بلاغة الحوار والحجاج في الخطاب التجاري المغربي : نحو مقاربة سيكوبلاغية ـ أ. د. عبد الجليل غزالة

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse27055تقديم
    يَرْتَبِطُ هذَا العملُ بباكورة مشروعنا اللساني الخطابي ( النصي ) الذي نشرنا منه صفحات وفصولا متعددة ، وترجمنا أخرى مضارعة عن اللغة الفرنسية والإنجليزية في مطلع ثمانينيات القرن المنصرم بالمغرب ، وكانت تظهر أسبوعيا بالملاحق الثقافية للجرائد المحلية ( 1 ) ، وناظرنا ساعتئذ ثلة من النقاد والأنداد المتخصصين ، وكذلك العازفين عن تقبل قطاع تحليل الخطاب والبلاغة (( الجديدة )) ، والسوسيولسانيات ، والسيكولسانيات بالمغرب ، وهو ما جعل بعضهم يتشيعُ إلى ما يشبه (( لسانيات الزاوية )) التي كانت تقتدي بثلاثة طرائق متمايزة ومهيمنة : البنيوية ( الشكلية / المحايثة ) ، و التوليدية ( التحويلية ) ، والتداولية ( الوظيفية ) التي استقطبت في ديارنا بعض المريدين والحواريين الذين لم يستوعبوا مكونات مسارنا اللساني / الخطابي الجديد في تلك الحقبة الثقافية من تاريخ المغرب ( 2 ) .
بلاغة الحوار والحجاج في الخطاب التجاري المغربي
    يُمَثِّلُ هذَا الفرعُ البلاغي ، المشكل للخطاب التجاري المغربي بالنسبة لنا ، كل أنواع الجدل الذي يدور باستمرار بين التجار وزبائنهم المتنوعين .
  إنَّهُ نسقٌ نصي يُعالجُ مكونات الحوار التجاري المغربي وأخلاقياته وطرائق اشتغاله ، وهو ما يدرجه ضمن (( نظرية الإقناع )) persuasion theory البلاغية التي تستند في مشروعنا إلى مجال نسقي متكامل ، لأنه يضم كل الأبعاد اللسانية والتداولية التي تؤلف بين لسانيات النص والسيمائيات .
   تَتَعَدَّدُ الأعمالُ والتوجهاتُ البلاغية الجديدة في العالم الغربي والعربي ، لكننا مازلنا نركز باستمرار في مشروعنا العلمي ، منذ ثلاثين عاما ، على الجانب النصي والسيميائي ( 3 )  .
    تَتَقَصَّى (( حلقةُ الحوار ))loop dialogue في الخطاب التجاري المغربي  العمل الوضعي الذي يأخذ بعين الاعتبار الزبائن والمشترين بمختلف مداركهم ، ونزعاتهم ، وأغراضهم ، ومشاركاتهم المختلفة في المناظرات ، والصراعات ، وأنواع (( الجدل التجاري )) ، وتعبيرهم عن ميولاتهم النفسية .

   يَتِمُّ إنجازُ هذا الحوار التجاري في إطار (( حلقة وضعية ))loop  positive، كما يمكن أن يتحقق بعيدا عنها ، حيث يقصي التجار زبائنهم أو العكس ، وهو ما يخلق نوعا من الاختلال بين عملية التقصي  ، والصراع أو المناظرة ، والجدل ، والميول النفسية .
   يُنْتِجُ الخطابُ التجاري المغربي الدائر بين البائع والمشتري حوارات متنوعة القيم ( الحجاج ). تتلاحم فيها وجهة النظر واقتضاءات المقام الخطابي discursive context ( مقتضى الحال ) المرتبط بالموضوع ، وهو ما يؤسس منطقا غير شكلي يعالج عمليات الإقناع التجاري .
   لِذَلِكَ فإنَّ الحوار التجاري ( الجدل التجاري ) يرتبط بالزبائن أو المشترين الذين يتحركون داخل فضاءات وأحياز زمكانية مقننة . ينجز هذا الحوار ضمن عملية تنظيم المجتمع المغربي بمختلق قضاياه وتطلعاته .
    تَهْتَمُّ بلاغةُ الحجاجrhetoric   argumentsفي الخطاب التجاري المغربي بتنسيق مختلف القيم أكثر من اهتمامها بضبطها وإطرائها . يرى بيرلمان في هذا الصدد أن تنسيق مجال القيم من المنظور الحجاجي يعد أهم من تحديدها في حد ذاتها . 
   لاَ تُطْرَحُ المُيولُ النَّفسية في الحوار التجاري الإقناعي عملا فعليا ، خاصة إذا ما أحاط الطرفان المساهمان عِلْمًا باختلاف الحجاج الفلسفية التي تحركها لسانيات النص . 
    تُعَالِجُ ( حلقة الحوار ) في الخطاب التجاري المغربي عمليات التَّقصيِّ ، والمناظرة ، والمجادلة الحِجاجية العقلية القائمة بين التاجر وزبائنه .
      يَبْدُو لنا لأوَّلِ وهلةٍ ، من المنظور السيكو بلاغيrhetorical psychological التجاري ( 4 ) أن الدور الأساسي للتاجر المُقْنِعِ الذي يتعامل مع أصناف متعددة من الزبائن هو الإغراء والإقناع . إنه يوظف معرفته لإثارة رغبة الشراء عند مختلف الزبائن ، سواء عن طريق التوضيحات أو عرض السلع المتنوعة بطرائق لافتة للنظر أو باستخدام مبادرات متنوعة تجعل الكلام الذي يستعمله بريئا . قد تبرز عدة أشياء تحول دون ابتزاز الزبون نظرا لالتزامه الشديد رغم الشرح المفصل الذي يُستخدم لعرض السلعة التجارية على أنها عبارة عن (( فرصةٍ فريدةٍ يجب اغتنامها )) .
   تُطرحُ أحيانا افتراضاتٌ ترى أن (( موضوع الشراء )) ينبع من مصدر مشبوه ، مما يسمح ببيع المادة التجارية المعنية (( بثمن بخْسٍ ، لكنه لا يتكرر مرة أخرى )) . لا يمكن تحديد كل أنواع السلوك السيكو بلاغي التي تكون طورا مفرحة ومتضامنة وطورا صِلْفة وملحَّة . إنها تعبر عن ثرثرة البائع المغربي ومغالطاته التي تسعى إلى إبهار وسحر المشتري ، كما تظهر بعض الحركات والإيماءات تنوع الملامح الخادعة والمحبة المزيفة والضحكات الصُّفْرِ المبالغ فيها . قد تتجلى هنا بعض علامات الاستخفاف المبطَّن والإيثار.
