مقدِّمة: معيار القصة الجيدة:
كما أنّه ليس ثمّة تعريف متّفق عليه للقصّة القصيرة حيث تتعدّد تعريفاتها بعدد كتّابها البارزين، فإنّه لا يوجد معيار معروف للقصّة القصيرة الجيدة. وعندما عُهِد إلى القاص الروائي الشاعر الرسّام الناقد الأشهر في أمريكا، جون أبدايك، أن يختار أفضل القصص الأمريكيّة القصيرة في القرن العشرين لتصدر في مجلّد كبير، كتب أبدايك في مقدِّمته للخمس وخمسين قصةً التي اختارها، قائلاً إنّه يدرك تماماً عدم وجود معيار مقبول للقصص التي ينبغي تفضيلها، ولكنّه انتقى تلك القصص التي تترك أثراً في نفس القارئ لحيويتها وجمالها ، وتقنعه بأنّها وقعت فعلاً أو أنّها يمكن أن تقع، وتعبّر عن واقع المجتمع ببيئته وثقافته وقضاياه وشخوصه و التحوّلات الجارية فيه (1).
بصورة عامّة، هنالك شبه اتّفاق على أنَّ القصّة القصيرة نصٌّ يسرد حدثاً يتعلّق بشخصيّة (عادةً إنسانيّة) وتصف رد فعلها ومشاعرها تجاه هذا الحدث. وهذا يعنى أنّ نواة القصّة القصيرة حكاية، وتتوفّر عادة، وليس دائماً، على عناصر ثلاثة هي:
أولاً، عرضٌ تعريفيّ بالشخصيّة،
ثانياً، نمو الحدث وتطوُّره،
ثالثاً، الصراع الدراميّ الذي يحتدم في مواقف الشخصيّة وسلوكها ومشاعرها.
وتتناول القصّة القصيرة تلك العناصر بصورةٍ مُكثَّفة وتعالج موضوعةً واحدة، بحيث تترك أثراً واحداً في نفس القارئ، يُطلق عليه في مصطلحات هذا الفنِّ " وحدة الأثر".
ولكن حتّى لو استخدم كُتّاب القصّة القصيرة هذه العناصر نفسها في قصصهم، فإنّهم يتباينون على مستوى البناء النصيّ ومكوِّناته المختلفة، ويتفاوتون من حيث مراجع السرد وروافده. فمنذ أن ظهرت القصّة القصيرة الحديثة في أوربا في القرن التاسع عشر على أيدي روادها الكبار تشيخوف الروسي، وموباسان الفرنسي، وأدغار ألن بو الأمريكي، تباينتْ أساليبُ بنائها وتقنياتها ونوعيّة لغتها، بحيث راحت تقترب من هذا الجنس الأدبيّ مرةً ومن ذاك مرّة أخرى، حتّى أننا نستطيع القول إنّ القصّة القصيرة تقع في مربع تتألُّف أضلاعه من : السيرة، والمسرح، والشعر، والمقالة؛ ويتباين موقعها في هذا المربع من كاتب إلى آخر ومن قصة إلى أخرى، بحيث تكون أقرب إلى ضلع من أضلاع ذلك المربّع، وقلّما تكون في وسطه.
فهي تمتح من جميع الأجناس الأدبية الأخرى بصورة غير متساوية. وإضافةً إلى ذلك، فإنّ عدداً من الكُتّاب، مثل القاصّ الروائيّ الأمريكيّ جون شيفر، أخذ منذ أواخر الثلاثينيّات وأوائل الأربعينيّات من القرن الماضي بهدم الأسوار التي كانت قائمة بين الأجناس الأدبيّة وخلطها داخل ما نسميه بالقصّة القصيرة، من أجل توسيع دائرة قرّائه.
تطلّب ظهور القصّة القصيرة الحديثة شرطَين أساسيَّين هما: ظهور طبقة متوسّطة في المجتمع، ووجود صحافة وطباعة بحيث يمكن طباعة آلاف النسخ من الصحف بسرعة وتوزَّيعها على نطاق واسع. وتوفَّرَ هذان الشرطان في البلاد العربية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فأخذت الصحف تنشر القصص القصيرة المُترجَمة والموضوعة. ومع ذلك وعلى الرغم من دور الطبقة الوسطى في ظهور القصّة القصيرة، فإنّ كتّاب القصّة القصيرة لا يختارون شخوصهم، عادةً، من بين أبناء الطبقة المتوسِّطة أو الطبقة العليا الذين يطالعون الصحف، وإنّما ينتخبونهم من بين أبناء الطبقة الفقيرة، من المُهمَّشين والمستضعفين والمسحوقين؛ ويعبِّرون عادةً عن آلامهم ومعاناتهم وإخفاقاتهم وإحباطاتهم. فالقصّة القصيرة لا تتوفر على بطلٍ يُشار إليه بالبنان ويُقلَّد بأكاليل الغار والعرفان؛ وإنّما هي فضاء يتحرّك فيه المقهورون أو المضطهدون أو المحرومون أو المخنوقة أصواتهم؛ فتصوِّر عالمهم الداخليّ وترسم أحاسيسهم الأليمة، في لحظاتِ انكسارهم وحصارهم وانهيارهم. والقصّة القصيرة لا ترمي بطوقِ نجاة إلى هؤلاء المساكين، ولا تضع أقدامهم على سبيل الخلاص، وإنّما تكتفي بوصف مأساتهم، كأنّها لم تُكتب لهم، بل كُتِبتْ لغيرهم من الميسورين والمترفين، من أجل تحسيسهم بأحوال أولئك المعوزين والبائسين، وهم يئنون تحت وطأة القلق المستبد والخوف الدائم، وينوءون تحت نير الاضطهاد، ويقاسون التعذيب الرهيب الذي يجعل أرواحهم تترنح على حافة الحياة، وتذوي على حدود الموت.
مكانة "سيّدة المرايا" في إنتاج السحيمي:
مهما طالبَ أنصارُ النظرية البنيويّة في النقد، بضرورةِ "قتلِ الكاتب" وفحص "النصّ ولا شيء غير النصّ"، فإنّنا لا يمكن أن ندرس مجموعة " سيّدة المرايا"(2) بمعزل عن شخص الكاتب وإنتاجه في الأجناس الأدبيّة الأخرى، وفي مقدِّمتها مقالاته اليوميّة في جريدة (العلم) المغربيّة ذات التاريخ العريق في النضال ضدَّ الحماية الفرنسيّة الاستعماريّة، بوصفها لسان (حزب الاستقلال) الذي قاد النضال من أجل تحرير المغرب. وقد جُمِعت بعض مقالات السحيمي ونُشِرت في كتابٍ عنوانه " بخط اليد" (3).
عبد الجبار السحيمي كاتب ملتزم يؤمن بأنَّ النصَّ خطابٌ يعبِّر عن واقعٍ ثقافيٍّ وحضاريٍّ، ويرمي إلى إحداثَ تغيير في العقليّة والمواقف والتوجّهات. ولهذا فإنّ تجربته القصصيّة تتجاوب مع الواقع الاجتماعيّ والسياسيّ العربيّ في أزماته وتحولاته الفكريّة الحادّة. وهو في مجموعته القصصيّة الثانية " سيدة المرايا" كما في مجموعته الأولى " الممكن من المستحيل" (4) التي تُعدُّ نقطةَ تحوّلٍ نوعيٍّ في تاريخ السرد المغربيّ، يعرض علينا شخصيّات اختارها بعناية من بين المضطهدين والمقهورين، ووضعها في مواقف سرديّة ملتهبة متفجّرة، وراح يطوّر أحداثة بحنكة ومهارة وصبر فائق، ليكسب تعاطف القارئ ويُنتِج الأثرَ المطلوب في نفسه. ومَن يُمعِن النظر في قصص مجموعة " سيدة المرايا" التي نُشرت هذا العام، يتّضح له أنّها كُتبت في فترة الستينيّات والسبعينيّات، شأنها في ذلك شأن قصص مجموعته الأولى " الممكن من المستحيل "، فالمجموعتان تنتميان إلى الفترة الزمنيّة ذاتها، وتتناولان الأوضاع الاجتماعيّة التي كانت سائدة آنذاك. ويستدلّ على ذلك من التاريخ الذي وُضِع في نهاية بعض قصص هذه المجموعة، مثل التاريخ 1975 الذي أُضيف في نهاية قصة " السيف والدائرة"، أو من بعض التذييلات التي وردت في نهاية قصص أُخرى، مثل عبارة " حدث ذلك في زمن كان اسمه الجنرال أوفقير ورجاله" الموجودة في نهاية القصّة الأولى " شاهد المدينة". ويبدو أنّ عبد الجبار السحيمي قد توقّف ـ مع الأسف ـ عن كتابة القصّة القصيرة منذ مدّة، وواصل كتابة المقالات التي ينشرها في جريدة "العَلم" التي هو اليوم مديرها. وأنّه نسي تلك القصص أو فقد الاهتمام بجمْعها وإصدارها في شكلِ كتاب، حتّى استأذنه أحد مساعديه، الشاعر محمد بشكار، محرّر " العَلم الثقافي" الأسبوعيّة، في جمْعها من مظانّها والإشراف على طباعتها ونشرها، وتشكيل " كولاج" مستوحى من لوحةٍ للفنان خوان ميرو لتزيين غلاف " سيدة المرايا ".
تروم قراءتنا هذه رصد العناصر القصصيّة في مجموعة " سيدة المرايا"، وتفكيك بنائها الفني، وتقنيّاتها السرديّة، ونصوصها في سياقاتها اللغويّة والجماليّة والثقافيّة والاجتماعيّة، ، ثم إعادة تركيبها طبقاً لتصوُّرنا وتأويلنا؛ وذلك من أجل زيادة متعة القراءة لدي المتلقيّ.
الحُرّية، موضوعة "سيدة المرايا":
أوّل ما يلفت انتباهنا في هذه القصص أنّها تعالج موضوعةً (تيمةً) واحدةً، يمكن تشخيصها بوضوح في كلِّ قصة وفي جميع قصص المجموعة تقريباً، تلكم هي موضوعة (الحرّيّة).
لا يتناول الكاتب في هذه القصص (الحُرّية) من المنظور الدينيّ أو الفلسفيّ الذي يتساءل عن مدى حرّيّة الأفراد في ممارسة إرادتهم، أي ما إذا كانوا أحراراً في اختياراتهم، والتحكّم في أعمالهم في ضوء معارفهم وبمحض إرادتهم، لا طبقاً لما كُتِب أو قُدِّرَ عليهم سلفاً. فهذا النوع من الحُرّية ترفٌ لا يحلم به شخوص تلك القصص من المضطهدين والمقهورين. كما لا يعالج الكاتب موضوعة (الحُرّية) بمعناها الاجتماعيّ والسياسيّ الذي يتضمَّن حرّية الرأي، وحرّية الصحافة، وحرّية التجمُّع، وحرّية تأسيس الأحزاب وغيرها مما يطلق عليه اسم (الحريّات المدنيّة). فهذا ترفٌ آخر لا تحلم به شعوبنا، وإنّما تتمتع به تلك الشعوب التي قطعت شوطاً بعيداً في التقدُّم والمدنيّة. إنّما يتناول الكاتبُ موضوعةَ (الحرّية) في أبسط معانيها وأدنى مستوياتها، تلك هي حرّية الإنسان في الحركة والتنقُّل دون أن يخشى إكراهاً أو اضطهاداً أو سجناً. وهذا جزء ممّا يسمَّى بـ (الحرّيات الطبيعيّة) التي يمارسها الإنسان بصورة تلقائيّة غريزيّة، بوصفه كائناً حيّاً تشكّل الحركة بالنسبة إليه ضرورة بيولوجيّة حتميّة لازمة لحياته وإنسانيّته. فوضعُ قيودٍ على حرّيّة حركة الإنسان مصادرةٌ لوجوده.
إنّ الكاتب يضع شخوص قصص " سيدة المرايا" في سياقات اجتماعيّة وسياسية تحرمهم حتّى من التنقُّل بحرية من منازلهم إلى مقرات أعمالهم، دون أن يشلَّ حركتَهم الخوفُ ويجعلهم مثل جرذان ترتجف في جحورها المحاصرة بالقطط الهائجة، أو مثل سلاحف منكمشة في قواقعها أمام خطر داهم يهدّد حياتها ووجودها.
وينبغي أن نتذكّر أنّ أيَّ كاتبٍ في بلادٍ لا تسود فيها الحرّية، يصعب عليه أمران: الأوّل، الكتابة عن أيِّ موضوعٍ بحرّية، سواء أكان الموضوع فكريّاً أم اجتماعيّاً، والثاني، الكتابة عن الحرّية ذاتها بحرّية؛ لأنّ أعداء الحرّية هم القابضون على زمام الأمور المانعون لما لا يريدون. ولهذا، ولكي تحقّق موضوعةُ الحرّية ذاتَها في النصّ الأدبيّ في تلك البلاد، فإنّها تضع قيداً على حرّية الكاتب في التعبير من ناحية، وتطلق حرّية القارئ في التأويل من ناحية أخرى. فالكاتب لا يتناول هذه الموضوعة مباشرة ولا يقول كلَّ شيءٍ، بل يستخدم تقنيّات الحذف، والرمز، والتلميح، والإيحاء التي تتطلب أن يستخدم القارئ خياله في الإضافة إلى النصّ، وملء الفراغات، والتفسير، والتأويل. وبعبارة أخرى، إنّ موضوعة الحرّية التي اختارها عبد الجبار السحيمي أثّرت في بناء السرد وتقنياته ولغته كما سنرى.
ولعلَّ أمثلةً من قصص المجموعة تبيّن لنا بوضوحٍ تامٍ كيف أن موضوعة الحرية هي المحور الذي يدور حوله السرد:
في قصة " ما قبل الصحو وبعده"، كان السارد يسترخي فوق كرسي الحديقة، متعباً مهزوزاً، وهو يتصوّر عالَماً آخر يفترض أنّه سيكون أفضل من هذا العالَم الحالي، حين أحسّ فجأةً أنه مُراقَبٌ. وعلى الرغم من أنَّ الشخص الذي يراقبه من الخلف لا يحدّ من حركة سيره ولا يمنع تنقله، فإنّ السارد كان يشعر بأنَّ عينَين قاسيتَين تخترقان ظهره منذ خرج من البيت، وطيلة اليوم، في كلّ مكان. وحتّى عندما يلج المقهى هرباً من هذا الذي يلاحقه باستمرار، فإنّه لم يكُن يحسُّ بالرغبة في أن يشرب أيَّ شيء، لأنَّ وجود عينين تراقبانه بإلحاح يجعله منفعلاً، متشنجاً، خائفاً. فعندما "يراقبك أحد من وراء ظهركَ، هذا يعني أنك أصبحت غير قادر على أن تكون حُرّاً... " وأمسى كلُّ وجودك مصادراً.(5)
وفي قصة " الرعب " تتعرض حرّية "سين" لخطرٍ جسيم. كان "سين" في أوّل الشارع حين أراد أن يدخّن سيجارة، ولكنّه يكتشف أنّ علبه الوقود التي في جيبه فارغة. يرفع عينيه ليطلب عودَ ثقاب من أحد المارة، فتصطدمان برجل شرطة. يتراجع " سين " إلى الوراء، ثم يستدير، ويندفع يجرى بأقصى طاقته، حتّى ييتمكن من تسلق جدار ويقفز إلى الجهة الأخرى. (لاحظ رمزية الجري والجهة الأخرى).
وفي قصة " الفاركونيت"، يوقظ هدير السيّارة سكّان العمارة. وفي إحدى شققها يرتجف هلعاً رجلٌ وزوجته وطفلهما. يطلّون من النافذة ليروا أربعة من ركاب السيّارة يترجّلون ويتوجهون نحو العمارة، في حين يبقى ثلاثة آخرون في السيّارة. تقول المرأة لزوجها إنّهم قادمون. ارتدِ ملابسكَ. وتقول بصوت مختنق: هل نضيء المصباح، فيقول زوجها: الأحسن ألا نفعل حتّى يطرقوا الباب. ويقول الطفل أنا خائف... ويخيّل لساكني العمارة أنّ أبوابهم كلَّها بدأ ينهال عليها الطرق ... ثم يسمعون بكاءً آتياً من فوق. فيقول الزوج لقد أخذوا جارنا في الطابق العلوي، كان دوره هذه المرّة.
وفي قصة " عفريت الدار"، يُعطي السيّد أمراً صارماً لِخَدَمه أن يتجمَّدوا في مكانهم، ثم يدخل غرفته، ويوصد الباب، ولا يظهر مرّة أُخرى ليعطي الأمر الذي يسمح لهم بالحركة. ويبقى الخدم يتساءلون ما إذا كان السيد ما زال في غرفته أم غادرها.
وفي قصة " شاهد المدينة" يوجد أحمق في المدينة. وإذا كان عَقْلُ هذا الأحمق قد عُقِلَ فتوقّفَ عن التفكير السوي، فإنّ جسمه هو الآخر أصبح سجين مكان واحد في المدينة لا يغادره، فهو يقف طوال النهار ساكناً إلى جوار نخلةٍ على الرصيف المقابل للبناية المركزيّة للشرطة، ولا أحد يعرف ما الذي أذهب عقله ولماذا يقف هناك بلا حراك.
وفي قصّة "المُتّهم"، يحكم القاضي بالإعدام على شخص لا يحمل اسم المحكوم عليه بالإعدام طبقاً لمنطوق الحُكم. وعلى الرغم من أن أوراق التعريف الخاصّة بهذا المُتّهم تُثبتُ أنّ اسمه مخالف لاسمِ مَن حُكِمَ عليه بالإعدام، فإنّ رئيس المحكمة يُصرُّ على إدانته، لأنّ العدل، في مفهوم هذا الرئيس، يقتضي إيجاد متهمٍ ما لكلِ جريمةٍ تُقترَف.
وحتّى في قصّة " قتل الأب" التي تصوّر طفلاً تأخّر والده في الحضور إلى المدرسة عند نهاية الدروس لاصطحابه إلى المنزل، نجد أنّ الموضوعة الرئيسة هي الحرّية. يغادر جميع الطلاب فناء المدرسة بسيارات آبائهم إلا ذلك الطفل، إذ يبقى تحت المطر منتظراً أباه، وحيداً قلقاً خائفاً، لا يستطيع الحركة، على وشك أن ينفجر باكياً. حرّيته في العودة إلى المنزل قد صودرت في ظرف قاهر. بيدَ أنّ الطفل يبذل جهداً كبيراً في تذكّر الطريق إلى المنزل ويتحرّك بشجاعة ليتحرّر من الاعتماد على أبيه.
التقنيّات السردية في " سّيدة المرايا":
إنّ مقولة " الوحدةُ في التنوّع " تنطبق على هذه المجموعة القصصيّة. فهي ملتزمة بوحدة موضوعة (الحرّية) في جميع القصص، بيدَ أنّها تستخدم العناصر القصصية بصورة متنوّعة، وتستخدم تقنيّاتٍ سرديّة متباينة لتُنتج الأثر المطلوب في نفس القارئ. وسنتناول فيما يأتي بعض هذه العناصر والتقنيّات التي استخدمها الكاتب بمهارة، خاصةً:
1)البناء السردي
2) تطوُّر الحدث
هوية السارد
الإيهام المرجعي
البدايات والنهايات
اللغة.
1) البناء السرديّ:
قلنا إنّ القصص التي يكتبها كبار الكتّاب العالميِّين لا تلتزم ببناءٍ فنيٍّ معيَّن، بحيث تتجاذبها أبنية الأجناس الأدبية الأخرى: المسرح، الشعر، المقالة، السيرة. وأحياناً تتداخل هذه الأجناس الأدبية في العمل القصصيّ الواحد لتوسيع دائرة القرّاء. وفي قصص " سيدة المرايا"، التي يبلغ عددها ثلاث عشرة قصة، نجد أن البناء الفني يختلف من قصّةٍ إلى أُخرى، بحيث اختار الكاتب البناء الملائم لموضوع كلّ قصة. ففي قصة "المتّهم" مثلاً: اختار الكاتب البناء المسرحي لهذه القصّة فراح يكتب مسرحيّةً ذات فصل واحد، شخوصها: رئيس المحكمة، والدفاع، والمتهم؛ وهم يتحاورون بشكل مسرحيّ في فضاء المحكمة. وقد تكرّر هذا البناء القائم على الحوار بلا سرد أو وصف، والملائم لمسرحيّة ذات فصل واحد في قصة " عفريت الباب". واستخدم القاص الحركات الدراميّة التي يتطلّبها التشويق في المسرح، واستعمل تلك التعليمات التي توجّه، عادةً، إلى مُخرِج المسرحيّة والتي توضَع بين قوسَين؛ مثل: (صمت)، (خلال الحديث القصير يكون الشخص المُلثّم قد اختفى من غير أن يلحظه أحد)، (يُسمَع من بعيد خبطٌ على الباب)(6)، وما إلى ذلك.
في بعض القصص الأخرى، يقترب البناء الفني من المقالة السياسيّة. ففي قصّة "البحث عن إيمان"، نجد مقالاً أو بالأحرى إعلاناً (منفيستو) تُصدِره جماعة من الرفاق الشباب تلتقي في اهتماماتها، وتتقارب في مفاهيمها للحياة، وتتماثل في سِنِّها؛ تبيِّنُ فيه رؤيتَها لمشاكل المجتمع، وتسطّر فيه مطالِبها. نقرأ في هذه القصة/ المقال، مثلاً، الفقرة التالية:
" لقد كنا لا نقرأ، فإذا قرأنا لا نفهم، فإذا فهمنا لا نصدِّق. كنا نمرّ على المكتبات فلا يغرينا في واجهتها غير " رأس المال" و " الوجودية". ومن جهلنا بأنفسنا، وبديننا، وبأصالة مجتمعنا وأخلاقه، تولّد عندنا الشعور بالافتراق عن هذه البيئة" ...
" إننا لسنا خاطئين كما يتصوّرون. نحن فقط نعاني من مصيبة الجهل بأنفسنا دون أن يجد أحدٌ الشجاعةَ ليساعدنا على أن نخرج من هذا الجهل لنتعرَّف على أصالة المُعتقَد الذي عاشت له آباؤنا ويعيش له أحفادنا." (7)
وتنتهي هذه القصة/المقال بالجملة التالية:
" إن الموضوع صالح لمناقشة خصبة من أجل هذا الجيل الواقف على مفترق طرق" (8)
وكأن هذه الجملة خاتمة مقال يدعو فيه صاحبه إلى إثراء النقاش في موضوع الاستلاب الثقافيّ الذي يعانيه جيلُ الشباب العربيّ الراهن، بسبب السياسات التعليميّة والإعلاميّة والثقافيّة الأخرى التي تتّبعها الحكومات العربيّة.
وتقترب قصص أخرى في بنائها من السيرة والرواية، فنجد في قصة " شاهد المدينة" صورة قلميّة (بورتريه) مكتملة لشخصية الأحمق، كما لو كان الكاتب يحرص على تسجيل سيرة هذا الأحمق ليكون بطلاً لرواية لم تُكتب بعد.
إن براعة الكاتب في الفنّ القصصيّ هي التي مكّنته من تنويع البناء الفني من قصّة إلى أخرى، بحيث يجد القارئ كثيراً من الجدّة والتشويق والإبداع، ما يشدّه إلى هذه المجموعة القصصية.
2) تطوير الحدث:
يتّبع السحيمي عدّة طرائق في سرد الحدث الرئيس في القصة. فأحياناً يتّبع الطريقة الدراميّة التصاعديّة في تطوير أحداث قصصه. فأنتَ تحسُّ بأن الحدث في بدايته بسيط صغير ثم يأخذ في الكبر والنمو تدريجياً حتّى يبلغ الذروة؛ تماماً كما لو كنتَ واقفاً على ساحل البحر، ويهبّ عليك نسيم عليل منعش أوّل الأمر، ثم يروح يشتدّ شيئاً فشيئاً حتّى يصير ريحاً تهزّ أغصان الأشجار القريبة منك، ثم تزداد سرعتها وتتصاعد قوّتها حتّى تمسي عاصفة تسوق أمواج البحر بعنف، وبعد مدّة تتحول بصورة مريعة إلى إعصار أهوج يقتلع الأشجار ويسبّب الفيضان والطوفان، ويُثير الخوفَ والفزعَ في أعماق نفسك.
فقصة "الفاركونيت"، مثلاً، التي تسرد اعتقال أحد سكان العمارة، تبدأ بتوقُّف سيّارة في الشارع الذي يسوده الهدوء في الليل، ثم تُسمَع وقع أقدام تتّجه إلى باب العمارة، ثم تنفتح شبابيك الشقق ليطلّ منها الساكنة على الشارع، ثم طَرْقٌ شديد على الباب، ثم فجأةً في لحظة الاعتقال، تهبّ الأصوات ويرتفع الضجيج وتتفاقم الحركة وتتوالى الأقوال والأفعال من جميع الجهات: من سكيّر يرفع عقيرته بالغناء، وكلاب تنبح، وأقدام تتحرك، ورجل يتكلم، وامرأة تتمتم، وطفل يرتجف:
" ... لكنَّ صمت الليل كان ينقل أصوات حوار تتخلّله حركات عنف. الذين كانوا يطلّون على الشارع رأوا سكِّيراً قادماً يترنّح. أخذ السكِّير يغنّي...بدأت الأقدام تتردّد من جديد على الدرج. وفي الشارع أحسّت الكلاب التي كانت تبحث في قمامات الأزبال بحركة الأقدام والأصوات فبدأت تنبح. قالت المرأة وهي تتنهَّد: ربّي يأخذ حقّنا منهم. قال الرجل: اسكتي. لم تعُد الأقدام بعيدة عن الباب. قال الطفل: سأقول ذلك للأولاد في المدرسة..." (9)
(لاحظ، في هذه الفقرة، أنّ الكاتب استعمل بكثرة الأفعال التي على وزن " يَتَفعَّل/تتفعَّل " الذي يدلّ على الكثرة والتعدُّد والتصاعُد، بالإضافة إلى الكلمات المشدَّدة الأخرى، مثل: " تتخلّل، يترنّح، تتردَّد، تتنهَّد؛ يطلّون، سكّير، يغنّي، ربّي، حقّنا" وكأنّها مطارق تنهال على مسمعَي القارئ).
وفي أحيان أخرى، يفضّل القاص السحيمي استثمارَ الطريقة الاستنباطيّة التي ينبغي على القارئ اتّباعها للوقوف على الحدث الرئيس في القصّة، لأنّ الكاتب لا يستطيع البوح بهذا الحدث، فيغيّبه ويكتفي بالتلميح بدل التصريح، أي بالإيماء والإشارة إليه للدلالة عليه. ففي قصة "شاهد المدينة" ثمّة شابٌ أحمق يتفوّه بألفاظ غير مفهومة، وهو يقفز من رصيفٍ إلى آخر، ثم يقف في ظلّ نخلة على الرصيف المقابل لبناية الشرطة الرئيسة في المدينة، ويمرُّ عليه أحد زملائه القدامى في المدرسة فلا يعرفه الأحمق، ويتذكّر زميله أنّه اختفى من مقاعد الدراسة ولا يُعرَف أين اختفى ثم عاد مجنوناً. هذه القصة في الصورة التي وضعها فيها الكاتب لا تشتمل على حدث رئيس، وتبقى غير مكتملة ينقصها الحدث الذي سببّ جنون هذا الشاب. فالقصة في وضعها الراهن لا تشتمل على عناصر القصة الرئيسة التي ذكرناها. إنها مجرد صورة قلمية (بورتريه) لشخصيّة الشاب الأحمق، تجعل القارئ يتعاطف معه، ويحاول تلقائياً أن يتوصَّل بنفسه إلى الحدث الذي سبَّبَ جنونه، عن طريق التفكير بصورة لاواعية بالعلاقات الوجوديّة التي ذُكِرت عناصرها في القصة. والعلاقات الوجودية (وهي غير العلاقات المنطقية في علم المفهوم) هي تلك العلاقات غير المباشرة التي تقوم بين العناصر نتيجة لتجاورها في المكان، أو لتتاليها في الزمان، أو لترابطها بالعلّيّة كترابط النتيجة بالسبب. وهكذا يدفع الكاتبُ القارئَ إلى استنتاج أنّ هذا الشاب كان قد اختُطف من قبل الشرطة السريّة وأنّه تعرّض لتعذيب أفقده صوابه. والكاتب لم يقُل ذلك. ومع ذلك، فالقصّة صرخة ضدّ التعذيب المحرَّم دينيّاً وقانونيّاً ودوليّاً، صرخة أقوى من جميع فصول القانون ومواده التي تحرّم التعذيب وتجرّمه.
3) هُويّة السارد:
السارد غير الكاتب. فالكاتب خارج النصّ والسارد داخله وجزء منه. فالسارد هو الذي يقدّم شخوص القصّة إلى القارئ، ويخبره بأحداثها، وقد يعلِّق أحياناً على مجريات الأمور ويحكم على الأقوال والأفعال فيها، أو يرهص للقارئ ويوجهه للتوصل إلى استنتاجات وأحكام مُعيّنة، كما يفعل كُتّاب القصة البوليسية، الذين يرمون بإشاراتٍ وعلامات متناقضة توجّه القارئ إلى إلقاء التهمة على أحد الشخوص الأبرياء، وفي الوقت نفسه يبثّون أدلّة في ثنايا القصة تقود القارئ النبيه إلى معرفة المجرم الحقيقيّ الذي اقترف الجريمة.
وبصورةٍ عامّة، إمّا أن يكون هذا السارد أحد شخوص القصّة الذي جرت له الأحداث؛ وإمّا أن يكون شخصاً محايداً ليس واحداً من شخوص القصة، يطلُّ على فضاء القصة من علٍ فيطّلع على ما يجري فيه، ويعرف خلفيات الشخوص وما يختلج في نفوسهم من مشاعر وأحاسيس.
في الحالة الأولى يستخدم السارد ضمير المتكلِّم المفرد المنفصل أو المتصل، مثل أنا، وقلتُ، ورأيتُ، وشعرتُ، إلخ. ويفترض في هذا السارد أنّه عارف بما يجري له وعالمٌ بمشاعره وأحاسيسه، وينقلها إلى القارئ، عادةً، بأمانة وصدق، وقد يجانبه الصواب في روايته لسبب من الأسباب. أمّا في الحالة الثانية فإنّ السارد يستخدم ضمير الشخص الثالث الغائب، مفرداً كان أم مثنى أم جمعاً، مثل هو، هي، هما، هم، هن، أو قال، قالتْ، قالا، قالتا، قالوا، قُلن. وفي هذه الحالة تكون معرفة السارد بمجريات الأمور أكثر من معرفة شخوص القصّة، أو أقلّ منها، أو مساوية لها.
واختيار هوية السارد قضية استنسابيّة تقديرية تعتمد على الكاتب. فبعض الكتّاب يفضِّل أن يسرد قصصه بضمير المتكلّم، وبعضهم الآخر يفضّل السرد بضمير الغائب. ويتمّ اختيارُ الكاتبِ المتمرّس بناءً على تقديره لمدى مناسبة هويّة السارد لنوعيّة الأحداث، ومدى مساهمة هذا الاختيار في إقناع القارئ بواقعيّة الأحداث. فالسرد بضمير المتكلّم لا يلائم، مثلاً، قصة " شاهد المدينة " التي تدور حول شابٍ أحمق، لأنّ هذا الشاب لا يستطيع النطق بصورة مفهومه. ولهذا اختار الكاتب السحيمي أن يسرد الأحداث بضمير الغائب. ولو اختار سرد الإحداث بضمير المتكلِّم الأحمق لوقعتْ في القصة تعقيدات دلاليّة؛ وهذا ما حصل عن قصد في رواية الكاتب الأمريكي وليم فولكنر " الصخب والعنف " ما اضطر مترجمها المرحوم جبرا إبراهيم جبراً إلى كتابة مقدِّمة مطوَّلة جدّاً لمساعدة القارئ على الاستيعاب.
وبإجراءِ إحصائيّةٍ بسيطةٍ في قصص " سيّدة المرايا"، نجد ما يلي:
ـ 4 قصص استخدمت ضمير الغائب،
ـ 6 قصص استعملت ضمير المتكلِّم المفرد،
ـ 1 قصة واحدة فقط استخدمت ضمير المتكلِّم الجمع " نحن". تلك هي قصة " البحث عن إيمان ". وينبغي أن أعترف أنّني لم أقرأ قصة من قبل تستخدم ضمير المتكلِّم الجمع.
ـ 2 قصتان لم يظهر فيهما سارد معيّن، لأن بناءهما مسرحيّ.
4) الإيهام المرجعيّ:
قُلنا في المقدِّمة إنّ القصّة الجيدة هي التي تُقنع القارئ بأنّها وقعتْ فعلاً أو أنّها يمكن أن تقع. وأحسن الخيال ما كان قريباً من الواقع، كما أنّ أحسن الواقع ما كان قريباً من الخيال. والنصّ الأدبيّ قد ينطلق من الواقع المعيش ولكنّه لا يخلو من نصيب وفير أو ضئيل من الخيال. ويستخدم القاصُّ المتمكِّن من فنّه بعض التقنيّات التمويهيّة التي تُوهِم القارئ بأنّ القصّة وقعتْ فعلاً. ويُسمى هذا النوع من التمويه بالإيهام المرجعيّ، أي أنّ الكاتب يوهم القارئ بأنّ مرجعياته حقيقية صادقة. وقد استخدم القاص عبد الجبار السحيمي في قصص " سيدة المرايا " مجموعة من تقنيات الإيهام المرجعي. ومن الأمثلة على ذلك:
ـ عتبات النصّ، أي العنوان، أو المقدّمة، أو الإهداء، أو الملاحظة الختاميّة، التي تؤطِّر النصّ. فالقصّة الخامسة في المجموعة حملت عنوان " قتل الأب"، والإهداء " إلى ابني عادل وقد عرف باكراً طريقه الخاصّ". وكثيرٌ من القراء يعرف أن اسم نجل الكاتب عبد الجبار السحيمي هو عادل. وفي خاتمة القصّة الثانية " الفاركونيت" نجد عبارة " حدث ذلك في زمن كان اسمه الجنرال أوفقير ورجاله". وغالبية القراء تعرف شيئاً عن هذا الجنرال وأفعاله.
واستخدام الإيهام المرجعيّ، في نظرنا، لا يعني أنّ ما حدث في هاتين القصّتَين، مثلاً، لم يحدث، وإنّما المقصود منه إقناع القارئ بوقوع ما سُرِد وأن ما يقرأه ليس مجرّد قصّة من نسج الخيال، بصرف النظر عما إذا كانت الحكاية حقيقيّة أو خياليّة.
ـ الفضاء وأسماء مكوِّناته: يذكر الكاتب أحياناً أسماء أماكن حقيقيّة معروفة لدى القارئ، لكي يعزِّز القناعة لديه بأنّ القصّة واقعيّة. فمثلاً، تجري أحداث قصة " ما قبل الصحو وما بعده" في مدينة الرباط. ويذكر السارد اسم الشارع الذي كان متوجهاً إليه، وهو (شارع علال بن عبد الله) الشهير، كما يذكر أن مقرّ جريدة (العلم) المغربية يقع في هذا الشارع. وأسماء هذه الأماكن معروفة لأبناء الرباط، وأغلبيّة القراء تعلم أنّ الكاتب السحيمي يعمل صحفيّاً في جريدة (العلم) طوال حياته. كلُّ هذه المرجعيّات الحقيقيّة ترجّح لدى القارئ أنّ ما يرويه الكاتب بضمير المتكلّم في هذه القصّة قد وقع له فعلاً.
5) البدايات والنهايات:
يمكن أن توصَف قصص السحيمي بأنّها ذات بدايات مغلَقة ونهايات مفتوحة؛ بمعنى أنّ بدايات القصص موصدة في وجه المقدِّمات والشروح والتفسيرات التي نجدها في بدايات بعض القصص القصيرة. فالقاص السحيمي يدخل في الموضوع مباشرة دون مقدِّمات. أمّا نهايات قصصه فهي مشرعة على التأويل، بحيث تترك للقارئ فرصة المشاركة في الإبداع عن طريق تخيّل نهاية القصّة أو مصير شخوصها.
ونضرب مثلاً لذلك في قصة " شاهد المدينة " التي تقدِّم لنا صورة قلميّة (بورتريه) لشاب فقد عقله. ففي بداية القصّة نواجه الأحمق مباشرة دون مقدِّمات:
" هاهو الأحمق" قال الأطفال في الحارة قال الناس في المدينة.. وكان الأحمق يقفز الآن، يقطع الساحة إلى الرصيف الآخر..." (10)
ولكنّ لا توجد نهاية محدّدة لهذه القصّة، فخاتمتها، كما هي عليه، لا تضع حدّاً لتوتُّرنا ولا تعطي جواباً لتساؤلاتنا عن مصير هذا الأحمق، فنميل أو نضطر إلى ملء الفراغات في القصة وتخيّل نهاية لها، طبقاً لنظريّة الجشطالت التي تقول بأنّ العين تميل إلى استكمال الأشكال الهندسيّة الناقصة. فالقصص ذات النهايات المفتوحة هي بخلاف القصص المستكملة لنهاياتها التي تضع حلاً أو حدّاً للصراع الدراميّ لدى شخوصها، أو تصل إلى خاتمة توفيقيّة تُريح القارئ. فقيام الكاتب بحذف بعض أحداث قصته تقنيّة جيدة ترمي إلى استمرار توتر القارئ وإطلاق خياله وتنشيطه بحثاً عن حلٍّ يرتئيه ونهاية يأنس إليها. بيدَ أنَّ نجاح تقنيّة حذف بعض أحداث القصة يتوقَّف على معرفة الكاتب مسبقاً بالحدث المحذوف، كما توصّل إلى ذلك الروائي الأمريكي أرنست همنغواي من خلال تجاربه لتطوير أساليبه السرديّة في شبابه حينما كان يعيش في باريس، وذكر ذلك في روايته السيرذاتيّة " الوليمة المتنقلة" (11).
إنّ غالبية قصص " سيّدة المرايا" ذات نهايات مفتوحة. فقصة "شاهد المدينة" تنتهي على الوجه التالي:
" كان الأحمق ما يزال ساكناً إلى جوار النخلة منذ تركه أحمد الهادي هناك...
يلفُّ الليلُ المدينة، وهو وحده يقف منتصباً مثل علامة ازدراء، شاهداً على الموت الذي يمشي وحده في الطرقات."
( لاحظ الإبداع في " علامة الازدراء" التي يجب أن تُضاف إلى علامات التنقيط في قواعد كتابة اللغة العربيّة، مثل علامة الاستفهام وعلامة التعجّب.).
6) اللغة:
اللغة المستخدَمة في هذه المجموعة لغة فصيحة مشرقة شفافة ناصعة سليمة سلسة، تمّ انتقاء مفرداتها بعناية، وصياغة عباراتها وجملها بدراية. وهي تخلو من اللهجة العاميّة أو الدارجة. فقد وقع كثير من القصّاصين والروائيِّين العرب في أواسط القرن الماضي، أيام هيمنة المدرسة الواقعيّة على السرد العربيّ، في فخِّ استعمال اللهجة العاميّة، خاصّة في الحوار، توهُّماً منهم أنَّ استعمال اللهجة العاميّة جزء من الواقعية التي تفترض تعدّد الأصوات بتعدّد الشخصيّات الروائيّة؛ إذ ليس من المعقول أن يتحدّث الفقير السوقي بلغة الأمير الثري، أو يتكلّم الفلاح الأُمّيّ بلغة الشاعر المتنبي. بيدَ أنَّ هذه المقاربة تصوُّر ساذج للواقعيّة. فالواقعية لا تساوي الواقع، وإنّما تساوي الواقع بعد أن يخلع عليه الفنّ بعض سحره ليكون جذاباً للمتلقيّ. فالمعادلة الصحيحة هي:
الواقعية = الواقع + الفنّ.
فالفنُّ مكوِّنٌ أساسيٌّ من مكوّنات المدارس الفنيّة على اختلاف أنواعها: التشكيليّة، والأدبيّة، والسمعيّة البصريّة، وغيرها. فحتّى الفنّ الفوتوغرافيّ لا يمثّل واقع الموضوع كلّه وبصدق، بل يقدّم لنا واقعاً من وجهة نظر الفوتغرافيّ الخاصّة. ويتجلّى الفنّ، في الشعر والسرد، بالخيال الخصب واللغة الرائقة. فكلّما زاد الخيال في النصِّ وارتقت لغته، أصبح أقرب إلى الأدب. وبعبارة أُخرى كلّما ابتعد الفنّ عن الواقع الذي نعرفه، ازداد الإبداع والخلق الفني فيه. أضف إلى ذلك أنّه إذا كان الواقع يعني العالم المحسوس الذي نعرفه بالإدراك الحسيّ، فقد يكون هذا الواقع موجوداً ولا ندركه، كلَّه أو بعضه، بالضرورة بواسطة حواسنا. والفنّان هو الذي يكتشف بحسِّه المرهف ونظره الثاقب وبصيرته المتوقِّدة، واقعاً قد لا نتمكن من إدراكه أحياناً، وهو الذي يسعى إلى تنمية ثقافة المتلقِّي والارتقاء بلغته، وإلا، ما الذي يتبقّى من الفن أّذا جرّدناه من الثقافة؟
الفنّ في النصّ الأدبيّ يرتفع باللغة من الصيغة التي يستخدمها عامّة الناس إلى صيغة مسبوكة بصورة مشرقة جذابة ترفل بالجدّة والإبداع، فتتخلّص من القوالب المحنَّطة، والعبارات المسكوكة المتجمدة. ويتوقّف احتضان النصِّ لهذه اللغة الفنّيّة العالية على قدرة الكاتب وملكاته اللسانيّة ومهاراته المهنيّة. ولغة الكاتب هي من أهمّ العناصر التي تميّزه عن غيره من الكُتّاب. ومن مهام الكاتب أن يرتفع بلغة قارئه إلى مستوىً أرقى وشكلٍ أجمل. أضفْ إلى ذلك أنَّ استعمال اللغة الفصيحة السليمة في النصوص الأدبيّة والصحافة ووسائل الاتّصال الأخرى، يساعد الناس على امتلاك اللغة الفصيحة التي هي أداة النفاذ إلى مصادر المعلومات، بحيث يتكوّن لدينا مجتمع المعرفة القادر على تحقيق التنمية البشريّة.
في " سيدة المرايا" تتجلّى قدرات عبد الجبار السحيمي اللغويّة بصورة ملفتة للنظر، بحيث كتب بعض هذه القصص بلغة شعريّة رفيعة، تستمدُّ جماليّتها من جدّة مجازاتها، وإيقاع مفرداتها، وموسيقى عباراتها، وبساطة تراكيبها، ومن دلالاتها الشفّافة الموحية المفتوحة برحابة على التأويل. لنستمع إليه في قصّة " السيف والدائرة":
" أماناً أيّها القمر، تعال اشرب كأساً ولا تعتب! عشتُ قبل هذا الزمان، وأعيش ثانيةً، أعرف ما كان، أعرف ما يكون، تُذهلني قدرة الناس على الغباء، قدرتهم على الحيطة على المجيء والذهاب، لا يؤلمهم سوط، لا تؤرّقهم آهة الفهم، لا تنفتح عيونهم على اللعبة. أصبُّ كأساً أرفعها أشربُ نخب صديقتي الواسعة العينَين؛ تقول ستهدم صحّتك، أقول سيهدمني هذا الفزع من نفسي التي لا تهدأ لا تستكين لا تقبل ولا ترضى ولا تستطيع أن تتلاءم أن تقدِّر حدودها أن تدخل لعبة المسخ. أُفرِغُ الزجاجة، أذكر امرأةً صبيةً رفعتني فوق جسدها فدخلته مرعداً كأنّني أعيد تكوين العالَم. يزغرد الأحمر في عينَيّ، أذكر أنَّ الجسم كان ضافياً، أنَّ الليل كان رفيقاً وأنني أتيتها هارباً من هزيمة وأنها ما أعطتني الأمان. قالت إنّك تعجبني، كان العسس يسكنون داخلي، قلتُ احذريني فأنا أبدأ هكذا رقيقاً ثم يأتي الحزن. قالت لستَ أوّل من تهزمه الغيلان، قلتُ لا أفهم كيف لا يقلق الناس كيف يستكينون إلى طمأنينتهم القاتلة، أكاد أجنّ. ألقمتني نهدها، قلتُ أريد أن أفهم. هدهدتني، استحليتُ الطفل الذي عدتُه، بدأتُ أركل بطنها، وأخذتْ تعوي باللذة..." (12)
الخاتمة:
إنّ الموضوعة (التيمة) التي تدور حولها قصص مجموعة " سيّدة المرايا " هي الحرّية. والكتابة عن الحرّية في البلاد التي لا تسود فيها الحرّية، تضع قيداً على حرّية الكاتب وتطلق حرّية القارئ. فهذه الموضوعة تؤثِّر في جميع عناصر العمل السردي: البناء، والتقنيات، واختيار الشخوص، وتطوير الأحداث، واللغة. وهذا ما حصل في هذه المجموعة القصصية التي حاولت قراءتنا أن تسلط عليها بعض الأضواء الكاشفة، وتموقعها في مجمل أعمال الكاتب الفكريّة، بوصفه كاتباً ملتزماً يؤمن بأنّ النص خطاب يُنتجه واقع اجتماعيّ وحضاريّ معين، ويرمي إلى التأثير في الأفكار والمواقف.
يتعامل القاصّ عبد الجبار السحيمي مع عناصر قصصه بطريقة متميّزة، فينتقي شخصياته السرديّة بعناية، ويضعها في مواقف متفجرة، ويطوّر أحداثه في سياقات واقعيّة بصبر، ويصوغ نصوصه بلغة شعرية مزدانة بالرمز والإيحاء، ليقدّم لنا في النهاية عملاً فنيّاً بديعاً يرتفع بالقصّة القصيرة إلى أسمى مكانٍ يمكن أن تتبوأه، ويجعلها ترفل بأبهى حلّة، فتأسر البصر والبصيرة، وتنفذ بنعومة إلى قلب القارئ، لتحرّك مشاعره في المسار الذي اختطه الكاتب.
ـــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) John Updike (ed.) The Best American Short Stories of the Twentieth Century (New York: Mariner Books, 1999) 858pp.
عبد الجبار السحيمي، سيدة المرايا (الدار البيضاء: دار الثقافة، 2007).
عبد الجبار السحيمي، بخط اليد (طنجة: سلسلة شراع، 1996)
عبد الجبار السحيمي، الممكن من المستحيل (الرباط: مطبعة الرسالة، 1969)
سيّدة المرايا ، ص 50
المرجع السابق، ص 67، 68.
المرجع السابق، ص 75.
المرجع السابق، ص 76.
المرجع السابق، ص 75، 76.
المرجع السابق، ص 5.
أرنست همنغواي، " الوليمة المتنقلة" ترجمة: علي القاسمي (القاهرة: دار ميريت، 2006) الطبعة الثالثة، ص 97.
سيّدة المرايا، ص 43
تطلّب ظهور القصّة القصيرة الحديثة شرطَين أساسيَّين هما: ظهور طبقة متوسّطة في المجتمع، ووجود صحافة وطباعة بحيث يمكن طباعة آلاف النسخ من الصحف بسرعة وتوزَّيعها على نطاق واسع. وتوفَّرَ هذان الشرطان في البلاد العربية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فأخذت الصحف تنشر القصص القصيرة المُترجَمة والموضوعة. ومع ذلك وعلى الرغم من دور الطبقة الوسطى في ظهور القصّة القصيرة، فإنّ كتّاب القصّة القصيرة لا يختارون شخوصهم، عادةً، من بين أبناء الطبقة المتوسِّطة أو الطبقة العليا الذين يطالعون الصحف، وإنّما ينتخبونهم من بين أبناء الطبقة الفقيرة، من المُهمَّشين والمستضعفين والمسحوقين؛ ويعبِّرون عادةً عن آلامهم ومعاناتهم وإخفاقاتهم وإحباطاتهم. فالقصّة القصيرة لا تتوفر على بطلٍ يُشار إليه بالبنان ويُقلَّد بأكاليل الغار والعرفان؛ وإنّما هي فضاء يتحرّك فيه المقهورون أو المضطهدون أو المحرومون أو المخنوقة أصواتهم؛ فتصوِّر عالمهم الداخليّ وترسم أحاسيسهم الأليمة، في لحظاتِ انكسارهم وحصارهم وانهيارهم. والقصّة القصيرة لا ترمي بطوقِ نجاة إلى هؤلاء المساكين، ولا تضع أقدامهم على سبيل الخلاص، وإنّما تكتفي بوصف مأساتهم، كأنّها لم تُكتب لهم، بل كُتِبتْ لغيرهم من الميسورين والمترفين، من أجل تحسيسهم بأحوال أولئك المعوزين والبائسين، وهم يئنون تحت وطأة القلق المستبد والخوف الدائم، وينوءون تحت نير الاضطهاد، ويقاسون التعذيب الرهيب الذي يجعل أرواحهم تترنح على حافة الحياة، وتذوي على حدود الموت.
مكانة "سيّدة المرايا" في إنتاج السحيمي:
مهما طالبَ أنصارُ النظرية البنيويّة في النقد، بضرورةِ "قتلِ الكاتب" وفحص "النصّ ولا شيء غير النصّ"، فإنّنا لا يمكن أن ندرس مجموعة " سيّدة المرايا"(2) بمعزل عن شخص الكاتب وإنتاجه في الأجناس الأدبيّة الأخرى، وفي مقدِّمتها مقالاته اليوميّة في جريدة (العلم) المغربيّة ذات التاريخ العريق في النضال ضدَّ الحماية الفرنسيّة الاستعماريّة، بوصفها لسان (حزب الاستقلال) الذي قاد النضال من أجل تحرير المغرب. وقد جُمِعت بعض مقالات السحيمي ونُشِرت في كتابٍ عنوانه " بخط اليد" (3).
عبد الجبار السحيمي كاتب ملتزم يؤمن بأنَّ النصَّ خطابٌ يعبِّر عن واقعٍ ثقافيٍّ وحضاريٍّ، ويرمي إلى إحداثَ تغيير في العقليّة والمواقف والتوجّهات. ولهذا فإنّ تجربته القصصيّة تتجاوب مع الواقع الاجتماعيّ والسياسيّ العربيّ في أزماته وتحولاته الفكريّة الحادّة. وهو في مجموعته القصصيّة الثانية " سيدة المرايا" كما في مجموعته الأولى " الممكن من المستحيل" (4) التي تُعدُّ نقطةَ تحوّلٍ نوعيٍّ في تاريخ السرد المغربيّ، يعرض علينا شخصيّات اختارها بعناية من بين المضطهدين والمقهورين، ووضعها في مواقف سرديّة ملتهبة متفجّرة، وراح يطوّر أحداثة بحنكة ومهارة وصبر فائق، ليكسب تعاطف القارئ ويُنتِج الأثرَ المطلوب في نفسه. ومَن يُمعِن النظر في قصص مجموعة " سيدة المرايا" التي نُشرت هذا العام، يتّضح له أنّها كُتبت في فترة الستينيّات والسبعينيّات، شأنها في ذلك شأن قصص مجموعته الأولى " الممكن من المستحيل "، فالمجموعتان تنتميان إلى الفترة الزمنيّة ذاتها، وتتناولان الأوضاع الاجتماعيّة التي كانت سائدة آنذاك. ويستدلّ على ذلك من التاريخ الذي وُضِع في نهاية بعض قصص هذه المجموعة، مثل التاريخ 1975 الذي أُضيف في نهاية قصة " السيف والدائرة"، أو من بعض التذييلات التي وردت في نهاية قصص أُخرى، مثل عبارة " حدث ذلك في زمن كان اسمه الجنرال أوفقير ورجاله" الموجودة في نهاية القصّة الأولى " شاهد المدينة". ويبدو أنّ عبد الجبار السحيمي قد توقّف ـ مع الأسف ـ عن كتابة القصّة القصيرة منذ مدّة، وواصل كتابة المقالات التي ينشرها في جريدة "العَلم" التي هو اليوم مديرها. وأنّه نسي تلك القصص أو فقد الاهتمام بجمْعها وإصدارها في شكلِ كتاب، حتّى استأذنه أحد مساعديه، الشاعر محمد بشكار، محرّر " العَلم الثقافي" الأسبوعيّة، في جمْعها من مظانّها والإشراف على طباعتها ونشرها، وتشكيل " كولاج" مستوحى من لوحةٍ للفنان خوان ميرو لتزيين غلاف " سيدة المرايا ".
تروم قراءتنا هذه رصد العناصر القصصيّة في مجموعة " سيدة المرايا"، وتفكيك بنائها الفني، وتقنيّاتها السرديّة، ونصوصها في سياقاتها اللغويّة والجماليّة والثقافيّة والاجتماعيّة، ، ثم إعادة تركيبها طبقاً لتصوُّرنا وتأويلنا؛ وذلك من أجل زيادة متعة القراءة لدي المتلقيّ.
الحُرّية، موضوعة "سيدة المرايا":
أوّل ما يلفت انتباهنا في هذه القصص أنّها تعالج موضوعةً (تيمةً) واحدةً، يمكن تشخيصها بوضوح في كلِّ قصة وفي جميع قصص المجموعة تقريباً، تلكم هي موضوعة (الحرّيّة).
لا يتناول الكاتب في هذه القصص (الحُرّية) من المنظور الدينيّ أو الفلسفيّ الذي يتساءل عن مدى حرّيّة الأفراد في ممارسة إرادتهم، أي ما إذا كانوا أحراراً في اختياراتهم، والتحكّم في أعمالهم في ضوء معارفهم وبمحض إرادتهم، لا طبقاً لما كُتِب أو قُدِّرَ عليهم سلفاً. فهذا النوع من الحُرّية ترفٌ لا يحلم به شخوص تلك القصص من المضطهدين والمقهورين. كما لا يعالج الكاتب موضوعة (الحُرّية) بمعناها الاجتماعيّ والسياسيّ الذي يتضمَّن حرّية الرأي، وحرّية الصحافة، وحرّية التجمُّع، وحرّية تأسيس الأحزاب وغيرها مما يطلق عليه اسم (الحريّات المدنيّة). فهذا ترفٌ آخر لا تحلم به شعوبنا، وإنّما تتمتع به تلك الشعوب التي قطعت شوطاً بعيداً في التقدُّم والمدنيّة. إنّما يتناول الكاتبُ موضوعةَ (الحرّية) في أبسط معانيها وأدنى مستوياتها، تلك هي حرّية الإنسان في الحركة والتنقُّل دون أن يخشى إكراهاً أو اضطهاداً أو سجناً. وهذا جزء ممّا يسمَّى بـ (الحرّيات الطبيعيّة) التي يمارسها الإنسان بصورة تلقائيّة غريزيّة، بوصفه كائناً حيّاً تشكّل الحركة بالنسبة إليه ضرورة بيولوجيّة حتميّة لازمة لحياته وإنسانيّته. فوضعُ قيودٍ على حرّيّة حركة الإنسان مصادرةٌ لوجوده.
إنّ الكاتب يضع شخوص قصص " سيدة المرايا" في سياقات اجتماعيّة وسياسية تحرمهم حتّى من التنقُّل بحرية من منازلهم إلى مقرات أعمالهم، دون أن يشلَّ حركتَهم الخوفُ ويجعلهم مثل جرذان ترتجف في جحورها المحاصرة بالقطط الهائجة، أو مثل سلاحف منكمشة في قواقعها أمام خطر داهم يهدّد حياتها ووجودها.
وينبغي أن نتذكّر أنّ أيَّ كاتبٍ في بلادٍ لا تسود فيها الحرّية، يصعب عليه أمران: الأوّل، الكتابة عن أيِّ موضوعٍ بحرّية، سواء أكان الموضوع فكريّاً أم اجتماعيّاً، والثاني، الكتابة عن الحرّية ذاتها بحرّية؛ لأنّ أعداء الحرّية هم القابضون على زمام الأمور المانعون لما لا يريدون. ولهذا، ولكي تحقّق موضوعةُ الحرّية ذاتَها في النصّ الأدبيّ في تلك البلاد، فإنّها تضع قيداً على حرّية الكاتب في التعبير من ناحية، وتطلق حرّية القارئ في التأويل من ناحية أخرى. فالكاتب لا يتناول هذه الموضوعة مباشرة ولا يقول كلَّ شيءٍ، بل يستخدم تقنيّات الحذف، والرمز، والتلميح، والإيحاء التي تتطلب أن يستخدم القارئ خياله في الإضافة إلى النصّ، وملء الفراغات، والتفسير، والتأويل. وبعبارة أخرى، إنّ موضوعة الحرّية التي اختارها عبد الجبار السحيمي أثّرت في بناء السرد وتقنياته ولغته كما سنرى.
ولعلَّ أمثلةً من قصص المجموعة تبيّن لنا بوضوحٍ تامٍ كيف أن موضوعة الحرية هي المحور الذي يدور حوله السرد:
في قصة " ما قبل الصحو وبعده"، كان السارد يسترخي فوق كرسي الحديقة، متعباً مهزوزاً، وهو يتصوّر عالَماً آخر يفترض أنّه سيكون أفضل من هذا العالَم الحالي، حين أحسّ فجأةً أنه مُراقَبٌ. وعلى الرغم من أنَّ الشخص الذي يراقبه من الخلف لا يحدّ من حركة سيره ولا يمنع تنقله، فإنّ السارد كان يشعر بأنَّ عينَين قاسيتَين تخترقان ظهره منذ خرج من البيت، وطيلة اليوم، في كلّ مكان. وحتّى عندما يلج المقهى هرباً من هذا الذي يلاحقه باستمرار، فإنّه لم يكُن يحسُّ بالرغبة في أن يشرب أيَّ شيء، لأنَّ وجود عينين تراقبانه بإلحاح يجعله منفعلاً، متشنجاً، خائفاً. فعندما "يراقبك أحد من وراء ظهركَ، هذا يعني أنك أصبحت غير قادر على أن تكون حُرّاً... " وأمسى كلُّ وجودك مصادراً.(5)
وفي قصة " الرعب " تتعرض حرّية "سين" لخطرٍ جسيم. كان "سين" في أوّل الشارع حين أراد أن يدخّن سيجارة، ولكنّه يكتشف أنّ علبه الوقود التي في جيبه فارغة. يرفع عينيه ليطلب عودَ ثقاب من أحد المارة، فتصطدمان برجل شرطة. يتراجع " سين " إلى الوراء، ثم يستدير، ويندفع يجرى بأقصى طاقته، حتّى ييتمكن من تسلق جدار ويقفز إلى الجهة الأخرى. (لاحظ رمزية الجري والجهة الأخرى).
وفي قصة " الفاركونيت"، يوقظ هدير السيّارة سكّان العمارة. وفي إحدى شققها يرتجف هلعاً رجلٌ وزوجته وطفلهما. يطلّون من النافذة ليروا أربعة من ركاب السيّارة يترجّلون ويتوجهون نحو العمارة، في حين يبقى ثلاثة آخرون في السيّارة. تقول المرأة لزوجها إنّهم قادمون. ارتدِ ملابسكَ. وتقول بصوت مختنق: هل نضيء المصباح، فيقول زوجها: الأحسن ألا نفعل حتّى يطرقوا الباب. ويقول الطفل أنا خائف... ويخيّل لساكني العمارة أنّ أبوابهم كلَّها بدأ ينهال عليها الطرق ... ثم يسمعون بكاءً آتياً من فوق. فيقول الزوج لقد أخذوا جارنا في الطابق العلوي، كان دوره هذه المرّة.
وفي قصة " عفريت الدار"، يُعطي السيّد أمراً صارماً لِخَدَمه أن يتجمَّدوا في مكانهم، ثم يدخل غرفته، ويوصد الباب، ولا يظهر مرّة أُخرى ليعطي الأمر الذي يسمح لهم بالحركة. ويبقى الخدم يتساءلون ما إذا كان السيد ما زال في غرفته أم غادرها.
وفي قصة " شاهد المدينة" يوجد أحمق في المدينة. وإذا كان عَقْلُ هذا الأحمق قد عُقِلَ فتوقّفَ عن التفكير السوي، فإنّ جسمه هو الآخر أصبح سجين مكان واحد في المدينة لا يغادره، فهو يقف طوال النهار ساكناً إلى جوار نخلةٍ على الرصيف المقابل للبناية المركزيّة للشرطة، ولا أحد يعرف ما الذي أذهب عقله ولماذا يقف هناك بلا حراك.
وفي قصّة "المُتّهم"، يحكم القاضي بالإعدام على شخص لا يحمل اسم المحكوم عليه بالإعدام طبقاً لمنطوق الحُكم. وعلى الرغم من أن أوراق التعريف الخاصّة بهذا المُتّهم تُثبتُ أنّ اسمه مخالف لاسمِ مَن حُكِمَ عليه بالإعدام، فإنّ رئيس المحكمة يُصرُّ على إدانته، لأنّ العدل، في مفهوم هذا الرئيس، يقتضي إيجاد متهمٍ ما لكلِ جريمةٍ تُقترَف.
وحتّى في قصّة " قتل الأب" التي تصوّر طفلاً تأخّر والده في الحضور إلى المدرسة عند نهاية الدروس لاصطحابه إلى المنزل، نجد أنّ الموضوعة الرئيسة هي الحرّية. يغادر جميع الطلاب فناء المدرسة بسيارات آبائهم إلا ذلك الطفل، إذ يبقى تحت المطر منتظراً أباه، وحيداً قلقاً خائفاً، لا يستطيع الحركة، على وشك أن ينفجر باكياً. حرّيته في العودة إلى المنزل قد صودرت في ظرف قاهر. بيدَ أنّ الطفل يبذل جهداً كبيراً في تذكّر الطريق إلى المنزل ويتحرّك بشجاعة ليتحرّر من الاعتماد على أبيه.
التقنيّات السردية في " سّيدة المرايا":
إنّ مقولة " الوحدةُ في التنوّع " تنطبق على هذه المجموعة القصصيّة. فهي ملتزمة بوحدة موضوعة (الحرّية) في جميع القصص، بيدَ أنّها تستخدم العناصر القصصية بصورة متنوّعة، وتستخدم تقنيّاتٍ سرديّة متباينة لتُنتج الأثر المطلوب في نفس القارئ. وسنتناول فيما يأتي بعض هذه العناصر والتقنيّات التي استخدمها الكاتب بمهارة، خاصةً:
1)البناء السردي
2) تطوُّر الحدث
هوية السارد
الإيهام المرجعي
البدايات والنهايات
اللغة.
1) البناء السرديّ:
قلنا إنّ القصص التي يكتبها كبار الكتّاب العالميِّين لا تلتزم ببناءٍ فنيٍّ معيَّن، بحيث تتجاذبها أبنية الأجناس الأدبية الأخرى: المسرح، الشعر، المقالة، السيرة. وأحياناً تتداخل هذه الأجناس الأدبية في العمل القصصيّ الواحد لتوسيع دائرة القرّاء. وفي قصص " سيدة المرايا"، التي يبلغ عددها ثلاث عشرة قصة، نجد أن البناء الفني يختلف من قصّةٍ إلى أُخرى، بحيث اختار الكاتب البناء الملائم لموضوع كلّ قصة. ففي قصة "المتّهم" مثلاً: اختار الكاتب البناء المسرحي لهذه القصّة فراح يكتب مسرحيّةً ذات فصل واحد، شخوصها: رئيس المحكمة، والدفاع، والمتهم؛ وهم يتحاورون بشكل مسرحيّ في فضاء المحكمة. وقد تكرّر هذا البناء القائم على الحوار بلا سرد أو وصف، والملائم لمسرحيّة ذات فصل واحد في قصة " عفريت الباب". واستخدم القاص الحركات الدراميّة التي يتطلّبها التشويق في المسرح، واستعمل تلك التعليمات التي توجّه، عادةً، إلى مُخرِج المسرحيّة والتي توضَع بين قوسَين؛ مثل: (صمت)، (خلال الحديث القصير يكون الشخص المُلثّم قد اختفى من غير أن يلحظه أحد)، (يُسمَع من بعيد خبطٌ على الباب)(6)، وما إلى ذلك.
في بعض القصص الأخرى، يقترب البناء الفني من المقالة السياسيّة. ففي قصّة "البحث عن إيمان"، نجد مقالاً أو بالأحرى إعلاناً (منفيستو) تُصدِره جماعة من الرفاق الشباب تلتقي في اهتماماتها، وتتقارب في مفاهيمها للحياة، وتتماثل في سِنِّها؛ تبيِّنُ فيه رؤيتَها لمشاكل المجتمع، وتسطّر فيه مطالِبها. نقرأ في هذه القصة/ المقال، مثلاً، الفقرة التالية:
" لقد كنا لا نقرأ، فإذا قرأنا لا نفهم، فإذا فهمنا لا نصدِّق. كنا نمرّ على المكتبات فلا يغرينا في واجهتها غير " رأس المال" و " الوجودية". ومن جهلنا بأنفسنا، وبديننا، وبأصالة مجتمعنا وأخلاقه، تولّد عندنا الشعور بالافتراق عن هذه البيئة" ...
" إننا لسنا خاطئين كما يتصوّرون. نحن فقط نعاني من مصيبة الجهل بأنفسنا دون أن يجد أحدٌ الشجاعةَ ليساعدنا على أن نخرج من هذا الجهل لنتعرَّف على أصالة المُعتقَد الذي عاشت له آباؤنا ويعيش له أحفادنا." (7)
وتنتهي هذه القصة/المقال بالجملة التالية:
" إن الموضوع صالح لمناقشة خصبة من أجل هذا الجيل الواقف على مفترق طرق" (8)
وكأن هذه الجملة خاتمة مقال يدعو فيه صاحبه إلى إثراء النقاش في موضوع الاستلاب الثقافيّ الذي يعانيه جيلُ الشباب العربيّ الراهن، بسبب السياسات التعليميّة والإعلاميّة والثقافيّة الأخرى التي تتّبعها الحكومات العربيّة.
وتقترب قصص أخرى في بنائها من السيرة والرواية، فنجد في قصة " شاهد المدينة" صورة قلميّة (بورتريه) مكتملة لشخصية الأحمق، كما لو كان الكاتب يحرص على تسجيل سيرة هذا الأحمق ليكون بطلاً لرواية لم تُكتب بعد.
إن براعة الكاتب في الفنّ القصصيّ هي التي مكّنته من تنويع البناء الفني من قصّة إلى أخرى، بحيث يجد القارئ كثيراً من الجدّة والتشويق والإبداع، ما يشدّه إلى هذه المجموعة القصصية.
2) تطوير الحدث:
يتّبع السحيمي عدّة طرائق في سرد الحدث الرئيس في القصة. فأحياناً يتّبع الطريقة الدراميّة التصاعديّة في تطوير أحداث قصصه. فأنتَ تحسُّ بأن الحدث في بدايته بسيط صغير ثم يأخذ في الكبر والنمو تدريجياً حتّى يبلغ الذروة؛ تماماً كما لو كنتَ واقفاً على ساحل البحر، ويهبّ عليك نسيم عليل منعش أوّل الأمر، ثم يروح يشتدّ شيئاً فشيئاً حتّى يصير ريحاً تهزّ أغصان الأشجار القريبة منك، ثم تزداد سرعتها وتتصاعد قوّتها حتّى تمسي عاصفة تسوق أمواج البحر بعنف، وبعد مدّة تتحول بصورة مريعة إلى إعصار أهوج يقتلع الأشجار ويسبّب الفيضان والطوفان، ويُثير الخوفَ والفزعَ في أعماق نفسك.
فقصة "الفاركونيت"، مثلاً، التي تسرد اعتقال أحد سكان العمارة، تبدأ بتوقُّف سيّارة في الشارع الذي يسوده الهدوء في الليل، ثم تُسمَع وقع أقدام تتّجه إلى باب العمارة، ثم تنفتح شبابيك الشقق ليطلّ منها الساكنة على الشارع، ثم طَرْقٌ شديد على الباب، ثم فجأةً في لحظة الاعتقال، تهبّ الأصوات ويرتفع الضجيج وتتفاقم الحركة وتتوالى الأقوال والأفعال من جميع الجهات: من سكيّر يرفع عقيرته بالغناء، وكلاب تنبح، وأقدام تتحرك، ورجل يتكلم، وامرأة تتمتم، وطفل يرتجف:
" ... لكنَّ صمت الليل كان ينقل أصوات حوار تتخلّله حركات عنف. الذين كانوا يطلّون على الشارع رأوا سكِّيراً قادماً يترنّح. أخذ السكِّير يغنّي...بدأت الأقدام تتردّد من جديد على الدرج. وفي الشارع أحسّت الكلاب التي كانت تبحث في قمامات الأزبال بحركة الأقدام والأصوات فبدأت تنبح. قالت المرأة وهي تتنهَّد: ربّي يأخذ حقّنا منهم. قال الرجل: اسكتي. لم تعُد الأقدام بعيدة عن الباب. قال الطفل: سأقول ذلك للأولاد في المدرسة..." (9)
(لاحظ، في هذه الفقرة، أنّ الكاتب استعمل بكثرة الأفعال التي على وزن " يَتَفعَّل/تتفعَّل " الذي يدلّ على الكثرة والتعدُّد والتصاعُد، بالإضافة إلى الكلمات المشدَّدة الأخرى، مثل: " تتخلّل، يترنّح، تتردَّد، تتنهَّد؛ يطلّون، سكّير، يغنّي، ربّي، حقّنا" وكأنّها مطارق تنهال على مسمعَي القارئ).
وفي أحيان أخرى، يفضّل القاص السحيمي استثمارَ الطريقة الاستنباطيّة التي ينبغي على القارئ اتّباعها للوقوف على الحدث الرئيس في القصّة، لأنّ الكاتب لا يستطيع البوح بهذا الحدث، فيغيّبه ويكتفي بالتلميح بدل التصريح، أي بالإيماء والإشارة إليه للدلالة عليه. ففي قصة "شاهد المدينة" ثمّة شابٌ أحمق يتفوّه بألفاظ غير مفهومة، وهو يقفز من رصيفٍ إلى آخر، ثم يقف في ظلّ نخلة على الرصيف المقابل لبناية الشرطة الرئيسة في المدينة، ويمرُّ عليه أحد زملائه القدامى في المدرسة فلا يعرفه الأحمق، ويتذكّر زميله أنّه اختفى من مقاعد الدراسة ولا يُعرَف أين اختفى ثم عاد مجنوناً. هذه القصة في الصورة التي وضعها فيها الكاتب لا تشتمل على حدث رئيس، وتبقى غير مكتملة ينقصها الحدث الذي سببّ جنون هذا الشاب. فالقصة في وضعها الراهن لا تشتمل على عناصر القصة الرئيسة التي ذكرناها. إنها مجرد صورة قلمية (بورتريه) لشخصيّة الشاب الأحمق، تجعل القارئ يتعاطف معه، ويحاول تلقائياً أن يتوصَّل بنفسه إلى الحدث الذي سبَّبَ جنونه، عن طريق التفكير بصورة لاواعية بالعلاقات الوجوديّة التي ذُكِرت عناصرها في القصة. والعلاقات الوجودية (وهي غير العلاقات المنطقية في علم المفهوم) هي تلك العلاقات غير المباشرة التي تقوم بين العناصر نتيجة لتجاورها في المكان، أو لتتاليها في الزمان، أو لترابطها بالعلّيّة كترابط النتيجة بالسبب. وهكذا يدفع الكاتبُ القارئَ إلى استنتاج أنّ هذا الشاب كان قد اختُطف من قبل الشرطة السريّة وأنّه تعرّض لتعذيب أفقده صوابه. والكاتب لم يقُل ذلك. ومع ذلك، فالقصّة صرخة ضدّ التعذيب المحرَّم دينيّاً وقانونيّاً ودوليّاً، صرخة أقوى من جميع فصول القانون ومواده التي تحرّم التعذيب وتجرّمه.
3) هُويّة السارد:
السارد غير الكاتب. فالكاتب خارج النصّ والسارد داخله وجزء منه. فالسارد هو الذي يقدّم شخوص القصّة إلى القارئ، ويخبره بأحداثها، وقد يعلِّق أحياناً على مجريات الأمور ويحكم على الأقوال والأفعال فيها، أو يرهص للقارئ ويوجهه للتوصل إلى استنتاجات وأحكام مُعيّنة، كما يفعل كُتّاب القصة البوليسية، الذين يرمون بإشاراتٍ وعلامات متناقضة توجّه القارئ إلى إلقاء التهمة على أحد الشخوص الأبرياء، وفي الوقت نفسه يبثّون أدلّة في ثنايا القصة تقود القارئ النبيه إلى معرفة المجرم الحقيقيّ الذي اقترف الجريمة.
وبصورةٍ عامّة، إمّا أن يكون هذا السارد أحد شخوص القصّة الذي جرت له الأحداث؛ وإمّا أن يكون شخصاً محايداً ليس واحداً من شخوص القصة، يطلُّ على فضاء القصة من علٍ فيطّلع على ما يجري فيه، ويعرف خلفيات الشخوص وما يختلج في نفوسهم من مشاعر وأحاسيس.
في الحالة الأولى يستخدم السارد ضمير المتكلِّم المفرد المنفصل أو المتصل، مثل أنا، وقلتُ، ورأيتُ، وشعرتُ، إلخ. ويفترض في هذا السارد أنّه عارف بما يجري له وعالمٌ بمشاعره وأحاسيسه، وينقلها إلى القارئ، عادةً، بأمانة وصدق، وقد يجانبه الصواب في روايته لسبب من الأسباب. أمّا في الحالة الثانية فإنّ السارد يستخدم ضمير الشخص الثالث الغائب، مفرداً كان أم مثنى أم جمعاً، مثل هو، هي، هما، هم، هن، أو قال، قالتْ، قالا، قالتا، قالوا، قُلن. وفي هذه الحالة تكون معرفة السارد بمجريات الأمور أكثر من معرفة شخوص القصّة، أو أقلّ منها، أو مساوية لها.
واختيار هوية السارد قضية استنسابيّة تقديرية تعتمد على الكاتب. فبعض الكتّاب يفضِّل أن يسرد قصصه بضمير المتكلّم، وبعضهم الآخر يفضّل السرد بضمير الغائب. ويتمّ اختيارُ الكاتبِ المتمرّس بناءً على تقديره لمدى مناسبة هويّة السارد لنوعيّة الأحداث، ومدى مساهمة هذا الاختيار في إقناع القارئ بواقعيّة الأحداث. فالسرد بضمير المتكلّم لا يلائم، مثلاً، قصة " شاهد المدينة " التي تدور حول شابٍ أحمق، لأنّ هذا الشاب لا يستطيع النطق بصورة مفهومه. ولهذا اختار الكاتب السحيمي أن يسرد الأحداث بضمير الغائب. ولو اختار سرد الإحداث بضمير المتكلِّم الأحمق لوقعتْ في القصة تعقيدات دلاليّة؛ وهذا ما حصل عن قصد في رواية الكاتب الأمريكي وليم فولكنر " الصخب والعنف " ما اضطر مترجمها المرحوم جبرا إبراهيم جبراً إلى كتابة مقدِّمة مطوَّلة جدّاً لمساعدة القارئ على الاستيعاب.
وبإجراءِ إحصائيّةٍ بسيطةٍ في قصص " سيّدة المرايا"، نجد ما يلي:
ـ 4 قصص استخدمت ضمير الغائب،
ـ 6 قصص استعملت ضمير المتكلِّم المفرد،
ـ 1 قصة واحدة فقط استخدمت ضمير المتكلِّم الجمع " نحن". تلك هي قصة " البحث عن إيمان ". وينبغي أن أعترف أنّني لم أقرأ قصة من قبل تستخدم ضمير المتكلِّم الجمع.
ـ 2 قصتان لم يظهر فيهما سارد معيّن، لأن بناءهما مسرحيّ.
4) الإيهام المرجعيّ:
قُلنا في المقدِّمة إنّ القصّة الجيدة هي التي تُقنع القارئ بأنّها وقعتْ فعلاً أو أنّها يمكن أن تقع. وأحسن الخيال ما كان قريباً من الواقع، كما أنّ أحسن الواقع ما كان قريباً من الخيال. والنصّ الأدبيّ قد ينطلق من الواقع المعيش ولكنّه لا يخلو من نصيب وفير أو ضئيل من الخيال. ويستخدم القاصُّ المتمكِّن من فنّه بعض التقنيّات التمويهيّة التي تُوهِم القارئ بأنّ القصّة وقعتْ فعلاً. ويُسمى هذا النوع من التمويه بالإيهام المرجعيّ، أي أنّ الكاتب يوهم القارئ بأنّ مرجعياته حقيقية صادقة. وقد استخدم القاص عبد الجبار السحيمي في قصص " سيدة المرايا " مجموعة من تقنيات الإيهام المرجعي. ومن الأمثلة على ذلك:
ـ عتبات النصّ، أي العنوان، أو المقدّمة، أو الإهداء، أو الملاحظة الختاميّة، التي تؤطِّر النصّ. فالقصّة الخامسة في المجموعة حملت عنوان " قتل الأب"، والإهداء " إلى ابني عادل وقد عرف باكراً طريقه الخاصّ". وكثيرٌ من القراء يعرف أن اسم نجل الكاتب عبد الجبار السحيمي هو عادل. وفي خاتمة القصّة الثانية " الفاركونيت" نجد عبارة " حدث ذلك في زمن كان اسمه الجنرال أوفقير ورجاله". وغالبية القراء تعرف شيئاً عن هذا الجنرال وأفعاله.
واستخدام الإيهام المرجعيّ، في نظرنا، لا يعني أنّ ما حدث في هاتين القصّتَين، مثلاً، لم يحدث، وإنّما المقصود منه إقناع القارئ بوقوع ما سُرِد وأن ما يقرأه ليس مجرّد قصّة من نسج الخيال، بصرف النظر عما إذا كانت الحكاية حقيقيّة أو خياليّة.
ـ الفضاء وأسماء مكوِّناته: يذكر الكاتب أحياناً أسماء أماكن حقيقيّة معروفة لدى القارئ، لكي يعزِّز القناعة لديه بأنّ القصّة واقعيّة. فمثلاً، تجري أحداث قصة " ما قبل الصحو وما بعده" في مدينة الرباط. ويذكر السارد اسم الشارع الذي كان متوجهاً إليه، وهو (شارع علال بن عبد الله) الشهير، كما يذكر أن مقرّ جريدة (العلم) المغربية يقع في هذا الشارع. وأسماء هذه الأماكن معروفة لأبناء الرباط، وأغلبيّة القراء تعلم أنّ الكاتب السحيمي يعمل صحفيّاً في جريدة (العلم) طوال حياته. كلُّ هذه المرجعيّات الحقيقيّة ترجّح لدى القارئ أنّ ما يرويه الكاتب بضمير المتكلّم في هذه القصّة قد وقع له فعلاً.
5) البدايات والنهايات:
يمكن أن توصَف قصص السحيمي بأنّها ذات بدايات مغلَقة ونهايات مفتوحة؛ بمعنى أنّ بدايات القصص موصدة في وجه المقدِّمات والشروح والتفسيرات التي نجدها في بدايات بعض القصص القصيرة. فالقاص السحيمي يدخل في الموضوع مباشرة دون مقدِّمات. أمّا نهايات قصصه فهي مشرعة على التأويل، بحيث تترك للقارئ فرصة المشاركة في الإبداع عن طريق تخيّل نهاية القصّة أو مصير شخوصها.
ونضرب مثلاً لذلك في قصة " شاهد المدينة " التي تقدِّم لنا صورة قلميّة (بورتريه) لشاب فقد عقله. ففي بداية القصّة نواجه الأحمق مباشرة دون مقدِّمات:
" هاهو الأحمق" قال الأطفال في الحارة قال الناس في المدينة.. وكان الأحمق يقفز الآن، يقطع الساحة إلى الرصيف الآخر..." (10)
ولكنّ لا توجد نهاية محدّدة لهذه القصّة، فخاتمتها، كما هي عليه، لا تضع حدّاً لتوتُّرنا ولا تعطي جواباً لتساؤلاتنا عن مصير هذا الأحمق، فنميل أو نضطر إلى ملء الفراغات في القصة وتخيّل نهاية لها، طبقاً لنظريّة الجشطالت التي تقول بأنّ العين تميل إلى استكمال الأشكال الهندسيّة الناقصة. فالقصص ذات النهايات المفتوحة هي بخلاف القصص المستكملة لنهاياتها التي تضع حلاً أو حدّاً للصراع الدراميّ لدى شخوصها، أو تصل إلى خاتمة توفيقيّة تُريح القارئ. فقيام الكاتب بحذف بعض أحداث قصته تقنيّة جيدة ترمي إلى استمرار توتر القارئ وإطلاق خياله وتنشيطه بحثاً عن حلٍّ يرتئيه ونهاية يأنس إليها. بيدَ أنَّ نجاح تقنيّة حذف بعض أحداث القصة يتوقَّف على معرفة الكاتب مسبقاً بالحدث المحذوف، كما توصّل إلى ذلك الروائي الأمريكي أرنست همنغواي من خلال تجاربه لتطوير أساليبه السرديّة في شبابه حينما كان يعيش في باريس، وذكر ذلك في روايته السيرذاتيّة " الوليمة المتنقلة" (11).
إنّ غالبية قصص " سيّدة المرايا" ذات نهايات مفتوحة. فقصة "شاهد المدينة" تنتهي على الوجه التالي:
" كان الأحمق ما يزال ساكناً إلى جوار النخلة منذ تركه أحمد الهادي هناك...
يلفُّ الليلُ المدينة، وهو وحده يقف منتصباً مثل علامة ازدراء، شاهداً على الموت الذي يمشي وحده في الطرقات."
( لاحظ الإبداع في " علامة الازدراء" التي يجب أن تُضاف إلى علامات التنقيط في قواعد كتابة اللغة العربيّة، مثل علامة الاستفهام وعلامة التعجّب.).
6) اللغة:
اللغة المستخدَمة في هذه المجموعة لغة فصيحة مشرقة شفافة ناصعة سليمة سلسة، تمّ انتقاء مفرداتها بعناية، وصياغة عباراتها وجملها بدراية. وهي تخلو من اللهجة العاميّة أو الدارجة. فقد وقع كثير من القصّاصين والروائيِّين العرب في أواسط القرن الماضي، أيام هيمنة المدرسة الواقعيّة على السرد العربيّ، في فخِّ استعمال اللهجة العاميّة، خاصّة في الحوار، توهُّماً منهم أنَّ استعمال اللهجة العاميّة جزء من الواقعية التي تفترض تعدّد الأصوات بتعدّد الشخصيّات الروائيّة؛ إذ ليس من المعقول أن يتحدّث الفقير السوقي بلغة الأمير الثري، أو يتكلّم الفلاح الأُمّيّ بلغة الشاعر المتنبي. بيدَ أنَّ هذه المقاربة تصوُّر ساذج للواقعيّة. فالواقعية لا تساوي الواقع، وإنّما تساوي الواقع بعد أن يخلع عليه الفنّ بعض سحره ليكون جذاباً للمتلقيّ. فالمعادلة الصحيحة هي:
الواقعية = الواقع + الفنّ.
فالفنُّ مكوِّنٌ أساسيٌّ من مكوّنات المدارس الفنيّة على اختلاف أنواعها: التشكيليّة، والأدبيّة، والسمعيّة البصريّة، وغيرها. فحتّى الفنّ الفوتوغرافيّ لا يمثّل واقع الموضوع كلّه وبصدق، بل يقدّم لنا واقعاً من وجهة نظر الفوتغرافيّ الخاصّة. ويتجلّى الفنّ، في الشعر والسرد، بالخيال الخصب واللغة الرائقة. فكلّما زاد الخيال في النصِّ وارتقت لغته، أصبح أقرب إلى الأدب. وبعبارة أُخرى كلّما ابتعد الفنّ عن الواقع الذي نعرفه، ازداد الإبداع والخلق الفني فيه. أضف إلى ذلك أنّه إذا كان الواقع يعني العالم المحسوس الذي نعرفه بالإدراك الحسيّ، فقد يكون هذا الواقع موجوداً ولا ندركه، كلَّه أو بعضه، بالضرورة بواسطة حواسنا. والفنّان هو الذي يكتشف بحسِّه المرهف ونظره الثاقب وبصيرته المتوقِّدة، واقعاً قد لا نتمكن من إدراكه أحياناً، وهو الذي يسعى إلى تنمية ثقافة المتلقِّي والارتقاء بلغته، وإلا، ما الذي يتبقّى من الفن أّذا جرّدناه من الثقافة؟
الفنّ في النصّ الأدبيّ يرتفع باللغة من الصيغة التي يستخدمها عامّة الناس إلى صيغة مسبوكة بصورة مشرقة جذابة ترفل بالجدّة والإبداع، فتتخلّص من القوالب المحنَّطة، والعبارات المسكوكة المتجمدة. ويتوقّف احتضان النصِّ لهذه اللغة الفنّيّة العالية على قدرة الكاتب وملكاته اللسانيّة ومهاراته المهنيّة. ولغة الكاتب هي من أهمّ العناصر التي تميّزه عن غيره من الكُتّاب. ومن مهام الكاتب أن يرتفع بلغة قارئه إلى مستوىً أرقى وشكلٍ أجمل. أضفْ إلى ذلك أنَّ استعمال اللغة الفصيحة السليمة في النصوص الأدبيّة والصحافة ووسائل الاتّصال الأخرى، يساعد الناس على امتلاك اللغة الفصيحة التي هي أداة النفاذ إلى مصادر المعلومات، بحيث يتكوّن لدينا مجتمع المعرفة القادر على تحقيق التنمية البشريّة.
في " سيدة المرايا" تتجلّى قدرات عبد الجبار السحيمي اللغويّة بصورة ملفتة للنظر، بحيث كتب بعض هذه القصص بلغة شعريّة رفيعة، تستمدُّ جماليّتها من جدّة مجازاتها، وإيقاع مفرداتها، وموسيقى عباراتها، وبساطة تراكيبها، ومن دلالاتها الشفّافة الموحية المفتوحة برحابة على التأويل. لنستمع إليه في قصّة " السيف والدائرة":
" أماناً أيّها القمر، تعال اشرب كأساً ولا تعتب! عشتُ قبل هذا الزمان، وأعيش ثانيةً، أعرف ما كان، أعرف ما يكون، تُذهلني قدرة الناس على الغباء، قدرتهم على الحيطة على المجيء والذهاب، لا يؤلمهم سوط، لا تؤرّقهم آهة الفهم، لا تنفتح عيونهم على اللعبة. أصبُّ كأساً أرفعها أشربُ نخب صديقتي الواسعة العينَين؛ تقول ستهدم صحّتك، أقول سيهدمني هذا الفزع من نفسي التي لا تهدأ لا تستكين لا تقبل ولا ترضى ولا تستطيع أن تتلاءم أن تقدِّر حدودها أن تدخل لعبة المسخ. أُفرِغُ الزجاجة، أذكر امرأةً صبيةً رفعتني فوق جسدها فدخلته مرعداً كأنّني أعيد تكوين العالَم. يزغرد الأحمر في عينَيّ، أذكر أنَّ الجسم كان ضافياً، أنَّ الليل كان رفيقاً وأنني أتيتها هارباً من هزيمة وأنها ما أعطتني الأمان. قالت إنّك تعجبني، كان العسس يسكنون داخلي، قلتُ احذريني فأنا أبدأ هكذا رقيقاً ثم يأتي الحزن. قالت لستَ أوّل من تهزمه الغيلان، قلتُ لا أفهم كيف لا يقلق الناس كيف يستكينون إلى طمأنينتهم القاتلة، أكاد أجنّ. ألقمتني نهدها، قلتُ أريد أن أفهم. هدهدتني، استحليتُ الطفل الذي عدتُه، بدأتُ أركل بطنها، وأخذتْ تعوي باللذة..." (12)
الخاتمة:
إنّ الموضوعة (التيمة) التي تدور حولها قصص مجموعة " سيّدة المرايا " هي الحرّية. والكتابة عن الحرّية في البلاد التي لا تسود فيها الحرّية، تضع قيداً على حرّية الكاتب وتطلق حرّية القارئ. فهذه الموضوعة تؤثِّر في جميع عناصر العمل السردي: البناء، والتقنيات، واختيار الشخوص، وتطوير الأحداث، واللغة. وهذا ما حصل في هذه المجموعة القصصية التي حاولت قراءتنا أن تسلط عليها بعض الأضواء الكاشفة، وتموقعها في مجمل أعمال الكاتب الفكريّة، بوصفه كاتباً ملتزماً يؤمن بأنّ النص خطاب يُنتجه واقع اجتماعيّ وحضاريّ معين، ويرمي إلى التأثير في الأفكار والمواقف.
يتعامل القاصّ عبد الجبار السحيمي مع عناصر قصصه بطريقة متميّزة، فينتقي شخصياته السرديّة بعناية، ويضعها في مواقف متفجرة، ويطوّر أحداثه في سياقات واقعيّة بصبر، ويصوغ نصوصه بلغة شعرية مزدانة بالرمز والإيحاء، ليقدّم لنا في النهاية عملاً فنيّاً بديعاً يرتفع بالقصّة القصيرة إلى أسمى مكانٍ يمكن أن تتبوأه، ويجعلها ترفل بأبهى حلّة، فتأسر البصر والبصيرة، وتنفذ بنعومة إلى قلب القارئ، لتحرّك مشاعره في المسار الذي اختطه الكاتب.
ـــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) John Updike (ed.) The Best American Short Stories of the Twentieth Century (New York: Mariner Books, 1999) 858pp.
عبد الجبار السحيمي، سيدة المرايا (الدار البيضاء: دار الثقافة، 2007).
عبد الجبار السحيمي، بخط اليد (طنجة: سلسلة شراع، 1996)
عبد الجبار السحيمي، الممكن من المستحيل (الرباط: مطبعة الرسالة، 1969)
سيّدة المرايا ، ص 50
المرجع السابق، ص 67، 68.
المرجع السابق، ص 75.
المرجع السابق، ص 76.
المرجع السابق، ص 75، 76.
المرجع السابق، ص 5.
أرنست همنغواي، " الوليمة المتنقلة" ترجمة: علي القاسمي (القاهرة: دار ميريت، 2006) الطبعة الثالثة، ص 97.
سيّدة المرايا، ص 43