- هل مات الإنسان ؟
- يسود الاعتقاد بأن النزعة الإنسانية، مفهوم يضرب في القدم ويعود إلى اعمال مونتين وما قبله. إلا اننا لانعثر في قاموس "ليتري" Littré" عن هذا المفهوم . الواقع انه نتيجة لهذا التغليط الذي نقع ضحيته، وقلما يتم الانتباه إليه نتصور عن وعي ان النزعة الانسانية كانت ولاتزال تمثل علامة فارقة وتابثة في الثقافة الغربية . لذلك فإن ما يميز الثقافة الغربية عن غيرها من الثقافات الأخرى، الشرقية ، كالثقافة الاسلامية، بالضبط هو النزعة الإنسانية. قد نصاب بالصدمة عندما نعثر على آثار تلك النزعة عند الثقافات الأخرى ، لدى كاتب عربي ما او عند مفكر صيني، مما يولد الانطباع بأننا نتوجه نحو كونية النوع البشري.
الواقع، أنه ليس فقط لاوجود لما نسميه النزعة الإنسانية في الثقافات الأخرى بل من المحتمل أيضاً ان تشكل في ثقافتنا شكلا من السراب.
يتداول في التعليم الثانوي بأن القرن السادس عشر هو عصر سيادة النزعة الانسانية بحيث عملت النزعة الكلاسيكية على الاهتمام بالمشكلات الكبرى للطبيعة الانسانية، وبأن القرن الثامن عشر ابتكر علوما وضعية سمحت بمعرفة الإنسان من منظور وضعي، وبكيفية عقلانية متمثلة في العلوم البيولوجية، وعلم النفس وعلم الاجتماع .
نتصور مبدئيا بأن النزعة الإنسانية تمثل قوة حيوية تؤثر في تطورنا التاريخي والتي هي ثمرة ومحصلة هذا التطور نفسه. باختصار تمثل النزعة الإنسانية المبدأ والغاية في تلك الحركية. ما يبهرنا في ثقافتنا الراهنة هو ان يكون همها الاهتمام بما هو إنساني . أما إذا حصل الحديث عن البربرية المعاصرة فإنه يتم الإشارة عرضا الى البعد الأداتي أو إلى بعض المؤسسات التي تبدو لنا أنها غير إنسانية.
كل تلك الادعاءات من قبيل الوهم لعدة اعتبارات :
يتمثل الاعتبار الأول في كون بروز النزعة الانسانية تزامن مع أواخر القرن التاسع عشر. ثم، تانيا، إذا تمعنا بعمق في ثقافة القرون الثلاثة ،السادس والسابع والثامن عشر فإننا لا نجد بصراحة أية مكانة كان يحتلها الإنسان. بل نجد ان المجال الثقافي ظلت تهيمن عليه موضوعات الالهي، والعالم ، منطق تشابه الأشياء، وقوانين المجال، بالخصوص حضور الجسد، والانفعالات والمخيلة. يتبين إذن أن الإنسان ذاته ظل مغيبا .
حاولت في مؤلفي " الكلمات والأشياء" أن أبرز طبيعة العناصر والجزئيات التي يتشكل منها الانسان خلال نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. سعيت الى إبراز خصائص حداثة هذا الشكل. ما أثار اهتمامي انه ليس معرفة الانسان علميا وموضوعيا قد تبلور نتيجة الهاجس الأخلاقي، والاهتمام بما هو إنساني بل العكس هو الصحيح أي تحويل الإنسان إلى موضوع للإشتغال المعرفي هو الذي أدى ما بعد ذلك الى تبلور التيمات الأخلاقية للنزعة الإنسانية، تيمات تجد حضورها بين متون النزعات الماركسية " المتهلهلة"، عند "سان اكسبيري "Exupery"، لدى "البير كامي "Camus"، ولدى "تيلار دي شاردان" Chardin" ، باختصار لدى كل الوجوه الباهتة لثقافتنا.
-تتحدث هنا عن النزعات الإنسانية "المائعة"، لكن كيف يمكن ان نموقع بعض الوجوه الجادة في النزعات الانسانية نخص بالذكر نزعة المفكر "جون بول سارتر"؟
- إذا ما استبعدنا النزعات الانسانية الباهتة "لكامي" ودي شاردان" فإن المشكل المتعلق بساتر يبدو مختلفا جذريا. مجمل القول ان النزعة الإنسانية والأنتربولجيا لاتنفصلان نسبيا عن الفكر الجدلي . وما يجهله الرجل ، كون العقل التحليلي المعاصر قد شهدنا ميلاده من قبل مع "راسل"، وتجلى في اعمال "ليفي ستراوس" وكذا علماء اللغة. لا يتلاءم ذلك العقل مع النزعة الانسانية، بالمقابل يصر العقل الجدلي عبثا وبدون جدوى على استدعاء النزعة الإنسانية.
تكمن خلف ذلك الاستدعاء جملة من الأسباب: لانها تعتبر نفسها- أي النزعة الإنسانية- أولا فلسفة للتاريخ، ثم ثانية فلسفة للممارسة الإنسانية، وآخرا فلسفة في تقويم أشكال الاستيلاب. لكل هذه الأسباب وبكونها كانت دوما كذلك، وفي العمق فلسفة للعودة الى الذات، وبكون الجدل يعد الكائن البشري بإمكانية أن يصير ذاتا أصيلة وحقيقية . تعد الإنسان بالإنسان المفقود فيه، لذلك فإنها لاتنفصل عن نزعة أخلاقية إنسانية . بهذا المعنى ، ومن البديهي ،يمكن اعتبار "هيجل" وماركس" "Marx " ابرز الوجوه المسؤولة عن النزعة الإنسانية المعاصرة.
الحال، أن "سارتر "Sartre" بكتابته "نقد العقل الجدلي "، يبدو لي انه بشكل ما قد وضع حدا لهذا النقاش ، وأنهى حلقات المسلسل الذي يطبع ثقافتنا والذي ابتدأ مع "هيجل" Hegel " ، إذ عمل - يقصد سارتر - على بذل ما في وسعه من اجل استدماج الثقافة المعاصرة من خلال استحضاره ما تحقق من إنجازات في مجالات ، التحليل النفسي، الاقتصاد السياسي، التاريخ والسيوسيولوجيا في صميم الديالكتيك . لكن المثير في ذلك انه لم يتمكن من التخلص من كل ما يرتبط بالعقل التحليلي والذي في جوهره جزءا لايتجزء عن الثقافة المعاصرة : كالمنطق، والنظرية الإعلامية، علوم اللغة والمنطقيات.
يعتبر إذا " نقد العقل الجدلي" عملا رائعا ومثيرا لرجل ينتمي الى القرن التاسع عشر يتوخى صاحبه التفكير في القرن العشرين . وعليه فإن "سارتر" يعتبر اخر الهيجليين حتى لا أقول اخر الماركسيين .
- بعد النزعة الانسانية ستحل "ثقافة اللا ديالكتيك"، كيف يمكنكم منذ اللحظة توصيف ذلك ؟
- هذه "الثقافة اللا جدلية"التي هي الآن في طور التشكل تواجهها تعثرات، ويعزى ذلك لعدة أسباب . تتمثل اولا في عفوية انبثاقها، واكتساحها لمجالات غريبة وجد مختلفة، بحيث لم تكن لها مجالات مفضلة ومتميزة. كما أنها لم تقدم نفسها منذ البداية بكونها تجسد انقلابا جذريا .
ابتدأت مع "نتشه" "Nietszche" الذي برهن على ان موت الاله لم يكن إعلانا عن ظهور الإنسان بل مؤشرا على اختفائه، وبأن بين الاله والإنسان ثمة علاقات أبوة غريبة، يشكلان تارة علاقة إخوة توأم، وتارة أخرى علاقة أبوة ( علاقة أب بابن والعكس). ومادام الإله قد اختفى فإنه حتما سيختفي معه الإنسان في نفس الآن مخلفا وراءه شرخا مهولا.
ذلك ما تجلى بالضبط عند "هايدغر" Heidegger"، في محاولته الإمساك بعلاقة الانسان الأساسية بالوجود من خلال العودة الى الأصول اليونانية . نفس الامر نجده عند" راسل "Russell "في نقده لمنطق الفكر الفلسفي، وكذا عند فتجنشطاين "Wittgenstein" من خلال تركيزه على طبيعة العلاقات بين المنطق واللغة، وعند اللغويين والسوسيوليجيين كما في اعمال "ليفي ستراوس" Strauss".
خلاصة القول بالنسبة لنا، في هذه اللحظة الراهنة، فإن تجليات العقل الجدلي قد تداعت وتشعبت. مما يضعنا حاليا امام مهمة خطيرة تتمثل في صيغة العودة الى القرن الثامن عشر في ظل الأهمية التي يحتلها الأن القرن الثامن عشر. الا انه من المستبعد ان يتحقق هذا النوع من العودة . إذ يستحيل اعادة نسخ تجربة" الموسوعة" أو مقالة "كوندياك" Condillac" حول الحساسية .
- كيف يمكن إ ذن تفادي تلك المخاطرة ؟
ينبغي الحرص على الميزة الخاصة والراهنة لهذا "الفكر اللاجدلي" . يتسم الفكر التحليلي خلال القرن السابع عشر أساسا بإحالته الى مفهوم الطبيعة. بينما تطور العقل الجدلي خلال القرن التاسع عشر بإحالته أساسا الى مفهوم الوجود، اي تركيزه على مشكلة علاقات الفرد بالمجتمع ، الوعي بالتاريخ ، الممارسة بالحياة، المعنى باللامعنى، والكائن الحي بالمادة.
أرى ان الفكر اللاجدلي الذي هو الآن في طور التشكل لايراهن على معرفة الطبيعة او الوجود بقدر ما يراهن على سؤال المعرفة نفسه. سيكون موضوعه الخاص هو "المعرفة"، إلى درجة ان هذا النمط من الفكر سيصير في تقابل جذري مع الكل، وفي مواجهة الحقول العامة لمعارفنا . من مهامه - يقصد الفكر اللاجدلي- مساءلة العلاقة الممكنة بين مختلف المجالات المعرفية من جهة، وعلاقة المعرفة باللامعرفة من جهة ثانية.
لا يتعلق الأمر هنا بمشروع موسوعي، على اعتبار ان الموسوعية تقتضي اولا مراكمة المعارف وتنضيدها بينما تقوم مهمة الفكر الراهن على تحديد الاختلافات والتمايزات بين المعارف. ثانيا جعلت الموسوعية من مهامها استبعاد اللا معرفة لصالح المعرفة ، بالمقابل فإن هاجسنا يتوخى الفهم الموضوعي للعلاقة الثابتة الموجودة بين اللامعرفة والمعرفة بكون حضور إحداهما لاينفي ويستبعد الأخرى، هما في علاقة ثابتة ،ويحملان على بعضهما البعض، كما يستحيل تفهم إحداهما بمعزل عن الأخرى. لنفس السبب تعرف الفلسفة اليوم تأزيما وتمر بحالة نضوب.
قد يبدو من المثير الحديث عن الوجود ومصيره بدل الحديث عن المعرفة وتمفصلاتها، وأقل تطمينا الحديث عن علاقات المعرفة باللامعرفة من الحديث عن مصالحة الانسان مع ذاته وفق روحانية كلية. بالرغم ، من كل ذلك، فإنه لايمكن ان نحصر دور الفلسفة في تجميل الوجود البشري وفي إعطاء الناس وعودا بتحصيل غايات ما من قبيل السعادة.
- تطرقت الى الأدب ، في "الكلمات والأشياء"، على هامش اركيولوجيا العلوم الانسانية، وتماشيا مع نفس الحركية الفكرية اختبرتم مقاربتكم على "دون كيشوت" "Don quichotte" وبالخصوص "ساد"Sade" ماذا تعني بالنسبة لكم مقاربة جديدة لتاريخ الأدب؟ وما عسى تلك المقاربة تكونه؟
- يندرج الأدب ضمن نفس النسيج مثل بقية الأشكال الثقافية الأخرى، وككل التجليات الاخرى للفكر خلال حقبة تاريخية ما. هذا نعرفه، لكن عادة ما يتم ثرجمته من خلال مصطلحات، كالتأثيرات، او الذهنية الجماعية ...إلخ. لذلك اعتقد ان الكيفية نفسها التي توظف من خلالها اللغة ضمن ثقافة ما وخلال حقبة محددة ترتبط مبدئيا بمختلف الأشكال الثقافية الأخرى للفكر.
بقدر ما يمكننا ان نتفهم جيدا ضمن منظور واحد الأدب الكلاسيكي ، فلسفة "ليبتز leibniz التاريخ الطبيعي "لليني"Linné" ، وأيضاً منطق مدرسة بوررويال، فإنه يمكننا ان نستوعب بنفس الكيفية النشاط الأدبي الراهن والذي يمثل جزءا من نفس الحركية الفكرية اللا جدلية التي تطبع الفلسفة.
- كيف ذلك ؟
- انطلاقا من Igitur، تجربة "ملارميه" ( باعتبارها تجربة معاصرة لنتشه) تبرز بوضوح كيف ان اللغة ، كلعبة خاصة وكيانا مستقلا، تمكنت من الإقامة والحلول في الحيز الذي كان يشغله الانسان بعد اختفاء هذا الأخير. وعليه يمكن القول ان الأدب يشكل المجال الذي ما يفتأ الانسان ينسحب منه تاركا اللغة تحل بدلا عنه. فحيثما يحل الكلام يختفي الإنسان . تشهد على هذا الاختفاء للإنسان الذي احتلته اللغة اعمال مختلفة للعديد من المفكرين، مثل أعمال "روب غرييه "Robe-Grillet، "ومالكولم" Malcolm"، أيضاً اعمال "بورخيس" Borges، "وموريس بلانشو" Maurice Blanchot" . لذلك يندرج الأدب ،عموما، في علاقته باللغة بنفس العلاقة التي يقيمها الفكر مع المعرفة . فاللغة تتكلم المعرفة التي يجهلها الأدب.
مثرجم من حوار مع فوكو أجراه الناقد كلود بونيفاي ( ١٩٢٩-١٩٧٩)Claude Bonnefoy منشور ب "dits
"et écrits ،ص ص :٣١٦-٣١٨، طبعة الكترونية، كوارتو Quarto، ٢٠١٢