   يُقَدِّمُ البائع عدة تنازلات وتساهلات ماكرة واعتراضات حربائية ، مما يشكل خطابا لسانيا دعائيا متينا على المستوى البلاغي . يُقْسِمُ الأيْمانَ الغليظةَ بقوله:
_  أُقْسِمُ لكَ يَا سَيِّدِي بِاللَّه ، أنَّنِي إذَا بِعْتُكَ هَذِه اْلبِضَاعةَ بِالسِّعْر الَّذِي تَذْكُرُهُ
فإنَّنِي سَأخْسِرُ كلَّ شَيْءٍ .
    يُبْرِزُ البائعُ المغربي هنا سُخْطه المفعم بالتَّصنع والتكلف والزيف المتنوع ، وهو ما يجعله يصرح لزبونه مرة ثانية :
_   لِحُسْنِ حَظِّكَ يَا سَيِّدِي ، إنَّهَا اْلقِطْعَةُ اْلأَخِيرةُ اْلمُتَبقِّيةُ عِنْدِي فِي اْلمَتْجَرِ . سَأبِيعُها لكَ . سُلوكُكَ اْلجَمِيلُ ، وَالرَّاقِي جَعَلَنِي أُحِبُّكَ منْ أوَّلِ نَظْرةٍ . سَأبيِعُكَ هذِه اْلبِضَاعةَ ولَوْ كانَ شَخصٌ آخَر غَيركَ فَلنْ أتَعَاملَ مَعهُ نِهَائيًّا ....
   قَدْ نُصادفُ في المجال التجاري المغربي وجوها لطيفة ، مرحبة ، واعدة ، ودودةً  ، وربَّما مشبوهةً خاصة عند بعض البائعات والعارضات الفاتنات أو البائعين ، والعارضين المتأنقين ، والشباب المتحمسين في جل المناطق المغربية . تستغلُّ هذه المجموعة سماتها الشخصية الجذَّابة وسحرها المؤثر على الزبائن من الجنسين . 
   تَجْدُرُ الإشارةُ هنا إلى أنه من السهل في المجال التجاري المغربي استخدام مناورات مشبوهة . يطرح هذا الموضوع السؤالين التاليين :
_  هَلْ يُقدِّرُ فِعلاً هذَا التَّاجرُ اْلمَغْرِبي الَّذِي يَزْعمُ بأنَّه مَاهرٌ وَحاذقٌ عواقبَ دَوْرهِ الإِغْرائِي وَالإِقْناعِي ؟
 _  ألاَ يُفكِّرُ هذَا الرَّجلُ أنَّ عُروضَهُ سَتَجرُّ أُناسًا غيرَ مُهيَّئين (( للدِّفاعِ عنْ أنفسِهمْ )) وإلَى الإِسْرافِ والتَّبْذِيرِ ، ممَّا يُوقِّعُهمْ فِي ظُروفٍ حَرجةٍ قدْ تَجْعلُهمْ يُخْرِبونَ بُيوتَهم بِأيْديهِمْ ؟
     إنَّ بعضَ الأشخاص الأذكياء يعلمون أنَّ البيع بالدَّيْن أو بالقرْض الذي تستخدمه عدة دكاكين وأسواق تجارية مغربية ليس سوى مجرد استغلال لضعف المشتري ، لذلك فإن إبرام هذا المشتري لعقد معين مع البائع يجعله يلتزم لاحقا بدفع (( نسبة زيادة )) شهرية ، وإلاَّ فإنه سيضطر إلى إرجاع المواد التي اشتراها دون المطالبة بالدفعات السابقة . يعرف البائع جيدا مدى ارتفاع النسبة المئوية عند التعامل مع هؤلاء الزبائن . يرتكز التفاوض بين الطرفين هنا على انعدام التوقع الدقيق وشيوع بعض الحماقات في مجال العمل . إنه نشاط مشبوه ومبعثر أو إنجاز يشار إليه بالبنان والتقدير.
     لِلأَسَفِ ، لاَ تحملُ هذه الطريقة في التعامل التجاري بالمغرب سوى القليل من الحقيقة والمنطق ، فالصراع من أجل البقاء يتخذ في بعض الأحيان شكل معركة ضارية . لا يستنتج من هذا أنَّ النصر المحقَّق يكون مردُّه دائما إلى استعمال المكر والخدعة ، لكن لحسن الحظِّ أن العكس هو الصحيح والثابت الظاهر في أغلب الأحيان .  
    مِنَ المُؤكَّدِ أنَّنا نصادف في المجال التجاري أشخاصا يسعون إلى مراوغة شركائهم دون أي وازع أو ضمير يذكر . قد ينجح هذا التوجه ، لكن هل يستمر أثره طويلا ؟           
    يُعَدُّ الزبونُ الذي يبيعه التاجر المغربي بضاعة فاسدة أو مزورة باستعمال عنصر المفاجأة والخداع إنسانا غبيا يتمُّ التغرير به بكل سهولة ، كما أن ذهنه قد يصاب ببلبلة عارمة من خلال سيطرة الأدلة التي يعرضها عليه هذا التاجر المتحاذق . يشرع الزبون في التفكير الجدِّي منذ اللحظة التي تتمُّ فيها الصفقة ، فيكتشف أنه قد تمَّ خداعه بالفعل ، لكن ردَّ فعله يكون لطيفا ومهذبا . يصرح بكل هدوء :
  _  اْلوَداعُ  يَا سَيِّدِي ، لنْ تَطأَ قَدمَايَ أرْضَ مَتْجرِكَ مَرةً ثَانيةً مَا دُمْتُ حَيًّا. 
    إنَّ هذا التاجرَ الذي يريد بيع سلعة معينة يدرج في الحسبان عقلية زبونه . لكن هل هو مقتنعٌ بأن السلعة المباعة للزبون تلبي احتياجاته وذوقه ومستواه المادي ؟
    يَتَطَلَّبُ الأمر منه إبراز محاسن وفوائد هذه السلعة ، حتى يشعر الزبون بأن الكلام الموجه إليه يخدم مصلحته . سيفكر حينذاك بأن هذا التاجر هو رجل مُقْنِعٌ persuasive  ونزيهٌ ، لأنه لا يبحث عن (( الغنى الفاحش بسرعة ، ولا يتحين الفرص المناسبة )) مهما كلف الأمر ، ولا يقصد استعمال البراهين والحجاج بكل أنانية وخيلاء ليوحي له أنه أحد دهاقنة القُطب التجاري في المغرب  .
      يَضْطَرُّ التَّاجرُ في هذا الموقف إلى إثارة رغبات واحتياجات مصلحة الزبون ومنفعته الخاصة ، حيث يدرسها بإحكام . إنَّه لا يتعامل معه من أجل إغرائه بصورة عمياء ، بل لتنويره وتوعيته بأن ما يشتريه من سلعٍ سيحسن نمط عيشه ، ووجوده ، وقوته ، وصحته ، وأرباحه ، وتطوره ...الخ .
