عن تعيير قدماء اللغة للفصاحة - ثريا خربوش

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاس1. تقديم
نحاول في هذه المقالة رصد مواقف المختصين، وغير المختصين من اللغة. ثم نعرِّف بالتعيير اللغوي، وأهدافه ومزاياه، وتقاليد المحافظة عليه، وسلبيات وحدوده في واقع اللغة والاستعمال. بعد ذلك، نناقش، على ضوء ما أوردناه، مواقف القدماء من الفصيح والفصاحة، ونقف على عدد من الثغرات.
2. مواقف الناس العاديين من اللغة
تسير المواقف العامة التي يعتقدها الناس، بصفة شخصية، في اتجاهين.1 الأول معاكس لاتجاه المختصين من اللغويين، والثاني مضاد لمعتقدات الناس أنفسهم، ولما يمارسونه، فعلاً، ويُظهرونه من خلال سلوكاتهم اللغوية. وتتجلى التصورات المعاكسة للمقاربات المختصة فيما يُصدره الناس من أحكام قيمة (value-judgement). فقد تعود الناس منذ قدم الزمان على تصور اللغة رمزاً لما تشير إليه في الواقع الخارجي. ولعل الاعتقاد بوجود تلك العلاقة هو ما يجعلهم يتجنبون الكلمات التي يظنون أنها تتوفر على خصائص سحرية، أو أنها موضوع للمحرم والطابو (tabu) أو أنها تحيل على الإله أو المرض أو الجنس أو الموت. ويدخل في هذا الإطار تجنبهم الكلمات التي تقترن بالوظائف الجسدية، ويستبدلونها بأخرى لائقة في السياقات غير الرسمية، وتقنية في السياقات الرسمية ( غائط، مثلاً ). وحين يرى الناس الخنزير يتمرغ في الوحل يعتقدون أن اسمه ينطبق عليه، وأنه ما سمي بذلك إلا لعادته المقرفة تلك. وكما يتصورون وجود خصائص السحر والمحرم والسلطة في الكلمة، يذهبون مذاهب أخرى أسبابها مجتمعية وثقافية وطبقية، فيعتبرون بعض اللهجات أجمل من أخرى، وبعض اللغات أحسن من أخرى، وبعض البنيات النحوية والصوتية أكفى من أخرى.
ولقد ذهب اللسانيون وعلماء النفس الاجتماعيون الذين درسوا المواقف العامة إلى أن الناس يُصرحون بأشياء، ويُمارسون أخرى. فقد يُدينون استعمالاً لغوياً معيناً إذا سمعوه من آخر، في الوقت الذي يستعملونه، هم أنفسهم، وقد يُجيبون على جامعي المعلومات بكونهم يستعملون المتغيرات المعيار، أو النطق المعيار، أو اللغة المعيار، مع أنهم، في الحقيقة، يستعملون النماذج غير المعيار. ويُفسر الدارسون السوسيولسانيون مفارقة استعمال نموذج، وادعاء غيره بوعي الناس وإدراكهم بما يتفق مع النمط العام، أي ما يُعرف بمصطلح المُقَْولَبات المجتمعية (social stereotypes)، وبالقيم التي تُلصق بالاستعمالات اللغوية واللغات. إنهم حين يظهرون عكس ما يُمارسون أو يعتقدون يتجنبون وصف الآخرين لهم بالجهل أو الدونية وعدم الرقي، وغير ذلك من الأحكام التي تقترن باستعمال "أحسن الناس" أو "أفضل الناس" في المجتمع.

3. موقف اللسانيين من اللغة
عملت اللسانيات الحديثة منذ سوسير (1915) على ترسيخ مذهب اعتباطية الدليل (sign) الذي يُشير إلى أن الأشكال اللغوية لا صلة لها بما ترمز إليه، وتحيل عليه من مراجع (referents) في العالم الواقعي. أي إن السلاسل الصوتية في كلمة مثل كلب أو dog لا تمثل علاقة ضرورية أو ملازمة بذلك الحيوان الذي له أربعة أرجل. بمعنى أن التسمية كلب مواضعة واتفاق ليس إلا. ومن الدلائل على ذلك أن الكلمات الصدوية (echoic) أو المحاكية للأصوات (onamotopoeic) نفسها (صوت الديك، مثلاً) تختلف باختلاف اللغات.
وميزت اللسانيات كذلك بين البنيات الصورية للغات والاستعمال الفعلي. وفصل سوسير بين اللغة (النسق على وجه التقريب) والكلام (الاستعمال بمعنى من المعاني). وفرق تشومسكي (1965) بين القدرة والإنجاز. واهتم اللسانيون، عموماً، بالأنساق المجردة، وحاولوا تفسير القدرة الكلية على اكتساب اللغة والتحكم فيها، وفي تعقيداتها. بعبارة أخرى، لم تهتم اللسانيات بالاستعمال اللغوي، وما يدور حوله من أحكام قيمة.
أكدت اللسانيات بناءاً على مذهب الاعتباطية والمفاهيم الكلية و/أو الشمولية أن ليس هناك استعمال أفضل من آخر، ولا نسق أحسن من آخر، ولا لغة خير من أخرى، ولا لهجة أسوأ من أخرى. اعتبر اللسانيون أن محاولة البرهنة على أن كلمة كلب أحسن من dog أو هذه أفضل من chien عمل سخيف يُثير السخرية. ويعد من العبث، كذلك، محاولة الاستدلال أو البرهنة على أن البنية النحوية للغة أرقى أو أعلى (superior) من البنية اللغوية في لغة أخرى. فرتبة اللغة العربية، مثلاً، أو اللغة الغيْلية (gaelic):  لغة السلتيين في أيرلندة والمرتفعات الإسكتلندية. التي يسبق فيها الفعل الفاعل ليست أفضل من تلك التي يأتي فيها الفاعل أولاً، كما في الفرنسية أو الإنجليزية، مثلا. ذلك أن الاختلاف لا يرتبط بالعالم الواقعي. لقد اتضح من بحوث اللسانيات العامة أن، بناء الأوصاف الدقيقة التي تهدف إلى بناء الأنحاء الصورية والبنيات المعجمية والصواتية للغات أو اللهجات تتطلب نبذ مفاهيم الأحكام المسبقة (pre-judged) مثل مقبول وغير مقبول وأسوأ وأفضل.
4. التعيير اللغوي
نهدف، في مناقشة معيرة اللغة مقاربة الأسئلة من نوع: ما المقصود بالتعيير اللغوي؟ وما هي أسباب تعيير اللغة، وأهدافه، ومزاياه، وكيفيات ترسيخه، وسلبيات، وحدود ذلك؟ هل إيجابيات تعيير اللغة مبرر كاف لإهمال دراسة الأشكال اللغوية غير المعيار؟ وإذا كان الجواب لا، فلماذا؟
1.4. التعيير وأهدافه ومزاياه
التعيير إسناد قيم ثابتة غير متغيرة للمقابلات في النظام اللغوي، بحيث تصبح اللغة المعيرة مثل وسائط أخرى تستعمل للاستبدال كالمال والأوزان والمقادير. وتجمل أسبابه ودوافعه في منع التغيير (variability) والاختيار، ومنعه في التهجية (spelling) والنطق والدلالة وبناء الكلمة والجملة. وتعود مبررات التعيير إلى الحاجات المجتمعية والسياسية والتجارية التي يقتضي اشتراكها وتبادلها انتقاء مواضعات ثابتة تُجنب المستعملين سوء الفهم (mis copmrehenson) وسوء التواصل (mis communication). ويستهدف من اعتماد الصواب والصحيح ضمان التوحد والفعالية والثقة والفهم الصحيح غير الخاطئ للغة، إذ لولا التعيير لما عرفت اللغات الاستمرارية، ولتكسرت عبر اللهجات وصارت غير مفهومة، وقد تتعدد، على غرار ما حصل للاتينية التي أدى ذوبانها في اللهجات إلى تطورها إلى لغات مختلفة بين فرنسية وإسبانية وإيطالية وبرتغالية ورومانية.2
يتم ترسيخ اللغة المعيار من خلال إجراءات تعتبر مراحل تنفيذ له أكثر مما هي مظاهره. ففي الأول، تنتقي الأطراف المؤثرة في المجتمع نوعاً واحداً من بين أنواع منافسة، ثم تعمل، في خطوة ثانية، على نشره مجتمعياً وجغرافياً بوسائل متنوعة، مثل وسائل الإعلام والتعليم، وأخيراً، تؤكده بالتأييد والتشجيع وربطه بالقيم الراقية، وتوظيفه في الكلام والكتابة والآداب، وتضمينه في كتب النحو والمعاجم، وجعله نموذجاً للصواب الخاضع للتقنين (codification) المُخزن في صورة قوانين (authorities). صحيح أن مراحل الترسيخ والتنفيذ والنشر والتشجيع افتراضية، لا تتعاقب في الزمن، ولا تُتبع منها الواحدة بالأخرى، بالضرورة، بل إن بعضها يتداخل مع الآخر، وما يُوصف منها بالتأييد يبدأ في مرحلة مبكرة جداً من سيرورة التعيير، ويستمر إلى آخرها.
2.4. التعيير وتقليد التشكي
يُسمى تقليد المحافظة على المعيار وتثبيته بتقليد التشكي (complaint). يُعتبر عاماً وكلياً، إذ يمارسه الكتاب بالنسبة لكل اللغات. وينقسم إلى قسمين:3 النهج التصويبي، النهج الأخلاقي. يعمل النهجان على تأكيد الأيديولوجية المعيار التي ترفض التغيير في اللغة، إن في النطق و/أو الصواتة والتهجية، والنحو (الصرافة والتركيب) والمعجم. ومن الصعب تمييز النوع الأول عن الثاني، خصوصاً حين يتعلق التشكي بالاستعمال المعجمي. إلا أن الفصل بينهما ممكن باعتبار الأهداف. فالأول يستهدف كبح التحول في اللغة المُتكلمة والمكتوبة، على السواء، بينما يعتني الثاني باللغة المكتوبة أساساً. يطلب الأول الصواب في النطق والصواتة والنحو والمعجم والتهجية والتنقيط، ويسعى الثاني لرصد تحقق الوضوح في الكتابة والتعبير وتجنب سوء استعمال الألفاظ (malapropism) والتوظيف الغامض للكلمات، وما قد يترتب عن ذلك من التشويش والتضليل في الفهم. إن هدف التقليد التصويبي تمييز الصواب من الخطأ، أما الأخلاقي، فيرمي إلى الوضوح والدقة والصدق. ويظهر من مقارنة التقليدين أن الأول يقوم على افتراضات منها أنه  ليس هناك إلا طريقة واحدة صائبة لتكلم اللغة وكتابتها، ويعد الانحراف عن المعيار خطأً وعُجمة، ومن العدل التمييز مجتمعياً بين مستعملي المعيار ومستعملي غير المعيار، واعتبار استعمال هذه الأخيرة دليل الجهل والغباء والفساد. مقابل ذلك، يفترض التخليق أن سوء استعمال الألفاظ يتسبب في تحول دائم للمعنى، وأن مبررات مقاومة إيقاع التحول الدلالي تظهر بالنظر إلى وظيفة الكتابة، لا الكلام، إذ تقتضي النصوص المكتوبة (النثرية، خصوصاً) الدقة والضبط وعدم الغموض أو الالتباس. فمعلوم أن من الممكن في الكلام مراجعة التأويل، لكن يستحيل قهر الفهم في الكتابة، لأن الكاتب لا يكون حاضراً، بالضرورة، مع القارئ، ويغيب عبر تباعد المسافات الزمنية. ومن افتراضاته كذلك، وجود نوع من الناس يحتاج إلى الدقة والصرامة في التعبير، ومن هؤلاء رجال القانون والإدارة والعلماء. بعبارة أخرى، لا تحتمل الوثيقة الإدارية أو القانونية أو العلمية، بعكس الرواية، مثلاً أو القصيدة، كثرة التأويلات، ومن ثم، فإن ما يضمن لها دقة التفسير وضوح المصطلحات والتعبير والصياغة.4
وعموماً، إذا كان تقليد التصويب يميز، إن ضمناَ أو صراحة، بين معايير وأنساق ويعتبرها أفضل من أخرى، فإن تقليد الأخلاق، يغفل خاصية الإبداع والتغيير والتجديد الذي تقتضيه الكتابة الأدبية المعتمدة الخيالَ. كما إنه بطلبه الدقة يحول دون التحول الدلالي ويضع سيرورة التعدد الدلالي (polysemy) موضع الشك، لأن سوء استعمال الألفاظ لا يؤدي، بالضرورة، إلى تحول دلالي غير مقبول، بل إن التحولات المعللة تقود إلى تطور المعنى الإتيمولوجي الذي قد يُتخلى عنه مع الزمن لصالح المعاني المنقولة الجديدة المناوبة.
3.4. التعيير: السلبيات والحدود
إذا كان لترسيخ التماثل (uniformity) دوافع وأهداف ومزايا، فإن له حدود ينبغي توضيحها لفهم ما قد يترتب عنه من سلبيات على بعض المستويات. ويمكن رسم حدود التعيير انطلاقاً من السؤال: ما هو النوع الثابت غير المتغير الذي يمكن أن يتلاءم مع تسمية لغة معيار؟
إذا استثنينا الشكل المكتوب الذي نُلزم بعدم الانحراف عن معاييره واستعماله وفق القواعد، لا يوجد عملياً نوع لغوي متكلَّم معيار، لأن تكلم اللغة المعيار يُخضعها للتأثر باللهجات (accents). بعبارة أخرى، إن تكلم اللغة المعيار يختلف باختلاف المتكلمين، ويتعدد ويتنوع بتنوعهم وتعددهم، أي إن اللغة التي نتكلم بها لا تخضع أبداً لمعيار مطلق: اللغات الوحيدة التي خضعت للتعيير المطلق، وانتهى تعييرها هي اللغات الميتة التي توقف الناس عن تكلمها. ولما كان التماثل النهائي مستحيل على مستوى لغة حية، فإن التعيير بمعنى منع التغيير، وكبح التحول إيديولوجية، ليس إلا. كما أن اللغة المعيار بشكل واحد ووحيد متجانس، ليست واقعاً بقدر ما هي فكرة في الذهن. إن كلمة معيار تسمية قبل-علمية (pre-scientific). ويكفي دليلاً على ذلك المستوى الصواتي: هل ينطق الأفراد المتغيرات الصوتية بكيفية واحدة؟ ألا يختلف النطق من مجموعة إلى أخرى؟
من التأثيرات السلبية الناتجة عن تبني اللغة المعيار اعتقاد آراء زائدة التبسيط (over-simplified) عن طبيعة اللغة، وإهمال دراسة الأنواع غير المعيار، بما فيها اللهجات والعاميات والدارجات، وتصور الأشكال غير الممعيرة انحرافات عن المعيار،ووصف مستعمليها بعديمي القدرة على تعلم الصواب أو العجز المعرفي، وغير ذلك من المذاهب الخاطئة التي تعوق دراسة الاستعمال الفعلي للغة والإفادة منه.5
يتصور الجميع أن النوع المعيار أكثر الأنواع قدرة على الوصول إلى الناس في البقاع المختلفة والمتباعدة، لكن لا أحد يتساءل حول صعوبة وصول الأنواع غير المعيار إلى متكلمي المعيار، وما يمكن أن يترتب عن ذلك من سوء الفهم وسوء التواصل عبر اللهجي (cross-dialectal). وتوجد في تواريخ اللغات قصص وروايات تسجل ما يترتب عن الفهم الخاطئ الناتج عن الاختلافات عبر اللهجية من حيرة واستياء. 6 ونتذكر ما وصل إليه ذلك قديما، على ما يُروى في الأدبيات العربية القديمة، حيث قيل لرجل جاء إلى حمير ثب، بمعنى اجلس في الحميرية، ففهم اقفزبلهجته، فقفز، وانكسرت رقبته. ولا يقتصر الأمر في ذلك على السياقات غير الرسمية، بل أيضاً الرسمية. ففي فصول الدرس، مثلاً، يمكن أن يعاني التلميذ والمدرس معاً من صعوبة سببها استعمال أحدهما لهجته الخاصة. وفي الفقرة التالية، نناقش تعيير القدماء للفصاحة على ضوء ما أوردناه من مُحدِّدات.
