إلى محمود درويش:هكذا أقرأ يوميات الحزن الفلسطيني - ناجي الخشنـاوي (*)

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاس«أحارب... أو لا أحارب؟
ليس هذا السّؤال
المهم أن تكون حنجرتي قويّة»
محمود درويش، الفلسطينيُّ المعتقلُ بالذّكريات داخلَ/خارجَ الوطن المُتكرّر في المذابح والأغاني... الفلسطينيُّ الذي مازال يفكُّ طلاسمَ هويّته المُوزّعة من مطار إلى مطار...
 محمود درويش سيموتُ متّهما بالتّجريد وتزوير الوثائق والصور الشّمسيّة، وهو يُصرُّ على رسم شكلَ فلسطين المُبعثرة بين الملفات والمُفاجآت... المُتطايرة على شظايا القذائف وأجنحة العصافير... فلسطين المحاصرة بين الرّيح والخنجر...
اسمُ محمود درويش السّرّيُّ هو بالكامل «محمود درويش»، أمّا اسمه الأصليّ فقد انتزعته سياطُ الشُّرطة وصنوبر الكرمل عن لحمه... وتركت له هويّة تتكئ على الرّيح... وقامة تصقلها المسافات وتذاكرُ السّفر... وممرّاتٌ تحتشدُ بالفراغ... وهو لايزال إلى الآن يحاول أن يذكُر اسمه الأصليّ بلا أخطاء... ويفكّ الحروف والحركات عن اللّحم الحي...
 ويحاول أن يكفَّ عن الكلام لكي يصف نفسه...
 ومازال أيضا يستجدي فلسطينَ كي تُعلن براءته منها ليكفّ عن الموت... أو تُعلن انتهاء عَقْد الشغف بينهما ليُصبح قادرا على الموت والرّحيل...
«تَنْتَشرينَ في جسْمي كَالعَرَقْ
وتَنْتَشرينَ في جسْمي كَالشَّهْوَة
وتَحْتَلّينَ ذَاكرَتي كَالغُزَاة
وتَحْتَلّينَ دمَاغي كَالضَّوْء
مُوتي... لأَرْثيك
أوْ كُوني زَوْجَتي لأَعْرفَ الخيَانَةَ
مَرَّةً وَاحدَةً»
لم تمت فلسطين درويش... ولم تكن زوجة لمحمود... ورغم ذلك لايزال محمود درويش يشرحُ سُدًى للبوليس تهمة الخيانة الموصوفة التي ترجُم صوتهُ أنَّى ولَّى شعره... أو أين سرَّحَ شَعْرَهُ... لايزال يُدافع عن براءته من خيانة الصمت والمنفى والصّدى...
بين اتهام البوليس بالخيانة ودفاع درويش عن البراءة، طالت حالة احتضاره... وتكاثر من حوله المغنّون والخُطباء، ونبت على جثّته الشّعر والزُّعماء و»كل سماسرة اللّغة الوطنيّّة صفّقوا... صفّقوا... ولتعشْ حالة الإحتضار الطّويلة...مادام المطر يتساقط في الخارج بلا سبب... والقحط ينتشر في الداخل لأسباب كثيرة...»...
تطول حالة الإحتضار بمحمود درويش... وهو لايزال يتحفّز للموت على حافة الحلم كما يتحفّز الشّهيد للموت مرّة أخرى تاركًا لحمهُ مشاعًا للجنود كسطوح المنازل، ليظلّ أبدا صامدا في الهزيمة وعدوّهُ صامد في النّصر... ويواصل حياته كفلسطينيّ يُداعب الزّمن ويلاعبُ الأيّام...
