المجتمعات الأوروبّية وتحرير السّوق الدينية - نصّ: ستارك و إياناكّوني - ت: د. عزالدين عناية

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاس يعلو ضجيج صاخب حينا، يدعو لحوار الأديان وينادي بتنشيط التثاقف بين الحضارات، في غياب شروطهما العلمية اللاّزمة لهما، محوّلا بذلك المعرفة إلى خطاب استهلاكي سطحي مبتذل. ففي الفاكرة العربية، لا يزال التمثّل رهين التصوّر الخلقي والنوايا الطيّبة في هذا المبحث، والحال أن العملية ليست منعزلة عن تأسيساتها المعرفية اللاّزمة لها. إذ التنمية العلمية الثابتة من موجبات الولوج الموضوعي والمسؤول للحقل، وهو ما يتطلّبه الالتزام الرّوحي والفكري الحق في مستوى هذه المسائل الشائكة.
فلو بقينا في حدود الحقل الإبراهيمي، وفي مجال الأديان الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام، لهال المتتبّع والمنشغل بعلم الأديان، فقر الإمكانيات التي يحوزها المنتسبون للحضارة الإسلامية في ذلك في راهنهم الحديث، فالمعرفة باليهودية لا تزال رهينة مقولات "بروتوكولات حكماء صهيون"، وما خلفّته من عجائبي وأسطوري، مع أن الدّراسات والتنظيرات المنشغلة بالاستهواد تنوّعت في تلك الدّيانة سطحا وعمقا، وامتدّت حتى متابعة اللّغات القديمة والمنقرضة من الاستعمال، كالقبطية والآرامية والسريانية وعبرية التوراة والأكدية، فهل في الجامعات الدّينية وكلّيات العلوم الإنسانية والاجتماعية في البلاد العربية متوفّرة هذه القدرات؟ التي صارت من الموجبات الأولية في الغرب للمنشغلين بهذه الدراسات.
وليس بعيدا عن ذلك الإلمام بالمسيحية، الذي لا يزال مبتدئا، غافلا عن كافة التحوّلات العلمية المتعلّقة بها، مع علم نقد الكتب المقدّسة، خلال القرون الأخيرة إلى التأويليات المستجدّة. وعيا بهذه الفجوة الواسعة آثرت ترجمة بعض الدّراسات ذات الصلة باجتماعيات الأديان المعاصرة، وبالمناهج العلمية المتابعة للظاهرة الدّينية، أملا في لفت الانتباه لما يملكه الآخر من أدوات، وما تدور في خلده من انشغالات، وما تعترضه من تحدّيات.
-المترجم-
ساد على مدى سنوات القول إن عديد البلدان الأوروبية تعيش علمنة مكثّفة، تتلخّص في كون قلّة فحسب تؤدي شعائرها الدينية، وأن الاعتقادات تشهد انحدارا، وأن سلطة الدين وحضوره في الحياة العامة قد تلاشيا وصارا من ظلال التاريخ السالف، أو بذكر الصياغة الشائعة عن العلمنة أن "المؤسّسات والأنشطة والمشاعر الدينية في أوروبا قد فقدت معانيها". فقد كانت الفكرة شائعة بين الجميع تقريبا، أن العلمنة الأوروبية تمثّل مستقبل كلّ المجتمعات، وأن انتشار العلم والحداثة كانا وراء إدانة الدين كما فسر أنطوني ف. ك. ولاّس الأمر، بقوله: "مستقبل الدين التطوري إلى الاندثار، فالاعتقاد في الكائنات والقوى الغيبية التي تؤثر على الطبيعة دون الخضوع لقوانينها يتوارى، ليتحول إلى ذكرى تاريخية بليغة... الاعتقاد في القوى الغيبية مقدَّر له الفناء، أينما كان في العالم، كنتيجة للتنامي المتطوِّر للوعي العلمي".
فما كانت العَلمنة حتمية فحسب، إذ الفكرة السائدة رأت فيها شَرْطية مستقوية بذاتها، بمجرد بلوغها لا يمكن الانثناء عنها. كتب فرانك لاشنر: "حين ألغى التقدّم التفسيرات الدينية الأكثر شيوعا، وحين تمت مأسسة النظم الاجتماعية البديلة، وحين أصبح نظام الارتياد والتخلّي مقبولا لدى الأفراد، صار من الصعب الإقرار بإمكانية التراجع عن هذا السياق".
فالمعدّلات المنخفضة للارتياد الديني في عديد البلدان الأوروبية يمكن تفسيرها ضمن التأكيد على هذه الأطروحة، وإن كان النشاط الديني العالي في الولايات المتحدة يمثل مشكلة عويصة لتطبيق نظرية العلمنة. هنا، وبرغم الانتشار الواسع للعلم وارتفاع المستوى التعليمي، لا يظهر أي مؤشّر لتراجع الدين، فقد كانت معدلات الانتماء للكنائس في الولايات المتحدة مرتفعة دائما. وبالنتيجة، تم تحويل مركز النظريات والأبحاث بشأن العلمنة شطر أمريكا، حيث حاول الدارسون تفسير هذه "الحالة الشاذة". البعض رحّب بالحل الأنيق المقترح من طرف توكفيل، الذي رأى أن نظرية العلمنة هي بكل بساطة خاطئة، فقد كتب: "لسوء الحظ أن الوقائع لا تتلاءم بشكل مناسب مع نظرياتها". وعلى خلاف ذلك، توقّف دارسون عند أطروحة "الخصوصية الأمريكية"، فاعتبر دافيد مارتن –مثلا- الولايات المتحدة "حالة تطوّر مكبوحة، تم تعطيل نسق تقدّمها". تفسيرات أخرى كانت مبدعة، من بينها تلك التي أرجعت، بشكل خاطئ، مستويات التدين العليا في شمال أمريكا للاختلافات الإثنية والعرقية، في حين ذهب آخرون إلى أن أمريكا ليست حالة مميزة وأن تدينها هو واجهة أصيلة. بعد رحلته لأمريكا زعم ماكس فيبر اقتداره على ولوج وهْم التديّن الأمريكي واكتشاف علمنة شائعة: "التحليل الرصين يكشف عن تطور ثابت لسياق العلمنة المميز، ففي الأزمنة الحديثة، تتهاوى كل الظواهر التي لها أصل في التصوّرات الدينية". ومهتديا بفيبر، زعم بريان ولسون أن الأمريكيين يعبّرون بالفعل عن عَلْمانيتهم من خلال الذهاب للكنيسة!
ففي المؤلَّف الذي صاغه ولسون والذي يعرض فيه أطروحة العلمنة، أكّد أن "الارتياد الديني، بحد ذاته، هو قيمة علمانية في أمريكا". ويواصل قوله: "ان انحدار سهم الانتماء والتردد على الأماكن الدينية في المملكة المتّحدة، وكذلك الدلالة العلمانية لبعض الانتماءات في أمريكا، ينضاف إليهما نقص التجذّر لعديد التجلّيات الدينية في البلد، كلها توحي بتراجع الدين في كلي البلدين". وفي كتاب جديد دعم ولسون أطروحته، بالإشارة "ان قلّة من الملاحظين ممن يتشكّكون كون المحتوى الفعلي لما يجري في أغلب كنائس المملكة المتحدة معبر عن تديّن أوفر مما يتواجد بالكنائس الأمريكية".
وخلافا للسعي لإقناع القرّاء أن الخدمة المعمدانية في أمريكا أكثر عمقا مما عليه الطقس الأنغليكاني، نعرض هرطقة عميقة. نرمي لمعارضة التأكيد القائل، أن كل بلد أوروبي معلمَن بشكل عال. مطوّرين لاحقا بعض الاعتراضات، ومقترحين إسقاط مصطلح العَلمنة من أي خطاب نظري. لسبب أساسي، يتمثل في ما أثاره من وظائف جدالية لا نظرية، كما أكد ذلك منذ زمن دافيد مارتان؛ ولسبب آخر لافتقاد أمثلة عينية تطبق عليه. فما يعوز حقا ليس نظرية بشأن تراجع الدين أو اندثاره فحسب، بل نظرية في التغيّر الديني تستطيع توضيح تنامي مستويات التديّن وتراجعها في المجتمعات، علاوة على فترات الاستقرار الخفيّة.
لهذا الغرض نقترح نظرية للحراك الديني، تتشّكل من سبعة عناصر ذات صلة باقتصاد الدين، وتولي تبدّلات سلوك المؤسّسات الدينية دورا كبيرا على تحولات مواقف المستهلكين الدينيين، أين الاستناد على تعبيرة من وجهة نظر العرض، في مستوى هذه الدراسة. كما تسمح النظرية برصد عديد مستويات الحراك في المجتمع وفي ظروف مختلفة. تبدو هذه الرؤى متلائمة كليا مع تنوّعات وقائع متّصلة، سواء عبر التاريخ أو في الزمن الراهن، لما تستند إليه من تحليلات كمّية. كيفما كان فهذه الرؤى تبدو غير مسايرة للرأي التقليدي الشائع عن العلمنة، أو للتأكيد على أن بعض البلدان الأوروبية تعيش حالة عَلمنة متطورة. بالإضافة نميز بين السلوك الديني المهيكل والمواقف الدينية الذاتية، معتبرين الأول على اختلاف كبير مقارنة بالأنواع الأخيرة.
 نظرية بشأن الحراك الديني
ترتكز النظريّة التي نعرضها لاحقا على المحاولات السابقة في تطبيق النماذج الاقتصادية للسوق على سير الاقتصاد الديني. كما تمت ملاحظة ذلك، بين عديد التجديدات الممكنة لهذه المقاربة، مع سعي للتركيز على تصرّفات المؤسسات الدينية وليس على المستهلكين فقط. فالنقاشات السالفة بشأن العلمنة غالبا ما أظهرت تراجع الطلب على الدين، مؤكّدة أن قوى الاستهلاك في الفترة الحديثة، لا تجد حاجة للاعتقاد في الغيبي. بخلاف ذلك، نقترح التركيز، ليس على المستهلكين فحسب بل على المزوِّدين بالدين أيضا. فضمن أي شروط تستطيع المؤسّسات الدينية خلق طلب ما؟ وماذا يجري حين تواجه بعض المؤسّسات الدينية الخاملة المستهلِك الديني القوي بمفردها؟ بشكل عيني مثلا، هل يعكس مستوى الحراك الديني البطيء في البلدان الاسكندنافية طلبا ضعيفا بالأساس، أو أنه يعكس منتوجا يشكو من سوء الدعاية، داخل اقتصاد ديني موجّه بشكل صارم وغير واقعي؟
تحضر ثلاثة تعريفات أساسية في نقاشاتنا:
الدين هو نظام عقائد وممارسات متعلّق بمدلولات علوية ذات صلة بالعالم الغيبي.
المؤسّسات الدينية هي مؤسّسات اجتماعية هدفها بالأساس خلق ورعاية وتوفير الدين لبعض الجماعات البشرية.
يتشكّل الاقتصاد الديني من كافة الأنشطة الدينية التي يعجّ بها المجتمع، وهو شبيه بالاقتصاد التجاري، لما ينبني عليه السوق من قدرات استهلاك فعلية، تسعى فيها مجموعة من المؤسسات لخدمة السوق عبر توزيع المنتوجات الدينية التي توفرها مختلف المؤسسات.
كما نضع في الاعتبار مجموعة من التأسيسات.
1-قدرة مؤسّسة دينيّة واحدة على احتكار الاقتصاد الديني، يخضع لمدى استعمال الدولة لقوّة زجرية بغرض توجيه ذلك الاقتصاد باتجاه مسار محدّد.
2-يسير الاقتصاد الديني نحو التعددية الموسَّعة، في الحالة التي يكون فيها غير خاضع للتوجيه. ونعني بكلمة تعددية عدد المؤسسات الناشطة في الاقتصاد، فبقدر ما تتمتّع المؤسسات بحصّة من السوق، يكون أثر التعددية أوسع.
3-يتم تخصّص المؤسّسات الدينية على أساس مستويات تعددّية الاقتصاد، ولبلوغ التخصّص، تتولى المؤسسة توفير الاحتياجات بحسب تنوّع الأذواق داخل التفرعات المختلفة للسّوق.
ترتبط التأسيسات من واحد إلى ثلاثة بعلاقة وطيدة فيما بينها، إضافة لما يخضع له كل واحد منها لتأسيسات ثانوية، تدشّن تفرعات طبيعية تحضر في أية سوق دينية، على أساس كونها تنوّعات عادية بحسب الأحوال الاجتماعية المختلفة: الطبقة الاجتماعية، العمر، الجنس، الصحّة، تجارب الحياة والاندماج الاجتماعي. وبحسب التفرّعات العادية للسّوق، تتميّز الظروف الطبيعية للاقتصاد الديني بوفرة المؤسّسات المتخصّصة التي تتزاحم فيما بينها، وتتحقّق هذه الحالة جرّاء عجز خط إنتاجي بمفرده عن إشباع مختلف الأذواق. كما تجلو التعددية بالأساس في الأسواق غير الموجّهة جرّاء عجز مؤسسة دينية بمفردها في الإيفاء بالدور الدنيوي والأخروي، والصارم والمتسامح، والمستثني والمستوعب، والمحاور والمتحفّظ، في نفس الوقت، في الآن التي تتواجد فيها دائما تفرعات للسوق بخيارات قوية لكل من هذه الأوجه الدينية.
بحسب المنطق نفسه، يصير التعذّر بيّنا للتوفيق في احتكار الاقتصاد الديني بصفة شاملة، فحتى وإن تم الاستناد كلّيا على سلطات قهرية للدولة. وبالفعل، فحتى في أوج سلطتها الزمنية، حوصرت كنيسة القرون الوسطى بالهرطقات والانشقاقات. ولذلك من الطبيعي، لما تصير قوى قهر الدولة متعسّفة، تجنح المؤسسات الدينية التي تتنازع مع الاحتكار، المدعوم من طرف الدولة، للعمل بشكل سرّي، ولكن في أية لحظة وأينما كان، تبدأ التعدّدية بالتطور، حين تهفت حدّة القمع.
4-في الحالة التي يكون فيها الاقتصاد الديني تنافسيا وتعدّديا، تنحو المستويات العامة للمشاركة الدينية للتطوّر. وعلى خلاف ذلك، في الحالة التي يكون فيها محتكرا من طرف مؤسّسة أو مؤسّستين تنال دعم الدولة، تميل مستويات المشاركة للتراجع.
بشكل جلي، تكون المؤسسات المتخصصة عموما مقتدرة على التوجه نحو شقّ أوسع من المستهلكين، مقارنة بالحالة التي يتوفر فيها إيمان وحيد فقط، دون مخاطر العقوبات. بالإضافة، وبسبب كون عديد المنتوجات الدينية لامرئية وتتعلّق بمستقبل بعيد، فإنها تحتاج إلى دعاية نشيطة لبلوغ مستويات استهلاك عالية. لكن هذا، ليس الشكل الذي تعمل به المؤسّسات الاحتكارية المموّلة من طرف الدولة، فبحسب مصادرة اقتصادية أساسية، تسير المؤسسة باتجاه فقدان النجاعة. فقد لاحظ آدم سميث سنة 1776، أن الأديان الرسمية بشكل عام وكنيسة إنجلترا بشكل خاص، تفتقر للثقة والتقدير: "يبني الإكليروس ثقته على منافعه، ولا يولي شأنا للسعي لترقية إيمان الأفراد أو تقواهم؛ وبسبب ذلك الاستهتار افتقد حتى القدرة على بذل مجهود يذكر بغرض الدفاع عن مؤسسته".
لقد جرى تكرار هذه النقطة من طرف عديد الرحّالة الأوروبيين إلى أمريكا في القرن الـXIX. فقد كان استعمال مصطلحات تفسير اقتصادية، والمبدأ أن التدافع يخلق تنظيمات نشيطة، لتفسير حيوية الدين في ذلك البلد. ففي تلخيصه لدراسات شتى بشأن الميزة الأمريكية، لاحظ إدوارد ترياقيان "أن الرأي شائع كون الدين ذو نفع، عادة بحسب حيويته الاجتماعية، في مجتمعات يفتقد فيها الاحتكار التنظيمي من طرف الدولة". ويعدّ الاقتصاديون المعاصرون هذه النظرة أساسية، على إثر ملاحظة أن المقاربة الاقتصادية لا تتحدد فحسب بالثروات والرغبات المادية. كما لاحظ غاري س. بيكر أن إحدى أهم القواعد أن "الأسواق المتنافسة تلبي حاجات المستهلكين أكثر مما تقوم به الأسواق الموجَّهَة، سواء أكانت تلك الأسواق متعلّقة بالألومنيوم أو بالأفكار". سنضيف بعض الملاحظات الأخرى بشأن وهن الإيمان الموجَّه بعد شرح بعض التأسيسات.
5-في الحال التي تشارف فيها مؤسّسة دينية الاحتكار، فهي تبحث عن توسيع تأثيرها على غيرها، لذلك يضفى طابع قداسي على المجتمع. ونعني به، أن الأوجه الأساسية للحياة والعائلة والسياسة، تُشبَع بالرموز والمعاني ذات المسحة الدينية. والطابع القداسي هو ظاهرة عادية تستدعي بهرج الاحتفالات السنوية، التي يبارك فيها الكهنة تجمّعات مراكب الصيد، والقاعات التي يعلو فيها الصليب، وخصوصا الحفلات الدينية المرتبطة بالفضاء المدني والسياسي للحياة اليومية. فسدنة الإيمان الاحتكاري غالبا ما يتقدّمون في المناسبات العامة والاحتفالات السياسية، بالإضافة نجد القيادة السياسية ذاتها في بعض المجتمعات تحوز طابعا دينيا مميزا.
فالعلاقات المتينة بين الدين والسياسة جدّ معروفة، إذ كثيرا ما تساند النخب الدينية توجّهات الساسة مضفية على سلطاتهم مسحة شرعية. نحن هنا بصدد السعي للقيام برصد دقيق لهذه العلاقة، فإضفاء القداسة على الفضاء السياسي هو السبب الأساسي الذي يجعل المؤسسة الدينية المميزة توظّف سلطاتَ الدولة القهرية ضد المؤسسات المنافسة.
6-في الحال التي يتم فيها تحرير اقتصاد ديني، كان في ماضيه مسيَّرا بشكل صارم، يصير المجتمع فاقدا للقداسة. ففي الأثناء التي لا تعترف فيها الدولة بدعاوى الشرعية المتميزة من جانب الإيمان المحتكر، ولأي سبب كان، يلزم تبين فقدان القداسة. فحيث تتواجد مؤسسات دينية متعددة، يفتقد كل واحد منها وبشكل تام لاحتكار القداسة. فلا يمكن أن تبنى القداسة على تحالف بين مؤسسات دينية متدافعة، بما أن التأكيد المتأتي من جماعة ما ينبغي أن يتحدد بتعميمات واسعة يتيسّر للجميع القبول بها. لعل الأمر في هذه الحالات يتعلّق بـ"الدين المدني" الذي ليس من المتيسر الحديث فيه عن القداسة، كيفما كان فليس بالضرورة عرَضا يشي بالانحدار الديني.
حسب رأينا، يفسر عديد الدارسين تقلّص القداسة بالعلمنة خطأ، خالصين بهذا الشكل لتراجع التأثير الديني على مستوى عام. فغالبا ما تستهل الدراسات الأوروبية بشأن العلمنة بتعريف مماثل لتعريفنا عن تقلّص القداسة، وبالتالي يبين الكتّاب أن هذه التحولات كان لها فضاء، كما كان الأمر فعلا. لكن لاحقا وفي استنتاجاتهم، يغير العديد من هؤلاء الدارسين سياقاتهم فجأة ويعتبرون العلمنة تراجعا للثقة الذاتية في الدين. فغياب أي علاقة بين المعطيات المعالجة والنتائج النهائية، يلغي الأساس المعرفي للتأكيدات ذات الصلة بالعلمنة في أوروبا. مما يعني أن بعض المراقبين عاينوا انهيار بعض الاحتكارات الدينية الأوروبية ففسّروا تلك الظاهرة بالتراجع السريع والمتطوّر للالتزام الديني ولأثره بين أفراد تلك المجتمعات، وبرغم نقص اختبار هذه الأطروحة، ثمة اعتراضات نظرية قوية. يزعم التأسيسان الثالث والرابع أن أي انحدار للتقى الشخصي يصحب تقلّص القداسة، يكون حدوثه في تلك الحال ظرفيا، وشيئا فشيئا توفّق أعداد كبيرة من المؤسسات، وخصوصا الأكثر نشاطا منها، في الدخول الحرّ للسوق، كما تشهد مستويات الالتزام الديني الفردي ارتفاعا.
ينبغي التفطّن لتواجد فاصل زمني بين لحظة تقلّص القداسة وتصاعد التعددية الدينية النشيطة. فمثلا، حين سُحِب من الكنيسة الكاثوليكية الرومانية احتكارها النافذ، وألغيت جوانب من سلطتها الزمنية في عديد الفضاءات الأوروبية وفي أمريكا اللاتينية، لم يخلق هذا مباشرة اقتصادا دينيا حرا بمؤسسات جاهزة لتتنافس فيما بينها على الأرواح. ذلك أن تقلّص القداسة الجلي ينحو للتقدّم قبل أن تحصل التعددية الكافية التي تقوّي من المشاركة الدينية بشكل بائن. هكذا وفي أجل محدود يمكن لتقلّص القداسة أن يجلو بصورة العَلمنة. لذا ينبغي التنبه كون هذا النمط من العلمنة ظرفي ومشروط بتراجع المشاركة الدينية، وليس أفولا للدين كما تقدّمه النظريات النمطية للعلمنة.
يمكن أن تخفّض عوامل عدّة سرعة تطوّر نشاط التعددية، ففي مستوى أوّلي، غالبا ما تكون مظهرية تحرير الاقتصاد الديني تفوق واقعيته، مما يفضي بالحكومة لإعلان سياسة حرية دينية، أو على الأقل تسامح، ولكن تُواصِل ضمان الامتيازات الخاصة والمساعدات المالية للمؤسسة الاحتكارية التقليدية، وتواصل في نفس الوقت اختلاق العراقيل أمام التشكّلات الجديدة. لذا يمكن أن يكون التطور الإيجابي للتعددية معرقَلاً بواقع مؤسّساتي سائد. ففي البلدان الاسكندنافية مثلا، يتكوّن الإكليروس اللوثري من موظّفين تابعين للدولة، ولا يخضع الإنفاق عليه لمدى ما يقدمه من خدمة لزبائنه.
وبالإضافة، يؤخّر الخمول الثقافي -المتمثّل في التقليد- القبول بمؤسسات جديدة بشكل عادي وشرعي، حيث يواصل الإيمان الاحتكاري القديم إدانة خصومه. مثلا، برغم ليونة السياسات الرسمية التي تنظّم الأنشطة البروتستانية في جلّ فضاءات أمريكا اللاتينية، يقع الإكليروس البروتستاني والأتباع ضحايا للاعتداءات، التي تبلغ حدّ التصفية. وبنفس الحدّة، ففي إيطاليا وبرغم أن "شهود يهوه" حازوا اعترافا قانونيا في السنوات الأخيرة، بفضل عديد القرارات الوزارية ، فقد بقوا عرضة للاعتداءات الطارئة من العامة.
نجد تعليلا آخر لانكماش التعددية، ففي الحالة التي تكون فيها المؤسّسات الجديدة امتدادا لمؤسسات خارجية، فإن النجاحات تبقى رهينة انتظار تطور الروابط بين المبشّرين والمحلّيين. إذ ينبغي أن تتواجد أو تُخلَق شبكة من العلاقات إذا ما كانت المؤسّسات الدينية ترغب في كسب الأتباع. لذلك السبب، بقي المبشّرون الإنجيليون البروتستانت الأمريكان نشطين في أمريكا اللاتينية عقودا من الزمن، لكن تناميهم استمر بطيئا حتى عقب الحرب العالمية الثانية، إلى أن استُعيض عن العمل التبشيري تدريجيا بمهتدين محليين. وبالتالي، صار التنامي سريعا، حيث أعلنت الدوائر الإنجيلية البروتستانية، أن لها أتباعا كثيرون في شتى أطراف القارة، إذ في عديد الدول يشكل البروتستانت اليوم أغلبية الحاضرين في الكنيسة كل يوم أحد.
بالنتيجة، ينبغي الاعتراف أن التراجع في التزام المستهلكين، المرافق لتقلص القداسة، هو استنتاج وهمي، فالكنائس الاحتكارية توفّق دائما في الظهور بشكل شعبي وواسع أكثر مما عليه حقا. إذ العامل الهام لتقلّص القداسة في أوروبا وفي أمريكا اللاتينية يمكن أن يوحي بانتشار نوع من الفتور، أكثر من أن يعكس انحدارا للتقى. كما ينبغي الوعي أيضا بتأكيد المحتكرين دائما أن بتراجعهم، تلاقي الحياة الدينية عنتا، وقد كان علماء الاجتماع بالغي التسرّع في تصديق ذلك.
7- يشهد الترابط بين درجة توجيه الاقتصاد الديني وتكاليف بعث المنظمات الدينية الجديدة تراجعا حين تمارس الدولة إكراها أقل لصالح مؤسسة احتكارية ما، ويتم التصاعد بشكل مستجد لما تنتج التعددية الناضجة بشكل جيد سوقا مكتظة بشركات فاعلة وناجعة.
تشكل تكاليف البعث، البشرية منها والمادية، مصادر ينبغي أن تصرف قبل الدعم الذاتي للمؤسسة. وهناك مصدران مستقلان عن مصاريف البعث، ينبغي على الشركات الدينية الجديدة تخطّيهما. الأوّل ينبع من القمع، فعندما تعاقب الدولة الهراطقة، يصير التنافس مع الكنيسة الرسمية مكلفا، وعندما تصير الدولة متسامحة تغضّ الطرف عن الهرطقة، تتقلّص تكاليف البعث وتتنامى الأديان الجديدة. ولكن عندما يتواصل تحرر السوق الدينية وترتفع أعداد المتعارضين، يصير ولوج السوق أكثر صعوبة وأقل جدوى. وبالفعل، في الحالة التي تدخل فيها المؤسسات الناشئة في الاقتصاد، خصوصا عبر سياق تشكيل نحل جديدة، يكون التوفيق فقط جراء تحفز بعض المؤسسات وإقدامها، مسببة بذلك ثغرة في السوق.
الاقتصاديات الدينية الأوروبية الموجَّهة والاحتكارية
لإن تبدو أوروبا تشهد علمنة بينة، خصوصا في الشمال البروتستاني، فإن ما يلاحظ أيضا أن الاقتصاديات الدينية غير الموجَّهة والتعددية لاتزال في بداية التبلور. ففي عديد البلدان، خصوصا تلك التي تعدّ معلمَنة بدرجة عالية، فإن التدخلات العمومية والمساعدات الدينية، الرسمية منها وغير الرسمية، تواصل عرقلة السوق الدينية وكبح تطورها. يمكن الآن اختبار بعض العينات النموذجية لذلك:
أ- الاحتكارات الكاثوليكية
كتب ويليام. ف. باينبريدج رئيس المؤسّسة المعمدانية الأمريكية ورئيس وفود التبشير الخارجية سنة 1882، خلال زيارة لروما: "فتّش حرس شرطة البابا بيو IX كافة أمتعتنا لمنعنا من إدخال الكتاب المقدّس إلى المدينة المقدّسة". جرى هذا الأمر في وقت سالف، بيد أنه حتى السبعينيات، لايزال بإمكان الكهنة الكاثوليك فقط إجراء قُدّاس الزواج في إيطاليا، كما ليس بإمكان البروتستانت فسخ عقود زواجهم، إذا ما أُقرّت من الكنيسة الكاثوليكية. وبالإضافة، يسجّل القانون الإيطالي حتى الآن تضاعف التعدّيات العدائية ضد الإكليروس الكاثوليكي، ولا يعلن تواجد ما يماثل ذلك ضد الكهنة البروتستانت. ونجد الإذاعة والتلفزة الحكوميتين تبثان كل أسبوع ساعات عدة من البرامج الكاثوليكية، وبداية من سنة 1973، منَحت البروتستانت 20 دقيقة أسبوعية في الإذاعة و15 دقيقة في التلفزة.
في الثلاثين من أكتوبر من العام 1981، سحبت الحكومة البلجيكية بشكل نهائي تحجيرها التام، عبر السكك الحديدية أو عبر البريد، نقل مطبوعات "شهود يهوه" والتي من ضمنها الكتاب المقدّس. بالمثل حتى قبيل الاعتراف القانوني بشهود يهوه، ديسمبر 1974، كانت الشرطة البرتغالية تُصادر وبشكل روتيني كتابهم المقدّس ومطبوعاتهم الدينية، وعادة ما تعنّفهم بقسوة. فقد حيّت صحيفة لشبونة -Diario Popular- ذلك الاعتراف القانوني بقولها "أن تكون عنصرا من شهود يهوه... كان شيئا خطيرا، يعد الفرد لأجله خارجيا، لكن الوقت تبدل، فالآن ليس فقط أن تكون واحدا من شهود يهوه في البرتغال، بل يمكن أن تحشد العامة لما تشاء". وفي جانفي 1991، نقّحت البرتغال قانونا كان يسمح للكاثوليك فقط بتدريس مادة الدين، منِحت بموجبه بعض الحقوق للبروتستانت أيضا.
في 1970 أصدرت إسبانيا مرسوما للتسامح الديني، أجاز لغير الكاثوليك حق أداء بعض الوظائف الدينية. وفي 1992 وسّعت الحكومة الإسبانية إعفاءاتها المالية لتشمل تكتلات الجماعات البروتستانية الإنجيلية، سامحة لهم بحق تشييد المدارس، ومعترفة بالرعوية البروتستانية شغلا قانونيا. كيفما كان، فإن الحقوق الجديدة لم تتوسّع لتشمل الجماعات البروتستانية التي لا تنضوي تحت الفيدرالية أو غير المسيحيين. بالتالي، وبرغم ما دبّ من وهن بين عديد المؤسسات الاحتكارية الكاثوليكية في أوروبا، فإن جانبا كبير من الدول الكاثوليكية الأوروبية لم تحرّر اقتصادها الديني بعد ولازالت تفتقد لهيكلية تعددية.
ب- الاحتكارات البروتستانية
في أغلب البلدان البروتستانية الأوروبية، تواصل الدولة توفير الأديان بشكل مجاني، أو على الأقل الدين الذي دفع المستهلك سهمه فيه عبر الضرائب. كما تستمرّ تلك الدول في نصب العراقيل البيرقراطية أمام المؤسّسات الجديدة التي تحاول الدخول لسوقها الدينية أو تسعى للعمل فيه. ففي بعض الدول تتوفر المساعدة لكنائس مختلفة، وفي أخرى لواحدة فقط. والدين المجاني لا يعرقل التنافس فحسب، بل نجد إكليروس تلك الكنائس البروتستانية التابعة للدولة يوجه الأمور حسب مراده. نظرة متابعة للاقتصاد الديني السويدي من شأنها توضيح عديد المسائل.
تمثّل اللّوثرية السويدية نموذجا للمركّب الذي عليه كنيسة الدولة: فمنذ النشأة كانت هذه الكنيسة جهازا للدولة. فهناك عديد القوانين الخاصة التي تنظّم نشاطها مع الملك، وبصفته راعي الكنيسة، فهو الذي يعين رؤساء الأساقفة والأساقفة. وكما هو معلوم يولد المواطنون السويديون منتمين بالوراثة للكنيسة.
على مدى سنوات شغلت آلفا ميردال، زوجة غونّار ميردال، منصب وزيرة الشؤون الكنَسِية بالسويد، وهي ملحدة شهيرة واقتصادية يسارية. إنه لأمر نموذجي ومعبّر عن حالة الكنيسة السويدية، حيث عينت ميردال في سنة 1972 لجنة حكومية بغرض إنجاز ترجمة جديدة للعهد الجديد لأسباب ثقافية عامة. صرّح مساندوها الأكثر تحمّسا أن الترجمة، المنشورة سنة 1981، تحوي "تحريفات فاضحة من التفسيرات الوثوقية... وتتعارض مع روح التقليد الكتابي"، هذه الترجمة تعد في الراهن الحالي النسخة الرسمية المعترف بها من طرف الكنيسة السويدية.
ضمن هذه الوقائع، لاقت رسالة الكنيسة الروحية اهتماما فاترا، فلا يتذمّر الإكليروس من نقص المنضوين لأن الجميع منتمون للكنيسة، كما ليست هناك تشكّيات من نقص المساعدات، لكون الرواتب مضمونة. كيفما كان، فإن لامبالاة الإكليروس اللّوثري لا تمتد للقوى المنافسة. وبكون السويد تسمح لعقائد أخرى بالتواجد، فليس صحيحا أن تلك العقائد تتمتّع بحرية تامة، لمجرد نعتها بالكنائس الحرة. فمثلا، غالبا ما تلاقي الجماعات البروتستانية الإنجيلية صعوبة للسماح لها بالتسجيل القانوني للحصول على فضاء للالتقاءات العامة، وغالبا ما ترتفع العراقيل أمامها عند الاتصال ببيرقراطية دولة، تخلو من أي تعاطف عند تحدّي اللّوثرية الرسمية. بالنتيجة، تضم الكنائس الحرة 1% فقط من أفراد الشعب، لكن الجانب الكبير ممن يتوافدون على خدمات يوم الأحد ينتمون لتلك الكنائس، بما يقارب 70%.
وفي اسكندنافيا تهيمن شروط متشابهة، فقد لاحظ بيتر لودبيرغ، الأمين العام للمجلس المسكوني بالدنمارك، أن "البرلمان له سلطة مطلقة في تسيير الكنيسة الوطنية (الكنيسة الإنجيلية اللوثرية)" ، وكمثال على ذلك، أشار إلى أن البرلمان أقرّ قانونا يسمح بتواجد النسوة الراعيات في كنائس الدولة بما يخالف ما عليه كل الأساقفة باستثناء واحد منهم. علّق لودبيرغ بقوله: "مما هو جلي أن هذه المسألة لا تعد بمثابة الشأن الخاصّ بالحياة الداخلية للكنيسة، ولكن كشيء له صلة بالنظام الإداري للكنيسة الوطنية، أي أن المسألة ذات صلة بالبرلمان أكثر من كونها ذات صلة بالأساقفة".
كما أضاف لودبيرغ أيضا ان إكليروس الكنيسة الوطنية يعتبر كل النحل المسيحية الأخرى عبثية أو بالأحرى ضارّة، ومتبعا آدم سميث، أكّد لودبيرغ: ان أثرا آخر خطير للاحتكار الديني، أن الكنيسة الوطنية والتي تتميز عن كنائس وطنية أخرى في البلاد الاسكندنافية، فيها المشاركة في خدمات الأحد الصباحية منخفضة.
الحصر الكمّي للتأطير الديني
أجرى مارك كافز ودافيد أ.كين قياسا تابَعا من خلاله توجيه الاقتصاديات الدينية في 18 دولة، واعتمدا في ذلك سلّم تقييم بستّ درجات: "إذا ما كان(ت) هناك: 1- اعتبار كنيسة واحدة للدولة رسمية؛ 2- اعتراف رسمي من الدولة ببعض النحل دون غيرها؛ 3- تعيين من الدولة أو إقرار بتسمية رجال دين مشرفين على الكنيسة؛ 4- صرف مباشر من الدولة لجرايات موظفي الكنيسة؛ 5- نظام لجمع الضرائب الكَنَسِيّة؛ 6- مساعدات مباشرة من الدولة، بعيدا عن التساهل الجبائي، أو التصرف، أو الرعاية، أو صرف الأموال للكنيسة".
وبموجب ذلك تحصل كلّ دولة على نقطة معيارية طبقا للوظيفة التي تشغلها، فكانت الدول الحاصلة على صفر من النقاط، أي التي تملك اقتصادا دينيا غير موجّه: أستراليا وكندا وإيرلندا وزيلندا الجديدة والبلاد المنخفضة والولايات المتحدة. وحصلت فرنسا على نقطة واحدة، في حين إسبانيا والنمسا نقطتين. أما بلجيكيا والمملكة المتحدة وإيطاليا وسويسرا وألمانيا الغربية فقد حصلت كل منها على ثلاث نقاط، وأخيرا تحصّلت السويد وفنلندا على ستّ من النقاط.
يبين سلّم كافز وكين بوضوح الافتقاد العام في أوروبا لسوق حرّة للاقتصاد الديني. فقد سجّلت دولتان فقط من بين الدول الأوروبية الكبرى -إيرلندا والبلاد المنخفضة- نقاطا تعادل ما عليه الولايات المتحدة، حتى وإن كانت بعض الاحترازات متعلّقة بهاتين الحالتين. فحسب رأينا، البلاد المنخفضة مما ينبغي أن تسجّل نقاطا مماثلة لتلك البلدان الموجّهة الاقتصاد بشكل مضبوط. وفيما يتعلق بإيرلندا، لا ننتقد حصولها على صفر من النقاط حسب هذا السلّم، ولكن ما نود الإشارة إليه أن ذلك يمثل تحولا جديدا، وليس له بعدُ أي أثر جلي على التعدّدية. فالمادة 44 من دستور جمهورية إيرلندا، الذي صيغ سنة 1937، تقرّ ان "الشعائر العامة هي لوجه الله العظيم"، وتشير إلى "المكانة التي تحظى بها الكنيسة الرومانية الكاثوليكية الرسولية المقدّسة باعتبارها راعية للإيمان" والتي صدّت الدولة عن السماح بتقنين الطلاق، وقد جرى استفتاء سنة 1972 ألغى تلك المادة. ويعتبر إلغاء الصلات التشريعية بين الكنيسة والدولة، من أهم الخطى باتجاه بناء اقتصاد ديني متأسّس على مبادئ السوق الحرة، ومتّجه نحو تشييد تعددية ثابتة. فبالتوافق مع تأكيداتنا، سيتلكّأ التوجيه الواقعي لبعض الوقت، لأن التعددية لا يمكن أن تظهر بين عشية وضحاها.
اختبارات أوّلية للنظرية
إذا ما كنا مصيبين فيما يتعلق بأثر التعددية أو التوجيه على أنشطة المؤسسات الدينية، وبالتالي على المستويات المركّبة للمشاركة الدينية في المجتمعات، فينبغي أن نكون في مستوى تبني قياسات الأولى لتفسير التنوعات في الثانية.
جرت محاولة أولى لاختبار تلك الفرضيات استندت لـ14 دولة أوروبية، علاوة على أستراليا وزيلندا الجديدة وكندا والولايات المتحدة. وتمّ قياس التعددية بمؤشّر كلاسيكي لتركز السوق، اعتمد مؤشّر هرفنداهل، حيث تم توظيف معدلات التردّد الأسبوعي على الكنيسة كقياس للمشاركة الدينية. لم تشكل الولايات المتحدة حالة شاذة، لكن توجد قرب خط التراجع –فمعدل التردّد الأسبوعي العالي على الكنيسة، وغير العادي لديهم، يتناسب مع نوعية تعدديتهم المتطورة بدرجة عالية- فكانت لها نقاط من مؤشر هرفنداهل تساوي 12، بالمقابل مع حساب نقاط الدانمارك في 94 (كلما كان حساب النقاط أعلى، كانت التعددية أقل).
اختبار ثان للنظرية تركّز على الكاثوليكية، واعتمد على 45 دولة تنشط فيها هذه الكنيسة. عالج المقال التأكيد على أن مستوى التزام الكاثوليكي المتوسّط يختلف بين الدول بحسب نسبة الكاثوليك بين الشعب. إذ تجلو الكنيسة الكاثوليكية نشطة في تحريك أعضائها حين تتواجه مع اقتصاديات دينية تعدّدية أو شبه احتكارية بروتستانية، وتكون أقل حيويّة حين تقترب من الاقتصاديات الموجّهة. فالعلاقة بين الكهنة والنسبة المئوية للكاثوليك المسجلين تقلصت بـ73. كما نجد رصدا مماثلا لم يخفض تلك الصلة.
كذلك نجد اختبارا ثالثا للنظرية استعمل مفهوم التوجيه كما تم شرحه سابقا. فقد كانت الأعداد متحدّدة بالدول الـ18 نفسها الملحقة من طرف إياناكوني، وبيّنت النتائج أن مستوى التوجيه يتلازم سلبا مع معدّلات التردّد على الكنيسة: توجيه أوسع تردد أقلّ.
كما نجد ثلاثة اختبارات أخرى للنظرية كشفت عن أثر التعددية داخل المجتمع. فباستعمال معطيات مستخلصة من المدن الأمريكية سنة 1906، وجد فينك وستارك صلة قوية بين التنوع الديني (قيس عبر مؤشر هرفنداهل) ومستويات الانتماء للكنائس. وبالتوالي، استعمل لاند ودين وبلو أعداد الإحصاء الديني العائد لبداية القرن السالف لاختبار التعددية ودرجة الانتماء للكنيسة في أرجاء الولايات المتحدة، وأكدوا اكتشافهم حججا تناقض الموقف التقليدي القائل أن التعددية تفسد الالتزام الديني. فما تبينه معطياتهم كان بالحقيقة أثر التعددية فيه إيجابيا على تلك التجمعات الحضرية وسلبيا على التجمعات الريفية. أي كان، فكل النتائج التي تتأسس على التجمعات الريفية يمكن أن توضع محل نقاش بسبب صعوبات القياس. ففي المثال المعالج، نجد إحصائيات الانتماء للكنيسة في الأوساط الريفية غير دقيقة، لأن أفراد كل طائفة يعودون بالنظر لمحل تواجد الكنيسة. بالنتيجة، نجد بعض التجمعات تحوز نسبة انتماء مئوية عالية تبلغ 100%، في حين لا تحوز أخرى أي عضو، جراء أن الفلاحين عادة ما يجتازون حدود التجمعات للذهاب لكنيسة أخرى. تلك المشاكل تم التقليل من شأنها فيما يتعلق بالتجمعات الحضرية، ولذلك تجد النتائج المستندة على التجمعات الحضرية فقط معتمدة من طرف لاند ودين وبلو.
دراسة ثالثة أنجزت من طرف هامبيرغ وبترسون اعتمدت على 284 بلدية بالسويد واستعملت مؤشر هرفنداهل لقياس تنوع الكنائس ولقياس خدمات يوم الأحد أيضا، أوحت بآثار عميقة متعلقة بنسب التردد. الدراسة ذات أهمية مميزة، لأن مستويات التردد المنخفضة على الكنيسة، والتعددية المحدودة الموجودة بالسويد تقلل من التنوعات وترسي دعامات أكثر متانة.
بالنهاية، رأت دراسة متأسّسة على عدد كبير من الدول الأثر الإيجابي للتعددية على معدّلات الاهتداء الديني وعلى تبديل الدين. عادة ليس هناك انتظار لتبديل متكرّر للدين في الحال التي تتوفر فيها بدائل قليلة، بيد أنه نظريا، يمكن أن يحصل تبديل متعدد للدين حيث تتواجد كنيستان أو أكثر. وهناك انتظار محدود لتبديل الدين أين تغيير المعتقد فعلا منافيا للقانون، كما الشأن في عديد الدول الإسلامية. ومع ذلك يمكن أن يفسّر تغيير الدين باعتباره قياسا للحيوية الدينية داخل المجتمع: فحيث معدلات الاهتداء مرتفعة، يمكن معه افتراض أن عددا وافرا من الأشخاص قد تم تنشيطهم لحد الاستعداد الانقلابي لاعتناق معتقد لم يتربوا عليه.
لذلك، تؤكّد المعطيات المتوفّرة الفرضية المتعلّقة بالعرض، وبالأساس النظرية التي تمنع فيها الضوابط التدافع بين المؤسسات الدينية، أيضا وإن كانت المشاركة الدينية مشلولة. بعبارة مغايرة، أين لا يتوفر أمام الناس مزوّدون مختلفون بالبضاعة الدينية، تحضر مستويات منخفضة من الاستهلاك الديني.
لسوء الحظ، مساندة عديد علماء الاجتماع أطروحة العلمنة، حتى في الحال التي يظهرون فيها معرفة جيدة بالتفسير المرتكز على العرض، تبدو غير موفّقة للوصول لنتائج منطقية. ففي مقال منشور يبدو فرانك. ج. ليشنر متفقا مع ما ذهبنا إليه، يقول: "ضمن خط السير العادي يصير المجتمع عامرا بتقاليد حركات التجديد الديني وبسوق مشرَّعة، فتتواجد المبادرات الجديدة التي تنطلق بسهولة وبشكل قانوني، كما يكون اختيار الدين وتغييره شأنا مسموحا به وقانونيا. لكن لا يوجد ما يشبه ذلك في أغلب بلدان أوروبا الغربية.
نتساءل عمّا يحدث إذا ما تحرّر الاقتصاد الديني في أوروبا بشكل يمكن معه الاقتراب من الحالة الأمريكية. فقد قنع ليشنر في تفسير ذلك بـ"الخصوصية الأمريكية" ودافع عن وجهة النظر التي يمكن للحالة الأوروبية أن تتغير فيها فقط باتجاه حالة علمنة موسّعة. لذا أَليس من المتيسّر مساندة القول كون تلك المجتمعات تتوافق مع التفسير الذي يطرحه ولسون للعلمنة، في فضاء فَقَد فيه الضمير والأفعال والمؤسسات الدينية معانيها الاجتماعية؟ ولماذا الاحتكارات ضعيفة فقط اليوم؟ وكيف السبيل لمقاربة، من وجهة نظر العرض، أن تؤكد الاحتكارات الدينية القوية في الماضي؟ سنتولى الآن مناقشة تلك الأسئلة.
التقى العام في المجتمعات القداسية
ألِف عديد القول بتراجع الاعتقاد الديني بعد القرون الوسطى، فقد كانت أوروبا بأسرها حينها تنعم بحالة إيمان. لذلك شكّلت التقوى العامة المزعومة، أثناء "عصر الإيمان"، النقطة المرجعية الأساسية التي قاس عليها الدارسون العَلمنة الحديثة. وبالتالي تمثّل حقبة القرون الوسطى تحدّيا كبيرا لنظرية الحيوية الدينية المتأسّسة على العرض. إذ الأمر يتعلّق بمجتمع قداسي، تساند فيه الدولة قوى الاستئثار بالاقتصاد الديني، فيه التميز للامبالاة الدينية لا للتقوى العامة.
نرى أن حدث بلورة نظريتنا معبّر، وذلك قبل معرفة أن بعض مؤرخي الدين في السنوات الأخيرة، جمّعوا شهادات تثبت أن العامة في القرون الوسطى كانت غير متديّنة فعلا، وعلى الأقل فيما يتعلق بالمشاركة الدينية، أساسا كما ترى النظرية. فقد لخص أندريو غريلي تلك النتائج التاريخية بإيجاز في قوله: "ليس هناك أي داع للاعتقاد أن الجموع الفلاحية في أوروبا كانت على ورع مسيحي، بالمعنى الذي نحمّله عادة لهذه الكلمة. ولا يمكن القول بتراجع المسْحَنَة، بالمعنى العادي للمصطلح، لأنه ما كانت هناك مسحنة أصلا، فأوروبا المسيحية ما تواجدت قطّ".
فالحفاوة الكبيرة بالتقوى القروسطية قد تكون ميّزت النبلاء، لكن المشاركة الدينية بين الشعب تبدو محدودة جدا. استنتج جان دلومو أن القرون الوسطى ما كانت مسيحية بأي معنى، فقد كان الفلاحون يعبدون بعض الأرواح التي عبّأها الفلكلور بمدلولات مسيحية. وبشكل مماثل وصف جان شنيدر الدين في تلك الفترة بالطابع الأرْوَاحي، مبرزا أن القدّيسين المسيحيين يشكلون جانبا فحسب، من تلك الكائنات الغيبية التي تتضرّع لها العامة، طلبا للخلاص والإحسان. تعليل هذه الحالة بحسب غريلي، كون العامة كان متغافلا عنها من الكنيسة في القرون الوسطى، لافتقاد الوسائل أو "لعلها الحوافز لشحن العامة الفلاحية دينيا". كما لاحظ بول جنسون، أن الكنيسة بشكل عام كانت تقوم بجهد متواضع، وأحيانا ينتفي ذلك، للتواصل مع العامة، في فترة كانت فيها الجموع تقريبا تنتمي للعامة: "الحقيقة أن الكنيسة تنزع نحو معاداة الفلاحين، فقد كان القديسون الريفيون قلّة. كما كان الكتّاب الكنَسِيون في القرون الوسطى يبرزون صلافة الفلاحين وتقتيرهم، والحقيقة أن هناك شحّا في المصادر المتعلقة بالحياة الفلاحية في الوثائق... إذ كانت الكنيسة دائما ظاهرة حضرية... فمن النادر مشاهدة قسّ في الأرياف". وقد لاحظ ماكس فيبر أيضا أن كنائس القرون الوسطى كان موقفها مرتابا من الفلاحين.
في دراسة لروزالند وكريستوفر بروك تناولا فيها الدين الشعبي أثناء القرون الوسطى، لاحظا في بحثهما المسهب المتابع للكنائس الخورنية التي تواجدت بأوروبا، أن الكنيسة النموذجية كانت "علبة ضيّقة بخورس صغير، فما كانت بمجملها أرحب من قاعة أكل عادية في منزل حديث". يشرح بروك العلاقة الناشئة عن هذه الظروف بين الكهنة وأتباع الخورنية أثناء القدّاس، بأنها كانت توحي بانتشار مواقف اللامبالاة. فهناك قول بأن أغلب الخورنيات في العصر الوسيط، تغطي فضاء واسعا جدا، والحال أنه من المستحيل حشر أكثر من مجموعة صغيرة في تلك المحلات.
وفي دراسته الكلاسيكية "الدين وتراجع السحر" لاحظ المؤرخ الإنجليزي كيث توماجوهريا. بالإضافة، يحتمل أن الإنجليز كان ميلهم أقل من الأمريكيين والكنديين للانتماء الرسمي للكنيسة، بناء على أن أفراد الشعب الذين يترددون على الكنيسة أكثر مقارنة بما يجلو بحسب القوائم الرسمية للكنائس: فالـ24% في 1982 صرحوا بتردّدهم على الكنيسة مرة في الشهر على الأقل. وبأي شكل، إذا ما كانت بريطانيا الحديثة لا تبدو التقوى فيها جليّة، فهذا يمكن أن يوظف كحجّة للعلمنة، فقط عبر فرضية زائفة عن ماض ورع.
لكن إذا ما كانت الفترة الوسيطة ليست فترة ورع، ماذا يمكن القول بشأن إيرلندا الحديثة؟ ومن يستطيع أن يصنف إيرلندا الكاثوليكية والتقوية في النصف الأول من القرن XIX مجتمعا عَلمانيا؟ ففي تلك الأيام أبدت إيرلندا بشكل جلي مستوى من اللامبالاة الدينية، ننتظر العثور عليها في الاقتصاديات الدينية الموجّهة. لقد كتب لاركين: "إذا كان كل الكهنة في إيرلندا يقومون مثلا بقُدّاسَيْن مكلّفين بهما كل يوم أحد خلال 1840، سيكون هناك 4300 قُدّاس لمجموع 6.500.000 شخص أو سيكون هناك قدّاس لكل 1500 شخص. في حين ما كان يتوفّر أي مُصلَّى أو أيّة كنيسة في إنجلترا قبل المجاعة الكبرى قادرة على استيعاب ألف من المؤمنين.
 تثبت عديد الأدلة أن أقل من ثلث الإيرلنديين كانوا يتوافدون على القدّاس في 1840، وأن التردد ما كان مرتفعا أبدا منذ زمن بعيد. الحفاوة الكبيرة بالتقى الإيرلندي من خلال تردّد ديني واسع تراوح حول 90%، حصل إثر المجاعة الكبرى، تمّ حين باتت الكنيسة الأداة الأساسية التي يناضل الوطنيون الإيرلنديون عبرها ضد السيطرة الخارجية. في هذه الظروف، نجد مستويات متطوّرة من المشاركة الدينية نموذجية للاقتصاديات الدينية الموجَّهة، كما كان الحال في بولونيا ومالطا والكيبيك.
بنفس الشكل الذي اتسمت به أوروبا القرون الوسطى بسمات تقوى تكاد تكون شاملة، اتخذت إنجلترا الجديدة المستعمرة معقلا للإيمان. فقد أوردت مؤسسة - Church of England Society- للتبشير بالإنجيل في الأراضي الأجنبية، ان إنجلترا الجديدة كانت "الفضاء الوحيد المبشَّر بشكل جيد بين المستعمرات الأمريكية". والحال أنه لم يكن هناك أي فضاء مبشّر بشكل جيد في أمريكا المستعمرة، فأقلّ من 20% من سكان الكومنويلث بمساشوسيت ينتمون للكنيسة، وهي تقريبا نفس النسبة المئوية التي لدينا في المستعمرات الأخرى. يعكس هذا المستوى من المشاركة ما ينتظر في مجتمع فيه التعددية واهنة. حيث يميز التجمّع كنيسة المساشوسيت الرسمية إلى حدود 1833، فقبل الحرب الثورية كان هناك باستمرار قمع متعسّف مسلطا على كافة العقائد الأخرى. وإذا ما كانت إنجلترا الجديدة غير مبشّرة نسبيا، فقد كانت في نفس الوقت مجتمعا قداسيا بدرجة عالية، دمجت فيه الضوابط الطهرية في القانون التشريعي، مما أوهم بإضفاء تقى عام.
إضافة ففي إنجلترا الجديدة، الدولة الناشئة، تبقى معدّلات الانتساب والتردّد على الكنيسة منخفضة، إلى حد أن خَلَق التحرير اقتصادا دينيا تعدديا خاضعا لمؤسسات شرسة. فبدءا من 1850، ضاعفت المجهودات المبذولة من طرف الميتوديين والمعمدانيين، وبمشاركة متواضعة من الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، عددَ الانتساب الديني في إنجلترا الجديدة وللدولة بشكل عام.
الدين الذاتي والطلب المكثّف
برغم المستويات المتدنّية للأنشطة الدينية، يرفض العديد التأكيد، أن أوروبا في العصر الوسيط، وإنجلترا الجديدة الاستعمارية، وإيرلندا قبل المجاعة الكبرى، كانت مجتمعات معلمَنة بدرجة عال، لما يبدو من أن الشخص العادي، كان متديّنا بحسب المعنى العام. وبعبارات مغايرة، يحوز أناس كثيرون، إن لم نقل الأغلبية، نوعا من التجانس العقدي الديني، يمتزج فيه السحر والأرْواحية بالمسيحية. بالإضافة، نؤوّل هذه الاتجاهات الدينية العامة، باعتبارها نماذج للطّلبات القوية داخل الدين الموجّه في تلك المجتمعات، بصدد انتظار تنشيط من مزوّدين متحفّزين. وإن ساد افتراض تديّن عام في الماضي لإظهار علمنة أوروبا الحالية، فنحن نرى أن الملاحظة نفسها يمكن تطبيقها اليوم بنفس القناعة. وبشكل مغاير، تبدو أطروحة العلمَنة قوية حين تقاس بحسب المشاركة في أديان موجّهة، لكنها تبدو زائفة حين يقاس الدين فيها من وجهة نظر ذاتية.
ما يدعونا للانطلاق من الحالة الإيزلندية كون هذا البلد طالما عُدّ من أكثر البلدان المعلمَنة في العالم، لذا يبدو من المناسب الانطلاق من تلك الحالة. يستند اعتبار إيزلندا معلمَنة بدرجة عالية، على أمرين: الأوّل، أن التردّد على الكنيسة فيها منخفض جدّا، يقارب 2% أسبوعيا؛ والثاني، أن الضوابط الجنسية فيها أكثر تسيّبا؛ ونفس تلك المحدّدات جرى استعمالها لتصنيف كافة البلدان الاسكندنافية كونها مجتمعات عَلمانية. بيْد أن ويليام سواتوس يشير لمستويات عليا من الدين المنزلي في إيزلندا الحالية؛ كما أن هناك تقديرات مرتفعة للتعميد؛ بالإضافة أن كلّ الزيجات تعقد تقريبا في الكنيسة، وأن "الاعتقاد في خلود الأرواح شائع" كما يظهر على أعمدة الصحف المخصّصة للتعازي، والتي تدوَّن عادة بقلم صديق حميم للمتوفّي وليس من طرف صحفي، وهو أمر لم يكن منتظرا في مجتمع يعتبر الأشدّ علمانية في العالم. فكما يبدو في الجدول رقم: 1، من خلال الإجابة على سؤال "بقطع النظر عن الذهاب إلى الكنيسة، أوتحسب نفسك شخصا متديِّنا؟"، أجاب 66% من الإيزلنديين بـ"نعم"، كما صرح 75% باعتقادهم في الله، و2% فقط صرحوا بإلحادهم باقتناع. بشكل جلي ليس هذا ما يراد بالعلمنة عادة، وبالتالي ليست هذه الأرقام بعيدة عمّا بالولايات المتحدة، أين يُعرِّف 74% أنفسهم بكونهم متديّنين، ويصرح 95% بإيمانهم بالله ويكشف 1% عن إلحاده. لذلك عندما نولّي النظر شطر الدين الشخصي والذاتي، لا يبدو الأمريكيون والإيزلنديون مختلفين. ولكن عندما تكون مستويات التردد على الكنيسة هي أساس المقارنة، فإن الأمريكيين يتقدّمون قرابة عشرين مرة، ليصنّفوا أكثر تديّنا مقارنة بالإيزلنديين.
الجدول رقم: 1
مقارنة بين المشاركة الدينية والتديّن الذاتي في البلدان الأوروبية "الأكثر علمنة"

البلد

النسبة % للتردد على الكنيسة أسبوعيا

النسبة % للذين يعتقدون في الله

النسبة % للملحدين عن قناعة

النسبة % للأفراد "المتدينين"

إيزلندا

2

75

2

66

الدنمارك

3

55


النرويج

5

68

3

44

السويد

6

52

6

32

فرنسا

11

60

10

50

بريطانيا

14

74

4

56

ألمانيا الغربية

20

70

3

55

يظهر الجدول رقم: 1 البلدان الأوروبية التي تقدّم كأمثلة بارزة على المجتمعات المعلمَنة. فبالاستناد على المعدّلات المنخفضة للتردد على الكنيسة، خصوصا في البلدان الاسكندنافية، يبدو الدين منحصرا داخل أقلية ضيّقة ويشغل شرذمة متخلّفة فحسب من الشعب، على حدّ تصريح العديد بذلك. ولكن يتبدّل الإطار جذريا حين نعالج القياسات الذاتية للإيمان الفردي، ففي كل دولة، تظهر الأغلبية -وعادة أغلبية جوهرية- إيمانا بالله، في حين يبدو الملاحدة عن روية قلّة. كذلك، إذا ما تم استثناء النرويج والسويد، فإن أغلب أفراد كل دولة تطبعهم سمات "الشخصية المتديّنة". بالتالي، فبعد عقد يصرّح بعض النرويجيين كونهم غير متدينين، كما يبدو من خلال الجدول رقم: 2. وإن كانت تغطي هذه الإحصائيات دولا أدنى فإنها تؤكد نفس النتائج، فاختلافات التديّن الشخصي بين الدول "المعلمَنة" والدول "الورعة" أقل بكثير مما يأمله منظِّرو العلمنة، ففي الدول السبع، يعتقد معظم الناس في حياة بعد الممات ويرون أن الكتاب المقدّس موحى من الله، ومما يقارب الثلث يعدّون أنفسهم غير متديّنين.

الجدول رقم: 2   التدين الذاتي، 1991

البلد

النسبة % للذين يعتقدون في الله

النسبة % للذين يعتقدون في حياة بعد الممات

النسبة % لغير المتدينين

النرويج

52

60

21

ألمانيا الغربية

63

54

31

هولندا

57

53

27

بريطانيا

49

54

26

الولايات المتحدة

85

78

9

إيرلندا

80

80

14

بولونيا

76

74

11

 

تثبت تلك الإحصائيات جليا، بحسب التفسير من وجهة نظر العرض، المستويات المنخفضة للمشاركة الدينية في شمال أوروبا. إذ تبيّن الأعداد أن وفرة الطلب تختلف قليلا بين تلك البلدان، وبالتالي لا يمكن لنقص الطلب إثبات مستويات المشاركة الدينية المنخفضة فيها، فما يختلف حيوية المزوِّدين الدينيين وتنوّعهم. يظهر لنا أن ما يقلّل من شأن ذلك المفهوم للعلمنة، الذي يصنف الدول معلمنة، نقص الحراك الديني وافتقاد المشاركة النشيطة في الدين الموجّه. فما يبدو لافتا أن بعض المستويات العالية من الإيمان الذاتي يمكن أن تتواجد في دول، فيها الدمج الاجتماعي الديني الموجَّه غائب بشكل عام.

وإذا ما تجاوزنا التديّن الفردي وركّزنا على المنظّمات الدينية، فإن السؤال الأساسي هو: ماذا يحصل لمستويات الحراك الديني في تلك الدول إذا ما افتقدت التوجيه بشكل تام، وجرى تطوير مؤسّسات دينية قوية؟ يملي تحليلنا أن تظهر في الدول الأوروبية مستويات عالية من المشاركة الدينية مماثلة لما يوجد في الولايات المتحدة وكندا. إذ لما يعيش الأوروبيون في اقتصاد ديني من النوع الموجود في أمريكا الشمالية، يتّسم بصبغة تنافسية وغير موجّه، ويتميز بكمّ هائل من المزوّدين النشطين، فسيجيبون بنفس الشكل الذي عليه ذويهم، الأمريكيين والكنديين. قبل سبر غور هذا السؤال، يجدر تلخيص التطوّرات المستجدّة في أمريكا اللاتينية.

تنامي البروتستانية في أمريكا اللاّتينية

منذ سنوات خلت صرّح دافيد مارتان لأحد زملائه الإنجليز، أنه يفكّر في تأليف كتاب عن البروتستانية في أمريكا اللاتينية، فجاء تعليقه أن الجواب الذي ستحصل عليه سيكون: "بالمؤكد كتابا صغير الحجم". وبعد أن صدر كتاب مارتان: - Tongues of Fires: the Esplosion of Protestantism in Latin America - سنة 1990، كان المؤلَّف الثاني خلال تلك السنة حول نفس الموضوع، إذ سبِق بكتاب دافيد ستول: - Is Latin America Turning Protestant? Politics of Evangelical Growth.- فحتى قبيل إصدار هذين الكتابين، كان تنامي التعددية المتسارع في أمريكا اللاتينية والحضور القويّ للمؤسسات المتنافسة مهمَلاً في دوائر المثقفين. فقد كان الإقرار بحصول تغيرات أمرا مستبعدا، وكان يسود اتفاق أن لاهوت التحرّر الكاثوليكي سيكون مستقبله حافلا في دول أمريكا اللاتينية، لكن تفجّر البروتستانية الإنجيلية جرى التقليل من شأنه وعدّ أمرا ميؤوسا: من هنا كانت الردود الفجّة على كتاب مارتن. وإذا ما كان مارتن وستول يستحقّان فعلا تقديرا، فمن الصائب أيضا قول أن كتابيهما لم يصدرا في اللحظة المناسبة. فدراستيهما كان ينبغي أن تنجزا في الستّينيات حين أقلعت حركة البروتستانت الأنغليكان. فخلال تلك السنوات تمت هداية ما يقارب 12% من الشعب الشيلي، بالإضافة إذا ما أخذنا في الحسبان أعداد المشاركة المنخفضة للكاثوليك في أمريكا اللاتينية، نجد الأقليات الإنجيلية الصغرى تمثل نسبة هامة من الناشطين دينيا. مثلما عليه الأمر في السويد، أين أغلب الذين يتوافدون على الكنيسة يوم الأحد ينتمون إلى نحل دينية مغايرة لكنيسة الدولة، هكذا الأمر في دول أمريكا اللاّتينية، حيث عديد الذين يذهبون للكنيسة هم بروتستانيون، برغم أن الأغلبية الكبرى من أتباع الكاثوليكية. ولهذا، كان تنامي البروتستانت خلال الخمسينيات أكثر أهمية مما يتيسّر استخلاصه ظاهريا.

فما ينبغي التنبّه له أن كثيرا مما كتِب عن التنامي السريع للبروتستانية بأمريكا اللاتينية منذ الخمسينيات، أن ظهرت مادته فقط بين المنشورات المختصّة، مثل: - International Bulletin of Missionary Research-، التي بعثت في نيوهافن سنة 1950، وأيضا في: - Mission Handbook-، التي تصدر في الوقت الحالي في طبعتها الخامسة عشرة، وأن ملايين الأمريكان والكنديين فقط، ممن يسهمون بانتظام في تمويل حملات التبشير في أمريكا اللاتينية، ممن كان لهم علم بـ"تفجّر البروتستانية"، لقد تطلّب عالم المثقفين زهاء ثلاثين أو أربعين سنة للتنبّه لذلك.

نظرا للعامل الزمني الذي كان حاسما للدراسين لإدراك التحوّلات الدينية بأمريكا اللاتينية، فليس من المبكر اليوم في الحالة الأوروبية البدء بتقييم إمكانية ظهور اقتصاديات دينية متعددة، وبمؤسسات نشيطة قادرة على توفير أنماط إنتاج تمت تجربتها سلفا، يحدد نشاطها حراكا دينيا عاليا. كما يبدو من المناسب البدء في هذا التقييم، لأن هنا وبشكل مدقق تتلاقى تأمّلاتنا النظرية.

أنجلة أوروبا

تحضر المصادر التي أوردت تنامي البروتستانية الإنجيلية في أمريكا اللاتينية مرجعية للانطلاق، كذلك أيضا بشأن التنامي السريع لمجهودات الحملات التبشيرية عبر أرجاء أوروبا. ففي الطبعة الرابعة عشرة لكتاب: - Mission Handbook- لاحظ ويليام دايرناس أن أوروبا كانت "الفضاء الذي انطلقت منه حملات التبشير الحديثة المبكّرة، واليوم تجد نفسها، وبقدر ساخر، هدفا لحملات تبشير مضادة". فقد تم تنشيط عدد كبير من المبشّرين وتحريك أموال وافرة للحملات من أمريكا الشمالية نحو أوروبا. (يلخص الجدول رقم: 3 تلك المجهودات). وبشكل عام، نجد عدد المبشرين البروتستانت الأمريكيين والكنديين العاملين في أوروبا، بتفرّغ تام لأداء مهامهم، يتنامى من 1871 مبشِّرا سنة 1972 إلى 5122 سنة 1992، ما يقارب ثلاث مرات. تحوز ألمانيا العدد الأوفر متبوعة بفرنسا فالولايات المتحدة ثم إسبانيا. ولا ننسى أن تلك الإحصائيات تغفل عن أكثر من 6000 مبشّر مرموني يشتغلون بوقت تام، ما يقارب الألف منهم في إسبانيا وحدها -مثلما هو شأن المبشِّرين الكاثوليك الأمريكيين الذين تم إرسالهم للبلدان الاسكندنافية-. وهذه الأعداد لا تشمل أيضا آلاف المبشّرين التابعين لشهود يهوه، العاملين نصف الوقت والناشطين في كافة أرجاء القارة. والحضور الحقيقي للمبشّرين لا يضمن بالضرورة حصول اهتداء، بيْد أن الأرقام المتوفرة تبرز التنامي السريع. فمثلا تنامى "شهود يهوه" في أوربا من سنة 1980 إلى 1992 بـ72%، وبالمقابل بـ59% في الولايات المتحدة. لذا يحوز "شهود يهوه" في الوقت الحالي أتباعا أوفر في أوروبا مما في الولايات المتحدة، حتى وإن كان العدد الجملي بالنسبة لألف متساكن لا يزال أقل. وبالتالي فشهود يهوه أكثر قوّة نسبيا في البرتغال وفنلندا من أمريكا، والرقم في إيطاليا مرشح أن يتضاعف خلال مدة وجيزة.

الجدول رقم: 3

المبشِّرون البروتستانت الكنديون والأمريكيون بأوروبا

البلد

1972

1975

1979

1992

النمسا

 

165

220

356

بلجيكيا

 

158

226

346

الدنمارك

 

13

10

9

فنلندا

 

4

43

17

فرنسا

352

416

652

826

اليونان

 

42

65

78

إيزلندا

 

2

1

11

إيرلندا

 

55

89

186

إيطاليا

 

190

248

295

هولندا

 

151

124

212

النرويج

 

26

23

32

البرتغال

 

53

109

197

إسبانيا

 

228

346

573

السويد

 

34

55

46

سويسرا

 

79

70

89

المملكة المتحدة

139

170

504

657

ألمانيا*

391

445

616

842*

غيرهم

1.069

77

124

350

المجموع

1.871

2.308

3.525

5.122

* يعتمد المجموع قبل 1992 على ألمانيا الغربية، حيث لم يقبل المبشرون في ألمانيا الشرقية وقتئذ.

نشير أن مصير أوروبا مستقبلا لا يخضع لتعليمات دينية وافدة من أمريكا الشمالية، فالحركات البروتستانية الإنجيلية المحلية بصدد التنامي أينما كان. ففي فرنسا مثلا، تنامت تجمّعات الربّ بنسبة 333% بين 1980 و1990، وتنامى المعمدانيون بنسبة 43%. وحتى وإن كانت هذه الحركات البروتستانية صغيرة حتى الآن، سواء في أوروبا الغربية أو الشمالية، وحتى وإن برزت أيضا عوامل أساسية في أوروبا الشرقية، فإن ذلك لا يهوّن من الحالة، إذ أغلب الذين يرتادون الكنيسة بانتظام في اسكندنافيا ينتمون لإحدى هذه الجماعات، حتى وإن كان سوق المستهلكين الناشطين في هذه الدول محدودا ومسيطرا عليه من طرف مؤسّسات متنافسة فيما بينها، وتتناقض مع كنيسة الدولة. لقد كانت نتيجة أساسية حاضرة باستمرار تتمثل في الضغط المتواصل باتجاه تحرير السوق ورفع الحواجز. وبالتالي إذا ما كانت نظرية العرض صحيحة، بالشكل الذي تتطور به اقتصاديات دينية أصيلة، فإن هذه المؤسسات الجديدة والحيوية ستنمو بشكل متسارع.

فما يلاحظ أن ما يقارب نصف أفراد البلدان الأوروبية "الأكثر علمنة"، والمعالجين في الجدول رقم: 1 ينتقدون كنائسهم الوطنية لأنها لا توفر إجابات مناسبة للمسائل الخلقية للفرد. فالنسبة المئوية للأفراد الذين يساندون هذا الموقف تتراوح بين 57% في السويد، و56% في الدنمارك، و54% في فنلندا وإيزلندا، حتى 46% في المملكة المتحدة والنرويج. الأمر الذي يوحي باستعداد العديد للاستجابة لرسالة دينية حيوية تدعمها منظّمات نشيطة.

ما مدى تديّن المجتمعات المتديّنة؟

في الجزء الأول من هذه الدراسة، أشرنا إلى أن المجتمعات التي تخضع لاقتصاديات دينية موجّهة، لطالما اعتبرت متديّنة بشكل عام، والحال أن بعض المجتمعات تظهر مستويات متدنّية من المشاركة والالتزام الدينيين. في الحقيقة، نحن نرى أن في الاقتصاديات الدينية غير الموجهة فقط، وبتوفر مؤسسات دينية كثيرة متنافسة فيما بينها، تكون مستويات الالتزام عالية. لكن ما المراد بلفظة عالية؟ بتعبير مغاير، إذا ما قدِّر للتعددية الموسّعة أن تتطور في أوروبا، فما مقدار التديّن الذي سيكون الأوروبيون عليه؟

فمن خلال اعتبار الدين بضاعة جزافية، وأن الأفراد عادة ما ينمّون مغانمهم المباشرة عبر العطالة الدينية، لذا يبدو مستبعدا، أن أي درجة من التعدّدية والمتاجرة، يمكن أن توفّق في اختراق جذري للسوق. فنسبة الأمريكيين الذين ينتمون لجماعة محددة -ليس أولئك الذين يعبرون عن اختيار ديني بسيط في الحوارات- تحوم حول 65% منذ عدة عقود، ولا تبدي أي اتجاه للإجابة عما يتعلق بالدوائر الاقتصادية الكبرى، ولعل هذا هو السقف الأعلى في ظل شروط نمط حياة عصرية. تحت أي شكل، فمما يستلزم تذكره الزمن الذي تطلّبته التعددية الحرّة في أمريكا لبلوغ هذه النتائج، إذ في القرن العشرين فقط انتسب نصف الأمريكيين إلى كنيسة محددة، لذا ليس هناك داع لاقتراح مدّة أقل فيما يتعلق بالحالة الأوروبية.

خلاصة

أطروحة العلْمنة قديمة قدم علم الاجتماع، وقد مثّلت منطلقا أساسيا ارتكز عليه هذا الحقل. فلما صاغ أوغست كونت عبارة سوسيولوجيا كان يطمح ليأخذ هذا العلم المستحدث مكان الدين، كأساس للأحكام الخلقية، وهكذا يتم بلوغ أوج سياق العلمنة. فقد سلّط مشاهير الدارسين الأوائل للمجتمع انتباههم على الدين مترجّين أو متطلّعين اندثاره في القريب.

وعلى مدى القرن العشرين، تدعّمت ثقة العلوم الاجتماعية في العلمَنة إلى حد يمكن القول معه انه لم يتمتع أي مقترح آخر في العلوم الاجتماعية بذلك الشكل من الرضا الواسع. ولكن خلال العقدين الأخيرين، تراجعت الثقة في أطروحة العلمنة، خصوصا بين علماء الاجتماع والمؤرخين العاملين في حقل الدين، هذا التمشّي نعته ستيفن وارنر بتحوّل في المعايير العلمية. لكن لعلّ الحدث الأكثر إثارة يتمثّل في أن المعرفة المتنامية والمتعلقة بتقدم العلمنة، خصوصا في أوروبا الحديثة، بدأت تتنبّه لتأسّسها على إدراك خاطئ لتديّن هذه المجتمعات في الأزمنة القديمة. فعلى هذه الأساسات، انتقد توماس عالم الاجتماع دوركهايم وعلماء اجتماع لاتاريخيين لما أضفوه من مثْلنة ورومانسية على القرون الوسطى؛ حيث لاحظ توماس "ما كان هناك تنبه كاف للخمول وللتنوعات الدينية وللغنوصية التي طالما تواجدت قبل عصر التصنيع". وقد عبّر كليفورد غيرتز عن نفس النقطة في ما تعلق ببعض المجتمعات بقوله: "الدراسة الإناسية عن إهمال الالتزام الديني مفتقدة. إذ تصير إناسة الدين مستقلّة حين يصوغ مالينوفسكي آخر، له من النباهة الثاقبة، كتابا بعنوان -الإيمان واللاإيمان-، أو بالأحرى الإيمان والنفاق في المجتمع البرّي". فقد تم حقا إيلاء اهتمام ضئيل للاّاعتقاد في مجتمعات ما قبل الصناعة، وكذلك أيضا اهتمام ضئيل لمستويات الاعتقادات الدينية الشخصية في تلك المجتمعات التي يعتقد الجميع أنها معلمنة.

فما يبدو جليا أن أطروحة العلمنة قد حرِّفت، وأن المستقبل التطوّري للدّين ليس في الاندثار. فالدليل الاختباري يظهر أن حيوية المؤسّسات الدينية تتماوج بشكل متلائم مع الوقت، سواء بمعنى التنامي أو بمعنى التراجع، والتديّن الشخصي يبدو كذلك يتنوع بضآلة دقيقة. وما يعوز سلسلة المقترحات النظرية التي تعاين وتفسّر تلك التموجات.

في هذا النص عرضنا طرحا مجملا لبعض المقدّمات، نتمنى أن تشكّل بداية مثمرة. إذ نرى من الهام تحوير مستوى التحليل، من المصادرات السيكولوجية ومن الحاجات الدينية باتجاه المصادرات السوسيولوجية وباتجاه عمل الاقتصاديات الدينية للإحاطة بإمكانيات دفع الطلب الديني أو شده فيها. نرى أيضا أنه آن الأوان لإرجاع مقولة العلمنة للفضاء الذي أنتجت فيه: لرؤى أوغست كونت غير العلمية بشأن عالم المستقبل الجليل.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