العنف وإرادة العيش المشترك - عبد الوهاب البراهمي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

تحافظ جماعة بشرية ما على استمرارية وجودها بقدر حفاظ أفرادها على إرادة العيش معا، مبدأ أساسيا لوحدتها وتميّزها عن غيرها من الجماعات. وبضعف هذه الإرادة أو غيابها تنهار حياة الجماعة بسرعة عجيبة. ولن يمنعها عن ذلك ما شيّدته من حضارة أيّا كانت عظمتها. يكفي النظر إلى آثار أمم وامبراطوريات خلت، لندرك أهمية ذلك. إنّ إرادة الإنسان في العيش ضمن جماعة على أساس مشترك جامع وموحّد، هو الأصل في قوّته وقدرته على البناء والتشييد، وهو الدافع إلى ابتكاره أشكالا مختلفة من التنظيمات لحفظ حياة المجموعة وتطويرها وضمان استمراريتها. تعرّف " اللجنة الدائمة حول العيش المشترك (AIMF) " العيش المشترك" بوصفه:" مسارا ديناميكيا يضعه كل الفاعلين لصالح الاندماج كما الشعور بالأمن والانتماء. إنّ الدعوة إلى العيش المشترك هو الاعتراف والاحترام لكلّ أشكال التنوّع، ومقاومة للتمييز والإقصاء، وتيسير التعايش المنسجم. وبتجسيد العيش المشترك ، يشتغل مختلف الفاعلين في الوسط على التشاور لتيسير بروز قيم مشتركة تساهم في السلم والانسجام الاجتماعي".

بناء على هذا التعريف الجامع، فإنّ المقصود بـ"إرادة العيش المشترك" ليس إلاّ اضطلاع الجماعة الاجتماعية في "المدينة" (مجالا للعيش) بمسؤولية تفعيل مسار " العيش المشترك" والسعي إلى استكمال مهمّته على أساس مبدأ " التشاور أو التشارك"، أي وفق آليات مختلفة تضعها الجماعة وتفعلها.وليست الدولة أو التنظيم السياسي وما يقتضيه من "مراكز مسؤولية و نفوذ وقرار"، سوى آلية صنعتها إرادة الإنسان، لتنظيم حياة المجموعة وتدبير شؤونها وبالتالي " تجسيد إرادتها في العيش المشترك. .وهذا ما يعنيه " الفعل السياسي" في معناه الأصلي بوصفه " تدبيرا لشؤون الجماعة"، ولعلّه أيضا ما يبرّر وجود الدولة بوصفها " تنظيما" أو مؤسسة سياسية. يقدّم إيريك فايل تعريفا للدولة يؤكّد هذا المعنى إذ يقول:" الدولة هي تنظيم جماعة تاريخيّة؛ قادرة، بوصفها منظّمة في دولة، على اتخاذ قرارات".(1) ويفيد بول ريكور في شرحه لهذا التعريف بأنّه "يشير إلى شيئين : 1)- جماعة تاريخية، (إذن جماعة) تجمع في أرض كلّ التنظيمات التي ذكرنا ( ويقصد التنظيم التقني، و التنظيم الحقوقي والتنظيم البيروقراطي والتنظيم الاتّصالي، والتنظيم البيداغوجي،و التنظيم العلمي) ، والتي تصبح ببساطة جزئية؛ وفي المقابل (لها) بعد تاريخي: (هي) نتاج تاريخي، لآدابها وتقاليدها(وبالتالي) جانب إيتيقي- ثقافي. 2)- جماعة قادرة على اتخاذ قرارات ( إذن مع ) طابع إرادي ، إرادوي volontariste ، شبيهة بممثّل فردي فاعل على ركح العالم. يتضّح هذا الطابع الأخير في الأزمات والحروب، ومستوحي من كارل شميت: نتعرّف على الدولة من قدرتها على القرار في وضعيات قصوى".(2) يتضح لنا إذن أنّ وجود الدولة وسائر التنظيمات تعبير عن "إرادة العيش المشترك" لدى جماعة لها تاريخه الخاص وتملك مشتركا، آدابا وتقاليد وثقافة ...يجعلها "متجانسة" ومتميّزة عن غيرها. ولكن، والحال هذه، كيف يدبّ الضعف والوهن بل والموت في هذه الإرادة، لتتفكّك وحدة المجموعة وتنهار؟ هل يردّ ذلك إلى طبيعة هذه الإرادة أم إلى هذا " المشترك" أم إلى ضعف " التنظيمات" بما في ذلك التنظيم السياسي أو الدولة وعجزها عن الحفاظ على هذا المشترك وإرادة العيش معا؟ هل يمكن أن يشكّل " العنف" بأشكاله، عنف الفرد وعنف الدولة، عاملا رئيسيا في ضعف هذه الإرادة وربّما اختفاءها؟ هل يمكن لإرادة العيش المشترك أن تكفي لوحدها ودون سند سياسي وإيتيقي أن تضمن استمرارية انسجام المجموعة وبقاءها؟
تجدر الملاحظة أوّلا إلى أنّ ارتباط وجود سائر التنظيمات داخل المجتمع بمبدإ إرادوي هو : "العيش المشترك"، لا يعني خضوعها له. ذلكّ أنّ "سوسيولوجيا التنظيمات تؤكّد على خاصيّتين: الطابع السيستيمي للتنظيمات، أي حقيقة أنّ لعلاقات التنسيق والتبعيّة قوانين عملها الخاصّة، المستقلّة عن معيش المنفّذين والأعوان والفاعلين الاجتماعيين- وتعاش شخصيا كما بين- شخصيا interpersonnel."(3). فالدولة مثلا كتنظيم سياسي يعبّر عن وجوده من خلال ممارسة سيادته كاستقلالية عن الأفراد وقدرة على التأثير على حياتهم بل واتخاذ قرارات بشأنها. بمعنى أن ّ وجود الدولة يقوم على علاقة هيمنة على الأفراد، تعني إرغامهم لقوّتها بل "لعنفها". يعرّف مفكّر جدّ مستنير وليبيرالي كماركس فيبر، في بداية هذا القرن، الدول بهذا التعريف القويّ:" الدولة علاقة هيمنة(Herrschaft) الإنسان على الإنسان، تقوم على توسّط العنف الشرعي".(4) وهذا حقيقيّ كما يقول بول ريكور ، ذلك "أن الدولة الحديثة ، المُعَسْكرة، تعترف بهذا، كونها قد سحبت من الأفراد الحقّ، بل والوسيلة والقدرة على أن ينصفوا أنفسهم بأنفسهم وعلى الانتقام؛ وفي هذا المعنى فإنّ مصادرة الدولة للعنف الشخصي هو معيار حَسَن للدولة التي نقول عنها دولة الحقّ. إذ لا يستطيع التشريعي والقضائي ، حتّى في الأنظمة السياسيّة التي تدّعي الفصل بين السلطات، وبالتالي تعدّدية في رأس الدولة، أن ينفّذ قراراته، ولا فرضها إلا من خلال الذراع المسلّحة للدولة، الماسكة بزمام العنف الشرعي في نهاية الأمر ودون رجعة".(5) بهذا المعنى يطرح وجود الدولة مشكل السلطة بوصفها " سلطة على: سلطة أولئك الذين، بطريقة أو بأخرى، يمثّلون ما يعتبر نظاما سلطة تمارس على الفاعلين الاجتماعيين بوصفهم منفّذين". وهذا يعني أن ممارسة الدولة لسلطتها لا يستند بالأساس على " إرادة العيش معا" بل على علاقة الإرغام والهيمنة. " فنحن لم نشهد قطّ السلطة السياسية تشتغل على قاعدة القبول المتبادل لإرادة العيش معا. فكلّ شيء يحدث كما لو، ونتيجة للسياد، أنّ السلطة السياسيّة تعني أولويّة الرابط العمودي على الرابط الأفقي، أولوية الهيمنة على التعاون أو المشاركة. ولدينا علامة على هذه الضرورة الظاهرة في الدور الذي تلعبه فكرة النفوذ autorité في الإطار السياسي. يبدو لي النفوذ مفهوما مختلطا، نتعرّف فيه على سمات تراتبيّة تربطه بالهيمنة وسمات مساواتية égalitaires تربطه بإرادة العيش معا"(5'). ويردّ بول ريكور بالمناسبة ارتكاز سلطة الدولة على الهيمنة بدل إرادة العيش المشترك، إلى طبيعة هذه الأخيرة من حيث هي عاملا هشّا " يرتكز إلى عقلانية اجتماعية وإلى قيم ومبادئ وإلى مبدإ إرادوي volontariste ، إلى أساس إيتيقي، الايمان بحق الاختلاف والتنوّع والتعدّد..، لايمكن أن يقيم السلطة بوصفها علاقة قوة بل علاقة إرغام وقهر وهيمنة. يقول بول ريكور في هذا الصدد:" لو ردّت السلطة إلى إرادة العيش المشترك، لكانت هي بذاتها مفرطة في الهشاشة أو الضعف: يكفي النظر في سرعة انهيار أمّة حينما تغيب إرادة العيش معا. ينضاف إلى هذا أنّ إرادة الاستمرار في العيش معا تمرّ عادة دون التفطّن إليها؛ إنّها إذن جدّ خفيّة، و جدّ متوارية حتّى صارت مجهولة، كمنسيّ. لأجل ذلك لزم الدعم المرئي للنفوذ الذي، حسب الاشتقاق اللاتيني لكلمة auctoritas من الكلمة اللاتينية augere،" زيادة" "augmenter"-، زيادة السلطة، وحمايتها من الانحلال. على هذا النحو تبدو كل سلطة مساعدة على إقامة كل فلسفة السّياسة على محور أساسي للهيمنة" (6). نفهم من هذا أن وجود سيادة الدولة وسلطتها، إذ يستند إلى إرادة جماعية في العيش معا ويعبّر عنها بل ربما كانت في منظور البعض ( فلاسفة العقد الاجتماعي) أصلا لها، فإنه لا يمكن لسيادة الدولة أن تكون شغالة ولا فعاّلة على قاعدة " إرادة العيش المشترك". فهل يعني هذا إذن أن ممارسة الدولة لسلطتها يشكّل خطرا على هذه الإرادة ؟ وهل يمثّل عنف الدولة عامل تهديد لها؟ تجيب الفلسفة السياسية منذ أفلاطون عن هذا السؤال الجوهري، ويمكن أن نلتمس لدى" فلاسفة العقد الاجتماعي" إمكانية لبيان أنّ إرادة العيش المشترك لا تتعارض مبدئيا مع ممارسة الدولة لسيادتها لقوتها كسلطة بل لعنفها الشرعي. وتترجم فكرة " التعاقد" كفكرة عقلية عن هذا التضايف بل عن العلاقة التأسيسية . هذا ما يؤكّد عليه هوبس بوضوح .حينما يقرّ بالدولة قوية بل يجب أن تكون أقوى من الجميع حتى تقدر على ضمان الأمن للجميع. ولزوم قوة الدولة بل عنفها راجع في نظره، إلى " تنازل جميع الأفراد" عن حقوقهم الطبيعية وعن استخدامهم الفردي لقواهم (كما في " حالة الطبيعة") لصالح "صاحب السيادة"، وهذا التنازل يعبّر عن " مبدأ الإرادة "، إرادة كلّ الأفراد في الحفاظ على وجودهم الاجتماعي وتأمينه وضمان تقاسم العيش ومستلزماته من ثروة وحقوق مدنية وهذه هي غاية " العقد " أو الميثاق الاجتماعي. ويذهب روسو غير بعيد عن هوبس إلى ردّ وجود الدولة إلى " تعاقد إجتماعي "، ميثاق بين جميع الأفراد بما في ذلك صاحب السيادة ( وهنا اختلاف جزئي مع هوبس لا يقوّض في شيء ما نقوله بشأن العلاقة التضايف بين ممارسة الدولة لقوتها وإرادة العيش المشترك) أساسه أن " يضع جميعنا شخصه وكامل قدرته تحت القيادة العليا للإرادة العامّة؛ ليكون كلّ عضو بمثابة جزء لا ينفصل عن الكلّ."7). وهو ما يعني أن"السيادة ليست وقفا على إرادة متعالية هي متأتّية من جمع إرادات فرديّة. إنّها امتياز الإرادة العامّة متأتيّة من تنازل، وتخلّي كلّ فرد عن إرادته". وذلك من أجل ضمان " العيش المشترك" في مناخ مواطنة يتمتّع فيها الأفراد بحقوقهم المدنية من حرية وسلم ومساواة أمام القانون. غير أنّ نظرية العقد الاجتماعي، إذ تصل سيادة الدولة بمبدأ الإرادة الجماعية، لا تستبعد عنصر القوة بل "العنف"، شريطة أن يكون "شرعيا" يستمد ّ شرعيته من هذه الإرادة ويرسم القانون أو الدستور بوصفه " قوة معنوية حدود هذه الشرعية. إنّ فكرة " العقد " لا تتعارض مع استخدام الدولة القوة ولا حتّى "العنف" بل تعني عقلنة هذا الاستخدام، كي يوضع حدّ للإستخدام الفردي للعنف وبالتالي للاستبداد بأشكاله. ذلك أنّ "وظيفة العقد ، وغائيته هي تأسيس العلاقة العموديّة للهيمنة، على نحو أمتن ، وغير قابل للنقاش أكثر و أكثر شفافية للأذهان" ( 12) لا يتعارض إذن مبدأ العيش المشترك مع استخدام الدولة العنف ، عنفا "معقلنا" يشرّعه القانون كقوّة تجسدها الشرطة والجيش ، ووسائل القوة والردع وذلك شرطا لضمان " الحق". إذ لا يكون الحق نافذا دون " قوّة" أو عنف شرعي يحميه ويسنده ويسمح بتكريسه على أرض الواقع. ودون ذلك فالحق ضعيف، وإن سانده القانون، طالما لا توجد قوّة " مادية " تحميهما معا. ويبرّر فلاسفة السياسية "العنف السياسي"، عنف الدولة بالحاجة إليه كوسيلة لردّ "عنف" الأفراد، نظرا ما يتّصف به الإنسان من عدوانية وإرادة سيطرة وما لديه من رغبات وأهواء من جهة،( "الإنسان ذئب للإنسان" هوبس) وما لديه من ميل إلى الاجتماع والمدنية أو " قابلية الاجتماع" بعبارة كانط، وبما لديه أيضا من قابلية " للإكتمال" perfectabilité كما يقول روسو، ونزوع إلى الخير ...من جهة أخرى . ولكي يضمن الإنسان لنفسه البقاء وإمكان العيش مع الآخرين اخترع الدولة وجعلها قوية بل أقوى منه حتى " تزع الناس عن بعضهم بعضا" كما يقول ابن خلدون في المقدمة، وذلك بتحويل رغبتهم في السيطرة على بعضهم بعضا وعدوانيتهم إلي الدولة ، كما فوّضوا لها ضمان شروط تجسيد نوازع الخير والإرادة الحسنة والرغبة في " الإكتمال" و"الجهد في الحفاظ على البقاء" وحسن البقاء وذلك بأن جعلوا لها دساتير وقوانين تضبط ممارستها وترسم حدودها وتخوّل لها تحقيق الغاية التي من أجلها وجدت وهي حرية البشر وسعادتهم. من هنا فعنف الدولة ليس إلا وسيلة قيمتها في وظيفيتها وقدرتها على تحقيق الهدف منها. وليست سيطرة الدولة وممارستها لسيادتها على الأفراد في أشكال من " المنع والمراقبة والاحتجاز" وفي الردع والعقاب من جهة، وفي حمايتها لحقوق الأفراد والجماعات على أساس مبدأ مساواتي من جهة أخرى، سوى تجسيدا للفعل السياسي للدولة المتراوح بين الهيمنة والإرغام وبين الرعاية والعناية والحماية أو بعبارة أخرى، بين دورين أساسيين كما يقول بول ريكور هما " التبعية" subordination و" التنسيق" coordination . نفهم من هذا أنه لا يمكن لإرادة العيش المشترك أن تتحقّق وأن تكون فعالة خارج مجال الدولة، بل خارج مجال عنف الدولة، أي خارج مجال عنف شرعي وقانوني يشرط إمكان وجود " تعايش" يستوعب الاختلاف والتنوع والكثرة والتعدّد ويضايف بين الخصوصي والعمومي وبين الفردي والجماعي، بين الأقلي والأغلبي، بين الضيف والغريب أو الوافد وبين المقيم أو صاحب الأرض... إنّ الدولة بامتلاكها وسائل القوة والردع من "دستور وشرطة" تمنع الأفراد من الاحتكام لنوازع الشرّ والعدوانية والعنف فيهم وتفسح المجال لتجسيد روح "التآنس " وقيم المحبّة والتآلف والانسجام وتقاسم المشترك وقبول الاختلاف والتنوّع" الخ (8)أي المساهمة في" تفعيل هذا المسار الديناميكي " بوصفة " العيش المشترك .
ولكن عن أي دولة هنا نتحدّث ؟ نقصد بالتأكيد " دولة الحق والقانون"، الدولة الديمقراطية، كما تصوّرها " النموذج الفلسفي" وكما نشهد وجودها التاريخي، وجودا وإن كان "صعبا"، وربّما "إشكاليا " فيما يسمّى "بالدول الديمقراطية"، فإنّه تعبير عن إمكان تجسيد فعلي " لمشروع عيش مشترك" في صور وأشكال مختلفة، تختلف باختلاف " الديمقراطيات". ذلك انّه وبرغم ما يحيط " التجربة الديمقراطية" في أشكالها التاريخية منذ القديم إلى اليوم من "التباسات" كثيرة على صعيد الممارسة بل على صعيد المفهوم حتّى، فإنّها تظلّ "أقوم المسالك والأنظمة" السياسية في " رعاية الحق" و" التمدن" ومقاومة " التوحّس" وضمان وجود سياسي يكون فيه الإنسان قادرا ولو نسبيا على الارتقاء بإنسانيته محافظا على " كرامته" وحريته، متجنّبا ، بحكم قوة القانون والعنف الشرعي، مزالق "التوحّش" بأشكاله الاجتماعية والسياسية والإقتصادية والتقنية، وبالتالي شرطا سياسيا لتجسيد العيش المشترك، ضمن شروط أخرى توفّرها إرادة الفاعلين الاجتماعيين ...
ولكن إلى أي حدّ يمكن لدولة "الحق والقانون" أن تضمن عدم الانزلاق في استخدام القوة والإفراط فيها ؟ إلى أي حدّ يمكن لها ضمان " أسباب التعايش" و وتوطيد " إرادة لعيش المشترك" باستخدام العنف بالذات؟ أليس العنف حتى لو كان "شرعيا" أمر مستهجن أخلاقيا ؟
إنّ قيام الدولة كسيادة على " أساس الهيمنة" أو بالأحرى على " شرعية العنف أو قانونيته، هو في حدّ ذاته أصل " الداء السياسي" بعبارة ريكور الذي هو " الشر" ، "شرّ السلطة" وآثميتها، وربّما هو أيضا " الأصل في عظمتها" ، في معنى "جنون العظمة، أي جنون ما هو عظيم، عظمة وإثم السلطة" . ذلك أن " عنف الدولة أو " اقتران القوة بالقانون في الدولة" يطرح مشكلا على صعيد وعينا " الاخلاقي والديني" .ويطرح بقوّة علاقة السياسي بالأخلاقي، علاقة ممارسة العنف، عنف الدولة ومطلب حقوق الإنسان. ذلك أن العنف نقيض " الحق"، نقيض القيمة " ونقيض " المعنى"؛ فهو يردّنا من جهة أصله بوصفه " إفراطا في استخدام القوة" بتعريف جوليان فراند، إلى الرغبات والأهواء والنوازع، إلى الطبيعة البشرية في عدوانيتها وتلقائية نوازعها، كما افترضها فلاسفة العقد الاجتماعي فيما أسموه " بحالة الطبيعة" état de nature . واجتماعيا إلى " حالة التوحّش" مقابل " التمدّن و" الثقافة"، وأخلاقيا إلى " حالة اليأس" بعبارة جوسدورف، ووجوديا إلى " إرادة الاقتدار" بعبارة نيتشه أو "إرادة الحياة" الشوبهاورية ، وتاريخيا إلى هذا "الشرّ " آو " الأذيّة " الملازمة للتاريخ والمدمّرة للإنساني فينا، إلى هذا الـ"المرعب" والسلبي الذي يصنع التاريخ بعبارة ريكور، إلى التناقض والصراع محركا للتاريخ كما يراه هيجل وماركس ..إنّ العنف من جهة " الحق" ومنظورا إليه من جهة أخلاقية وإيتيقية وربما وجوديا بمعنى ما، مستهجن أخلاقيا،لا "يستحسنه العقل"، ولا يرتقي إلى مقام المبدأ الأساسي للفعل الواجب ولا القاعدة " الأخلاقية"( بعبارة كانط)، فهو نقيض الحقيقة، ونقيض "اللوغوس" و" الحوار " ومدمّر للكوني الإيتيقي ولأيّ إمكان "للقاء الإنسان بالإنسان"، وبالتالي " لإمكان العيش معا". كتب بول ريكور نصّا رائعا عن "الوعي بالعنف" بالمرعب في علاقته بالتاريخ ،جاء فيه: "علينا أن نعتقد إذن ، وبشيء من المكر الملازم للتاريخ، أنه يستحيل على كلّ البشر أن يكونوا معا: فالبعض أكثر مّما ينبغي بالنسبة إلى الآخرين. إذ لا يجب أن نتيه عن أن قصد العنف، والغاية التي يطلبها ضمنيا أو صراحة، بصورة مباشرة وغير مباشرة، هي موت الآخرـ على الأقل موته أو شيئا ما أسوء من موته. هكذا اكتشف المسيح لذعة مجرّد غضب: من يغضب من أخيه فهو قاتله. إن القتل الفعلي مع سبق الإصرار، هو، في هذا الصدد، إحداثية كل عنف: في لحظة العنف يتأثّر الآخر بالقرينة التي عليه "إزالتها". بل للعنف مسيرة بلا نهاية: إذ الإنسان قادر على موت متعدّد، يقتضي أكثره جوهرية من المحتضر أن يظلّ على حافة (الموت) ليذوق حتى الثمالة كل أشكال الموت الأسوأ منه؛ ويجب على المعذّب أن يظل بعدُ هنا ليحمل الجرح الواعي بالخزي ويعيش دماره من وراء جسده، في صميم كرامته، في قيمته وفرحه؛ وإذا كان الإنسان أكثر من حياته، فإن العنف يريد قتله حتّى استنزاف هذا الأكثر: إذ أنّ هذا الأكثر هو في النهاية أكثر مما ينبغي"(9). يطلب العنف إذن " موت الآخر " لا حياته، بل " شيئا أسوء من موته"، حينما يجعله " يموت أكثر من مرّة" في " تعذيب جسده، والحطّ من كرامته وتنزليه إلى مرتبة "الشيء". هكذا العنف إذن، لا يستقيم به " العيش " في وئام وائتلاف وهو موهن لإرادة العيش المشترك ومدمّر لها. يشهد بذلك اليوم ضعف النسيج الاجتماعي والتفكّك الأسري و وأزمات " التواصل" بأشكاله وانتشار ظاهرة العنف وتناميها في عدّة مستويات وبأشكال مختلفة، في مظاهر التعصّب الإيديولوجي والتشدّد الديني والمذهبي وفي العنصرية واٌلإقصاء وكراهية الأجنبي وقمع الأقليات والتحرّش الجنسي والإجهاض والإعدام والتتبّغ والإرهاب والعنف اللفظي والرمزي ..وغير ذلك من أشكال ممارسة العنف في مستوى الأفراد والجماعات خارج الدولة وحتى في "الدولة "، فيما يسمّى "بالدول الديمقراطية " بالذات، على شكل "إرهاب دولة"، وما يفعله الكيان الصهيوني مع الشعب الفلسطيني خير دليل .. ينضاف إلى ذلك عنف تكنولوجي " "مستفزّ "مهدّد للإنساني بل للطبيعة كما يقول هيدجر؛ عنف يسنده "تطوّر علمي" وإفراط في " العقلنة" ، عقلنة الممارسة الاقتصادية والسياسية..في ظل عولمة " متوحّشة" ، مما ينذر " بنهاية للتاريخ" ( بعبارة فوكوياما) ، بموت "الإنسان"منقادا بعقله لا بطبيعته فحسب كما يقول "شاتلي". من هنا فلا إمكان، والحال هذه أن نظفر "بسلم دائم" على حدّ تعبير كانط، يسمح بتنمية إرادتنا في العيش المشترك، إذ لا يستقيم " التآنس" بين البشر (بعبارة محبّذة للأستاذ فتحي التريكي) في ظلّ واقع يملأه العنف. ولكن، كيف لنا أن نردّ العنف وقد بات منتشرا في كل مكان؟ ألا يقتضي ذلك عنفا مضادّا؟ ألا يستدعي العنف عنفا أعنف منه يردعه؟ "كيف لا يستدعي عنف القمع "عنف الثورة" ؟ هل يمكن ردّ العنف باللاعنف ؟ ردّ العنف بالحبّ أم بالحرب؟
إنّ الدعوة إلى اللاعنف هي مواجهة للتاريخ أو هي بالأحرى" دعوة التاريخ إلى ما ليس هو ببساطة" كما يقول بول ريكور. ذلك أن العنف صانع التاريخ ومحرّكه الفعلي ( وهذا ما أكّده هيجل وماركس..) يقول بول ريكور:"إن هذا المُريع هو ما يصنع التاريخ: ويبدو العنف فعلا النمط المميّز الذي يتبدل بمقتضاه شكل التاريخ، كإيقاع لزمن البشر، كبنية لكثرة الوعي." ويبدو اللاعنف " الوعي السيئ للتاريخ"، يردّه إلى "الوعي الأخلاقي " أو الإيتيقي. " يقول التاريخ: عنف. فيقفز الوعي ويقول: حبٌ. إن قفزته قفزة نقمة؛ بها يضع حدا للتاريخ: نفيه كعنف؛ ويضع الإنسان في ذات الوقت، كصديق ممكن للإنسان." (10) وإذا كانت تجربة "غاندي" " اللاعنيفة" تشهد بـ"نجاعة " لاعنف تاريخي، ضمن شروط معيّنة، فإنّ أصحاب النزعة السلمية عموما لا يدركون بوضوح أن" السلم مهمّة جسيمة " لا تستدعي " اللاعنف" فحسب بل تطلب العنف أيضا، " عنف اللاعنف" و" عنفا ثوريا" " إيجابيا"، قوّة محرّكة للتاريخ قادرة على خلق "حالة السلم"، إذ لا سلم حقيقي من دون حرب، "حالة من حالات العنف"، عنفا جماعيا قد تدفع إليه الدولة ذاتها أو الجماعة " إراديا"، في صورة " مقاومة" لإرادة السيطرة " وتثبيتا للسيادة" واستقلالية الذات وربّما " أفقا لحلّ " الأزمات" . يقول بول ريكور:" إن اللحظة التي يأخذ فيها العنف شكل الحرب هي حينما تتصارع سيادتان تتساويان في الإدعاء على ميدان ليس من الممكن لكليهما التواجد فيه. وهكذا، فإن الحرب، من جهة، لا تختزل كل العنف، من حيث أن صراع الدول لا يعكس بصدق الإحراج العميق للمجتمع؛ ومن جهة أخرى، فإن الدولة، تمنح بعدا جديدا للعنف الجماعي برفعه إلى الحرب". وتجدر الملاحظة أنّ حالة الحرب" حالة قصوى" يعيشها الإنسان ، في شكل " حرب عدوانية" على الآخر، " ومقاومة" لعدوان ، وهي في كليهما " حالة " تبرّر " إراديا " بإرادة جماعية ، لحماية " الذات" ، لحماية " العيش المشترك" من تهديدات " عنف الآخر" الذي يطلب " موتها". وتنخرط الدولة بوصفها " هيمنة" وسيادة في فعل العنف هذا، وبالتأكيد على نحو " شرعي"، تعبيرا وتجسيدا لهذه "الإرادة العامّة". لكن يظلّ استخدام العنف في مستوى الدولة، وإن كان شرعيا ، محفوفا بمخاطر ناتجة عن " الإفراط "في استخدامه (في صورة "دمارشامل"، للمَدَنّية و"الذات"، بالتعذيب والإعدام..الخ) ، إفراطا يصل إلى حدّ المساس بأسباب العيش المشترك، حينما يكون " الحكم استبداديا" يتوسّل بالعنف لقمع" إرادة العيش معا " و" وتقبيح" " جمالية العيش المشترك" (11)، عندما يحوّل المواطنين إلى" رعايا" " أشبه بالأنعام في الزريبة" بعبارة كانط؛ ويجعل من "قيم التعايش " بل و" الديمقراطية" مجرّد " شعار" تتمترس خلفه "إرادة الاستعباد" والتطويع " والتكييف" للجماعة وفق إرادة " الحاكم" لا إرادة الجميع. ولا يفوتنا التنبيه خاصّة إلى أنّ إمكان انزلاق " الدولة " في حالة عنف مفرط " كامن في بنية الدولة ذاتها بوصفها " محتكرة للعنف" فعلا، سلطة إرغام وقهر وهيمنة. ولذا فإنّ " جميع الدول قائمة على العنف" كما يقول تروتسكي ولا نستثني من ذلك " الدولة الديمقراطية"خاصّة في حال غياب " آليات مراقبة" لسلطتها وبالتالي لحدود قانونية دستورية من جهة ( الفصل بين السلطات واستقلالية القضاء ..) و مراقبين فاعلين اجتماعيا وسياسيا من جهة أخرى ( قوى المجتمع المدني من نقابات وهيئات مدنية وأحزاب سياسية ومؤسسات حقوقية وقضائية مستقلة وإعلام حرّ الخ)، فقد تتحوّل الدولة الديمقراطية حينها بفعل الممارسة لسلطتها ، لعنفها الشرعي المفرط" " دون مراقبة فاعلة" إلى" دولة استبدادية". ولعلّ هذا ما يفسّر " تعثّر " التجارب الديمقراطية ومآزقها حتى في البلدان المسماة " ديمقراطية"، حيث لا تخلو واقعها من مظاهر الفساد والظلم الاجتماعي وقمع الأقليات .. وغير ذلك من مظاهر العنف كما أسلفنا، إلى حدّ جعل "جاك رونسيار" يعتبر أنّ " الديمقراطيات " ضدّ الديمقراطية." كيف إذن والحال هذه أن نراهن " على إرادة العيش المشترك" مبدأ " إيتيقيا" لإنسانية كونية في نهاية الأمر، أن يكون أساسا لخلق واقع التعايش والتآلف و" التآنس" دون سند " سياسي" من دولة " قويّة " عنيفة " إن لزم الأمر وفي حدود ما يشرّعه القانون، سندا يجعل من هذه الإرادة نافذة، ومتحقّقة فعلا بردع كل " مظاهر العنف خارج الدولة" المهدّدة لأسباب " العيش المشترك. ذلك أنّ الديمقراطية لا تحتمل معنى الفوضى و" التسيب" وانحلال " الممارسة" بل تعني " عقلنة الممارسة " وتوجيهها إراديا نحو غايات منشودة في حدود " الممكن" ، وبتوسل " القوّة " قوّة القانون و" الدستور والشرطة"، أي باعتبار الآليات التي اخترعتها الجماعة، وبتقدير الشروط والظروف والسياقات التي تعيشها هذه الجماعة والتي تسمح فعلا بتحقيق هذا المنشود. وهذا يعني دون شكّ أن لا ننتظر من الدولة بحكم بنيتها وماهيتها أن تنساق تلقائيا إلى هذا الأمر وأن تهبنا " إقامة هادئة في العالم"، دون " مقاومة ما لهيمنتها" ودون أن تمارس " القوى الاجتماعية" والفردية إرادتها الجماعية والفردية في " مواجهة " خطر انزلاق الدولة في ممارسة العنف بإفراط واختراق حدود "الشرعية " القانونية والأخلاقية. هكذا يظلّ " العيش المشترك"إذن مهمّة عسيرة موكولة إلى الجميع، إلى الدولة والمجتمع المدني، مهمّة يظلّ العنف بوصفه ظاهرة إنسانية يهدّدها باستمرار، وتظلّ " إرادة البشر" في التطلّع إلى " العيش وجمالية العيش المشترك" ركيزة إنسانية في جعل الحياة جديرة بأن تعاش أخلاقيا وإيتيقيا وسياسيا.

ـــــــــــــــــــــــ
المراجع والإحالات:
- الحقيقة والتاريخ – بول ريكور- نشرا سيراس تونس 1995(-9-10)
- العقد الاجتماعي – روسّو(7)
- نص محاضرة " السلطة السياسية ونهاية اللاهوت السياسي " لبول ريكور ( 1-2-3- 4 -5-5' -6 -12)
- إيريك فايل " منطق الفلسفة".
- جاك رونسيار " الديمقراطيات ضد الديمقراطية " نص محاورة معه صاغها " إيريك هازان" من كتاب " ديمقراطية ، في أي حال؟" " إيكوسوسيتي" 2009
- "جمالية العيش المشترك " نشر الهيئة العامة لقصور الثقافة القاهرة 2016 (11-10)
- مقدمة بن خلدون.
- تقرير اللجنة الدائمة حول العيش المشترك" 2018.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