«إنّي أَحْتَفلُ اليَوْمَ
بمُرُور يَوْم عَلَى اليَوْم السَّابق
وأَحْتَفلُ غَدًا
بمُرُور يَوْمَيْن عَلَى الأَمْس
ذكْرَى اليَوْم القَادم
وَهَكَذَا... أُوَاصلُ حَيَاتي»
طوال حالة الإحتضار ومحمود درويش يبحث عن هويّة لشعره فلا يجدها إلاّ عندما يُشاهد يَافَا فوق سطح باخرة، فيعلن ساعتئذ أنّه شاعرٌ كان و في الذّاكرة يبست القصيدة عندما تناهت موسيقى اللّحوم البشريّة، في يَافَا، إلى مسامع مواليد برج الحصار...
وكان درويش/الفلسطيني يرثُ السّلاسل ويمنح هويّته شكلها الطّبيعي : صوت يابسٌ كسارية العَلَم ويَدَيْن فارغتين كالنّشـيد الـوطنيّ وروحٌ منذورة لرغوة السّفن... وربطة عنق تلتفّ حول الرّقبة مثل حبل المشنقـة !!!...
هو ذا محمود درويش... هو ذا الفلسطينيُّ... يسقط من رحم فلسطينيّ ويُحشرُ في نفق «اسرائيليّ» ولكن هل تمتلك الطّفولة والولادة دعوى في المكان ؟
«لَيْسَ المَكَان الذي وُلدْتَ فيه هُوَ دَائمًا وَطَنُكَ،
 إلاَّ إذَا كَانَتْ ولاَدَتُكَ جَمَاعيَّةً وَطَبيعيَّةً.
إذَا كَانَتْ الولاَدَةُ فَرْديّةٌ وَاصْطنَاعيّةٌ
 فَإنَّ المَكَانَ يَكُونُ مُصَادَفَةً،
 وَذَلكَ مَا يُشَكّلُ الفَرْقَ التَّاريخيَّ
 بَيْنَ مَحْمُودَ وَيَسْرَائيلَ في مَكَان وَاحد الآنَ.
أَنْ يَتَنَاسَلَ غَُزاةٌ في أَرْض الآخَرينَ
لا يُؤَلّفُ حَقًا وَطَنيًّا لَهُمْ،
وَلَكنْ أَنْ يَتَنَاسَلَ شَعْبٌ في وَطَنه
هُوَ دَيْمُومَةُ الوَطَنيَّة وَشَرْعيَّتُهَا.»
من هذه الوطنيّة والشرعية ذاق محمود درويش طعم عكّا الأوّل : كلّما فتّش عن شيء لم يجده: أُمٌ عادت إلى البروة، حبيبة زُفّت لرجل آخر، وفقر ٌيُلاحقه... وزنزانةٌ وضابطٌ وَقحٌ عوضًا عن أرض وشعب... عكّا كانت آخر حدود العالم وأولى المحاولات والخيبة...
ودرويش لازال إلى الآن يبني فوق الرّمال ما تحملهُ الرّياح... لا قشّر البرتقال فوق طبق من ورق في مقاهي باريس... ولا ملك من الوقت وقتا ، في أقبية الأندلس، ليُسرّح وقته بين الكروم...
«أَيُّهاَ الظَّلاَمُ القَادمُ إلَى المَدينَة
انْهَمرْ... انْهَمرْ
لأَنّي أَعْتَزمُ اللَّيْلَةَ مُغَادَرَةَ وَجْهي الحَافل بالحُدُود
في اتّجَاه قَلْبي،
وَهْوَ المَدينَة الوَحيدَة التي لَمْ تَقَعْ في الأَسْر»
يُغادر درويش وجهه نحو قلبه ليُعلن قصّته والحرائق تنمو على زنبقة... يغادر ليُعلن صورته والصّنوبر ينمو على مشنقة... يعلن درويش قصّته وصورته بعد أن يسرق من جرح الشّهيد القطن ليُلمّع أوسمة الصّبر والإنتظار... لينهمر منه الحبر خلف جداول الدّم...
يُغادر درويش وجهه نحو قلبه بعد أن يتعلّم اللّغات الشّائعة... متاعب السّفر الطّويل... النّوم في القطارات البطيئة و السّريعة والحب في الميناء والغزل المُعد لكل النّساء والشّوق المُعلّب... يغادر وجهه نحو قلبه بعد أن يتعلّم تربية الأمل ومراسم الوداع...
يتعلم درويش كل ذلك ويفشل في نسيان فلسطين... إذ يتفتت وجه المدينة حصًى في اللغة... وتتوزّع شوارعها وأديرتها كنايات واستعارات في لغة درويش وأحرفا ونقطا...
لتطرّز حقول القمح... وتُزهر الورود فوق المقابر...
«إذَا انْفَجَرتْ منْ دمَائي قَصيدَه
تَصيرُ المَدينَةُ وَرْدًا،
كُنْتُ أمْتَشقُ الحُلُمَ منْ ضلّعهَا
وَأُحَاربُ نَفْسي...»
وتُفلس الحَواس على حدود القدس... وحدَها تظلُّ حاسة الدّم يانعة بين أصابع الفلسطيني الذي لا يكون إلاّ شهيدا أو شريدا، حَاملا لقبره بَدلا من خَريطة الأرض وأغَاني الوَطَن...
وتظلّ المُدُنُ  اللّقيطة تتدحرجُ على بطن الهَزيمة كل صَباح... ومابَين صباحين يُولدُ صباح جديد للفلسطيني يسميه «الوطن»...
من تحت الأظافر يُولد، من بَين الأنامل تُورقُ كرومه... وفي كََف اليَد المُحترقة تعلو بذرة القمح أعلَََى وأعلى ... وبين المفاصل يُعصَر البرتقَال البرتقاليّ وفوق اللّحم الفلسطينيّ ينمو الزّيتون أخضرا... أخضَرا... ويمتزجُ الدّم مع الحبر فوق التراب/الورق... وتحت كل حجر يكتَََمل قمر. فلا تأتي إلاّ أسطورَة الفلسطيني ولا يَكون إلاّ العرس الفلسطيني حََزينا... حزينا... وللحُزن وجه الفرح في الجليل ويافا والكرمل وعكا والبروة و... ينام على شجر الذكريات ويصحو على وتر المعجزات...
ويُحاصرنا الفلسطيني قاتلا أو قتيلا...
ويجيؤنا درويش بلغة من رخََام وبرق... لغة له منها «وضوح الظل في المترادفات ودقة المعنى»... له منها «التشابه في كلام الأنبياء على سطوح اللّيل»... و»حمار الحكمة المنسيّ فوق التّل يسخر من خرافتها وواقعها»... لغة له منها «احتقان الرّمز بالأضداد... لا التجسيد يُرجعها من الذكرى ولا التجريد يرفعها إلى الإشراقة الكبرى»...
يجيؤنا درويش هنا، يجيؤنا من بلاد على أهبة الفجر إلى بلاد تجلس على صخرة تتنهّد... يجيؤنا من بلاد إلى بلاد ليُذكّرنا أن الحريّة حرّة تكون ويجيء ليُذكّرنا أن وطأة الزمان الفلسطيني لا يزال يتمطّط من حمأة المكان العربيّ...
«سَيَمْتَدُّ هَذَا الحصَارُ، حصَاريَ المَجَازيّ
حتّى أعلم نفسي زهْدَ التَّأَمّل :
مَا قَبْلَ نَفْسي ـ بَكَتْ سَوْسَنة
وَمَا بَعْدَ نَفْسي ـ  بَكَتْ سَوْسَنة
وَالمَكَانُ يُحَمْلقُ في عَبَث الأَزْمنَة»
يتحجّر المكان في الزمان إلى الأبد.... يتخلّف الزّمان عن موعده في المكان... ويظلّ الفلسطينيُّ، الفلسطيني التّاريخي لا الجغرافي، يظل مُصابا بداء الأمل، يضع غزالا على مخدعه وهلالاً بين أصابعه ليُخفّف من حزنه...
يظل يربّي الأمل ويسبق كل «المتعاطفين» الذين يُعدّون له قبرا مريحا «يظلّله السنديان وشاهدة من رخام الزمن» يسبقهم ويُزغرد في «عطفهم الكلاميّ الغوغائي الخطابي... يُزغرد ويسألهم من مات ؟... لمن تحفرون هذا القبر ؟... وهذه الشاهدة على من تدلّ ...؟
يسألهم/يسألنا ويمضي نحو النعش يجرحُ خشبه بتهاني ابنه الذي وُلد من الطلقة التي أصابت الجندي الصهيوني... ومن القصيدة التي فجرت سيّارات الغُزاة مجازا وتورية... ومزّقت أوتار عازف الكمان اليهوديّ في مسرحيّة «شالوم عاليخم»... فالشّعر لا يمزح كما التّاريخ الذي سيذكر أن الموت في فلسطين مهنة الرّضيع والشّيخ... مهنة العروس والحبيبة...
في مهب التراب يرتوي اللّحم الفلسطيني وينمو الحزن الفلسطيني كل ثانية... وفي مهب الورق يرتحل محمود درويش في غموض الصور... يترنّح لغة في دوار البحر... وتطير به إلى مجهول الشِّعر الأبديّ من جهتين «أن تنظر وراءك توقظ سدوم المكان على خطيئته... وأن تنظر أمامك توقظ التاريخ... فأحذر لدغة الجهتين.»
وهل تجيء اللّدغة من الجهتين أم  من الجهات المليون ؟! هل تأتي اللّدغة من رامبو أم من نيرودا؟! أم تجيء من يافا والقدس العتيق؟! هل يُلدغ من كرنفال الشعر وشهوة النّثر...؟! أنُلدغ من اتفاق أوسلو أم من حَمَّام دم  حَمَّام الشَّط ؟!...
إنّنا نُلدغ  أبدا من المقاومة الزّاحفة كغيمة مطر و من الحب وهو يُسوّر خطوتنا بـموعد النّرجس وتراتيل بحرية...؟!
حتما انّنا نُلدغُ من الحزن الفلسطيني الطّالع من هتاف الجماهير القادمة من فوهة البندقية والفرح...
 إلى محمود درويش :
يدلّنا القلب دائما إلى ما لا ننتظر...
إلى حُمَّى القصائد...
«صَبــَاحَ الذي قيلَ
ليُعـَـادَ  أجْمَلَ
تَمَّحي التَّقَاسيــمُ
وَيَبْقَى ابنَ مَنْظُور
فَرحًـــا
مُتَأبِّطًــا لسَانهُ السِّحـْـريَّ
تُرَاقصيـنَهُ
وَتَتَمَايلِينَ عَلَى شَفَتَيْ دَرْويشْ
المَجْـدُ لـهَذَا الدَّرْويش
كَيْفَ صَيَّـرَ الأسْمَــاءَ غُيُومًــا
ليَقْفزَ إليهَا مَتَى شَاءَ
المَجْدُ لَهُ، كلَّمَـا أمْطَرَت
ذَكَرْنَاهُ قَائلين :
هَلْ تُمْطرُ في يَــافَــا؟؟!!
وَهَلْ يَعُودُ البَحَّــارُ آمنًــا؟؟!!
وَقَضَى شعْرُهُ أنْ
نَحْملَ الجُرْحَ سَويًّــا
لنَبْكي قلاَعَنـَـا إذْ تَهـَـاوَتْ
نُقَعْـقعُ بالكَلمـَـات
وَنَسْــألُ :
صَبــَاح الصَّمْــت
أَمـَـا منْ أحـَـد
يَـرُدُّ السَّلاَمَ ؟
صَبـَـاحًــا
لاَ يَهُمُّ إنْ سَألْنَا :
«كَيْفَ تَكـُونُ البِدَايـََـاتُ ؟!»

 يُســرى فَراوس
من مجموعة حُمّى القَصَائد
******************
(*) كاتب من تونس

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة