إهداء إلى رشاد أبو داود..
من أراد الحقيقة رؤية لا رواية، فلابد أن يدفع عينيه ثمناً كثيفاً، لا كفيفاً..
ما الذي يجعل من أفراد، لا تربطك بهم أية صلة من قرابة أو ثقافة أو لغة أو عرق أو لون أو دم أو دين أو عقيدة أو تاريخ مشترك، يحملون همَّ قضيتك، ينصفونك على من تربطهم معهم صلات القرابة والثقافة واللغة والعرق واللون والدين والعقيدة والتاريخ؟ هل يمكن للإنسان أن يهرب بعينيه من سلطة كل هذه الأشياء، ليتيح لها أن ترى ما لا تراه هذه الأشياء، أو أن يرى ما يناقض رؤيتها؟
لمدة ثمانين دقيقة، كنت مأخوذة على صهوة وجم كثيفة. لم تغادر عيني اضطرابها إلا نحو دهشتها، ولم تغادر شفتي رعشتها إلا نحو اختناقها. اختنقت بالسؤال. بدا وكأنه يتفتق فيَّ للمرة الأولى. الدقائق الثمانون هي مدة عرض فيلم «راشيل كوري ضمير أميركي»، للمخرج الفلسطيني يحيى بركات، عُرض ضمن مهرجان أفلام حقوق الإنسان الذي نظمته «جمعية الحريات العامة» مطلع مايو الماضي. تضمن الفيلم من الرصد والمتابعة والتقنية، ما أهله إلى حصد جوائز عالمية وإشادات إعلامية واسعة.
وكي لا أذهب بصهوتي بعيداً، فلدي مصارحة هنا، أن الفيلم لم يكن يقدم مشاهد جديدة، من تلك التي تيبَّست قلوبنا لكثرة ما شهدتها، وكررتها وسائل إعلامنا، حتى ما عادت تنجز فينا، في أحسن حالات ضمائرنا، أكثر من نكسة رأس. الفيلم، أخذني فوق ذلك نحو تلفت آخر. فقد كان يوثق المسار التاريخي لـ «حركة التضامن الدولية مع الشعب الفلسطيني»، منذ بداية انطلاق الثورة الفلسطينية وحتى استشهاد الناشطة الأميركية «راشيل» العام .2003 التضامن هي حركة دولية، نشأت في الغرب، ينتمي أفرادها إلى بلدان وأعراق شتى، وإلى اتجاهات سياسية ودينية مختلفة تماماً. هم أفراد مختلفون في كل شيء. في اللغة والعرق واللون والدين والعقيدة والتاريخ. لكنهم يتوحدون في تضامنهم مع حق الشعب الفلسطيني المنتهك، وفي ما يحملون، من هم إيصال حقيقة ما يجري في فلسطين إلى كل العالم، بما فيها بلدانهم المنحازة لإسرائيل، أو المدافعة عنها.
في جماعات صغيرة، وغير محمية، ينزح هؤلاء إلى قلب مدينتي غزة والضفة الغربية، يلتحمون بشعب أعزل إلا من حجارة. يشاركونهم بيوتهم وطعامهم وحياتهم، كما يشاركونهم خوفهم ورعبهم وتهديد آلة الموت لحياتهم.
ما الذي يجعل هؤلاء ينكرون على أنفسهم أمن أوطانهم، ليلجوا وطناً مهدداً غامضاً؟ ما الذي يجعلهم يستبدلون استقرارهم بين ذويهم، بزعزعة مع غرباء؟
كانت الناشطة الأميركية راشيل كوري (23 عاماً)، على وشك التخرج في جامعتها «ايفر غرين»، قبل أن تتخذ قرارها بمغادرة تخرجها الأكاديمي نحو خروج آخر: أن تعاين حقيقة ما يجري في فلسطين بعين ذاتها، لا بعين إعلامها الأميركي. هربت راشيل بعينيها إلى قلب غزة والضفة الغربية. حيث الحقيقة هناك رؤية لا رواية. ومن هناك، أخذت تنقل إلى العالم حقيقة ما بدأت ترى. كان ذلك عبر رسائلها المكتوبة إلى والديها، وعبر تسجيلاتها المصورة التي هزت العين الأميركية المخدوعة. لكن راشيل ستدفع ثمن هروب عينيها كثيفاً، حين وقفت أمام الجرافة الإسرائيلية التي كانت تسحق البيوت وتقتلع الأشجار وتسوِّي كل شيء بالأرض. كانت راشيل تصرخ: «توقف. ألا ترى؟ ليس هنا سوى بيوت وزروع». أما الجرافة التي لا عين في عينيها، فقد كانت تصرُّ على ألا ترى شيئاً واقفاً على الأرض، لا تريد حتى أن ترى راشيل الواقفة تلوح أمامها، فعاقبتها، بسحق جسدها حتى الموت، وتسويته هو الآخر، بالأرض.
جاءت راشيل إلى فلسطين إذاً، لتكثف سيولة حياتها في معنى جديد. كأنها تنصت إلى محمود درويش يقول: «من معنى إلى معنى أجيء، الحياة سيولة، وأنا أكثفها». غادرت راشيل سيولة حياة لم تبدأ، إلى كثافة الموت. يصاحبها بعض رفقاء الدراسة وناشطين من حركة التضامن. ولأن الفيلم يقصد مخاطبة المجتمع الغربي، فقد كانت عناصر هذه الحركة هي مادة الفيلم السائلة والحية. مشاهدات هؤلاء ومعايناتهم ونضالاتهم ومعاركهم ومواجهاتهم ومصادماتهم، من أجل شعب لا تربطهم به أية قرابة أو ثقافة أو لغة أو عرق أو لون أو دين أو عقيدة أو تاريخ مشترك. كان هؤلاء هم القوام الكثيف لهذا الفيلم المكثف.
في حفل تأبين راشيل، ألقى أحد رفقائها كلمة قصيرة. قال: «إذا فقدنا اليوم عزيزتنا راشيل، فإن الفلسطينيين يفقدون في كل يوم العشرات من أعزائهم.. نقول للفلسطينيين: نحن معكم، نحن كلنا فلسطينيون».
من أين تأتي هذه الـ «كلنا»؟. كيف يصير هؤلاء المختلفون «كلاًّ» مع هذا المختلف عنهم كلَّ هذا الاختلاف؟ بأي حسّ يتحرك هؤلاء؟ لم يكن هؤلاء يتحركون وفق ما يرونه واجباً دينياً يأخذهم إلى شهادة تمنحهم جنَّة. لم يكونوا يناضلون من أجل قضية وطنية أو عرقية أو تاريخية ترتبط بهم ويرتبطون بمصيرها. كيف لهذه الـ «نحن» أن تصير «كلاًّ» لآخر؟ هل يمكن للدين (كما نعيشه) أن يجعل الـ «نحن» التي فينا، «كلاًّ» لآخر. آخر لا يشاركنا الدين ذاته أو العقيدة ذاتها أو المذهب ذاته أو الجماعة ذاتها؟ هل يمكن للعرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الثقافة أو التاريخ أن يفعلوا ذلك؟
لا يمكن أن يفعل ذلك أياً منها. فكل تلك الأشياء تقدّس الـ «نحن» وتمركزها، وترى الـ «نحن» علّة لوجود «كلّ» الآخر. الدين والعقيدة والقرابة والثقافة واللغة والعرق واللون والتاريخ، كلها سيولات تعطي معاني مختلفة لحيواتنا ومماتاتنا. لكنها سيولات شتى ليست تجمع وليست تجتمع. سيولات قوامها «نحن» متنافرة ومتصارعة ومتنازعة. الإنسانية وحدها جامع لها. والحسّ الإنساني وحده ما به تتكثف «كلّ» هذه السيولات المتنافرة. إنه الحسّ حين يتحرر من ضيق الـ «نحن» التي تعمل فيه، ليتسع بالـ «كلّ» الذي يذهب إليه. حينها فقط تصبح عين الإنسان كثافة، لا كفافة.
هكذا استطاعت راشيل ورفقاؤها أن يحرّروا عين إنسانهم من كفاف الـ «نحن»، فصاروا عيناً في قلب غيمة. تجيء هذه الغيمة، وسيولات العالم كلَّها من تحتها تجيء. تتكثف أبخرتها (السيولات) عند برودة سطحها (الغيمة)، ثم تعيدها الغيمة، بإذن الحب مطراً، لا تضار قطراتها، عند أية جهة من الأرض سقطت، فالأرض كلّها عطشى.
كانت الناشطة الأميركية راشيل كوري (23 عاماً)، على وشك التخرج في جامعتها «ايفر غرين»، قبل أن تتخذ قرارها بمغادرة تخرجها الأكاديمي نحو خروج آخر: أن تعاين حقيقة ما يجري في فلسطين بعين ذاتها، لا بعين إعلامها الأميركي. هربت راشيل بعينيها إلى قلب غزة والضفة الغربية. حيث الحقيقة هناك رؤية لا رواية. ومن هناك، أخذت تنقل إلى العالم حقيقة ما بدأت ترى. كان ذلك عبر رسائلها المكتوبة إلى والديها، وعبر تسجيلاتها المصورة التي هزت العين الأميركية المخدوعة. لكن راشيل ستدفع ثمن هروب عينيها كثيفاً، حين وقفت أمام الجرافة الإسرائيلية التي كانت تسحق البيوت وتقتلع الأشجار وتسوِّي كل شيء بالأرض. كانت راشيل تصرخ: «توقف. ألا ترى؟ ليس هنا سوى بيوت وزروع». أما الجرافة التي لا عين في عينيها، فقد كانت تصرُّ على ألا ترى شيئاً واقفاً على الأرض، لا تريد حتى أن ترى راشيل الواقفة تلوح أمامها، فعاقبتها، بسحق جسدها حتى الموت، وتسويته هو الآخر، بالأرض.
جاءت راشيل إلى فلسطين إذاً، لتكثف سيولة حياتها في معنى جديد. كأنها تنصت إلى محمود درويش يقول: «من معنى إلى معنى أجيء، الحياة سيولة، وأنا أكثفها». غادرت راشيل سيولة حياة لم تبدأ، إلى كثافة الموت. يصاحبها بعض رفقاء الدراسة وناشطين من حركة التضامن. ولأن الفيلم يقصد مخاطبة المجتمع الغربي، فقد كانت عناصر هذه الحركة هي مادة الفيلم السائلة والحية. مشاهدات هؤلاء ومعايناتهم ونضالاتهم ومعاركهم ومواجهاتهم ومصادماتهم، من أجل شعب لا تربطهم به أية قرابة أو ثقافة أو لغة أو عرق أو لون أو دين أو عقيدة أو تاريخ مشترك. كان هؤلاء هم القوام الكثيف لهذا الفيلم المكثف.
في حفل تأبين راشيل، ألقى أحد رفقائها كلمة قصيرة. قال: «إذا فقدنا اليوم عزيزتنا راشيل، فإن الفلسطينيين يفقدون في كل يوم العشرات من أعزائهم.. نقول للفلسطينيين: نحن معكم، نحن كلنا فلسطينيون».
من أين تأتي هذه الـ «كلنا»؟. كيف يصير هؤلاء المختلفون «كلاًّ» مع هذا المختلف عنهم كلَّ هذا الاختلاف؟ بأي حسّ يتحرك هؤلاء؟ لم يكن هؤلاء يتحركون وفق ما يرونه واجباً دينياً يأخذهم إلى شهادة تمنحهم جنَّة. لم يكونوا يناضلون من أجل قضية وطنية أو عرقية أو تاريخية ترتبط بهم ويرتبطون بمصيرها. كيف لهذه الـ «نحن» أن تصير «كلاًّ» لآخر؟ هل يمكن للدين (كما نعيشه) أن يجعل الـ «نحن» التي فينا، «كلاًّ» لآخر. آخر لا يشاركنا الدين ذاته أو العقيدة ذاتها أو المذهب ذاته أو الجماعة ذاتها؟ هل يمكن للعرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الثقافة أو التاريخ أن يفعلوا ذلك؟
لا يمكن أن يفعل ذلك أياً منها. فكل تلك الأشياء تقدّس الـ «نحن» وتمركزها، وترى الـ «نحن» علّة لوجود «كلّ» الآخر. الدين والعقيدة والقرابة والثقافة واللغة والعرق واللون والتاريخ، كلها سيولات تعطي معاني مختلفة لحيواتنا ومماتاتنا. لكنها سيولات شتى ليست تجمع وليست تجتمع. سيولات قوامها «نحن» متنافرة ومتصارعة ومتنازعة. الإنسانية وحدها جامع لها. والحسّ الإنساني وحده ما به تتكثف «كلّ» هذه السيولات المتنافرة. إنه الحسّ حين يتحرر من ضيق الـ «نحن» التي تعمل فيه، ليتسع بالـ «كلّ» الذي يذهب إليه. حينها فقط تصبح عين الإنسان كثافة، لا كفافة.
هكذا استطاعت راشيل ورفقاؤها أن يحرّروا عين إنسانهم من كفاف الـ «نحن»، فصاروا عيناً في قلب غيمة. تجيء هذه الغيمة، وسيولات العالم كلَّها من تحتها تجيء. تتكثف أبخرتها (السيولات) عند برودة سطحها (الغيمة)، ثم تعيدها الغيمة، بإذن الحب مطراً، لا تضار قطراتها، عند أية جهة من الأرض سقطت، فالأرض كلّها عطشى.