس من ذلك، تقدم لنا شخصية عبد الله بن أبي سلول، كزعيم للمنافقين في المدينة، وبأنه حاك المؤامرات ضد المسلمين، وبث بذور الفتنة والخلاف بينهم، وبكونه كان على خلاف مستمر مع النبي. وعلى الرغم من ذلك، فإن تلك الرواية نفسها تذكر أنه مات ميتة طبيعية، ولم يقتل بحد الردة.

  كما تقدم لنا نفس المدونة الحديثية، سيرة عبد الله بن سعد بن أبي السرح، أحد كتاب الوحي المعتمدين،  والذي ارتد عن الإسلام، وهرب إلى مكة، وكيف أنه لم يقتل بذلك الحد يوم فتحها، وبأنه عاد إلى الإسلام مرة أخرى، بل وإلى كتابة الوحي، وإلى المشاركة في العمليات العسكرية.

    وبالرجوع إلى حديث عكرمة، نجد أن " علماء الحديث " قد دمغوه بطابع الصحة السنية في أعلى درجاتها (ورد في صحيح البخاري تحت رقم 6922)، بل وأخذت به مذاهبهم الأربع، وذلك على الرغم مما يعتريه من شبهات على مستوى المثن كما السند. فمن حيث المثن؛ نقف على حقيقة مخالفته لأحكام القرآن وللسيرة النبوية كما أوضحنا ذلك أعلاه، أما من حيث السند، فإن راوي هذا الحديث الوحيد هو عكرمة مولى ابن عباس، ومعلوم أن عكرمة هذا، لم يكن ليحضى بالإجماع على وثوقيته في رواية الحديث، حتى أن الإمام مالك لم يأخذ عنه ولو حديثا واحدا، وقد قال عنه أحمد بن حنبل "عكرمة بن خالد أوثق من عكرمة مولى ابن عباس، عكرمة مضطرب الحديث يختلف عنه، وما أدري. " (18)

   وتخبرنا الرواية السنية المعتمدة؛ أن علي بن عبد الله بن عباس، قيد عكرمة على باب الخش وضربه لكذبه على أبيه فيما كان يروي عنه، إذ نقرأ في سير أعلام النبلاء ما يلي: " عن جرير بن عبد الحميد، عن يزيد بن أبي زياد قال: دخلت على علي بن عبد الله بن عباس، وعكرمة مقيد على باب الخُش، قال: قلت: ما لهذا كذا، قال: إنه يكذب على أبي". وعن ابن عمر أنه قال لنافع: " لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس ". (19). كما وأن عكرمة جُرح من قبل العديدين، كونه قبل بجوائز السلطان والأمراء، حيث نقرأ في سير أعلام النبلاء الرواية التالية: وقال إبراهيم الجوزجاني : سألت أحمد بن حنبل عن عكرمة ، أكان يرى رأي الإباضية ؟ فقال : يقال : إنه كان صفريا ، قلت : أتى البربر ؟ قال : نعم، وأتى خراسان يطوف على الأمراء يأخذ منهم "(20) .

   لقد كان حريا وبالنظر إلى كل هذه الملابسات وغيرها كثير(21)، ألا يؤخد برواية شخص متهم بالكذب ـ وإن على سبيل الشك ـ، خصوصا وأن الأمر يتعلق بمرويات تم دمغها بطابع القدسية، ومنحت تبعا لذلك الأهلية التشريعية، فأضحت مرجعا للتشريع باسم الإله. لكن ما يدعو للغرابة حقا؛ هو أن يكون رأي ابن حنبل في عكرمة هو كما رأيناه، ويأخد عنه الرواية. بل وأن يصحح عالم حديث، من قيمة البخاري مروياته، ويدرجها ضمن صحيحه الموسوم بأصح كتاب بعد كتاب الله.

   كيف يعقل إذن؛ أن تقبل الرواية من شخص مشكوك في صدقيته، وفي أمر خطير خطورة حد الردة؟ وكيف أمكن للفقهاء أن يقبلوا برواية عكرمة تلك (من بدل دينه فاقتلوه) ولم يلتفوا جهة النص القرآني الذي لم يفرد أي حكم للمرتد؟ كيف يمكن ترجيح رواية عن شخص مجرح من قبل العديدين على حساب الوحي الإلهي؟ ألا يعتبر ذلك تدخلا صريحا ليد البشر في التشريع الإلهي؟

   إن حد الردة المشؤوم ذاك، لم يكن معلوما ولا معمولا به زمن النبي، وإنما سنه فقهاء الإسلام فيما بعد. وهو بهذا المعنى؛ ليس إلا تشريعا بشريا خالصا، تم إلباسه لبوس القداسة الدينية. وهو ما يفيد بأن يد البشر قد امتدت إلى التشريع الإلهي.

  إن حكم الردة، كما سنعمل على توضيح ذلك في حينه، تم تخريجه دينيا من قبل فقهاء الإسلام، استجابة لطلب السلطة السياسية في شرعنة الاستبداد، وحتى تكون لها اليد الطولى لتصفية المعارضة السياسية، باسم الإله وبمباركته.

   واضح إذن؛ ماذا كانت غاية رجال الدين من تأصيل السنة النبوية وحيا إلهيا ثانيا؛ فقد مكنهم ذلك مما يلي:

ـ مساواتها بالنص القرآني حيث أضحى من الممكن تبعا لذلك؛ نسخ الايات القرآنية التي لا توافق هواهم في التشريع، بنصوص حديثية، بناء على قاعدة الوحيين، وألا مانع من نسخ وحي للوحي الآخر.

ـ اعتمادها أصلا من أصول الفقه في الإسلام ومرجعا تشريعيا فيه، حيث أضحى من الممكن إقرار أحكام دينية بمجرد وضع أحاديث تتم نسبتها للنبي.

  ـ على سبيل الختم:

     إن ترقية السنة النبوية إلى درجة الوحي الإلهي كما أقر بذلك رجال الدين المسلمون، لم يكن ليستقيم من الناحية الدينية، وذلك على الأقل للاعتبارين التاليين:

 ـ كونه يفتقد إلى الدليل الشرعي الصريح المستمد من القرآن؛

ـ كون كل المرويات المتضمنة بالمدونة الحديثية السنية المعتمدة هي ظنية الثبوت، ولا يمكن بالتالي أن يكون الوحي الإلهي إلا قطعي الثبوت.    

 لم يكن النص القرآني ليسعف فقهاء السلطة، وهم منهمكون في بناء الصرح الإيديلوجي للسلطة الحاكمة، في تخريج الأحكام وفق حاجيات الحاكم المستبد ومتطلباته، فكان لا بد والحالة تلك، أن يتم الاستنجاد ب "نصوص مقدسة" غيره. وحيث أن النص المقدس الوحيد في الإسلام لم يكن إلا النص القرآني، فقد كان التحدي الأول الذي فرض نفسه؛ هو التأصيل لنص مقدس يوازي النص القرآني في قدسيته، وحجيته، وقيمته الدينية، يمكنهم من استخراج ما لم يسعفهم على استخراجه النص القرآني. فكان أن تم اللجوء إلى التعسف في استعمال آلية التأويل للنص القرآني، تعسفا بلغ حد اعتصاره اعتصارا، حتى تمكنوا من فرض مرادفة كلمة الحكمة الواردة في القرآن، للسنة النبوية، على الرغم من ألا علاقة تجمع بين المفهومين. وقد تم بناء على تلك المرادفة المتعسفة، ترقية السنة النبوية إلى درجة الوحي الإلهي، واصبحت تبعا لذلك النصوص الحديثية نصوصا مقدسة.

  إن رجال الدين المسلمون، يقرون هم أنفسهم، على أن الأحاديث المتضمنة بالمدونة الحديثية السنية المعتمدة لديهم، ليست إلا ظنية الثبوت. فكيف يمكن والحالة هاته، القبول بكون السنة النبوية وحيا إلهيا؟ بل وكيف يمكن اعتبارها مصدرا من مصادر التشريع في الإسلام، وهي ناقصة الثبوت والوثوقية؟

  لقد أقر فقهاء الإسلام قاعدة فقهية ومنهجية، لم  يلتزموا بها وهم يقعدون السنة النبوية مصدرا من مصادر التشريع في الإسلام، وهي القاعدة القائلة بــ " ما تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال ". فما دام أن الروايات السنية المعتمدة طنية الثبوت، فذاك ما يعني أن احتمالية عدم نسبتها للنبي واردة جدا، وهو ما يجعل بالتالي الاستدلال بها باطلا من الناحية الدينية.

     إن الفكر ليس إلا نتاج للواقع الذي أفرزه، ومن ثمة؛ فإن التاريخ وحده القادر على كشف أسرار كل المناورات التي لجئت إليها السلطة السياسية، في سعيها إلى  بناء صرحها الإيديلوجي وفق معايير الشرعية الدينية. وحيث أن تلك المهمة أوكلت لفقهاء السلطة، وحيث أن النص القرآني لم يكن ليسعفهم في إنجاز مهمتهم "المقدسة" في شرعنة الاستبداد، فقد كان من الضروري البحث عن بدائل نصية تشرعن كل الأحكام المرغوب فيها. وهكذا تفتقت عبقريتهم إلى إقرار النص الحديثي كنص مقدس يوازي النص القرآني من حيث قيمته الدينية والتشريعية، فكان أن برزت في العصر العباسي الأول صناعة جد رائجة، وجد مربحة؛ وهي المعروفة بصناعة الحديث.

  الهوامش:

1 ـ النووي:  " التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير " دار الكتب العلمية الطبعة الأولى ص 18

2ـ محمد شلتوت " الإسلام عقيدة وشريعة "  دار الشروق  الطبعة الثامنة عشرة 2001   ص 58

3 ـ  يراجع في هذا الإطار الدراسة المتميزة للدكتور جورج طرابشي " من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث "

4 ـ  الشافعي " الأم" دار الفكر ط 2 بيروت 1983 ج 7 ص 314

 5 ـ القرطبي " الجامع لأحكام القرآن "  تفسير الآية 73 من سورة الإسراء

6 ـ أبي عساكر " تاريخ مدينة دمشق" ج 69 ص 194 (ورد في "الحديث بين الرواية والدراية" لجعفر السبحاني المنشور بموقع حديث نت)؛

7 ـ السيوطي " الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج"  ج 6 ص 303 (نسخة إلكترونية بالموقع الإلكتروني للمكتبة الشيعية)

8 ـ الذهبي "تذكرة الحفاظ" ج 1 ص 5

9 ـ  البغدادي "تقييد العلم"  ص 53 ـ 54  دارالاستقامة الطبعة الأولى 2008

10 ـ  الذهبي  "سير أعلام النبلاء " ج 2 ص 603  مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى 2001

11 ـ  ابن كثير"البداية والنهاية" ج 8 ص 114 ( نسخة إلكترونية بالموقع الإلكتروني للمكتبة الشيعية)

12ـ أبي يعلى الخليلي " الإرشاد في معرفة علماء الحديث"  ج 1 ص 213

13ـ ابن سعد " الطبقات الكبرى" ج 3 ص 292 (نسخة إلكترونية بالموقع الإلكتروني للمكتبة الشيعية)

14ـ نفس المصدر ج 2 ص 336

15 ـ الطبراني " المعجم الكبير " ج 5 ص 142 حديث رقم 4888 (نسخة إلكترونية بموقع المكتبة الشيعية)

16ـ محمد شلتوت " الإسلام عقيدة وشريعة"  دار الشروق  الطبعة الثامنة عشرة 2001  ص 498

17 ـ القرطبي " تفسير القرطبي " ج 2 ص 64 (نسخة إلكترونية بالموقع الإلكتروني للمكتبة الإسلامية)

18 ـ الذهبي "سير أعلام النبلاء"  ج 5 ص 26 مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى 2001

19 ـ نفس المصدر ج 5 ص 22

20 ـ نفس المصدر ج 5 ص 21

21 ـ  يراجع الذهبي " سير أعلام النبلاء " الجزء الخامس بشأن المرويات المجرحة لعكرمة.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