    لاَ يُفْهَمُ هذا السُّلوكُ السيكو بلاغي على أنه عبارةٌ عن ممارسة خفية يكتنفها الامتثال والخنوع نظرا لوجود معارضة ، حتى ولو كانت خفيفة . قد تبرز خلال هذه الممارسة تصريحات يكتنفها التوجس . يرد بعض البائعين المغاربة النبهاء في كل لحظة يظهر فيها زبون جديد أو غريب بقوله :      
     قَدْ يَرْتابُ أكثرُ الزبائن المغاربة بساطةً في أمر هذه (( الصداقة )) التي تفجرت فجأة بصورة يكتنفها المكر والرياء بغية مسايرة مراحل النقاش . يرى بعض النزهاء أن الأمر طبيعي جدا ، خاصة عندما يتم مدحهم وتقديرهم من خلال أقوال بيِّنةٍ ، فهم يحبون أن تتم معاملتهم (( كأمراء مبجَّلين )) أو أن يتمَّ حفظ أسمائهم أو تدوَّن بعناية وتُتخذ بشأنها إجراءات خاصة .
      يُصرِّحُ البائع بقوله للزَّبون :
  _  إنَّكَ الشَّخْصُ اْلوَحِيدُ اْلَّذِي أُعَامِلُه بِهذِه اْلطَّريقَةِ ، ولَا أَحدَ سِواكَ أُقدِّم إِليْهِ مِثْلَ هذِه اْلخَدمَات . أنْتَ قدْ وَرِثْتَ السِّيادَة أبًا عنْ جَدٍّ  .
   تَبْقَى رغبةُ كل زبون مغربي في التميز عن جماعته نشيطةً باستمرار ، وهو ما يجعل التجار يستغلُّونها عند الاستقبال لمعرفتهم بأنها تمثل ضعفا إنسانيا ، لكن بعدما يتمُّ خداع الزبون عن طريق بعض التوضيحات والكلمات العاطفية والتمييز الطبقي ، فإنه يفكر مليًّا ويقرُّ بأن العرض الطويل أو البهرجة على مستوى العواطف تحمل في الغالب دلالة صارخة على زيفها .
  تُؤَدِّي المصلحةُ المشتركة القائمة بين البائع والمشتري إلى ضبط وتوجيه بَوْصَلة المشاعر الحميمة ، لذلك فإنه يجب عليهما الاعتماد على السلوك السيكو بلاغي الحسن ، والابتسامة العريضة ، والحب الفياض ، واجتناب كل مبالغة أو حربائية من شأنها أن تجعل العلاقة بينهما غامضة ، مما يجعل المشتري يفهم عند ذلك بأن هذا البائع هو صاحب ذوق رفيع ، وعلى خُلُقٍ عظيم ، ورقيق ، ونبيل ، وهذا يؤثر عليه أكثر مما لو سلك سبيل الخداع والمداهنة والمواربة...
     يَحْتاجُ التَّاجرُ المغربي إلى استعمال دعاية يسودها نوع من الجد والثبات (( ليمنح السلعة المعروضة قيمة فريدة )) مع قليل من الإصرار والإلحاح ، لكن الأمر يتطلب منه تفادي رد الفعل التالي عند الزبون :
  _   إنَّ هذَا التَّاجرَ يُريدُ التَّخلُّصَ منْ خُرْدتهِ اْلقَدِيمةِ وَاْلقَضاءَ علَى مَوادِّهِ التِّجاريَّةِ اْلمُنْتهيةِ الصَّلاحيَّة وَاْلمُتلاَشيَّة .
    يَرَى بعضُ البائعينَ الحاذقين في هذا الصدد أنه لا داعي للعجلة عندما يريدون التخلُّص من البضاعة المكدَّسة . إن تصريح المشتري:
  _   سَأُفكِّرُ فِي هذَا اْلمَوْضُوعِ وَأعُودُ إِليْكَ مَرةً ثَانيَّةً . 
يَزرعُ في نفوس هؤلاء التجار جوًّا من الفرح والسعادة ، فيردُّون :
  _   كمَا يَحْلُو لكَ سَيِّدِي ، هذَا أَمرٌ طَبيعيٌّ  . لَديْكَ الوقتُ الكَافِي لِتنْتقِي مَا يَنْفعُكَ وَيخْدمُ مَصْلحتَكَ  .
       قَدْ لاَ يقرِّرُ المشتري المغربي بسرعة ، فيبدو عليه بعض التردد في البداية . 
   مِنَ المُناسبِ عند حدوث النقاش الذي يسبق شراء البضاعة ظهور التاجر بمظهر الإنسان الجواد الذي يعطي ويقدم أكثر مما يأخذ ويطلب . لابد من (( منح قيمة مناسبة )) للبضاعة المباعة ، وهو ما يسمى (( تكلفة المقاومة )) . يجد الزبون نفسه أثناء الحوار منقادا إلى التفكير أنه من الملائم (( تطويق الثروة وتكبيلها )) من خلال اللحظة القصيرة التي تتبدى أمامه  .
     يَتَطَلَّبُ الأمرُ هنا الاعتراف بأنَّ بعض المغاربة الملتزمين أخلاقيا والمتَّسِمين بالنزاهة والضمير الحيِّ يطمحون دائما من وراء قيامهم بعمليات تجارية أو قضايا اقتصادية مهما كانت بسيطة إلى تحقيق عمل مربح .
      تَجْرِي عدَّةُ عمليات تجارية في الأسواق التجارية المغربية الكبرى تجعل المشتري يعتقد أن ربح البائع يمثل نسبة مئوية بسيطة يحددها تلقائيا ثمن الصنع . يمكن أن تتغير هذه النسبة المئوية من محل تجاري إلى آخر تبعا للمصاريف والتكاليف العامة ، كما أن هذا الأمر يتغير من بضاعة إلى أخرى ، مع العلم بأن المشتري المحتمل يكون هو محور العملية الرابحة نظرا لأن رغبة (( الاستفادة من فرصة سانحة )) تتحرك بداخله لجعله يقتنع بيقظة عقله وفطنته ، لأنه يتبين العمليات الرابحة ، لذلك فإنه يؤمن بحظه ، وهو ما يوقظ في أعماقه رضى وقبولا كبيرين . يقرر عدة أناس في هذا المستوى إنهاء موضوع العملية التجارية المعنية.
    مَعَ الأسفِ ، قد لا يُصْدرُ التاجر أحيانا قرارا نهائيا إلا بعد ما يتأكد أنه قد (( أطاح )) فعلا بزبونه . يكون هذا (( المثير )) السلوكي ضروريا بالنسبة له ، ولا يمكن الاستهانة به رغم أنه مثير ضئيل القيمة لكنه فعال ونفعي بالنسبة لاتخاذ القرار عند بعض الشرفاء . لا يغضب هذا التاجر عندما يتم تقدير قيمة مرونته التجارية الواسعة بدقة ، لذلك فإنه يصرح بكل تواضع وتفكير عميق :
  _   أنَا لَديَّ إِحْساسٌ لاَ يَخيبُ يَجْعلُنِي أتَّخذُ هذَا اْلقَرَار فِي اْلوَقْتِ اْلمُناسِبِ.
  يتوقف قليلا . يتأمل ، ثم يضيف بعد ذلك :
  _  أنَا أقْوَى منْ هذَا الزَّبونِ .
   لاَ يُلْقَى هذا القولُ على رؤوس الأشهاد ، مما يجعل الزبون يرفض التفكير في الأمر حتى لا يتعرض فيما بعد للتأنيب أو السخرية .
    يُدْرِكُ بعضُ التُّجار المغاربة هذه الحالة السيكو لسانية جيدا ، لكنهم مع ذلك يظهرون بمظهر البسطاء الطيبين الذين يتم التغرير بهم بسرعة ، لذلك فهم يبذلون جهودا عبثية تدفعهم لطرح أسئلة سخيفة وتكرس جهلهم وضعفهم . تعيش هذه المجموعة من الناس في محيط تعمه الانفراجات والابتسامات العريضة ، إذ تعلو ملامحها البراءة والسذاجة ، كما أنها تستخدم لغة ثريَّةً لكنها تترك الانطباع بأنها موسومة بنصيب من الغباء . قد يردد أحد أفرادها القول التالي :
   _  سَيِّدِي ، أنْتَ تَعْرفُ جَيدًا أنَّنِي لَسْتُ ذَكيًّا بمَا فيهِ اْلكِفَاية  .
   يَظْهَرُ انتصارُ هذه المجموعة وتألُّقها خاصة عندما تحظى بالعطف والمساندة مع العلم أنها تهدف إلى إيهام الناس بأنها ضحية لهجوم بعض الهواة ، كما أنها تدعي السذاجة بحثا عن عملية رابحة .     
    إنَّهُمْ فِي الحقيقةِ عبارة عن مجموعة من (( الماكرين )) ، لكن لا يبدو عليهم ذلك ، لأنهم يقومون (( باصطياد )) كل من يزعم أنه يخدعهم .
  لاَ يُمْكِنُ أنْ ننكر أن هذا النفاق يسيء إلى هذه المجموعة ، لأنها حتى ولو كانت تخطط للعبة محبوكة فإنَّ أمرها سينكشف في النهاية ، كما أن شهرتها المرتبطة بالمكر الفظيع سيأفُلُ نجمها .
     لاَ يَتِمُّ البحثُ عن بلاغة الحوار والحجاج في الخطاب التجاري المغربي ضمن هذا الدَّرك الأسفل من المكيافيلية ، لكننا نستطيع القول أن وجود عملية تجارية نزيهة يساهم في إذاعة صيت أحد التجار ويوحي لزبونه بالثقة ، كما أنه قد ينشر قسطا كبيرا من الرضى بين الطرفين . يشعر الاثنان معا بالانطباع نفسه بعد القيام بعملية تسوُّقٍ مفيد أو عملية تجارية رابحة ، لذلك فإن تقدير قيمة الإيجابيات المتحققة تجعل الطرفين يحللان الأمور من وجهة نظرهما الشخصية ) (5) .
الفعل السيكو بلاغي والإشارات السيميائية .
  يَتَعَامَلُ التاجر المغربي مع زبونه الذي قد يبدو عليه بعض التردد حسب مواقف وملامح جسدية وسيكو بلاغية ملائمة . يبادره بالقول :
_  أيُّهَا اْلعَزِيزُ ، أنتَ لا تُصدِّقُنِي إذنْ . اسْمحْ لِي أنْ أَعْرضَ عَليكَ فِي اْلحَالِ مَزايَا هَذِه البِضَاعةِ ، ثمَّ بعْدَ ذَلكَ أُحْكمْ عَليْهَا وَقدِّرْها بِنفْسكَ . أُنظرْ إلَى ثَمنِهَا ، حرِّكْها ، تعرَّفْ علَى تِقْنيَّتهَا . سَتعرفُ فِي النِّهايةِ مُسْتوَى جَوْدتِهَا  .
    يَعْرِفُ هذَا التاجر مهنته جيدا ، لأنه رجل محنَّك ويعلم جيدا أنه لا يمكن محاصرة عقل أحد الزبائن باستعمال أفكار مجردة و(( حقنات إحساسية )) ترتبط باللمس وتلعب دورا كبيرا في هذا المستوى .
     تُمَثِّلُ هذِه الاحساساتُ الرقيقة قاعدة سيكونصية بالنسبة لجل معتقداتنا وقناعاتنا . قد نتغاضى عن إحساسنا السمعي والبصري ، لأننا نعرف جيدا أن الحواس تخدعنا في بعض الأحيان ، لكن اللمس المباشر باليد يجعلنا لا نشك في الإحساس الذي يتحرك بداخلنا ، لأنه يصبح صافيا دقيقا  .
    يُحِسُّ التاجر المغربي بغريزته الفطرية التي تجعله يبذل جهدا كبيرا ليثير في نفس زبونه فعلا إنسانيا أو حركة أو حدثا يهدف من خلاله إلى جسِّ إحساسه والبحث عن الجانب الاقتصادي المفيد . يمكن لهذا الحدث رغم صغره أن يؤدي إلى مساهمة فعالة من الطرف الآخر .
   يَسْعَى بعضُ رؤساء الأحزاب السياسية المغربية إلى جعل سائر الأعضاء والمنخرطين يروِّجون شعارات تخدم مصالح أحزابهم ، حيث يطلبون منهم إلصاقها في بعض الأماكن العامة أو يتغنَّون بها ويرددونها في بعض المناسبات ، ويضحُّون من أجلها بإقامة الاحتفالات والمهرجانات المتنوعة ويطبقون قانونها الخاص .
      يُحَاوِلُ التاجر دفع زبونه بكل لباقة وطيبة قلب إلى القيام بفعل إنساني تكون له علاقة بالموضوع الذي يطرحه عليه . يجعله هذا السلوك السيكو بلاغي يعامله بالمثل فينالُ رضَى الزبون ويحصل على حبه وحمايته ، كما يمكن أن تكون محاولاته الفعلية عديمة الجدوى بالنسبة لهذا العميل ، فلا يعيرها أي اهتمام ويتنكَّر لها تماما ، لذلك فإن سلوكه قد يحيره بالفعل نظرا لما يحمله في قرارة نفسه وما يفكر فيه بالضبط .
    يَكُونُ التَّاجرُ المغربي مطالبا بمحاورة هذا الزبون الذي قد يكون (( باردا )) أو (( جافا )) بطريقة طيبة ومقابلته دون كلل أو ملل ، فلا يجب أن يحاولْ التقليل من احترامه أو (( التطرف )) في معاملته ، لأنه قد يواجه بشكل تلقائي بالمعاملة عينها ، كما أن تكرار هذه المعاملة المتبادلة سيخلق طرفين متعاديَّيْن فيما بعد . إنه يحاولْ أن يكون طبيعيا في كل الظروف والمواقف ، ولا يوظفْ (( تذمره )) أو دمدمته باستعمال حركات وإشارات تكون ظريفة ولطيفة في الشكل ، لكنها خادعة وماكرة في المضمون .
   مِنَ الأفضلِ تجاوزُ الإلحاح ، والتشدد ، والحسرة ، والولولة ، والظهور بمظهر الشخص المجادل الذي يطرح أسئلة رصينة ، لكن مهما يكن الأمر فإنه  يجب على التاجر أن يتحايل فيما بعد على الموضوع المطروح ، فقد يأتي عليه يومٌ يتوصل فيه إلى إقناع هذا الزبون ، فيقدم إليه بذلك (( عملاً قيِّمًا )) . قد تساهم الحركات والإيماءات ، وعلامات الاحترام والتقدير التي يقدمها هذا التاجر لزبونه ((  دون رضاه)) في خلق تحول أو تغير مباغت .
    لاَ يَجِبُ نسيان أن نوع الفعل السيكو بلاغي يمثل نتيجة واضحة ودليلا قاطعا على نجاح عملية الإقناع . هل يعني هذا أن الشخص الذي لا يربط القول بالفعل يحمل بين جوانحه إيمانا صادقا ؟
   قَدْ يقرِّرُ التاجر المغربي القيامَ (( بمبادرة )) معينة اتجاه الزبون الذي يريد إقناعه : يساعده ماليا ، يحثه ويدعمه إداريا ، يصفق ويهلل له ، يبتسم له ، يتظاهر بالبكاء والحزن معه ، يساهم معه في اجتماع معين ، يقوم بدور خاص لصالحه أو بكل بساطة يجلس إلى جانبه ، وينصت بتأن إلى حديثه . يمكن للزبون التأكد بعد كل هذا أن جهود التاجر قد بدأت تؤتي أكلها . قد يحقق نصرا فعليا وعريضا ، خاصة حينما يقوم الزبون بتصرف يطابق حرفيا المعتقد الذي يقله إليه باستعماله لأحسن الوسائل والطرائق  .
علاقة التلميحات السيميائية عند التاجر المغربي بشعور الزبون
    يَحْتَاطُ الزبون بشدة أثناء الحوار مع التاجر ، لأنه قد يستشفُّ منذ أول وهلة أنه سيقترح عليه قبول فكرة لا تروقه . ربما يمثل هذا الأمر نوعا من التوبيخ الذي يحاول جعله (( يهضمه )) بكل بساطة ، لذلك فإنه قد (( يشعر )) بأن التاجر يطلب منه تنفيذ خطة مزعجة تدفعه إلى إبرام عقد معه يحوي بعض الالتزامات المضرة التي تجعله يتخذ قرارا محفوفا بالمخاطر.
  مِنْ مصلحةِ التاجر المغربي  أخذ الحذر بالنسبة لأي اقتراح مباشر من شأنه أن يكون مباغتا أو قاسيا ونافذ المفعول ، كما أنه لابد من الاهتمام ببعض التلميحات ، والإيحاءات ، والإشارات ، والرموز في هذا المستوى .
  لَيْسَتْ هذِه الطريقةُ في التعامل غريبة على ثقافتنا ، فهي التي كانت السبب في ظهور (( الأجناس الأدبية )) التي نسميها اليوم الخرافة ، والحكم ، والأمثال ، والألغاز ، والأحجيات ، والسيمائيات ، والمجاز ، والاستعارة البلاغية المتنوعة . إنها تهدف إلى تقديم تصورات خاصة على ألسنة الحيوانات ، والنباتات ، والأشياء ، والأفكار ، وتدفع كتاب الحكايات إلى استنطاق أشخاص معينين لا يستطيعون مخاطبتهم مباشرة ، كما هو الشأن في حكايات ( ألف ليلة وليلة) ، و( كليلة ودمنة ) وغيرها
  لَقدْ دَفعتْ عدة حيل وحجاج من هذا النوع سادة العرب وأعيانهم الذين كانوا يملكون في عصر ما قبل الإسلام الصروح المنيفة ، والرقيق ، والخدم ، والحشم ، والأنعام ، وتجارة الشتاء والصيف إلى المطالبة ببعض الحقوق المهضومة ، كما قام فيما بعد بعض فحول الشعراء ، وفطاحل الكتاب ، والرواد باستخدام الطريقة نفسها لمواجهة الملوك ، والسلاطين ، والأمراء بالحقيقة المُرَّة .
   مَازِلْنا نَسْتغلُّ قسطا كبيرا من الخرافة ، والحِكم ، والأمثال ، والثقافة الشعبية ، والرموز السيميائية ، وأنواع المجاز والاستعارة البلاغية المتنوعة ، لكنها نادرا ما تكون منظومة نظما شعريا مفهوما . إننا نهتم كثيرا باستعمال بعض التلميحات ، والرموز ، والكنايات ، والإيحاءات البلاغية المختلفة ، وهو ما يساعدنا على حمل محاورينا بكل هدوء على قبول تصورنا للأشياء ، دون أن يحدث أي اصطدام عنيف أثناء النقاش .                                     
     يَعْرِفُ التاجرُ الجيد كيف يوظف تلميحاته التي تتخذ أشكالا متنوعة تقود إلى تحديد الصور والأفكار بصورة متطورة . فإذا لم يتمّْ كشف هذه الجوانب بشكل منسق ، فإنَّ ذلك سيقود إلى (( إطلاق صرخات قوية )) .
   يُوَجِّهُ التاجر المغربي المُقْنِعُ في هذه الحال أفكار زبونه بشكل سديد ، فطورًا يلقي عليه كلمةً قوية تصيب الهدف وطورًا يقوم بالعكس ، فيقدم رؤيةً مبهمة غير واضحة المعالم .
    قَدْ لا ينتبهُ هذا التاجر المُقْنِعُ هنا إلى أهمية بعض المقارنات التي تثير أفكارا متنوعة ، إذ أنها تحرك النقيض بشكل آلي . لكي نقوم بتنشيط ذاكرة أحد المستدينين ونجعلها تتنافس أو تصاب بالغيرة من أجل تأدية واجبها ، فإنه من الملائم أن نمدح أمام صاحبها الإنجازات التي يحققها بعض الأشخاص النزهاء .
  قدْ يتمُّ في بعض الأحيانِ إقحام كلمات التوبيخ والتأنيب بين طيَّات عبارات المجاملة :
   _    يَا سَيِّدِي ، أنْتَ تُفْرطُ فِي إخْلاصِكَ . أنَا أرْتابُ فِي هذَا الأمْرِ . إنَّنِي أعدُّهُ مُجرَّدَ افتراءٍ يَتفيَّأُ تحْتَ ظِلالٍ وَارِفةٍ  .
   إنَّ تقديمَ اعترافٍ قوي بشِأن هذا الضعف يجعلنا نتجاوز حدود موضوع النقاش ، ونحثُّ المخاطب على الاقتداء بنا ، واتباع نهجنا .
   لِذَلِكَ فإنَّ إقامة الصلاة لا يتعلَّمها المسلم من شخص غير مؤمن ، مهما كانت نوعية المعاملات وطرائقها الموجودة بينهما . إنها تمثل عِماد الدِّين ، وليس هناك أيُّ عذر مهما كان نوعه يجعل المؤمن لا يلتزم بكتابها الموقوت . يُعلِّمُ هذا الركن الإسلامي الشخص الممارس الخشوع ، والتوسل للخالق ، لكنه قد يتحول في بعض الظروف إلى شخص ضعيف يتوسل للتجار ، مما يجعله تحت رحمتهم ، فتضعف شوكته ، وتذهب ريحه .
      يَسْتَغِلُّ بعض الباعة المغاربة هذا الضعف عند بعض الرجال والنساء فيُوقِعُونهم فى حبائلهم ويهاجمونهم داخل ملعبهم (( بإغراءات وضغوط )) . قد يحوي تلميحهم هنا بعض التهديدات المقنَّعة والمبهمة أو القاسية . يزعم التجار الذين يلوحون بهذه التهديدات أن عدم التصديق للموضوع يعني تقليل الزبائن من احترامهم ، وثقتهم ، وإثارة غضبهم ، وهذا قد يضيع من بين أيديهم عملية تجارية رابحة .
   إنَّ الزبونَ الذي يوجه إليه هذا التلميح يصبح مضطرا إلى (( مراجعة نفسه )) وتحمل تبعات تصرفه ، وهو ما يجعله يقوم بفحص دقيق لأقواله وأفعاله السيكو بلاغية ومواجهاته لمتلقيه .
  لِذَلِكَ ، فإنَّ السبيل المنعرج الذي يسلكه التلميح بغية الوصول إلى نقطة حساسة تثير النفس يعلم المخاطب بأنه هو المقصود بهذه الرغبة الجامحة والغامضة .
     يَطْرَحُ الزبونُ الأسئلة التالية بحيرة واستغراب :
     _   لِماذَا يَسْتخدِمُ هذَا التَّاجرُ كلَّ هذِه الأَقْوالِ وَالأفْعالِ لإقْنَاعِي ؟ 
     _   هَلْ يُؤاخِذُنِي نَظرًا لتَردُّدِي فِي اْلقِيَّامِ بهذَا اْلعَملِ ؟
     _   هَلْ أنَا مُجْبرٌ علَى اتِّباعِ طَرِيقَتهِ ؟
     _   مَاذا يَعْرفُ عنِّي بِالضَّبْطِ ؟
     يُفَكِّرُ الزبون في التواضع الذي كان يبدو عليه عند بداية الحوار .
   ربَّما أنَّ ما يعرب عنه هذا الزبون هو حقيقة فعلية ، لكنه لا يشعر بها بكل دقة وصفاء ، مما يدفعه إلى استغلال ذلك نهارا جهارا وتغيير سلوكه برقة وهدوء دون أن يبرز رضوخه السافر .
   ومُجْمَلُ اْلقَوْلِ أنَّ بعض التلميحات والإشارات الضمنية تكون رمزية وبعيدة الغور والقصد أو لا علاقة لها ببلاغة الحوار في الخطاب التجاري المغربي  . قد يجهل أحد الطرفين المتحاورين خصوصيات وأسرار الطرف الآخر ، لكن الصدفة هي وحدها التي تجعله يتحدث بهذه الطريقة ، حيث يقول :
  _  إنَّهُ يُوجِّهُ إليَّ الدَّعْوةَ بشكلٍ آمرٍ . يَجبُ أنْ أجدَ طَريقةً جَيدةَ تُخلِّصني مِنهُ فِي الحالِ    .
   يَتَنَوَّعُ اْلحِوارُ الداخلي السيميائيmonologue semiotic الذي يستخدمه الزبون ، لأنه يتوزع بين التلميحات والإيحاءات ويعرب عن بعض الشكوك التي تملي عليه التعقل والتفكير المتأني بالنسبة لموضوع بلاغة الحوار في الخطاب التجاري المغربي  . إنه يبني هذا العمل العقلي بشكل متفرد ، مما يقوده فيما بعد لقبول أية فكرة جديدة لماعة .
   منَ الطَّبيعِي جدًّا أن تتنوع التلميحات والإيحاءات والإشارات اللَّماعة تبعا للظروف والسياقات الحوارية القائمة بين الطرفين ونوع السلوك السيكو بلاغي لكل واحد منهما ، فهي قد تكون عميقة لكي لا ينتبه إليها الزبون أو يرتاب في وجود مناورات ودسائس تحاك لاستدراجه واستغلاله ، لذلك يمكن ظهور حالات متعددة تدفع هذا الزبون للمحافظة على النص الفعلي المدجَّج بالتلميحات السيميائية الضمنية المرسلة ، مما يجعله يحاول اجتناب الإحراج والخجل أو الاضطرار إلى مواجهة الرأي المعاكس الجارح الذي يعرض دون أي حب أو تهذيب  ( 6 ) .
   يَسْتَنْكِرُ التاجرُ المغربي المُقْنعُ أفعال الرذيلة التي ينشرها الزبون ، لكنه قد يتظاهر بتجاهل أفعاله الشخصية الوضيعة ، فيدعوه إلى مشاركة سيكونصية في الاستنكار المسلَّط على الآخرين الذين ينشرون الرذائل المقيتة .
   يُشَاطِرُ الزبونُ التاجر لعنته ومقته لهذه الأفعال ، وهو ما قد يشكل بادرة طيبة لانطلاق عجلة الحوار بين الطرفين .
   هُنَاكَ ظروفٌ وسياقاتٌ معينة تكون فيها التلميحات والإشارات مجبرةً على ارتياد سبيل الوضوح والبساطة والتجلي . إننا نعرف مدى إصرار بعض المستدينين الذين (( يجعلون أصابعهم في آذانهم )) ، خاصة عندما يطلب منهم من خلال بعض التلميحات السيميائية دفع الديون التي عليهم ، لذلك فإنه من المناسب تحديد السمات المباشرة التي تحرك (( الحدث الإقناعي ))
persuasion event Theبين الطرفين المتحاورين . 
    يَرْتَكِزُ عملُ التاجر المغربي اللَّبيب على ملاحظة تنوع التنغيمات intonations المرتبطة بصوت كل طرف زبون أثناء هذه المعاملات ، وتبادل النظرات والعلامات السيميائية ، ومساحات الصمت المليئة بالمقاصد والمقامات المقدرة ، والجمل الملتوية التي تكون طورًا شاردة ومتصعلكة وطورًا تنحو منحىً عميقا ، وكذلك بعض الكلمات المعجمية ، والأفكار المخاتلة والملتوية التي تطفو على السطح بسرعة . تقدم هذه الجوانب مجتمعة للمتكلم خدمات مهمة.
  لاَبُدَّ منْ منحِ بعض التلميحات ، والعلامات السيميائية الضمنية  implicitالوقت الكافي لكي تأتي أكلها وتحقق غايتها ، لأن الاقتراح والمبادرة الجديدة لا يفرضان نفسيهما بمجرد تكرارهما لفكرة معروفة تتواتر بشكل قوي أو يتم التعبير عنها بصور متنوعة . 
   تُمَثِّلُ التَّلميحاتُ والإيحاءات المتنوعة والملتوية أدوات دقيقة تتحرك على مهل وبتأن شديد ، وهو ما يخلف آثارا خطيرة أو مدمرة تشعر المخاطب بالمضايقة والاستفزاز ، فتتولد لديه فكرة واحدة مفادها : الفرار من وجه هذا الشخص المحاور الذي يدعي الحنكة والمعرفة الرصينة في مجال بلاغة الحوار في الخطاب التجاري المغربي . يتزايد سخطه ولربما يرد عليه بسرعة مستعملا تلميحات ورموزا  سيميائية مضادة قد لا تسرُّه ، كما أن هذا الرد سيجعله ينغمس معه في صلب الموضوع . تتحول المحاورة بين الطرفين في هذه الحال إلى تنابزٍ بألقاب وأقوال خشنة تجعلهما يبحثان جاهدين عن إثارة سخط بعضهما.
   لِذَلِكَ فإنَّه من المناسب بعد إتمام بناء بلاغة الحوار في الخطاب التجاري المغربي الذي يستند في مجمله إلى التلميحات والعلامات السيميائية الضمنية ، والتأكد من النتيجة الجيدة ضرورةُ التوقفِ عن كل هذه التلميحات والإيحاءات ، وتوجيه الكلام المباشر إلى المخاطب لدكِّ أسوار آخر المعاقل التي يتحصن بها .
المجاملة والرد الحسن .   
  مِنَ اْلمُفيدِ جدًّا أن يعامل التاجر المغربي المُقْنِعُ الزبون معاملةً تسمح بتنوير عقله وفؤاده . يفرض السلوك السيكو بلاغي الرقيق واللطيف نفسه هنا ، لأنه يجعل الزبون يذعن بمقتضى هذا القانون ويتعاطف معه بكل سهولة ويتصرف تبعا لكل ما يطابقه
  إنَّ هذَا هو السَّببُ الحقيقي الذي يجعل بعض الأشخاص يتعاملون مع بعضهم برقة والابتسامة الرقيقة تعلو شفاههم باستمرار ، لكن تكثر في هذا المستوى الاختلافات ، والرموز ، والخلفيات المضمرة بين هذه الأشكال والصور الخاصة بالسلوك الرقيق والمهذب . قد يشعرنا قول أو سلوك بعضهم بنوع من الترحاب وحسن الاستقبال النابع من الأعماق ، فتنشرح له الجوارح عند الاستقبال . يستخدم جل الناس رموزا وعلامات سيميائية خاصة بالتحية والترحاب وآداب اللياقة تعبر عنها العينان ، والرأس ، واليدان ، والشفتان بكل وضوح . يقوم الرجل بهذه الفعال السيكو بلاغية بكل ودٍّ وعفوية نابعة من سويداء القلب ، مما يترجم نوع الثقافة المغربية والتعاطف والوفاء غير المشروط (  7  )  .
    يَتِمُّ استقبالُ هذه الرموز السيميائية بطرائق حسنة تجعل الزبون يبحث عن إثارة إعجاب التاجر وتزكية أقواله ودعمها بمختلف الوسائل ، لكن هل يعدُّ هذا الرجل مقنعا فعلا بسلوكه هذا الطريق ؟
    نَعْرِفُ جيدًا أن هذا الأمر لا يحدث دائما كما نتصور ونتمنى ، فهذه الطيبة أو الرقة المفرطة في استعمال الرموز السيميائية والدعاية تجعله يتصرف وكأنه (( عبْدُ صالحٌ )) يوزِّعُ (( بركاته )) على الملأ بسخاء ( 8 ) . إننا لا نستطيع إقناع أسيرٍ في سجنه ، فهل نحن واثقون من قبوله ورضاه بهذا الأمر ؟
       يُحِسُّ الزبونُ بأنَّ هذا التاجر المغربي (( المفرط في الطيبة )) ربَّما تنقصه الصرامة وقوة العزيمة والإرادة ، والأفكار الرصينة ... يطرح هذا الموضوع سؤالين مهمين :
  _  ألاَ يُمكِنُ لِهذهِ الرِّقَّةِ الأَصِيلَةِ أنْ تَجْعلَهُ عَبْدًا لِتَصرُّفَاتٍ مِزَاجيَّة أوْ تُحوِّلَه إلَى إمَّعةٍ يُقَلِّدُ غَيْرَهُ ؟ 
  _  هلْ يُمْكنُ الرُّكونُ إلَى أقْوالِهِ ؟
   إنَّ الرَّغبةَ الأكيدة للربط بين إمكانيات واستعدادات زبون معين وأشكال وصور الرقة واللطف قد تفضي إلى حصد نتائج هزيلة تكون محكومة بفكر صارم ، وربما تعتمد أحيانا على تصلب وعناد في القناعات .
  يَحْمِلُ اْلزبون فكرة خاصة عن التاجر المغربي اْلمُقْنِعُ مفادها أنه (( إنسان ظريف جدا ومتعاطف ، لكنه لا يتزحزح عن فكرته قيد أنملة )) .
     قَدْ يُبْدِي بعضُ الأشخاصِ المُقْنِعِينَ طيبةً ولطفا حربائيين ، لكنهم لا يملكون أية مسحة فنية ، لذلك فهم قد يستغلون الابتسامة وربَّما الضحك أيضا ، لكننا نلاحظ بسرعة عدم تعود وجوههم على التعبير عن مشاعر من هذا القبيل ، فالعضلات تبدو مشدودة بإفراط ، والأسنان تصطك بوضوح ، والشفاه السفلى تتجمد دون أية حركة ، كما تتقطع الحركات والإشارات المتنوعة وتنطُّ بغتة دون أي مبرر ، مما يجعل التصرف يبدو مصطنعا ( 9)  .
   يَنْجُمُ عن هذا الموقف نوعٌ من القلق والانزعاج والارتباك بين التاجر المغربي المُقْنِع وزبونه : يشعر كل واحد منهما بأنه في وضع غير مريح ، مما يجعل عملية التواصل السيكو بلاغي صعبة بين الطرفين رغم الجهود المضنية المبذولة ، كما أن الأفكار المطروحة بينهما تصبح عديمة الجدوى ، وهذا ما يخنق عملية الإقناع في المهد . قد يساور الزبون بعض الشكِّ في الأمر فيتساءل :
  _ ألاَ يُمْكنُ أنْ تَكُونَ هَذِه الابْتِسامَاتُ وَاْلحَركَاتُ وَالإِشَاراتُ اْلمُوظَّفةُ مُسْتخْدمةً كلَّها منْ أَجْلِ خِدَاعِي وَالإِيقَاعِ بِي ؟  .
    رُبَّمَا يُحسُّ الزبون في هذه الحال بأنه مجبرٌ على قبول الأمر ، خاصة عندما يرى أن التاجر المغربي المُقْنِع هو إنسان معروف بقسوته ورهبته يوظف (( مهارات متميزة )) ليثير إعجابه . يصبح المخاطب هو موضوع و(( بؤرة ))   focus الاهتمام بالنسبة لكل وسائل وعبارات الرقة والطيبة واللطف ، خاصة لما يكون المتكلم المُقْنِع يتوفر على بعض الحُظْوة والتأثير.
   تُصْبِحُ علاماتُ الترحيب وحسن الاستقبال ذات قيمة كبيرة في هذا الموقف  السيكو نصي ، مما يرفع من شأن المخاطب ويخضع هذه العلامات للانتقاء والتقويم والغربلة.
    نُلاَحِظُ هُنا وجودَ فرع سيكونصي تجاري 
 commercial textual psychological  مستقلٍّ بذاته يعالج طرائق وكيفيات الظهور عند البائع والمشتري باتباعهما للخُلُق الحسن والسلوك الرقيق ، فينظمان ويعدلان إمكانياتهما واستعداداتهما الشخصية ويخضعانها للظروف المحيطة وطريقة التعامل بينهما.
أثر براهين التاجر المغربي على الزبون الرافض .
     قَدْ يُوظفُ التاجر المغربي المُقْنِعُ كلمة معجمية خاصة يبثُّها إلى الزبون أثناء إحدى المناقشات الدائرة بينهما ، وهو ما يجعله يحسُّ حينها بأنه يملك بعض الأولويات والامتيازات على مخاطبه ، فيصرح على الفور قائلا :
  _   أيُّهَا اْلعَزِيزُ ، سَأقدِّمُ إِليكَ بُرْهانًا دَامغًا لاَ يُمكنكَ دَحْضُهُ  .
    تَشْتَعِلُ النِّيرانُ بسرعة في جوف هذا الزبون ، فينتفض بشدة ويتمرد باهتياج  ويرفض البرهان المقدم إليه جملة وتفصيلا ، لأنه لا يقبل حشو دماغه بالسفاسف والترهات ( 10 ) .
   لَكِنْ إذَا تمَّ توظيفُ الكلمة المعجمية المقصودة بإحساس ودقة عميقة ، فإن هذا الأمر لن يستمر طويلا ، حيث إن قوة وفعالية التاجر المغربي المُقْنع تتوقفان على الكم والكيف بالنسبة للبراهين التي يقدمها خلال بناء بلاغة الحوار المشكلة لخطابه التجاري . إذن لا بد قبل الذهاب إلى مقابلة معينة تتعلق بإقناع أي شخص من تجهيز البراهين وبنائها بشكل منطقي محكم ومعقلن ومعلل ، فالعمل يجب أن يصب في بؤرة الأحداث والوقائع ، والأفكار المراد عرضها وإنارتها .
      تَتَطَلَّبُ بلاغة الحوار في المجال التجاري مجهودا كبيرا قد يتنصل منه بعض أفراد المجتمع المغربي . يجب علينا أن نتخيل مسبقا التغير الفجائي الذي سيطرأ على اللقاء المزمع عقده بين هؤلاء الأفراد : تظهر الجمل المرسلة بالنسبة لهم مجرد عبث مملٍّ لا طائل من ورائه ، لأنهم يفضلون الاعتماد على ما توحي به خصوصيات اللحظة الراهنة ، وهو ما يدفعهم إلى ابتكار براهين فورية تنبثق من خضم المناقشة ووطيسها الحامي .
      تَرْتَبِطُ بلاغة الحوار هنا ببنية الخطاب التجاري commercial discourse المغربي وشروطه الإقناعية من خلال تنوع القيم الأخلاقية ، حيث يتم تبادل وجهات النظر والإقناع بالحوار عن طريق قواعد يحترمها التاجر وزبائنه.

الهوامش
1 -   نشرت هذه الموضوعات الرائدة بجريدة العلم الثقافي ، والاتحاد الاشتراكي ، وأنوال وغيرها ، وكان العديد من المثقفين الأنداد ورفاق الدرب شهداء على هذه المناظرات والحوارات .
2  _  جريدة العلم الثقافي ، السبت 9 يناير ، 1985 ، العدد 728 . السنة 15 . تنظر في هذا الصدد أيضا بعض أعمالنا المتخصصة بمجلة ( العربي ) بدولة الكويت ، ومجلة ( الرافد ) بحكومة الشارقة ، ومجلة ( نزوى ) بسلطنة عمان ، ومجلة ( علامات ) بالمملكة العربية السعودية ، وصحيفة اتحاد كتاب العرب بدمشق ( الأسبوع الأدبي ) والمجلتين المتخصصتين بهذا الاتحاد ( الموقف الأدبي ، التراث العربي ) ، ومجلة ( طنجة الأدبية ) بالمملكة المغربية ، وبعض المجلات والصحف الليبية ، والمواقع الالكترونية المتنوعة .
3  _  تطرق حسن المودن لعدة  موضوعات تلامس مشروعنا العلمي ، أثناء عرضه وتعليقه على كتاب ( البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول ) لمحمد العمري ، المبثوث على عدة مواقع الكترونية . انظر أيضا في هذا المنحى ، عبد الجليل غزالة (  1985  _  2015 ) .
 4  _  يقوم المفهوم السيكو بلاغيpsychological  textualلدينا على الربط بين اللغة بالفكر ، والدمج بين السلوك واللغة في جميع المواقف التي تمتزج فيها الذات بالموضوع بشكل متبادل ، ولا أسبقية لأحدهما على الآخر ، فهما متلازمان ملازمة الروح للجسد والثوب للبدن ، فالفرد يحيا ويفكر من خلال اللغة ، سواء أكانت منطوقة أم مكتوبة أم رموزا سيميائية.
 5 -     صلاح فضل ، بلاغة الخطاب وعلم النص ، سلسلة ( عالم المعرفة )  ، العدد 164  . الكويت 1992  . ، ص 186  وما بعدها 
6   _   المرجع نفسه ، ص  214 .
7   _   كيث كينان ، أساليب الإقناع ، ترجمة مركز التعريب والترجمة ، الدار العربية للعلوم ، ص 86 ،  بيروت 1985   .
8   _   صلاح فضل ، مرجع سابق ، ص 234 .
9   _   Jean divignes rouges , dictionnaire de l,art de persuader ,p 98 ,editions .j. oliven . paris ,1944
_  121 Ibidem , p
10   _   صلاح فضل ، مرجع سابق ، ص 266 .

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة