(من خلال الأمثال والتعبيرات العاميّة التونسيّة)
كانت المجتمعات التي لها تراث مكتوب - في لحظة من تاريخها- مجتمعات ذات تراث شفوي. ذلك أنّ البشر ‘‘تكلّموا قبل أن يكتبوا، وأفضل حجة على ذلك دراسة بدء ظهور الكتابة’’[1] وتعتبر تقنية التذكّر ‘‘طابع كوني في الثقافات الشفويّة’’[2] لأنّها تحقّق التواصل وتنقل القيم والمعايير وتؤهّل الأفراد لإتقان الممارسات الطقوسيّة ولغتها إذ نجد في كلّ مدونة شعبية حِكَما وأمثالا وأقوالا ذات ‘‘شحنة رمزيّة بنفس القدر لبلاغة العيّني’’[3] خاصة في المجتمعات ذات التّضامن العضوي القويّ حيث يكون فيها المثل ‘‘تعبيرا مكثفا لفكرة أو إحساس جماعي[4]
ويتميّزُ هذه الأمثال ب ‘‘قدرتها على التعبير الدقيق عن المجتمعات الممارسة لها، وتنبع هذه القدرة من طبيعتها التي تتميز بأداء الكثير من الوظائف الاجتماعية الهامة، وذلك انطلاقا من تشعبها، وانتشارها في جميع نواحي الحياة. وقد أدى هذا التشعب إلى اعتبارها المرآة التي تعكس المجتمع الذي توجد فيه’’[5]
ونظرا لأهميّة هذه الأمثال والتعبيرات العاميّة فإنّنا سنحاول دراسة المخزون الشفوي اللاشعوري للمجتمع وضبط خاصيات الذهنيات التي تعتبر ضروريّة في تحديد المواقف والممارسات الجماعية تجاه قضية من القضايا التي شغلت الفكر البشري منذ البدايات الأولى لوجوده وهي مسألة الموت. كما يعتبر مثل هذا التوجه في الدراسات ذو أهمية لأنه يقدم لنا جانبا من مكوّن الذهنيات الاجتماعية ويساعدنا على إكتشاف جذور الممارسات الطقوسية تجاه الموت والتي ما زال تمظّهرها إلى وقتنا الحاضر لم ينقطع. فالموت لا يعبّر عنه بما هو مكتوب فقط بل أيضا بما هو شفوي. وهذا الشفوي من مميّزاته أن المجتمع اكتسبه عبر تجاربه وتفاعلاته التاريخية مع روافد ثقافيّة ودينيّة مختلفة عرفها ومازالت -رغم الحقب التاريخيّة- تشهد عودة قويّة لأنّها تكوّن بنية مترسبة في اللاوعي الجماعي حسب عبارة Jung وتمثل عنصرا من عناصر عادات المجتمع وثقافته فهي وليدة حسّ اجتماعي مشترك. فعندما يريد المجتمع أن يعبّر عن تصوّراته للموت شفويّا فإنّه عادة ما يختزل تجربته في أمثال* عاميّة وتعبيرات اجتماعية سائدة. وانطلاقا منها ‘‘كمادة حيّة’’ يستطيع الباحث الاجتماعي تحليل الموت وفهمها كظاهرة اجتماعيّة لأنّها تحتوي على ‘‘صورة الواقع’’[6].
1) - الأمثال العاميّة التونسيّة ومشروعيّة التحليل السوسيولوجي لمضمونها:
يمكن للأمثال والتعبيرات العاميّة أن تكون ‘‘مصدرا لا يستهان به لدراسة المجتمع، شأنها في ذلك شأن فنون القول جميعا، بل قد تكون الأمثال- باعتبارها وثيقة اجتماعيّة -أقرب إلى الصدق وأدنى إلى الأصالة من غيرها في تمثيل روح المجتمع وتصوير طبيعته العامة لأنّها نابعة من الشعب ومعبرة عن آرائه وتجاربه وإتجاهاته ’’[7] ولهذا السبب رصدنا تصرّفات الناس ومواقفهم[8] وحاولنا تفكيك لغتهم الخاصة بالموت والطقوس التي ترافقها.
ولئن اكتفينا بدراسة بعض الحالات فذلك لغزارة المادّة ورغم السعيّ إلى توزيعها حسب مواضيع وإشكاليات فإنّنا رأينا -من الأفضل- أن نخصص لها دراسات مستقلّة[9] وما هذه المحاولة إلاّ مدخلا نظريّا وتطبيقا نموذجيّا حول عيّنة بدت لنا تمثل نواة ومركزا تتفرع عنه بقيّة الأمثال والتعبيرات العاميّة ذات صلة بالموت. كما أنّنا نرى أن هذا التقديم هو مدخل نظري إذ لا فائدة في كلّ مرّة أن نكرّر نفس هذا التمشي عند التطرّق إلى قضيّة من القضايا المتصّلة بظاهرة الموت وسنسعى إلى توظيفه بطرق مغايرة من شأنها مساعدتنا على إجراء مقارنات لإثراء البحث وتعميق الإشكاليات بالنظر إلى بقيّة المجتمعات.
ولعلّ اللّغة اليومية تساعدنا على دراستنا من خلال ‘‘سماع التفاعلات الشفويّة’’[10] ومتابعة المناقشات التي تصدر حول الموت في الأماكن العمومية وفي الندوات وفي مناسبات الموت، فهي تقدّم لنا نصّا شفويا في حاجة إلى التحليل. ف‘‘عالم الاجتماع هو شخص يتمشى في الطريق ويسأل أوّل من يعترضه فيسمعه أو يحاول أن يتعلم منه ’’[11]، وهو ما يضفي على الموضوع طابعا حميميّا لأنّ الباحث يجد نفسه طرفا فيه. وتكتسي الملاحظة المباشرة هنا أهميّة لأنّها ‘‘تسجل السلوكات في لحظة إنتاجها دون وسائط كالوثيقة والشواهد’’[12]. فيجمع الباحث معلومات يستطيع من خلالها تسجيل ما يمكن أن يساعده على التأويل[13] كأن يراقب زوار المقابر أو مشيّعي الجنائز ولباسهم وحركاتهم وتصرفاتهم. كما يمكن ملاحظة اجتماع عائلي عند وفاة أحد أفراد العائلة و(كلّ واحد يمكن أن يعتبرنا قريبا له). وبما أنّه لا يمكننا أن ‘‘نأخذ صورة فوطوغرافية في الجنائز’’ فإنّنا نكتفي بالذاكرة فحسب ولن يكون ذلك ممكنا إلاّ من خلال العبارات الملفوظة باختصار شديد [14] ولكنّها حمّالات معاني تستحق التفكيك والتأويل كسائر النصوص المكتوبة. فمجال إبداعيّة المخيال الجماعي تتمثل فيما تمنحه من قصديّة ومعنى لردود الأفعال تجاه الموت.
لكن هذه الأهميّة لا يجب أن تحجب عنا الصعوبات المنهجيّة والنظريّة التي حذر منها البعض وأثيرت كلّما طرحت قضيّة الأمثال العاميّة ذلك أنّ الإفادة من الأمثال في دراسة المجتمع ‘‘قد تكون محدودة أو ضيّقة لأنّها -بحكم تركيبها الموجز المركزي- تكتفي باللمحة السريعة والإشارة الخفيفة، مما يستدعي من الباحث دقّة في التحليل وإعادة في النظر،إذا رام أن يستخرج منها شيئا’’[15] كما يجدر أن نقرّ بمحدودية هذه المقاربة لأنّ المثل يكتفي بومضة كلمح البصر’’ثمّ أنّ الباحث قد لا يستطيع أن يلّم بالظروف التي تحيط بضرب المثل ولا يستطيع أن يطمئن تماما إلى إدراكه لوقع المثل في المتمثلين من أهله’’’’[16].
هذا بالإضافة إلى أن ‘‘المعلومات التي يحملها اللسانيّون التاريخيون وعلماء الآثار والأتنولوجيا ليست كافية لإعادة تاريخ شعب، إنّها تزوّدنا فحسب بمؤشرات’’[17]. هذه المؤشرات وإن كانت شاهدة ولو نسبيا في تشكّل مفاهيم فهي تمثل موضوعا لأبحاث المؤرخين كما تعكس إلى حدّ ما السلوك الإنساني ولكن المعنى المستخرج منها لا يعمم وإنّما يجب أن يفهم في السياقات التي ذكر فيها لأنّه يمثل آلية دفاعية هامة ويصبح في بعض الأحيان رهانا لاكتساب نفوذ أو موقع اجتماعي من شأنه أن يقدّم لنا شكلا من أشكال ما أسماه Louis Vincent Thomas ب ‘‘الإيدلوجيا الجنائزيّة’’[18] حول الموت.
إنّ هذه الأمثال قد لا تساعدنا على الكشف العميق عن البنية اللاوعيّة في الذهنيّة إلاّ إذا اعتبرنا أنّ كلّ ملفوظ مهما كانت طبيعته فإنّه يبقى ذا قيمة ‘‘لأنّه كان يتضمن تمثّلا ومعنى كامنين وراءه ومهما قيلت في ظروف خاصة’’ فهي تبيّننا أهميّة النقد الموجّه لها فإنّ ذلك لا ينفي أهميتها وإذا حاولنا أيضا الإحاطة بهذه الصعوبات وتجاوزناها لنقدر فقد نستطيع توظيفها في التحليل. وانطلاقا من هذا الوعي بالصعوبات وأخذا بالحذر المنهجي تمكنّا من تجميع أمثال سنحاول دراستها لعلّها تساعدنا على الكشف عما يتمثّله التونسي في مفهوم الموت، ويعني ذلك أنّنا لن نركزّ في ذلك المفهوم الذي يحدّده القرآن والأحاديث النبويّة فنحن هنا لا نهتم بالمرجعيّة الدينيّة وإنّما نأخذ هذه الأمثال بوصفها مرجعيّة ذاكرة المجتمع التي تكوّن اللاوعي الجماعي والذي تتداخل فيه مرجعيات مختلفة وترسبات لبعض القيم والعادات التي تعود إلى ماض سحيق[19] .
2) - محاولة في دراسة استراتجيات المجتمع التونسي أمام الموت:
إن اللغة التي تعبّر عن الموت ليست بريئة أبدا وكم من معنى يحيلنا إلى مستويات تسمح لنا بالبحث عن النماذج التي يمكن استخراجها من الإستعمالات اليومية للغة ومما تخفيه من استراتجية التسميّة لا نفهم مضامينها إلاّ بفهم سياقاتها التي تختلف من موقع إلى آخر ومن حالة إلى أخرى ومن شخص إلى آخر بحيث لا يحمل الموت معنى واحدا.
فمن خلال الأمثال والتعبيرات العاميّة يزيح المجتمع معنى الموت عن معناه الأصلي المشحون بالخوف والقلق من المصير ويضمنه دلالات فالموت يتحوّل التعبير عنه بالنوم‘‘خَلِّيهْ رَاقْدْ في قَبْروا’’ والمنيّة ودار الحقّ ‘‘هم (أي المقصود الموتى) في دار الحقّ ونحن في الدار الباطل’’ بما في ذلك من استعارات موحيّة فيصبح ‘‘مفهوم الموت ليس هو الموت’’[20] بل ما يتمثله المجتمع فيه ويتخيّله. ويرتقي التفكير في الموت حينئذ إلى وسيلة من وسائل التربيّة الاجتماعيّة من خلال المثل الذي يلخّص هذا المعنى ‘‘تفكّر الموت ترتاح’’ وهي نصيحة تقدّم لمن يصاب بالهمّ بما يجري في الحياة فالتفكير في الموت يريحه من الغمّ حسب محمد المرزوقي[21] وحتّى يوّفر المجتمع وسائل بيداغوجيّة للتربيّة على تفكير الموت يصيغ عبارات وأمثلة لتوجيه المواقف والسلوك تجاه الموت والموتى. ويمكن أن نتبيّن هنا ما يكتنف الكلام حول الموت من دلالات ومعاني، فليس الموت إذن تجربة تعاش مباشرة، وإنّما يتجلّى من خلال ردود فعل الانسان تجاه موت الآخر وهو ما يهدّد وجوده بصفة لاواعيّة بما هو متعدّد المعاني من معنى بيولوجي إلى معنى روحي وأمام هول مصيبة الموت يسعى المجتمع إلى ادماج الموت واستأناسه والتلطيف منه ونعته بنعوت مثل نوم أو سفر أو يتحوّل إلى وسيلة للتعلّم والاتعاظ. ولكن مقابل ذلك وهو ما يثير الحيرة والتساؤل وهو الذي دفعنا لانجاز هذه المحاولة نجد الموت في مفهومه لدى البعض يصبح سلبيّا فيتحوّل ‘‘هادما للّذات’’ و ‘‘مفرقا بين الأحباب’’ ويصبح ‘‘نسيان الموت هو وسيلة تربويّة أخرى لعيش الحياة بأكثر بهجة ودون التفكير فيه وهو ضرب من الهروب من النظر إلى الموت كالذي لا يقدر على النظر إلى أشعة الشمس في عزّ الظهيرة فيقال ‘‘مِتْخَوْفُوشْ بالموت يطلع خَوافَ’’ أي لا يجب أن نخيف الصغير بالموت حتّى لا ينشأ على الرعب.
نلاحظ إذن من خلال هذه العينة الأولى ازدواجيّة جعلتنا نبحث عن مبررات ذلك ولعلّ أول ما تحسن الاشارة إليه وافتراضه هو أنّ مفهوم الموت ليس مفهوما مجردّا وإنّما يتنزل في سياق اجتماعي ويخضع إلى تصوّرات تكوّنت من خلال تطلّعات الناس للبحث عن أنجع السبل لاستئناسه والبحث عن عالم أفضل بعده. كما يمكن أن نفترض أيضا أن اللاوعي الجماعي يتميّز بالثراء وقدرته على احتواء المتناقضات والتي هي تعود إلى جذور موغلّة في القدم. وانطلاقا من هذه الفرضيات سنحاول أن نفكّك بعض الأمثال والتعبيرات العاميّة للوقوف على دورها وأهميتها في استراتجيّة المجتمع في تعامله مع ظاهرة الموت والموتى وما بعد الموت.
سننطلق من موقف الإنسان من الموت في المجتمع التونسي فيما يتعلّق بمستوى العبارة المستخدمة وما ينجر عن ذلك من تبعات فمثلا عند موت أحد الأفراد يقال ‘‘فَارْقَاتُوا رُوحَهْ أي بمعنى من المعاني: الموت هو ‘‘انفصال الروح عن الجسد’’[22] فهذه العبارة تطرح أمامنا العديد من الأسئلة فهل نقدر أن نعرف ماذا تعني هذه الكلمات الروح -الجسد -الانفصال؟ ففي اللغة رهانات لا بدّ من تفكيكها. فالموت في هذه العبارات ليس إلاّ غياب الروح التي تذهب إلى باريها من خلال القول ‘‘هَزَّ اللَّهْ مَتَاعُو’’. وهذا المفهوم هو الذي سيؤسس للمواقف من الموت وكيفيّة استعمال ذلك في التعابير العاميّة إذ نلاحظ مستويات أخرى في التفكير في الموت فمثلا لئن أقر البعض بحتمية الموت فإنّه مقابل ذلك يخفي رغبة في الخلود من خلال المثل السابق الذكر وربّما هذا ما يعبّر عنه المضطر بالقول التالي : ‘‘عندِي خدمه نْكَمْلها حَتَّى لَوْ إِنْمُوتْ’’ فذلك دلالة على خلود الروح التي تغادر الجسد فهي تنسجم تماما مع ما ذهبنا إليه من تأويل. وكما هو ملاحظ من خلال هذا التعبير أنّه يخفي وراء استعماله معنى فيه إقرار بخلود النفس، وإنّ المسؤولية لا تمحى وإن كان هناك توقع للموت. كما يتجلّى هذا المعنى أيضا بما يردّده المسافر أثناء لحظة الوداع ‘‘نِتْلاَقَى نِتْلاَقَى حَتَّى لَوْ نْمُوتْ’’ أي حتّى ولو حصل الموت في الغربة فإنّ اللقاء متوقع ما بعد الموت وفي ذلك إشارة خفية إلى معنى الخلود أيضا والذي يتأسس انطلاقا من تحديد المفهوم الأوليّ لمعنى الموت والذي هو ‘‘انفصال الروح عن الجسد‘‘.
ومن ثمّ تلوح عقيدة الخلود التي تدفع الأشخاص إلى مواقف مختلفة. إذ أنّ هناك اختلافا جذريّا في التصوّرات لما بعد الموت بين من يقرّه ومن لا يقرّه. وعادة ما يقترن عدم الإقرار بذلك عدم الايمان بالدين الإسلامي عملا وسلوكا ولهذا فإن الاعتقاد فيما بعد الموت هو الذي كيّف خيارات المجتمعات المسلمة والإسلام هو دين أخروي بما في الكلمة من المعاني. ما الذي يعتقده البشر حول ما بعد الآخرة : فالموقف المؤمن بالآخرة فيه اختلاف : فهناك من يرى ضرورة مقاضاة البشر على أفعالهم في الدنيا مع الأمل في جزاء يوم الآخرة لهم والذي يرى أنّه من الأفضل أن يدع الأمر ليوم الحساب ومن بين التعابير المستعملة ‘‘حِسَابُوا عِنْدْ رَبُّو’’ أي بمعنى حسابه عند الله. أو ‘‘خَلِّيهْ عِنْدْ ربّي خِيرْ’’ بمعنى لندعه، سيكون الجزاء عند الله خير من جزاء الدنيا أو ‘‘فين تروح يا قاتل الروح’’ نستشف أن الروح ستأتيها يوم وتحاسب فيه وإن لم تعاقب دنيويّا. ومن هنا نتبيّن ثقل الايمان بالبعث وبالحساب في تحديد المواقف في المعاملة الاجتماعية في الحياة الدنيويّة.
كما أنّ هناك مقارنة بين الجزاء في الدنيا والجزاء في الآخرة ‘‘الدنيا بالوجوه، والآخرة بالفعايل’’. وكلّ ذلك فيه دلالة عن يقينية جازمة في الاعتقاد في الخلود كما أنّها آلية نفسية للدفاع ضدّ المعتدي. فلئن كان في المعنى الأول قدرة الايمان بالآخرة تأجيل محاسبة الظالم لذلك اليوم فهو ’’يوم حساب’’
نستنتج إلى حدّ الآن معنى أولا يرى أن الروح تسافر إلى الله وهو موقف ايجابي من الموت. وهذا الموقف الذي: يعظّم الموت من خلال تكرار هذا التعبير ‘‘عَظَّمَ الله مُصِيبَةَ المَوْتْ’’ إذ اُعتبر الموت من المصائب التي لها منزلة كبرى عند الله. ولهذا السبب يعتبر الموت إيجابيا لأنّه يعتقد أنّه رحمة وتبعا لهذا الاعتقاد تتجلّى استراتجيات المجتمع بين :
- اختيار الموت على مظاهر الذلّ والاهانة وهذا نجده في المثال : ‘‘قَبْرْ مْشَيِّدْ وَلاَ حْيَاةْ الغْبِينَةْ’’ أي قبر مشيّد ولا الغبن - ‘‘قَبْرْ مْشَيّدْ وَلاَ خْيَالْ مْشُومْ’’ أي يتمني الموت للشخص حتّى لا نرى له أثرا - - اختيار الموت على مصاعب الشيخوخة ‘‘من صاب الموت ثمّ والكبر ما ثمّاش’’
-اعتبار الموت يستر الإنسان من المرض والمتاعب‘‘الموت ستره’’.
- تفضيل الموت عندما يعاني الإنسان من الآلام ‘‘الموت لازمه والعذاب علاش’’
- اختيار الموت على القدح في العرض‘‘النار ولا العار’’
- الموت يخلص الإنسان من محن الحياة ‘‘اللّي مات إرتاح’’. كما يفرج الهموم بالقول ‘‘إذا ضاقت عليك الأمور عليك بزيارة القبور’’
- اعتبار العزلة موتا مما يوحي بقيمة التعاون والتضامن ‘‘التنهيده وقلّة ما في اليد والعبد الفريد الموت أولى له’’.
- الموت حتمي والحياة هبة من لله يأخذها متى يشاء ‘‘ميدوم إلاّ وجه ربّي’’ ‘‘صارْ الدوامْ للّهْ’’.
- النهاية الطبيعية للإنسان هي الموت ‘‘ناكْلُوا القوت ونستناوا في الموت’’ ‘‘كلّ قوّة للضعف ترجع’’ ‘‘الدّنيا قبر الحياة’’ ‘‘حلو ومر حتّى يوفى العمر’’ ‘‘الدنيا فانيّهْ’’.
ولكن مقابل ذلك يظهر الموقف الثاني في عبارات أخرى تعبّر عن وحشيّة الموت وسلبيته وهوله ويظهر ذلك في بعض الاستعمالات اللاواعيّة مثل : ‘‘غلق’’ أو ‘‘بلع’’ ‘‘كَلاهَا في عظامو’’ ‘‘مات’’ ‘‘خلص’’ لما في هذه المعاني من اشارة إلى قساوة الموت والخوف من المصير الذي آل إليه المتوفّى. وتبعا لهذه النظرة السلبيّة فإنّه يسبب القلق والحيرة واليأس فنجد بعض التعبيرات التي ترى التفكير في الموت هو مصدر الرعب في حدّ ذاته: ‘‘لا تبات بين القبور لا تنام منامة مرعبه’’ أي اقتران القبور بالمخاطر -‘‘صبر على صبر يوصل للقبر’’ ضرورة الاعتناء بالنفس حتّى لا يقع الإنسان في المهالك. فهذا الموقف الثاني إذن يرفض الموت بشتّى أشكاله وهو نتيجة لعدم الاعتقاد في وجود حياة ما بعد الموت ولكن هذه الوسيلة لم تجد نفعا لدى فئة تعتقد أن هناك تراجع في اتخاذ ما بعد الموت كوسيلة ردع لها أهمية في توجيه التصرّفات نحو القيم الدينية. فالبعض يرى أنّه يحقق ما يحتاجه في حياته ولا يهمّه في يوم غد ومن هنا يوجّه له البعض نصيحة ‘‘اِتّقِ يَوْمْ غُدْوَ مَا يَنْفْعِكْ فِيهَا شَئْ’’ بمعنى اتق يوم الحساب الآتي حيث لا ينفع الإنسان سوى عمله.
والايمان بالعدم والفناء مثل قولهم ‘‘يَاكَلُوا التْرَابَ والدْودْ’’ ولم يثبت من عاد من قبره وأخبرنا بما فيه من خلال القول ‘‘إشْكُونْ رَجَعْ مِنْ القْبَرْ وَجَابْ الخْبَرْ’’ أي الشكّ في وجود حياة بعد الموت . وفي الجملة فإنّ استراتجيّة أصحاب هذا الموقف يمكن أن تتجلّى من خلال التعبيرات المستعملة التاليّة:
- ‘‘اللّي يشوف الموت يرضى بالحمّى’’ أي تفضيل المرض على الموت
- ‘‘اللي درا الوباء ويموت فيها ما يموت شهيد’’ أي اتقاء ما يسبّب الموت لأنّه مكروه
- ‘‘الله يهدي ولا يدي’’ أدي يدي : أدى يؤدي : يقال أداه ربّي بمعنى توفّاه والعبارة تقال عند الغضب في تمني للولد أو القريب غير الصالح[23].
- ‘‘عيشة الهانة ولا رقود الجبانة’’ معناه أن يتحمل الإنسان الأمراض أفضل من أن يكون بين الأموات.
- ‘‘آخرها موت تالييها موت’’ وهذا القول غايته لتبرير الاغراق في اللّذات. وهذا المعنى الأخير يرتكز على اعتبار أن الموت هلاك ونهايّة دون عودة.
ومن هنا ومن خلال هذين الموقفيّن تجاه الموت -واللذين فصلنا بينهما لضرورة منهجيّة فحسب- نتبيّن هذا التداخل بين معنى أول ايجابي للموت فهو سفر إلى الله وبحث عن رحمته ‘‘ اللَّهْ يَرْحْمُو’’ وموقف سلبي يرى الموت هلاكا وعدما. فكيف يمكن تفسير هذه المفارقة والتناقض في ما تعبّر عنه الشخصيّة التونسيّة؟ ألا يمكن من ذلك أن تتجلّى شبكة مفاهميّة تؤسس لتعدّد معاني الموت في الذاكرة الجماعيّة التي لها قدرة أنّ تحتوي المتناقضات بحيث تعاش الموت بقصديّة البشر بكلّ ما فيهم من عفويّة وبما هي رموز قديمة ولكنها معاصرة في فعلها وتأثيرها من خلال اللاوعي الجماعي؟[24].
لا شكّ أن هناك مأزق ينبثق أمامنا ولا ندعي أنّنا من خلال هذه المحاولة سنحسم الرأي فيه ولكن يبدو في نظرنا أن الأمر يستدعي اليقظة الحاسمة للتفكير في مخزوننا النفسي اللاواعي لنتبين الخلفيّة والاستراتجيّة التي تكمن وراء هذه الازدواجيّة في خطاب المخيّال الجماعي المكتنزّ بالرموز والطلاسم في بعض الأحيان. ولماذا يتحوّل إلى ايديولوجيا ذات فاعليّة في ضبط الممارسات الجنائزيّة.
لعلنا نستطيع على ضوء هذا السرد السابق للأمثال والتعبيرات العاميّة تصنيفها وتأويلها وفق ما يحفّ بها من دلالات رمزيّة وكاشفين عن تمظّهراتها فيما هو معيشي ضمن الطقوس لأنّها تتميّز ببساطة العبارة يردّدها الأمّي والمتعلّم وتتسّرب في الثقافة باعتبارها موجودة في المخزون النفسي للفرد كما أنّ من خصائصها صعوبة نسيانها ويعبّر بها عن مواقف يوميّة، وهذا ما يثبت لنا جملة الوظائف فهي ‘‘صياغة تجربة وجود’’ أمام الموت تنتج عن تفاعل المجتمع عامة وخاصة مع محيطهم الاجتماعي ويجسّدون عبرها مواقفهم من الحياة والموت ولهذا السبب يمكن للمثل أن ‘‘ينقل معارف ويجسّد نظرة للوجود’’[25] وكما يمكن أن يصبح ‘‘عامل تكيّف مع موقف’’ وهي ‘‘تستطيع توضيح علائق اجتماعية’’[26]. بحيث يمكن للشخص الواحد أن يتواجد فيه هذان الموقفان السابقان بطريقة لاشعوريّة. وهذا ما يدعونا للبحث عن السبب الكامن وراء ذلك.
إنّ تعدّد الأمثال العاميّة تبين لنا تميّزها بالشمولية كما أنّها تحتوي على مواقف متناقضة وما نستنتجه من ذلك هو أنّ التمثّلات الجماعيّة حول الموت ليست ذات مصدر واحد الذي هو الإسلام وإنّما هناك ما أضافه لها الناس من خلال تجاربهم وتاريخهم الطويل. ولقد سمح تداول الأمثال دون وعي من قائلها ولا قناعة منه وبفضل هذا التداول الواسع والمتكرّر - بإكتسابها قدرة على التأثير قد ترتقي هذه القدرة إلى منزلة المقدّس الذي يمارس سحره وسلطته على الفرد بطرقة واعية أو غير واعيّة. ولهذا يمكن القول إن الفرد يدرك الموت مطلقا أو موت غيره أو موته هو بالذات عبر ‘‘الإيحاء الجماعي لفكرة الموت ’’ التي ينشأ عليها ويكون قد تلقاها من غير معرفته بسبب منشئها، ولئن بدت لها في البداية أسباب معقولة، فإن تلك الأسباب سرعان ما تتلاشى وقد تظلّ متحجّبة في سلوكه الاجتماعي. وكما يمكن أن تسترعي اهتمامه ممارسات دون أخرى بحسب الاستراتجية المتبعة من قبل الفاعليين الاجتماعين الذين يتكفلون بمهمة التأثير في أحاسيس بعضهم. ولقد استطاع المجتمع أن يغرس هذه التصرفات في أفراده من خلال تكرارها وفرض إكراهات اجتماعية ودينية حتّى تمارس سلطتها عليهم فيخضعون إليها دون إرادة منهم مما ساهم في تكوّن تمثّلات جماعيّة حول الموت بهذا التنوّع والثراء.
خاتمة : نحو استئناف النظر
لعلنا نصل بفضل هذه المحاولة إلى نتيجة أوليّة تحتاج عملا آخر أكثر دقّة وبرهنة وهي أن الرموز والأفكار والتمثّلات لا تأفل أو تنعدم وإنّما هي تستقر في بنيّة اللاوعي الجماعي فتظهر وتختفي لتعاود البروز فهي دوما مستدعاة من المخيّال الجماعي أو من الذاكرة الجماعيّة الحيّة التي هي مخزنة بآليّات لتصريف مخاوف الموت والقلق منه وتعطي استراتجيّة للفاعل الاجتماعي الذي يسعى دوما ليضمن سلوكاته معنى وقصديّة تمتد إلى أعماق شخصيته وذلك مثلا في بعض الأحيان نجد تجاوزا للعقلانيّة واعتمادا على تجربة القدامى لأنّ ‘‘كَلاَمْ ناسْ بِكْرِي ما ييّطيّشْ’’ أي لا يمكن أن نلقي كلام الأوائل عرض الحائط فهو نابع من تجربة أمام إشكاليّة الموت التي هي قضية تمسّ كلّ كائن بشري مهما كان وقد تتغيّر الوسائل ولكن تبقى المضامين واحدة. أما النتيجة الثانيّة هي أنّ هذه الرموز والأفكار لها قدرة على اختراق الأزمنة أمام صرامة نسق الحداثة والعقلانيّة فهي ملجأ أمام فشل قيم الحداثة على حلّ أزمة الموقف والقلق من الموت وقداسة الغيب وعالم ما بعد الموت لدى الإنسان والتي هي مجال الرموز والأديان. وتتمثل النتيجة الثالثة في تأكيد على أنّ ما عرفته تونس من تعاقب الحضارات والثقافات عليها لا يمكن أن يخمد[27] وإنّما هو في تعايش مستمر ويتجلّى في الحاضر بطريقة لاشعوريّة رغم المحاولات في محاصرة هذه الذاكرة الجماعيّة وقتلها والسعي إلى إخماد لهيبها تارة بإسم العلم وطورا باسم الحداثة والعقلانيّة وتارة أخرى باسم قطع الاسلام بما سلف من الرموز.
وفي الجملة ولئن كان الالتجاء إلى استعمال المثل العامّي يتمّ بطريقة لاواعيّة، فإنّه من ناحيّة أخرى يبرز الحاجة الملحة لاتخاذ موقف من الموت والموتى بصفة واعيّة. فهل يلبي حاجة تتجلّى أكثر حيويّة عند أزمة تدخل اضطراب في السير العادي للحياة وهل تساعد هذه الأمثال على تجاوز هول المصيبة؟. لعلّ لهذا السبب يلاحظ أمام التغيّر السريع الذي عرفه المجتمع التونسي أن تأثير الأمثال بدأ يتقلّص فالأمثال التي كانت عنصرا مشتركا بين أغلب الناس أصبحت محصورة عند أقليّة من كبار السنّ ولم يعد نقل هذه الأمثال إلاّ بصفة محدودة وبطريقة لاواعيّة لآنّ الوسائط التقليديّة التي كان لها دور في ذلك تراجعت أمام وسائل الاتصال الحديثة. ولكن أمام هذا التراجع فإنّ هذه الأمثال تعود في قالب آخر من خلال ما يعرض في وسائل الاتصال مثل المسرح والأدب والذي هو في أسلوبه حديث ولكن يحتوي جوهر هذا اللاشعور الجماعي وخاصة عند الأزمات الخانقة التي تهبط العزائم فلا يجد الانسان ملاذا إلاّ فيما المتعبة والعاجزة على احتواء الكارثة المعنويّة. فهل تستطيع الثقافيّة المدنيّة والفلسفيّة أن تكون بديلا عن الثقافة الشفويّة أم يتعيشان معا.
ويجدر التأكيد في خاتمة هذا العمل على أنّ طبيعة المقال تتطلب الاختزال ونأمل ألاّ يكون ذلك قد أخلّ بالمعنى العام للموضوع. وتبقى الأمثال العاميّة رغم ذلك مادّة بكرا خصبة تخفي وراءها العديد من الدلالات الاجتماعية نأمل أن تتحول إلى إشكاليّة جديدة تحتاج للاختبار العلمي وتقف على ‘‘اللامفكر فيه’’ في قضية الموت في المجتمع التونسي. علما وأنّ هذا الموضوع قد وقع التطرّق إليه في اطار أشمل من خلال دراسة الموت كظاهرة اجتماعية في المجتمع التونسي الحالي [28].
د.الحبيب النهدي تونس
الهوامش :
[1]Louis-Jean Calvet : la tradition orale . Coll : Que sais-je? Presses Universitaires de France. 1984p : 118
[2] الخطيبي (عبد الكبير) : الإسم العربي الجريح دار العودة بيروت 1980 ص : 30
[3]Maffesoli (Michel) : La conquête du présent pour une sociologie de la vie quotidienne Presses Universitaires de France 1979 p : 185
[4]Ibid p : 186
Voir aussi E. Durkhein : De la division du travail social PUF 1930 p : 145
[5] شعلان (سميح) : الموت في المأثورات الشعبية عين للدراسات والبحوث الانسانية والاجتماعية الطبعة الأولى القاهرة 2000 ص : 11
* ورد تعريف الأمثال عند عثمان الكعاك كالتالي:
‘‘ هي أمثال وقولات ومحلات شواهد وتركيزة كلام كثيرة جدّا في اللّغة العامية التونسية،منها ما هو عربي فصيح فيصبح قد نقل بمثله إلى الدارجة وأغلبها بغدادي ،أندلسي وراج أيام الأغالبة، ومنها ما هو تونسي بحت ’’ أنظر :التقاليد والعادات التونسية. الدار التونسية للنشر .ماي 1987ص70:.
أمّا محمد المرزوقي يعرّف الأمثال على أنّها ‘‘عبارة عن حكم جمعت في تعابير تمتاز بالايجاز والبلاغة والذوق تأتي على لسان الفرد فتلتقتها أفواه الجماعة وترددها الأجيال في كلّ مكان راجع ’’ مع البدو في حلّهم وترحالهم الدار العربية للكتاب تونس ليبيا الطبعة الثانية 1984 ص:290 .
* كما وورد ‘‘ أنّ المثل العامّي هو ما يتصّف بالإيجاز والبلاغة وصدق الدّلالة ، يشتهر بالذّيوع بين طبقات المجتمع المختلفة وفي كلّ مكان عن طريق الرّواية الشفهيّة وهو يعيّن قاعدة الذوّق والسلوك أو الرأي الشعبي طبقا لما أجمع عليه النّاس على إختلافهم وهي قواعد مستمدّة من التجربة عبر التاريخ وقد لا يحتوي بالضرورة على ألوان من فنون البلاغة كالتشبيهات والإستعارات والكنايات أي أنّ المحسّنات اللّفظيّة ليست رئيسيّة في تكوين أسلوب المثل وطريقة تعبيره ’’ انظر :محسن العامري:صورة المجتمع التونسي من خلال كتاب الطاهر الخميري ‘‘ الأمثال العامية التونسية ’’ شهادة الكفاءة في البحث .السنة الجامعية 1981 - 1980 قسم اللّغة والآداب العربيّة .ص: 39.
ملاحظة : نحن في هذه الدراسة نعتبر أن هناك تقارب بين معنى الأمثال ومعنى التعبيرات العاميّة.
[6] حنفي (حسن) : فكرنا المعاصر : قضايا معاصرة دار التنوير للطباعة والنشر بيروت لبنان 1983 ص : 283
[7]بن شرفية ( محمد ) :أمثال العوام في الأندلس لأبي يحي الزّجّالي القرطبي.مطبعة محمد الخامس .فارس.1975 ص:204
ملاحظة: أوّل رسالة دكتوراه دولة تقدم بها مغربي وتحصّل عليها من كلية الآداب بجامعة القاهرة وقد نوقشت في تاريخ 1969- 2- 27
[8]أكّد مالينوفسكي Malinowski أهميّة البعد الميداني مبرزا أسلوبه في العمل حيث قال ‘‘سأدعو قرّائي إلى الخروج من مكتب النظر المغلق إلى الهواء الطلق الذي يملأ حقل الدراسات الإنسانية’’مالينوفسكي : السحر والعلم والدين . ترجمة محمد الجواد دار الحوار للنشر والتوزيع سورية 1995 ص 7 نلاحظ أن مارسال موس بدت له فكرة تقنيات الجسد أثر ملاحظة مجموعة من الانقليزيين لا يعرفون الاستعمال المعزقات (هي أداة يقلب بها التراب) الفرنسية راجع Stéphane Beaud & Florence Weber : Guide de l’enquête de terrain Editions La Découverte Paris 1997 p : 146
[9] من يراجع اطروحتنا يجد أنّنا اعتمادنا على الأمثال العاميّة في العديد من المواضيع مثلا في موضوع الزمن والموت، المال والموت، الطفل والموت وغيرها من القضايا وهي عديدة
[10] Capans (Jean) : L’enquête ethnologique de terrain Nathan Université 1998 p : 36
[11] Bonnewitz (Patrice) : Premiére leçons sur la sociologie de Bourdieu PUF 1997 p : 8
[12] Quivy (Raymond) & Campenhoudt (Luc Van) : Manuel de recherche en Sciences Sociales Dunod Paris 1995 p : 199
[13] Voir Ibid p : 164-165
[14] Beaud (Stéphane) : Guide de l’enquête de Terrain. op cit. pp : 147-152-154
يمكن العودة في هذه النقطة إلى
Capans (Jean) : L’enquête ethnologique de terrain op cit p : 71
أشار أن J. Middleton درس الظاهر الجماعية والطقوسيّة ووصف عمليات الدفن لدى Ouganda Sugbara حيث حضر أغاني رقص ولم تسمح له الظروف أن يأخذ معلومات على عين المكان ويتطلب الأمر الحضور عديد المرات لعمليات الدفن مما سمح بالتفكير في الممارسات الثقافية تجاه الموت حيث يمكنه أن يفهم ذلك كما أن الفاعلين عبروا عن تجربتهم من غير احراج.
[15]بن شريفة (محمد) : مرجع سبق ذكره ص : 204
[16]المرجع نفسه والصفحة
[17]Calvet (Louis-Jean) : La tradition orale op cit p : 101
إنّنا نجد العديد من المدوّنات الفقهيّة مكتوبة بلغة عامية مبسطة كرسالة أبي زيد القيرواني مستعملة ومتزامنة مع أخرى مكتوبة، كما أنّ التواصل الشفوي له انتشار أسرع. فليس هناك حدود بين الشفوي والمكتوب بل بينهما منافذ للدلالات ومسارب مشتركة.
[18] الايديولوجيا الجنائزيّة تعني جملة الأفكار والتمثّلات التي لها صلة بالموت والموتى وما بعد الموت. هذه الايديولوجيا هي بمثابة استراتيجية لاستئناس الموت وتصريفه حماية للأحياء راجع : الحبيب النهدي : التمثّلات الجماعيّة للموت في زمن العولمة (مساهمة في دراسة الذهنيّات) مجلة الحياة الثقافيّة العدد 141 السنة 28 جانفي 2003 تونس صص : 10 و 13
[19]من المهم هنا الإشارة إلى كتاب : كرلولندبرج الأسوجّي : الأمثال السائرة والأقوال الدائرة عند أولاد العربية.باللّغتين العربية والفرنسية.طبع في مطبعة بريل في مدينة ليدن الشهيرة سنة 1883. لقد إستقر رأينا في البداية على تجميع كمّ مهول من المدونات التي اعتنت بالأمثال بصفة عامة وقمنا بجردّ تام لها وسجلّنا كلّ ما له صلّة بالموت مباشرة أو بصفة غير مباشرة وحاولنا تصنيفها إلى مواضيع لها صلة ببحثنا ذلك لأنّه لا ‘‘تتيسر الإفادة من هذه الأمثال على وجهها الصحيح إلاّ حينما تفهم حقّ الفهم،وتصنف على أساس ذلك تصنيفا موضوعيا دقيقا’’[19] ويمكن أن نذكر كتاب الطاهر الخميري،البشير الزريبي، عثمان الكعاك، محمد المرزوقي، كما قورنت مع أمثال أخرى لمناطق عربية وكان هناك تشابّه يصلّ في بعض الأحيان إلى حدّ التطابق مما يدلّ على التقارب في التصوّرات الاجتماعية حول الموت في الحضارة العربية الإسلامية والذي لفت انتباهنا هذا التداخل بين مصادر مختلفة تستحق دراسة خاصة. ولقد أكدنا على الأمثال التي ما زالت متداولة. كما يجب لفت نظر الدارسين إلى هذا الميدان الخصب الذي يمكن أن يكون دراسة ألسنيّة للقاعدة الاجتماعية من خلال اللّغة العامية إذ بيّن عبد الوهاب بوحديبة تعدّد ‘‘الطرق لمعالجة وثيقة اجتماعية، وإنّ كلّ ذلك يرجع إلى الأهداف التي ننوي بلوغها’’
Bouhdiba (Abdelwaheb) : L’imaginaire Maghrebin : Etude de dix contes pour enfants. Maison Tunisienne de l’édition.1977p : 141
ولئن طبق ذلك على تحليل للمخيال المغربي من خلال عشرة قصص للأطفال فأنّه يمكننا أن نستعين بنفس هذه المنهجية في دراسة الأمثال العامية بالرغم من المخاطر التي أشار إليها هو نفسه لأنّ مثل هذه المحاولات تتطلبّ صرامة منهجيّة إنّه يمكن القول إنّ الأمثال العامية تعتبر وثيقة جتماعية باعتبار أنّها من وحي الحساسية الجماعية وتمّت بصفة عفوية
ولقد إخترنا الأمثال الطاهر الخميري وألحقناه بمراجع أخرى للمقارنة نفس المرجع السابق : صص: 205-186-183-182-183-75-21
الأمثال التي أوردها قاسم بلحاج عيسى:
عيسى (قاسم بلحاج) : الأمثال الشعببيّة في تونس، دار بوسلامة للطباعة والنشر والتوزيع. تونس 1988 الطبعة الأولى. صفحات : 802 * 801 * 800 *787 * 795* 769* 755* 743* 731* 95*
[20]Morin (Edgar) : L’homme et la mort Editions Seuil Paris 1973 p : 299
[21] المرزوقي (محمد) : مرجع سبق ذكره ص : 293
[22]Wittgenstein (Ludwig) : Leçons et conversations suivies de conférence sur de l’anglais par Jacques Fauve. Editions Gallimard. 1971 p : 131
[23] كما نلاحظ استعمالات أخرى من ضروري الاشارة إليها هنا وهي الاستعمالات التي هي نتيجة نظرة خاصة للموت بحيث نجد في بعض الأحيان في هذه التعبيرات معانى فيها نزعة لأكل لحم الانسان وذلك من خلال التعابير التالية ‘‘والله ناكلك لو ما تقولش الحق’’ أي ‘‘والله أكلك إذا لم تقل الحق’’ أو ‘‘نشويلك لحمك وناكلوا’’ لهذا فإنه عندما يثور أحدنا ‘‘حقدا على رجل آخر ويقسم بأغلظ الايمان أنه عندما يراه سوف يشرب من دمه يعتبر كلامه هذا نوعا من المبالغة التي لا تعبر تماما على نية صاحبها. ولكن بعض الشعوب كما يبدو تعتبر أن التفوه بمثل هذه الكلمات توجب على صاحبها الالتزام بها لأنها غدت بالنسبة إليه نذرا لا بدّ من تنفيذه’’
راجع المدني (سليمان) : القرابين البشرية دار الأنوار دمشق بيروت 1996 ص : 134 راجع أيضا كتابه أكلة لحوم البشر عن مخطوطة لابن فضلان دار الأنوار دمشق بيروت 1995-1996
[24] راجع في هذا الصدد الشبعان (محمود) : الأمثال الشعبيّة : صلة الأمثال بعليّة مستعمليها . مجلة النشرة التربويّة العدد 39 أفريل 1965 منشورات الديوان التربوي بتونس إذ أشار ‘‘ أن الأمثال في الغالب، وفي تعريفها الأصلي (يعرف ‘‘كامبدن Cambden المثل بكونه كلاما موجزا طريفا محتويا على حكمة ومبنيا على تجربة طويلة) مبنيّة على تجارب طويلة قديمة، وهي مع ذلك معاصرة في الاستعمال، فهل العقليّة التي تمثّلها تلك الأمثال أو تتصل بها قديمة هي الأخرى في ظهورها ومعاصرة في شيوعها’’ ص 57 ويضيف القول ‘‘ إذا كانت الأمثال قديمة والصلة بين العقليّة ومعزى المثل قائمة، وإذا كانت الأمثال قارة في الغالب محافظة على صيغتها ومعانيها، وإذا كانت العقليّة بالعكس متقلبة متطوّرة ناميّة فكيف يجوز أن يتعاشر المتناقضان وكيف يمكن التوفيق بين تحجر الأمثال وتكيّف العقليات؟’’ ص 58
[25]زيعور (علي) : صياغات شعبيّة حول المعرفة والخصوبة والقدر. المهاد الإناسي والتحتيّات العلائقيّة في الذات العربيّة دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع. بيروت. لبنان1984 ط : 1 ص : 33
[26] المرجع نفسه ص : 34
[27] راجع فنطر (محمد حسين) : في الهويّة العربيّة الاسلاميّة : عروبتنا الماضي والمستقبل مجلة 7 نوفمبر 1988 إذ كتب يقول ‘‘تلك هي الحلة التي ازدانت بها بلادنا وأبدع أهلها في حياكتها تمثل العروبة والاسلام دون ما تفريط في رصيد حضاري ساهمت في افرازه وإكتنازه أجيال عديدة تعاقبت من عصور الحجارة إلى عصور الحرف وكانت لغتها لوبية حامية فكنعانية قرطاجية وثبتت هذه وتلك أمام الرومنة إلى أن شع نور العروبة والاسلام’’ ص 50 ويضيف القول ‘‘فإنّي على هذا الأساس أعتبر من واجباتنا المتأكدّة العناية بتراثنا العربي الاسلامي وبتراثنا القديم انطلاقا من العصور الحجريّة مارين بقرطاج وبما بين قرطاج والقيروان دون اهمال التراث اللوبي الذي من ورائه نستشف الممالك النوميدية’’ ص 52
[28] النهدي (الحبيب) : الموت كما يعيشه المجتمع التونسي الحالي اطروحة دكتوراه إشراف الدكتور عبد الوهاب بوحديبة مناقشة د.محمود الذوادي- د.بدرة بشير- د. خميس طعم الله- د عبد المجيد الشرفي بتاريخ 18 جويلية 2001 بكلية العلوم الانسانية والاجتماعية قسم علم الاجتماع.
ولعلّ اللّغة اليومية تساعدنا على دراستنا من خلال ‘‘سماع التفاعلات الشفويّة’’[10] ومتابعة المناقشات التي تصدر حول الموت في الأماكن العمومية وفي الندوات وفي مناسبات الموت، فهي تقدّم لنا نصّا شفويا في حاجة إلى التحليل. ف‘‘عالم الاجتماع هو شخص يتمشى في الطريق ويسأل أوّل من يعترضه فيسمعه أو يحاول أن يتعلم منه ’’[11]، وهو ما يضفي على الموضوع طابعا حميميّا لأنّ الباحث يجد نفسه طرفا فيه. وتكتسي الملاحظة المباشرة هنا أهميّة لأنّها ‘‘تسجل السلوكات في لحظة إنتاجها دون وسائط كالوثيقة والشواهد’’[12]. فيجمع الباحث معلومات يستطيع من خلالها تسجيل ما يمكن أن يساعده على التأويل[13] كأن يراقب زوار المقابر أو مشيّعي الجنائز ولباسهم وحركاتهم وتصرفاتهم. كما يمكن ملاحظة اجتماع عائلي عند وفاة أحد أفراد العائلة و(كلّ واحد يمكن أن يعتبرنا قريبا له). وبما أنّه لا يمكننا أن ‘‘نأخذ صورة فوطوغرافية في الجنائز’’ فإنّنا نكتفي بالذاكرة فحسب ولن يكون ذلك ممكنا إلاّ من خلال العبارات الملفوظة باختصار شديد [14] ولكنّها حمّالات معاني تستحق التفكيك والتأويل كسائر النصوص المكتوبة. فمجال إبداعيّة المخيال الجماعي تتمثل فيما تمنحه من قصديّة ومعنى لردود الأفعال تجاه الموت.
لكن هذه الأهميّة لا يجب أن تحجب عنا الصعوبات المنهجيّة والنظريّة التي حذر منها البعض وأثيرت كلّما طرحت قضيّة الأمثال العاميّة ذلك أنّ الإفادة من الأمثال في دراسة المجتمع ‘‘قد تكون محدودة أو ضيّقة لأنّها -بحكم تركيبها الموجز المركزي- تكتفي باللمحة السريعة والإشارة الخفيفة، مما يستدعي من الباحث دقّة في التحليل وإعادة في النظر،إذا رام أن يستخرج منها شيئا’’[15] كما يجدر أن نقرّ بمحدودية هذه المقاربة لأنّ المثل يكتفي بومضة كلمح البصر’’ثمّ أنّ الباحث قد لا يستطيع أن يلّم بالظروف التي تحيط بضرب المثل ولا يستطيع أن يطمئن تماما إلى إدراكه لوقع المثل في المتمثلين من أهله’’’’[16].
هذا بالإضافة إلى أن ‘‘المعلومات التي يحملها اللسانيّون التاريخيون وعلماء الآثار والأتنولوجيا ليست كافية لإعادة تاريخ شعب، إنّها تزوّدنا فحسب بمؤشرات’’[17]. هذه المؤشرات وإن كانت شاهدة ولو نسبيا في تشكّل مفاهيم فهي تمثل موضوعا لأبحاث المؤرخين كما تعكس إلى حدّ ما السلوك الإنساني ولكن المعنى المستخرج منها لا يعمم وإنّما يجب أن يفهم في السياقات التي ذكر فيها لأنّه يمثل آلية دفاعية هامة ويصبح في بعض الأحيان رهانا لاكتساب نفوذ أو موقع اجتماعي من شأنه أن يقدّم لنا شكلا من أشكال ما أسماه Louis Vincent Thomas ب ‘‘الإيدلوجيا الجنائزيّة’’[18] حول الموت.
إنّ هذه الأمثال قد لا تساعدنا على الكشف العميق عن البنية اللاوعيّة في الذهنيّة إلاّ إذا اعتبرنا أنّ كلّ ملفوظ مهما كانت طبيعته فإنّه يبقى ذا قيمة ‘‘لأنّه كان يتضمن تمثّلا ومعنى كامنين وراءه ومهما قيلت في ظروف خاصة’’ فهي تبيّننا أهميّة النقد الموجّه لها فإنّ ذلك لا ينفي أهميتها وإذا حاولنا أيضا الإحاطة بهذه الصعوبات وتجاوزناها لنقدر فقد نستطيع توظيفها في التحليل. وانطلاقا من هذا الوعي بالصعوبات وأخذا بالحذر المنهجي تمكنّا من تجميع أمثال سنحاول دراستها لعلّها تساعدنا على الكشف عما يتمثّله التونسي في مفهوم الموت، ويعني ذلك أنّنا لن نركزّ في ذلك المفهوم الذي يحدّده القرآن والأحاديث النبويّة فنحن هنا لا نهتم بالمرجعيّة الدينيّة وإنّما نأخذ هذه الأمثال بوصفها مرجعيّة ذاكرة المجتمع التي تكوّن اللاوعي الجماعي والذي تتداخل فيه مرجعيات مختلفة وترسبات لبعض القيم والعادات التي تعود إلى ماض سحيق[19] .
2) - محاولة في دراسة استراتجيات المجتمع التونسي أمام الموت:
إن اللغة التي تعبّر عن الموت ليست بريئة أبدا وكم من معنى يحيلنا إلى مستويات تسمح لنا بالبحث عن النماذج التي يمكن استخراجها من الإستعمالات اليومية للغة ومما تخفيه من استراتجية التسميّة لا نفهم مضامينها إلاّ بفهم سياقاتها التي تختلف من موقع إلى آخر ومن حالة إلى أخرى ومن شخص إلى آخر بحيث لا يحمل الموت معنى واحدا.
فمن خلال الأمثال والتعبيرات العاميّة يزيح المجتمع معنى الموت عن معناه الأصلي المشحون بالخوف والقلق من المصير ويضمنه دلالات فالموت يتحوّل التعبير عنه بالنوم‘‘خَلِّيهْ رَاقْدْ في قَبْروا’’ والمنيّة ودار الحقّ ‘‘هم (أي المقصود الموتى) في دار الحقّ ونحن في الدار الباطل’’ بما في ذلك من استعارات موحيّة فيصبح ‘‘مفهوم الموت ليس هو الموت’’[20] بل ما يتمثله المجتمع فيه ويتخيّله. ويرتقي التفكير في الموت حينئذ إلى وسيلة من وسائل التربيّة الاجتماعيّة من خلال المثل الذي يلخّص هذا المعنى ‘‘تفكّر الموت ترتاح’’ وهي نصيحة تقدّم لمن يصاب بالهمّ بما يجري في الحياة فالتفكير في الموت يريحه من الغمّ حسب محمد المرزوقي[21] وحتّى يوّفر المجتمع وسائل بيداغوجيّة للتربيّة على تفكير الموت يصيغ عبارات وأمثلة لتوجيه المواقف والسلوك تجاه الموت والموتى. ويمكن أن نتبيّن هنا ما يكتنف الكلام حول الموت من دلالات ومعاني، فليس الموت إذن تجربة تعاش مباشرة، وإنّما يتجلّى من خلال ردود فعل الانسان تجاه موت الآخر وهو ما يهدّد وجوده بصفة لاواعيّة بما هو متعدّد المعاني من معنى بيولوجي إلى معنى روحي وأمام هول مصيبة الموت يسعى المجتمع إلى ادماج الموت واستأناسه والتلطيف منه ونعته بنعوت مثل نوم أو سفر أو يتحوّل إلى وسيلة للتعلّم والاتعاظ. ولكن مقابل ذلك وهو ما يثير الحيرة والتساؤل وهو الذي دفعنا لانجاز هذه المحاولة نجد الموت في مفهومه لدى البعض يصبح سلبيّا فيتحوّل ‘‘هادما للّذات’’ و ‘‘مفرقا بين الأحباب’’ ويصبح ‘‘نسيان الموت هو وسيلة تربويّة أخرى لعيش الحياة بأكثر بهجة ودون التفكير فيه وهو ضرب من الهروب من النظر إلى الموت كالذي لا يقدر على النظر إلى أشعة الشمس في عزّ الظهيرة فيقال ‘‘مِتْخَوْفُوشْ بالموت يطلع خَوافَ’’ أي لا يجب أن نخيف الصغير بالموت حتّى لا ينشأ على الرعب.
نلاحظ إذن من خلال هذه العينة الأولى ازدواجيّة جعلتنا نبحث عن مبررات ذلك ولعلّ أول ما تحسن الاشارة إليه وافتراضه هو أنّ مفهوم الموت ليس مفهوما مجردّا وإنّما يتنزل في سياق اجتماعي ويخضع إلى تصوّرات تكوّنت من خلال تطلّعات الناس للبحث عن أنجع السبل لاستئناسه والبحث عن عالم أفضل بعده. كما يمكن أن نفترض أيضا أن اللاوعي الجماعي يتميّز بالثراء وقدرته على احتواء المتناقضات والتي هي تعود إلى جذور موغلّة في القدم. وانطلاقا من هذه الفرضيات سنحاول أن نفكّك بعض الأمثال والتعبيرات العاميّة للوقوف على دورها وأهميتها في استراتجيّة المجتمع في تعامله مع ظاهرة الموت والموتى وما بعد الموت.
سننطلق من موقف الإنسان من الموت في المجتمع التونسي فيما يتعلّق بمستوى العبارة المستخدمة وما ينجر عن ذلك من تبعات فمثلا عند موت أحد الأفراد يقال ‘‘فَارْقَاتُوا رُوحَهْ أي بمعنى من المعاني: الموت هو ‘‘انفصال الروح عن الجسد’’[22] فهذه العبارة تطرح أمامنا العديد من الأسئلة فهل نقدر أن نعرف ماذا تعني هذه الكلمات الروح -الجسد -الانفصال؟ ففي اللغة رهانات لا بدّ من تفكيكها. فالموت في هذه العبارات ليس إلاّ غياب الروح التي تذهب إلى باريها من خلال القول ‘‘هَزَّ اللَّهْ مَتَاعُو’’. وهذا المفهوم هو الذي سيؤسس للمواقف من الموت وكيفيّة استعمال ذلك في التعابير العاميّة إذ نلاحظ مستويات أخرى في التفكير في الموت فمثلا لئن أقر البعض بحتمية الموت فإنّه مقابل ذلك يخفي رغبة في الخلود من خلال المثل السابق الذكر وربّما هذا ما يعبّر عنه المضطر بالقول التالي : ‘‘عندِي خدمه نْكَمْلها حَتَّى لَوْ إِنْمُوتْ’’ فذلك دلالة على خلود الروح التي تغادر الجسد فهي تنسجم تماما مع ما ذهبنا إليه من تأويل. وكما هو ملاحظ من خلال هذا التعبير أنّه يخفي وراء استعماله معنى فيه إقرار بخلود النفس، وإنّ المسؤولية لا تمحى وإن كان هناك توقع للموت. كما يتجلّى هذا المعنى أيضا بما يردّده المسافر أثناء لحظة الوداع ‘‘نِتْلاَقَى نِتْلاَقَى حَتَّى لَوْ نْمُوتْ’’ أي حتّى ولو حصل الموت في الغربة فإنّ اللقاء متوقع ما بعد الموت وفي ذلك إشارة خفية إلى معنى الخلود أيضا والذي يتأسس انطلاقا من تحديد المفهوم الأوليّ لمعنى الموت والذي هو ‘‘انفصال الروح عن الجسد‘‘.
ومن ثمّ تلوح عقيدة الخلود التي تدفع الأشخاص إلى مواقف مختلفة. إذ أنّ هناك اختلافا جذريّا في التصوّرات لما بعد الموت بين من يقرّه ومن لا يقرّه. وعادة ما يقترن عدم الإقرار بذلك عدم الايمان بالدين الإسلامي عملا وسلوكا ولهذا فإن الاعتقاد فيما بعد الموت هو الذي كيّف خيارات المجتمعات المسلمة والإسلام هو دين أخروي بما في الكلمة من المعاني. ما الذي يعتقده البشر حول ما بعد الآخرة : فالموقف المؤمن بالآخرة فيه اختلاف : فهناك من يرى ضرورة مقاضاة البشر على أفعالهم في الدنيا مع الأمل في جزاء يوم الآخرة لهم والذي يرى أنّه من الأفضل أن يدع الأمر ليوم الحساب ومن بين التعابير المستعملة ‘‘حِسَابُوا عِنْدْ رَبُّو’’ أي بمعنى حسابه عند الله. أو ‘‘خَلِّيهْ عِنْدْ ربّي خِيرْ’’ بمعنى لندعه، سيكون الجزاء عند الله خير من جزاء الدنيا أو ‘‘فين تروح يا قاتل الروح’’ نستشف أن الروح ستأتيها يوم وتحاسب فيه وإن لم تعاقب دنيويّا. ومن هنا نتبيّن ثقل الايمان بالبعث وبالحساب في تحديد المواقف في المعاملة الاجتماعية في الحياة الدنيويّة.
كما أنّ هناك مقارنة بين الجزاء في الدنيا والجزاء في الآخرة ‘‘الدنيا بالوجوه، والآخرة بالفعايل’’. وكلّ ذلك فيه دلالة عن يقينية جازمة في الاعتقاد في الخلود كما أنّها آلية نفسية للدفاع ضدّ المعتدي. فلئن كان في المعنى الأول قدرة الايمان بالآخرة تأجيل محاسبة الظالم لذلك اليوم فهو ’’يوم حساب’’
نستنتج إلى حدّ الآن معنى أولا يرى أن الروح تسافر إلى الله وهو موقف ايجابي من الموت. وهذا الموقف الذي: يعظّم الموت من خلال تكرار هذا التعبير ‘‘عَظَّمَ الله مُصِيبَةَ المَوْتْ’’ إذ اُعتبر الموت من المصائب التي لها منزلة كبرى عند الله. ولهذا السبب يعتبر الموت إيجابيا لأنّه يعتقد أنّه رحمة وتبعا لهذا الاعتقاد تتجلّى استراتجيات المجتمع بين :
- اختيار الموت على مظاهر الذلّ والاهانة وهذا نجده في المثال : ‘‘قَبْرْ مْشَيِّدْ وَلاَ حْيَاةْ الغْبِينَةْ’’ أي قبر مشيّد ولا الغبن - ‘‘قَبْرْ مْشَيّدْ وَلاَ خْيَالْ مْشُومْ’’ أي يتمني الموت للشخص حتّى لا نرى له أثرا - - اختيار الموت على مصاعب الشيخوخة ‘‘من صاب الموت ثمّ والكبر ما ثمّاش’’
-اعتبار الموت يستر الإنسان من المرض والمتاعب‘‘الموت ستره’’.
- تفضيل الموت عندما يعاني الإنسان من الآلام ‘‘الموت لازمه والعذاب علاش’’
- اختيار الموت على القدح في العرض‘‘النار ولا العار’’
- الموت يخلص الإنسان من محن الحياة ‘‘اللّي مات إرتاح’’. كما يفرج الهموم بالقول ‘‘إذا ضاقت عليك الأمور عليك بزيارة القبور’’
- اعتبار العزلة موتا مما يوحي بقيمة التعاون والتضامن ‘‘التنهيده وقلّة ما في اليد والعبد الفريد الموت أولى له’’.
- الموت حتمي والحياة هبة من لله يأخذها متى يشاء ‘‘ميدوم إلاّ وجه ربّي’’ ‘‘صارْ الدوامْ للّهْ’’.
- النهاية الطبيعية للإنسان هي الموت ‘‘ناكْلُوا القوت ونستناوا في الموت’’ ‘‘كلّ قوّة للضعف ترجع’’ ‘‘الدّنيا قبر الحياة’’ ‘‘حلو ومر حتّى يوفى العمر’’ ‘‘الدنيا فانيّهْ’’.
ولكن مقابل ذلك يظهر الموقف الثاني في عبارات أخرى تعبّر عن وحشيّة الموت وسلبيته وهوله ويظهر ذلك في بعض الاستعمالات اللاواعيّة مثل : ‘‘غلق’’ أو ‘‘بلع’’ ‘‘كَلاهَا في عظامو’’ ‘‘مات’’ ‘‘خلص’’ لما في هذه المعاني من اشارة إلى قساوة الموت والخوف من المصير الذي آل إليه المتوفّى. وتبعا لهذه النظرة السلبيّة فإنّه يسبب القلق والحيرة واليأس فنجد بعض التعبيرات التي ترى التفكير في الموت هو مصدر الرعب في حدّ ذاته: ‘‘لا تبات بين القبور لا تنام منامة مرعبه’’ أي اقتران القبور بالمخاطر -‘‘صبر على صبر يوصل للقبر’’ ضرورة الاعتناء بالنفس حتّى لا يقع الإنسان في المهالك. فهذا الموقف الثاني إذن يرفض الموت بشتّى أشكاله وهو نتيجة لعدم الاعتقاد في وجود حياة ما بعد الموت ولكن هذه الوسيلة لم تجد نفعا لدى فئة تعتقد أن هناك تراجع في اتخاذ ما بعد الموت كوسيلة ردع لها أهمية في توجيه التصرّفات نحو القيم الدينية. فالبعض يرى أنّه يحقق ما يحتاجه في حياته ولا يهمّه في يوم غد ومن هنا يوجّه له البعض نصيحة ‘‘اِتّقِ يَوْمْ غُدْوَ مَا يَنْفْعِكْ فِيهَا شَئْ’’ بمعنى اتق يوم الحساب الآتي حيث لا ينفع الإنسان سوى عمله.
والايمان بالعدم والفناء مثل قولهم ‘‘يَاكَلُوا التْرَابَ والدْودْ’’ ولم يثبت من عاد من قبره وأخبرنا بما فيه من خلال القول ‘‘إشْكُونْ رَجَعْ مِنْ القْبَرْ وَجَابْ الخْبَرْ’’ أي الشكّ في وجود حياة بعد الموت . وفي الجملة فإنّ استراتجيّة أصحاب هذا الموقف يمكن أن تتجلّى من خلال التعبيرات المستعملة التاليّة:
- ‘‘اللّي يشوف الموت يرضى بالحمّى’’ أي تفضيل المرض على الموت
- ‘‘اللي درا الوباء ويموت فيها ما يموت شهيد’’ أي اتقاء ما يسبّب الموت لأنّه مكروه
- ‘‘الله يهدي ولا يدي’’ أدي يدي : أدى يؤدي : يقال أداه ربّي بمعنى توفّاه والعبارة تقال عند الغضب في تمني للولد أو القريب غير الصالح[23].
- ‘‘عيشة الهانة ولا رقود الجبانة’’ معناه أن يتحمل الإنسان الأمراض أفضل من أن يكون بين الأموات.
- ‘‘آخرها موت تالييها موت’’ وهذا القول غايته لتبرير الاغراق في اللّذات. وهذا المعنى الأخير يرتكز على اعتبار أن الموت هلاك ونهايّة دون عودة.
ومن هنا ومن خلال هذين الموقفيّن تجاه الموت -واللذين فصلنا بينهما لضرورة منهجيّة فحسب- نتبيّن هذا التداخل بين معنى أول ايجابي للموت فهو سفر إلى الله وبحث عن رحمته ‘‘ اللَّهْ يَرْحْمُو’’ وموقف سلبي يرى الموت هلاكا وعدما. فكيف يمكن تفسير هذه المفارقة والتناقض في ما تعبّر عنه الشخصيّة التونسيّة؟ ألا يمكن من ذلك أن تتجلّى شبكة مفاهميّة تؤسس لتعدّد معاني الموت في الذاكرة الجماعيّة التي لها قدرة أنّ تحتوي المتناقضات بحيث تعاش الموت بقصديّة البشر بكلّ ما فيهم من عفويّة وبما هي رموز قديمة ولكنها معاصرة في فعلها وتأثيرها من خلال اللاوعي الجماعي؟[24].
لا شكّ أن هناك مأزق ينبثق أمامنا ولا ندعي أنّنا من خلال هذه المحاولة سنحسم الرأي فيه ولكن يبدو في نظرنا أن الأمر يستدعي اليقظة الحاسمة للتفكير في مخزوننا النفسي اللاواعي لنتبين الخلفيّة والاستراتجيّة التي تكمن وراء هذه الازدواجيّة في خطاب المخيّال الجماعي المكتنزّ بالرموز والطلاسم في بعض الأحيان. ولماذا يتحوّل إلى ايديولوجيا ذات فاعليّة في ضبط الممارسات الجنائزيّة.
لعلنا نستطيع على ضوء هذا السرد السابق للأمثال والتعبيرات العاميّة تصنيفها وتأويلها وفق ما يحفّ بها من دلالات رمزيّة وكاشفين عن تمظّهراتها فيما هو معيشي ضمن الطقوس لأنّها تتميّز ببساطة العبارة يردّدها الأمّي والمتعلّم وتتسّرب في الثقافة باعتبارها موجودة في المخزون النفسي للفرد كما أنّ من خصائصها صعوبة نسيانها ويعبّر بها عن مواقف يوميّة، وهذا ما يثبت لنا جملة الوظائف فهي ‘‘صياغة تجربة وجود’’ أمام الموت تنتج عن تفاعل المجتمع عامة وخاصة مع محيطهم الاجتماعي ويجسّدون عبرها مواقفهم من الحياة والموت ولهذا السبب يمكن للمثل أن ‘‘ينقل معارف ويجسّد نظرة للوجود’’[25] وكما يمكن أن يصبح ‘‘عامل تكيّف مع موقف’’ وهي ‘‘تستطيع توضيح علائق اجتماعية’’[26]. بحيث يمكن للشخص الواحد أن يتواجد فيه هذان الموقفان السابقان بطريقة لاشعوريّة. وهذا ما يدعونا للبحث عن السبب الكامن وراء ذلك.
إنّ تعدّد الأمثال العاميّة تبين لنا تميّزها بالشمولية كما أنّها تحتوي على مواقف متناقضة وما نستنتجه من ذلك هو أنّ التمثّلات الجماعيّة حول الموت ليست ذات مصدر واحد الذي هو الإسلام وإنّما هناك ما أضافه لها الناس من خلال تجاربهم وتاريخهم الطويل. ولقد سمح تداول الأمثال دون وعي من قائلها ولا قناعة منه وبفضل هذا التداول الواسع والمتكرّر - بإكتسابها قدرة على التأثير قد ترتقي هذه القدرة إلى منزلة المقدّس الذي يمارس سحره وسلطته على الفرد بطرقة واعية أو غير واعيّة. ولهذا يمكن القول إن الفرد يدرك الموت مطلقا أو موت غيره أو موته هو بالذات عبر ‘‘الإيحاء الجماعي لفكرة الموت ’’ التي ينشأ عليها ويكون قد تلقاها من غير معرفته بسبب منشئها، ولئن بدت لها في البداية أسباب معقولة، فإن تلك الأسباب سرعان ما تتلاشى وقد تظلّ متحجّبة في سلوكه الاجتماعي. وكما يمكن أن تسترعي اهتمامه ممارسات دون أخرى بحسب الاستراتجية المتبعة من قبل الفاعليين الاجتماعين الذين يتكفلون بمهمة التأثير في أحاسيس بعضهم. ولقد استطاع المجتمع أن يغرس هذه التصرفات في أفراده من خلال تكرارها وفرض إكراهات اجتماعية ودينية حتّى تمارس سلطتها عليهم فيخضعون إليها دون إرادة منهم مما ساهم في تكوّن تمثّلات جماعيّة حول الموت بهذا التنوّع والثراء.
خاتمة : نحو استئناف النظر
لعلنا نصل بفضل هذه المحاولة إلى نتيجة أوليّة تحتاج عملا آخر أكثر دقّة وبرهنة وهي أن الرموز والأفكار والتمثّلات لا تأفل أو تنعدم وإنّما هي تستقر في بنيّة اللاوعي الجماعي فتظهر وتختفي لتعاود البروز فهي دوما مستدعاة من المخيّال الجماعي أو من الذاكرة الجماعيّة الحيّة التي هي مخزنة بآليّات لتصريف مخاوف الموت والقلق منه وتعطي استراتجيّة للفاعل الاجتماعي الذي يسعى دوما ليضمن سلوكاته معنى وقصديّة تمتد إلى أعماق شخصيته وذلك مثلا في بعض الأحيان نجد تجاوزا للعقلانيّة واعتمادا على تجربة القدامى لأنّ ‘‘كَلاَمْ ناسْ بِكْرِي ما ييّطيّشْ’’ أي لا يمكن أن نلقي كلام الأوائل عرض الحائط فهو نابع من تجربة أمام إشكاليّة الموت التي هي قضية تمسّ كلّ كائن بشري مهما كان وقد تتغيّر الوسائل ولكن تبقى المضامين واحدة. أما النتيجة الثانيّة هي أنّ هذه الرموز والأفكار لها قدرة على اختراق الأزمنة أمام صرامة نسق الحداثة والعقلانيّة فهي ملجأ أمام فشل قيم الحداثة على حلّ أزمة الموقف والقلق من الموت وقداسة الغيب وعالم ما بعد الموت لدى الإنسان والتي هي مجال الرموز والأديان. وتتمثل النتيجة الثالثة في تأكيد على أنّ ما عرفته تونس من تعاقب الحضارات والثقافات عليها لا يمكن أن يخمد[27] وإنّما هو في تعايش مستمر ويتجلّى في الحاضر بطريقة لاشعوريّة رغم المحاولات في محاصرة هذه الذاكرة الجماعيّة وقتلها والسعي إلى إخماد لهيبها تارة بإسم العلم وطورا باسم الحداثة والعقلانيّة وتارة أخرى باسم قطع الاسلام بما سلف من الرموز.
وفي الجملة ولئن كان الالتجاء إلى استعمال المثل العامّي يتمّ بطريقة لاواعيّة، فإنّه من ناحيّة أخرى يبرز الحاجة الملحة لاتخاذ موقف من الموت والموتى بصفة واعيّة. فهل يلبي حاجة تتجلّى أكثر حيويّة عند أزمة تدخل اضطراب في السير العادي للحياة وهل تساعد هذه الأمثال على تجاوز هول المصيبة؟. لعلّ لهذا السبب يلاحظ أمام التغيّر السريع الذي عرفه المجتمع التونسي أن تأثير الأمثال بدأ يتقلّص فالأمثال التي كانت عنصرا مشتركا بين أغلب الناس أصبحت محصورة عند أقليّة من كبار السنّ ولم يعد نقل هذه الأمثال إلاّ بصفة محدودة وبطريقة لاواعيّة لآنّ الوسائط التقليديّة التي كان لها دور في ذلك تراجعت أمام وسائل الاتصال الحديثة. ولكن أمام هذا التراجع فإنّ هذه الأمثال تعود في قالب آخر من خلال ما يعرض في وسائل الاتصال مثل المسرح والأدب والذي هو في أسلوبه حديث ولكن يحتوي جوهر هذا اللاشعور الجماعي وخاصة عند الأزمات الخانقة التي تهبط العزائم فلا يجد الانسان ملاذا إلاّ فيما المتعبة والعاجزة على احتواء الكارثة المعنويّة. فهل تستطيع الثقافيّة المدنيّة والفلسفيّة أن تكون بديلا عن الثقافة الشفويّة أم يتعيشان معا.
ويجدر التأكيد في خاتمة هذا العمل على أنّ طبيعة المقال تتطلب الاختزال ونأمل ألاّ يكون ذلك قد أخلّ بالمعنى العام للموضوع. وتبقى الأمثال العاميّة رغم ذلك مادّة بكرا خصبة تخفي وراءها العديد من الدلالات الاجتماعية نأمل أن تتحول إلى إشكاليّة جديدة تحتاج للاختبار العلمي وتقف على ‘‘اللامفكر فيه’’ في قضية الموت في المجتمع التونسي. علما وأنّ هذا الموضوع قد وقع التطرّق إليه في اطار أشمل من خلال دراسة الموت كظاهرة اجتماعية في المجتمع التونسي الحالي [28].
د.الحبيب النهدي تونس
الهوامش :
[1]Louis-Jean Calvet : la tradition orale . Coll : Que sais-je? Presses Universitaires de France. 1984p : 118
[2] الخطيبي (عبد الكبير) : الإسم العربي الجريح دار العودة بيروت 1980 ص : 30
[3]Maffesoli (Michel) : La conquête du présent pour une sociologie de la vie quotidienne Presses Universitaires de France 1979 p : 185
[4]Ibid p : 186
Voir aussi E. Durkhein : De la division du travail social PUF 1930 p : 145
[5] شعلان (سميح) : الموت في المأثورات الشعبية عين للدراسات والبحوث الانسانية والاجتماعية الطبعة الأولى القاهرة 2000 ص : 11
* ورد تعريف الأمثال عند عثمان الكعاك كالتالي:
‘‘ هي أمثال وقولات ومحلات شواهد وتركيزة كلام كثيرة جدّا في اللّغة العامية التونسية،منها ما هو عربي فصيح فيصبح قد نقل بمثله إلى الدارجة وأغلبها بغدادي ،أندلسي وراج أيام الأغالبة، ومنها ما هو تونسي بحت ’’ أنظر :التقاليد والعادات التونسية. الدار التونسية للنشر .ماي 1987ص70:.
أمّا محمد المرزوقي يعرّف الأمثال على أنّها ‘‘عبارة عن حكم جمعت في تعابير تمتاز بالايجاز والبلاغة والذوق تأتي على لسان الفرد فتلتقتها أفواه الجماعة وترددها الأجيال في كلّ مكان راجع ’’ مع البدو في حلّهم وترحالهم الدار العربية للكتاب تونس ليبيا الطبعة الثانية 1984 ص:290 .
* كما وورد ‘‘ أنّ المثل العامّي هو ما يتصّف بالإيجاز والبلاغة وصدق الدّلالة ، يشتهر بالذّيوع بين طبقات المجتمع المختلفة وفي كلّ مكان عن طريق الرّواية الشفهيّة وهو يعيّن قاعدة الذوّق والسلوك أو الرأي الشعبي طبقا لما أجمع عليه النّاس على إختلافهم وهي قواعد مستمدّة من التجربة عبر التاريخ وقد لا يحتوي بالضرورة على ألوان من فنون البلاغة كالتشبيهات والإستعارات والكنايات أي أنّ المحسّنات اللّفظيّة ليست رئيسيّة في تكوين أسلوب المثل وطريقة تعبيره ’’ انظر :محسن العامري:صورة المجتمع التونسي من خلال كتاب الطاهر الخميري ‘‘ الأمثال العامية التونسية ’’ شهادة الكفاءة في البحث .السنة الجامعية 1981 - 1980 قسم اللّغة والآداب العربيّة .ص: 39.
ملاحظة : نحن في هذه الدراسة نعتبر أن هناك تقارب بين معنى الأمثال ومعنى التعبيرات العاميّة.
[6] حنفي (حسن) : فكرنا المعاصر : قضايا معاصرة دار التنوير للطباعة والنشر بيروت لبنان 1983 ص : 283
[7]بن شرفية ( محمد ) :أمثال العوام في الأندلس لأبي يحي الزّجّالي القرطبي.مطبعة محمد الخامس .فارس.1975 ص:204
ملاحظة: أوّل رسالة دكتوراه دولة تقدم بها مغربي وتحصّل عليها من كلية الآداب بجامعة القاهرة وقد نوقشت في تاريخ 1969- 2- 27
[8]أكّد مالينوفسكي Malinowski أهميّة البعد الميداني مبرزا أسلوبه في العمل حيث قال ‘‘سأدعو قرّائي إلى الخروج من مكتب النظر المغلق إلى الهواء الطلق الذي يملأ حقل الدراسات الإنسانية’’مالينوفسكي : السحر والعلم والدين . ترجمة محمد الجواد دار الحوار للنشر والتوزيع سورية 1995 ص 7 نلاحظ أن مارسال موس بدت له فكرة تقنيات الجسد أثر ملاحظة مجموعة من الانقليزيين لا يعرفون الاستعمال المعزقات (هي أداة يقلب بها التراب) الفرنسية راجع Stéphane Beaud & Florence Weber : Guide de l’enquête de terrain Editions La Découverte Paris 1997 p : 146
[9] من يراجع اطروحتنا يجد أنّنا اعتمادنا على الأمثال العاميّة في العديد من المواضيع مثلا في موضوع الزمن والموت، المال والموت، الطفل والموت وغيرها من القضايا وهي عديدة
[10] Capans (Jean) : L’enquête ethnologique de terrain Nathan Université 1998 p : 36
[11] Bonnewitz (Patrice) : Premiére leçons sur la sociologie de Bourdieu PUF 1997 p : 8
[12] Quivy (Raymond) & Campenhoudt (Luc Van) : Manuel de recherche en Sciences Sociales Dunod Paris 1995 p : 199
[13] Voir Ibid p : 164-165
[14] Beaud (Stéphane) : Guide de l’enquête de Terrain. op cit. pp : 147-152-154
يمكن العودة في هذه النقطة إلى
Capans (Jean) : L’enquête ethnologique de terrain op cit p : 71
أشار أن J. Middleton درس الظاهر الجماعية والطقوسيّة ووصف عمليات الدفن لدى Ouganda Sugbara حيث حضر أغاني رقص ولم تسمح له الظروف أن يأخذ معلومات على عين المكان ويتطلب الأمر الحضور عديد المرات لعمليات الدفن مما سمح بالتفكير في الممارسات الثقافية تجاه الموت حيث يمكنه أن يفهم ذلك كما أن الفاعلين عبروا عن تجربتهم من غير احراج.
[15]بن شريفة (محمد) : مرجع سبق ذكره ص : 204
[16]المرجع نفسه والصفحة
[17]Calvet (Louis-Jean) : La tradition orale op cit p : 101
إنّنا نجد العديد من المدوّنات الفقهيّة مكتوبة بلغة عامية مبسطة كرسالة أبي زيد القيرواني مستعملة ومتزامنة مع أخرى مكتوبة، كما أنّ التواصل الشفوي له انتشار أسرع. فليس هناك حدود بين الشفوي والمكتوب بل بينهما منافذ للدلالات ومسارب مشتركة.
[18] الايديولوجيا الجنائزيّة تعني جملة الأفكار والتمثّلات التي لها صلة بالموت والموتى وما بعد الموت. هذه الايديولوجيا هي بمثابة استراتيجية لاستئناس الموت وتصريفه حماية للأحياء راجع : الحبيب النهدي : التمثّلات الجماعيّة للموت في زمن العولمة (مساهمة في دراسة الذهنيّات) مجلة الحياة الثقافيّة العدد 141 السنة 28 جانفي 2003 تونس صص : 10 و 13
[19]من المهم هنا الإشارة إلى كتاب : كرلولندبرج الأسوجّي : الأمثال السائرة والأقوال الدائرة عند أولاد العربية.باللّغتين العربية والفرنسية.طبع في مطبعة بريل في مدينة ليدن الشهيرة سنة 1883. لقد إستقر رأينا في البداية على تجميع كمّ مهول من المدونات التي اعتنت بالأمثال بصفة عامة وقمنا بجردّ تام لها وسجلّنا كلّ ما له صلّة بالموت مباشرة أو بصفة غير مباشرة وحاولنا تصنيفها إلى مواضيع لها صلة ببحثنا ذلك لأنّه لا ‘‘تتيسر الإفادة من هذه الأمثال على وجهها الصحيح إلاّ حينما تفهم حقّ الفهم،وتصنف على أساس ذلك تصنيفا موضوعيا دقيقا’’[19] ويمكن أن نذكر كتاب الطاهر الخميري،البشير الزريبي، عثمان الكعاك، محمد المرزوقي، كما قورنت مع أمثال أخرى لمناطق عربية وكان هناك تشابّه يصلّ في بعض الأحيان إلى حدّ التطابق مما يدلّ على التقارب في التصوّرات الاجتماعية حول الموت في الحضارة العربية الإسلامية والذي لفت انتباهنا هذا التداخل بين مصادر مختلفة تستحق دراسة خاصة. ولقد أكدنا على الأمثال التي ما زالت متداولة. كما يجب لفت نظر الدارسين إلى هذا الميدان الخصب الذي يمكن أن يكون دراسة ألسنيّة للقاعدة الاجتماعية من خلال اللّغة العامية إذ بيّن عبد الوهاب بوحديبة تعدّد ‘‘الطرق لمعالجة وثيقة اجتماعية، وإنّ كلّ ذلك يرجع إلى الأهداف التي ننوي بلوغها’’
Bouhdiba (Abdelwaheb) : L’imaginaire Maghrebin : Etude de dix contes pour enfants. Maison Tunisienne de l’édition.1977p : 141
ولئن طبق ذلك على تحليل للمخيال المغربي من خلال عشرة قصص للأطفال فأنّه يمكننا أن نستعين بنفس هذه المنهجية في دراسة الأمثال العامية بالرغم من المخاطر التي أشار إليها هو نفسه لأنّ مثل هذه المحاولات تتطلبّ صرامة منهجيّة إنّه يمكن القول إنّ الأمثال العامية تعتبر وثيقة جتماعية باعتبار أنّها من وحي الحساسية الجماعية وتمّت بصفة عفوية
ولقد إخترنا الأمثال الطاهر الخميري وألحقناه بمراجع أخرى للمقارنة نفس المرجع السابق : صص: 205-186-183-182-183-75-21
الأمثال التي أوردها قاسم بلحاج عيسى:
عيسى (قاسم بلحاج) : الأمثال الشعببيّة في تونس، دار بوسلامة للطباعة والنشر والتوزيع. تونس 1988 الطبعة الأولى. صفحات : 802 * 801 * 800 *787 * 795* 769* 755* 743* 731* 95*
[20]Morin (Edgar) : L’homme et la mort Editions Seuil Paris 1973 p : 299
[21] المرزوقي (محمد) : مرجع سبق ذكره ص : 293
[22]Wittgenstein (Ludwig) : Leçons et conversations suivies de conférence sur de l’anglais par Jacques Fauve. Editions Gallimard. 1971 p : 131
[23] كما نلاحظ استعمالات أخرى من ضروري الاشارة إليها هنا وهي الاستعمالات التي هي نتيجة نظرة خاصة للموت بحيث نجد في بعض الأحيان في هذه التعبيرات معانى فيها نزعة لأكل لحم الانسان وذلك من خلال التعابير التالية ‘‘والله ناكلك لو ما تقولش الحق’’ أي ‘‘والله أكلك إذا لم تقل الحق’’ أو ‘‘نشويلك لحمك وناكلوا’’ لهذا فإنه عندما يثور أحدنا ‘‘حقدا على رجل آخر ويقسم بأغلظ الايمان أنه عندما يراه سوف يشرب من دمه يعتبر كلامه هذا نوعا من المبالغة التي لا تعبر تماما على نية صاحبها. ولكن بعض الشعوب كما يبدو تعتبر أن التفوه بمثل هذه الكلمات توجب على صاحبها الالتزام بها لأنها غدت بالنسبة إليه نذرا لا بدّ من تنفيذه’’
راجع المدني (سليمان) : القرابين البشرية دار الأنوار دمشق بيروت 1996 ص : 134 راجع أيضا كتابه أكلة لحوم البشر عن مخطوطة لابن فضلان دار الأنوار دمشق بيروت 1995-1996
[24] راجع في هذا الصدد الشبعان (محمود) : الأمثال الشعبيّة : صلة الأمثال بعليّة مستعمليها . مجلة النشرة التربويّة العدد 39 أفريل 1965 منشورات الديوان التربوي بتونس إذ أشار ‘‘ أن الأمثال في الغالب، وفي تعريفها الأصلي (يعرف ‘‘كامبدن Cambden المثل بكونه كلاما موجزا طريفا محتويا على حكمة ومبنيا على تجربة طويلة) مبنيّة على تجارب طويلة قديمة، وهي مع ذلك معاصرة في الاستعمال، فهل العقليّة التي تمثّلها تلك الأمثال أو تتصل بها قديمة هي الأخرى في ظهورها ومعاصرة في شيوعها’’ ص 57 ويضيف القول ‘‘ إذا كانت الأمثال قديمة والصلة بين العقليّة ومعزى المثل قائمة، وإذا كانت الأمثال قارة في الغالب محافظة على صيغتها ومعانيها، وإذا كانت العقليّة بالعكس متقلبة متطوّرة ناميّة فكيف يجوز أن يتعاشر المتناقضان وكيف يمكن التوفيق بين تحجر الأمثال وتكيّف العقليات؟’’ ص 58
[25]زيعور (علي) : صياغات شعبيّة حول المعرفة والخصوبة والقدر. المهاد الإناسي والتحتيّات العلائقيّة في الذات العربيّة دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع. بيروت. لبنان1984 ط : 1 ص : 33
[26] المرجع نفسه ص : 34
[27] راجع فنطر (محمد حسين) : في الهويّة العربيّة الاسلاميّة : عروبتنا الماضي والمستقبل مجلة 7 نوفمبر 1988 إذ كتب يقول ‘‘تلك هي الحلة التي ازدانت بها بلادنا وأبدع أهلها في حياكتها تمثل العروبة والاسلام دون ما تفريط في رصيد حضاري ساهمت في افرازه وإكتنازه أجيال عديدة تعاقبت من عصور الحجارة إلى عصور الحرف وكانت لغتها لوبية حامية فكنعانية قرطاجية وثبتت هذه وتلك أمام الرومنة إلى أن شع نور العروبة والاسلام’’ ص 50 ويضيف القول ‘‘فإنّي على هذا الأساس أعتبر من واجباتنا المتأكدّة العناية بتراثنا العربي الاسلامي وبتراثنا القديم انطلاقا من العصور الحجريّة مارين بقرطاج وبما بين قرطاج والقيروان دون اهمال التراث اللوبي الذي من ورائه نستشف الممالك النوميدية’’ ص 52
[28] النهدي (الحبيب) : الموت كما يعيشه المجتمع التونسي الحالي اطروحة دكتوراه إشراف الدكتور عبد الوهاب بوحديبة مناقشة د.محمود الذوادي- د.بدرة بشير- د. خميس طعم الله- د عبد المجيد الشرفي بتاريخ 18 جويلية 2001 بكلية العلوم الانسانية والاجتماعية قسم علم الاجتماع.