يقصد بالثقافة في هذا المقام ذلك الإطار الفكري الجامع، الذي يقوم بتوحيد الأفق الذهني للمنضوين تحت لوائه كأعضاء في انتماء إلى كيان واحد. وهو ما يتم عادة من خلال نظام متكامل ومتماسك من اللغة والرموز والشعارات والشعائر والمعتقدات الموجهة لسلوك ومواقف وعلاقات وتفاعلات أعضاء الجماعة. الثقافة الأصولية بهذا المعنى، هي إذن تلك المبادئ الموجهة لسلوك الجماعة الأصولية وأعضائها.
على أنه لا بد من الإشارة إلى العلاقة ما بين هذه الثقافة وبين الإيديولوجيا. بالطبع إن كل ثقافة هي في النهاية نوع من الإيديولوجيا. إلا أنه في الحالة الأصولية قد تتجاوز الثقافة حالة الإطار الجامع كي ترتفع إلى مرتبة العقيدة الصريحة التي تمثل مشروعاً وجودياً وسياسياً. يتم الإنتقال عندها إلى حالة اليقين المطلق المتسم بالحق واحتكاره، في نظر من يعتنق هذه العقيدة، وذلك على نقيض عقيدة الآخر التي تتسم بالضلال والبطلان. وبالتالي يتعين محاربتها بلا هوادة. الإيديولوجيا هنا ترتدي إذاً طابعاً نظامياً قاطعاً يحدد مسارات الرؤية والممارسة، كما يحدد الأهداف التي ينبغي العمل على تحقيقها، ووسائل الوصول إليها. إننا في هذه الحالة بإزاء نظرة معيارية انتقائية تأويلية للذات والكون، يتخير فيها المرء الأشياء ويؤوّل الوقائع بكيفية تظهرها دائماً مطابقة لما يعتقد أنه الأصح والحق والواجب المطلوب الإلتزام به، والسعي من أجل تحقيقه. حيث لا تستقيم الأمور إلا بإدراك هذه الغاية.
نكون بصدد ثقافة أصولية بمعنى الإطار الجامع، في حالات التجمعات التي تكتفي، في سعيها للخلاص، بالتمسك بالشعائر والممارسات والدعوة إلى الهداية. ونتحول إلى الإيديولوجيا الأصولية حين تنخرط الجماعة في مشروع سياسي تغييري يتوسل الوصول إلى السلطة لتحقيق غاياته، ويحاول فرض موقفه كخيار أوحد.
تتلاقى الأدبيات وتتوافق إلى حد بعيد حول مكوّنات الثقافة الأصولية. ولهذا يمكن الاقتصار على الحديث عن بعضها، لأن ما عداه يكرر الأفكار نفسها. وتتكون هذه من التعاليم من ناحية، ومن الشعائر والشارات والرموز من ناحية ثانية.
رأينا كيف أن الأصولية البروتستانتية الأمريكية تنادي بالتمسك بأساسيات الدين المسيحي المتمثلة بالتأويل الحرفي للنصوص، وولادة المسيح، وعودته الثانية التي يستتب معها السلام لألف عام قادمة، والخلو من الضلال والحصول على الغفران. ويصاحب هذه التعاليم رد فعل عنيف على كل المظاهر الاجتماعية التي تعتبر انحلالاً وضلالاً من مثل انتشار الإيدز والجنسية المثلية. إنها تعتبر نوعاً من الآفات التي تمثل العقاب السماوي على الضلال والإنخراط في مظاهر الحداثة الإستهلاكية.
ويتمم هذا الموقف المتشدد، بل المتطرف من الخارج، موقف متزمت من الذات والسلوك حيث يمنع التدخين وشرب الكحول، والرقص، ومشاهدة الأفلام.
ويعرض أحمد موصللي مرتكزات الأصولية الإسلامية بشكل موسع على الشكل التالي: هناك أولاً حركة رفض للواقع الراهن تتمثل في: رفض إثبات صحة التفسيرات من خلال العلوم الحديثة، رفض الإقرار بالواقع الراهن والتأكيد على فساده، رفض تفسيرات الفقهاء والمتصوفة لخروجهم عن النقاء الديني، ورفض الاجتهاد.
وهناك في المقابل حركة تصحيح لهذا الواقع تتمثل في: العودة إلى أصول الدين والسنة، الإقرار بأن الأخلاق وحي وتعليمات ذات مرجعية إلهية وليست إنسانية، العودة إلى الفطرة والخضوع للإرادة الإلهية، صدارة الإيمان على العقل والحجة، نشدان مثال أعلى ما ورائي إيماني، التوحيد الذي يشمل جوانب الحياة كافة وأخصها السياسية (حكم الله) وإقامة دولة حاكمية الله (للخروج من وضعية الكفر)، التمسك بالمرجعية النقية أيام الرسول والخلفاء وإلغاء ما بعدهم، الإجماع ملزم للجميع في كل المسائل، وخصوصاً السياسة منها، توحيد المسلمين تحت راية القرآن.
أما الأصوليات الدينية _ العرقية، وكذلك الأصوليات القومية المتطرفة فتمثل حالة مغايرة نوعياً في حركيتها وآلياتها، من خلال الوصول إلى حد التطرف، ليس في العقيدة بل في الموقف من الآخر وإلغاء أحقيته بالإنسانية، بل واعتباره عقبة إزاء استرداد الحالة الإنسانية المثالية. ويتعين إزالة هذه العقبة وصولاً إلى حالة النقاء الديني _ العرقي أو القومي، فيما يجري من عمليات تطهير يشهدها المسرح العالمي في أزمنة وأماكن عدة. هذا التطهير يتجاوز العمل المبرر كي يكتسب طابع الفعل المقدس.
تقوم الأصولية أساساً، كما يقول محمد عابد الجابري، ضد ما تعتبره تفريطاً، وتخاذلاً وتهاوناً، وبالتالي ضياعاً للهوية، وقصوراً عن فرض الأحقية. وهي في هذا تقوم ضد الانفتاح والاعتدال والتعددية. ولا تقتصر على قيامها ضد الخارج، بل هي أيضاً توجه ثورتها ضد الداخل (المقصّر والمفرّط بالحق القاطع). من هنا لا تنصب أعمال العنف على الغير فقط، بل تطال الداخل في تخاذله وتقصيره وميوعته وخيانته. ذلك ما يجعل العنف ضد رموز التقصير هذه رسالة تاريخية من مثل اغتيال رابين، والسياق الأسطوري الذي حدث ضمنه. فهذا الاغتيال لا يعدُ كونه الوجه الداخلي من مجزرة الحرم الإبراهيمي الموجهة إلى الغونيم الذين يلوّثون الأرض الموعودة(؟) ويتم ذلك كله ضمن حالة من الهوى الأسطوري الذي لا يلتفت كثيراً للواقع الموضوعي. بل هو يعتبر هذا الواقع حالة الفساد التي ينبغي التخلص منها.
ولا تختلف أصوليات النقاء القومي (البيض الأوروبيين، الأمريكان في الوسط الأمريكي) عن ذلك من حيث العنف المزدوج الموجه إلى الداخل والخارج في آن معاً: تقصير من خانوا حالة النقاء، وتلويث الغرباء لهذه الحالة. ففي مقابل انفجار أوكلاهوما، واغتيال رابين، وتسميم قطار الأنفاق، هناك الحرب على الزنوج والعرب، وحرق المهاجرين وإغراقهم، وإبادة الغونيم، والتصفيات العرقية في البوسنة إلخ...
هذه الديناميكية تدفع الجماعة الأصولية بالضرورة نحو التطرف الداخلي والخارجي. ويقع التطرف في النظرة السحرية القطعية والإختزالية للعالم. ويتوسل في أحاديته لغة مجازية يقفز من خلالها على الواقع مستبدلاً إياه بالشعارات. وتحتاج الدعوة الأصولية كلما ازدادت تطرفاً إلى مزيد من تكثيف وتبسيط الشعارات التي تشكل بالنسبة للأعضاء والجماعة خلاصة الدعوة. ومع هذه الشعارات المبسطة والمكثفة وبفضلها يبدو الأمر وكأنه منزّلٌ قاطع؛ يحمل برهانه في منطوقه ذاته.
على أن هذه البنية الفوقية لا تكفي وحدها لاستمرار الحالة الأصولية وترسيخها. لابد لها، إضافة إلى ذلك من أمرين اثنين:
الأول هو التصادم في رؤى العالم. حيث يحدث رفض متبادل ما بين الأصولية ونقيضها. ففي مقابل الأصولية تقوم رؤى وافتراضات ترفضها وتسيء تأويلها. المثل الأبرز على ذلك هو ذاك المتمثل بصراع افتراضات الأصولية الإسلامية وافتراضات نظرية الفاعل العقلاني التي تروج لها أمريكا.
هنا يحدث صدام ما بين الذرائعية العقلانية والأصولية. لكل من هاتين النظريتين إفتراضات متعارضة ومتناقضة حول السلوك الإنساني. فنظرية الفاعل الإنساني التي تقوم على المنفعة والمعرفة البشرية وقوتها، ستصطدم لا محالة بسوء تأويل الأصولية التي تقوم على افتراض السيادة الإلهية المحددة للعالم، إذ أن افتراضات الأولى تقوم على نفي الثانية وبالعكس.
على أن الجماعة الأصولية تكون هي المحرضة أحياناً لإثارة عدوان الآخر عليها، كما هو حال تيارات النقاء العرقي _ الديني. حيث تنخرط الجماعة في عمليات اضطهاد عدواني وتطهير ضد من تعتبرهم ملوثين تجاهها. إلا أنها تتخذ من هذه الحرب مبرراً لمشروعية عملياتها باعتبارها دفاعاً واجباً عن الكيان. ويؤدي ذلك إلى تصعيد عدوانيتها الخارجية وتلاحمها الداخلي الذي يتلازم مع مستوى هذه العدوانية وإسباغ المشروعية عليها في آن معاً.أما الأمر الثاني الذي يعزز الأصولية ويقينها القاطع، فهو السند الاجتماعي المتمثل باللحمة العصبية التي تشكل أساسها المادي _ الاجتماعي.
وهناك في المقابل حركة تصحيح لهذا الواقع تتمثل في: العودة إلى أصول الدين والسنة، الإقرار بأن الأخلاق وحي وتعليمات ذات مرجعية إلهية وليست إنسانية، العودة إلى الفطرة والخضوع للإرادة الإلهية، صدارة الإيمان على العقل والحجة، نشدان مثال أعلى ما ورائي إيماني، التوحيد الذي يشمل جوانب الحياة كافة وأخصها السياسية (حكم الله) وإقامة دولة حاكمية الله (للخروج من وضعية الكفر)، التمسك بالمرجعية النقية أيام الرسول والخلفاء وإلغاء ما بعدهم، الإجماع ملزم للجميع في كل المسائل، وخصوصاً السياسة منها، توحيد المسلمين تحت راية القرآن.
أما الأصوليات الدينية _ العرقية، وكذلك الأصوليات القومية المتطرفة فتمثل حالة مغايرة نوعياً في حركيتها وآلياتها، من خلال الوصول إلى حد التطرف، ليس في العقيدة بل في الموقف من الآخر وإلغاء أحقيته بالإنسانية، بل واعتباره عقبة إزاء استرداد الحالة الإنسانية المثالية. ويتعين إزالة هذه العقبة وصولاً إلى حالة النقاء الديني _ العرقي أو القومي، فيما يجري من عمليات تطهير يشهدها المسرح العالمي في أزمنة وأماكن عدة. هذا التطهير يتجاوز العمل المبرر كي يكتسب طابع الفعل المقدس.
تقوم الأصولية أساساً، كما يقول محمد عابد الجابري، ضد ما تعتبره تفريطاً، وتخاذلاً وتهاوناً، وبالتالي ضياعاً للهوية، وقصوراً عن فرض الأحقية. وهي في هذا تقوم ضد الانفتاح والاعتدال والتعددية. ولا تقتصر على قيامها ضد الخارج، بل هي أيضاً توجه ثورتها ضد الداخل (المقصّر والمفرّط بالحق القاطع). من هنا لا تنصب أعمال العنف على الغير فقط، بل تطال الداخل في تخاذله وتقصيره وميوعته وخيانته. ذلك ما يجعل العنف ضد رموز التقصير هذه رسالة تاريخية من مثل اغتيال رابين، والسياق الأسطوري الذي حدث ضمنه. فهذا الاغتيال لا يعدُ كونه الوجه الداخلي من مجزرة الحرم الإبراهيمي الموجهة إلى الغونيم الذين يلوّثون الأرض الموعودة(؟) ويتم ذلك كله ضمن حالة من الهوى الأسطوري الذي لا يلتفت كثيراً للواقع الموضوعي. بل هو يعتبر هذا الواقع حالة الفساد التي ينبغي التخلص منها.
ولا تختلف أصوليات النقاء القومي (البيض الأوروبيين، الأمريكان في الوسط الأمريكي) عن ذلك من حيث العنف المزدوج الموجه إلى الداخل والخارج في آن معاً: تقصير من خانوا حالة النقاء، وتلويث الغرباء لهذه الحالة. ففي مقابل انفجار أوكلاهوما، واغتيال رابين، وتسميم قطار الأنفاق، هناك الحرب على الزنوج والعرب، وحرق المهاجرين وإغراقهم، وإبادة الغونيم، والتصفيات العرقية في البوسنة إلخ...
هذه الديناميكية تدفع الجماعة الأصولية بالضرورة نحو التطرف الداخلي والخارجي. ويقع التطرف في النظرة السحرية القطعية والإختزالية للعالم. ويتوسل في أحاديته لغة مجازية يقفز من خلالها على الواقع مستبدلاً إياه بالشعارات. وتحتاج الدعوة الأصولية كلما ازدادت تطرفاً إلى مزيد من تكثيف وتبسيط الشعارات التي تشكل بالنسبة للأعضاء والجماعة خلاصة الدعوة. ومع هذه الشعارات المبسطة والمكثفة وبفضلها يبدو الأمر وكأنه منزّلٌ قاطع؛ يحمل برهانه في منطوقه ذاته.
على أن هذه البنية الفوقية لا تكفي وحدها لاستمرار الحالة الأصولية وترسيخها. لابد لها، إضافة إلى ذلك من أمرين اثنين:
الأول هو التصادم في رؤى العالم. حيث يحدث رفض متبادل ما بين الأصولية ونقيضها. ففي مقابل الأصولية تقوم رؤى وافتراضات ترفضها وتسيء تأويلها. المثل الأبرز على ذلك هو ذاك المتمثل بصراع افتراضات الأصولية الإسلامية وافتراضات نظرية الفاعل العقلاني التي تروج لها أمريكا.
هنا يحدث صدام ما بين الذرائعية العقلانية والأصولية. لكل من هاتين النظريتين إفتراضات متعارضة ومتناقضة حول السلوك الإنساني. فنظرية الفاعل الإنساني التي تقوم على المنفعة والمعرفة البشرية وقوتها، ستصطدم لا محالة بسوء تأويل الأصولية التي تقوم على افتراض السيادة الإلهية المحددة للعالم، إذ أن افتراضات الأولى تقوم على نفي الثانية وبالعكس.
على أن الجماعة الأصولية تكون هي المحرضة أحياناً لإثارة عدوان الآخر عليها، كما هو حال تيارات النقاء العرقي _ الديني. حيث تنخرط الجماعة في عمليات اضطهاد عدواني وتطهير ضد من تعتبرهم ملوثين تجاهها. إلا أنها تتخذ من هذه الحرب مبرراً لمشروعية عملياتها باعتبارها دفاعاً واجباً عن الكيان. ويؤدي ذلك إلى تصعيد عدوانيتها الخارجية وتلاحمها الداخلي الذي يتلازم مع مستوى هذه العدوانية وإسباغ المشروعية عليها في آن معاً.أما الأمر الثاني الذي يعزز الأصولية ويقينها القاطع، فهو السند الاجتماعي المتمثل باللحمة العصبية التي تشكل أساسها المادي _ الاجتماعي.