5. مواقف القدماء من الفصاحة
تميزت الفصاحة في الدرس اللغوي القديم بالتعدد والاختلاف. و يؤكد نظرية الأساس المتعدد للغة العربية الفصحى افتراض أن اختلاف اللهجات وتعددها لا ينفي تساويها في الفصاحة، وكونها كلها حجة. شمل التباين الصرف والنطق والنحو، و وصل في المعجم إلى حدّ التضاد. ومن ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، نَستعين/ نِستعين، معَكم/ معْكم، في الحركات. وأولائك/ أولالك، وأن زيد/ عنّ زيد، في إبدال الحروف. ومستهزئون/ مستهزون، في الهمز والتليين. وصاعقة/ صاقعة، في تقديم الحرف وتأخيره. واستتَحيَيْت/ استحيت، صددت/ أصددت، في الحذف والإتباث، إلى غير ذلك من الاختلافات في مجموع ظواهر النحو.7 ولم ينحسر الاختلاف في اللغة في واحد، بل تعداه إلى ستة. يقول ابن فارس في فقه اللغة، إن الخلاف يقع في الكلمة الواحدة لغتان، كقولهم الصِّرام والصَّرام، الحِصاد والحَصاد، وثلاث لغات، نحو الزُّجاج والزَّجاج والزِّجاج، وأربع لغات، نحو الصِّداق والصَّداق، والصَّدقة والصُّدقة، وخمس لغات، مثل الشَّمال والشَّمل والشَّمْأَل والشَّيْمل، وستُّ لغات، نحو، قُسطاس وقِسطاس وقصطاس وقُستاط وقِسَّاط وقُسّاط.8 وبلغ الاختلاف في المعجم التضاد، إذ كانت ثِب، أي اقفز، في لغة حمير.تعني اجلس.9  ولعل التعدد والاختلاف من العوامل التي كانت وراء البحث في مقاييس اختيار الفصيح ومعايير تمييزه عن غيره. فما هي هذه المقاييس؟ و إلى أي حد كانت موفقة في تحديد الفصاحة؟
1.5. مقاييس تصنيف الفصاحة
تضارب موقف القدماء من معايير تحديد فصيح اللغة بين القياس والكثرة، أو الكثرة فقط، أو القياس دون غيره. كيف ذلك؟
1.1.5. فصيح اللغة
اعتبر ابن جني أن اللغة الفصيحة هي الجيّدة، والجيّدة هي القويّة في القياس، ما لم يكن غيرها أكثر و أوسع في الاستعمال. يقول، في هذا السياق: " إن غاية ما لك " في لغتين، مثلا، هو أن "تتخيّر إحداهما فتقوّيها على أختها، وتعتقد أن أقوى القياسيين أقبل لها، وأشدّ نسباً بها، فأما ردّ إحداهما بالأخرى فلا " ويقول، مرجّحا الكثرة: " هذا إذا كانت اللغتان في القياس سواء، أو متقاربتين، فإن قلّت إحداهما، وكثرت الأخرى جدّا أخذت بأوسعهما رواية".10
في مقابل ذلك، لم يذكر أبو عمرو بن العلاء، فيما رُوي عنه، غير الحمل على الأكثر في الاستعمال. جاء في طبقات النحويين لابن بكر الزبيدي: قال ابن نوفل: سمعت أبي يقول لأبي عمرو بن العلاء: أخبرني عمّا وضعت ممّا سميّت عربية؛ أيدخل فيه كلام العرب كلّه؟ فقال: لا. قلت: كيف تصنع فيما خالفتك فيه العرب وهم حجّة؟ فقال: أحمل على الأكثر، وأسمّي ما خالفني لغات".11
وبعكس، ابن جني وأبي عمرو بن العلاء، أقرّ ابن درستويه القياس دون غيره في تحديد الفصيح. فبالنسبة إليه، إذا كانت القاعدة في مستقبل كلّ ما كان فعُلُ ويَفْعِلُ، كشكَر يشْكُرُ وضرَبَ يَضْرِبُ، " فلا واحد منهما أولى بالآخر، ولا فيهما عند العرب إلا الاستحسان والاستخفاف".يقول، مؤكّدا مقاربته، إن اختيار ثعلب  الكسر في شتم ونفر الذي " قد يكون على أساس الكثرة والاستعمال لا علّة له ولا قيّاس، بل إنه نقض لمذهب العرب والنحويين". وليست الفصاحة في كثرة الاستعمال ولا قلّته، وإنّما هاتان لغتان مستويتان في القيّاس والعلّة " ويُضيف، متابعاً: " وقد يلهج العرب الفصحاء بالكلمة الشاذة عن القياس البعيدة عن الصواب حتّى لا يتكلّموا بغيرها، ويدعوا المنقاس المُطّرِد المختار، ثم لا يجب أن يُقال: هذا أفصح من المتروك"، ذلك " أن تركهم استعمال الماضي من اسم الفاعل من ودع ووذر، واقتصارهم على ترك وتارك " ليس لأن ترك أفصح من ودع ووذر، وإنما الفصيح ما أفصح عن المعنى، واستقام لفظه على القياس لا ما كثُر استعماله".12
وهكذا، نستخلص أن تعيير القدماء للفصاحة لم يعتمد على لغة واحدة أو لهجة واحدة، بل لغات ولهجات متعددة ومتداخلة. لقد خرقوا مبدأ التماثل والانسجام والتوحُّد المنصوص عليه في التعيير. إذ لو استخلصوا القواعد باعتبار معطيات اللهجات منفصلة، لاعتُبِرت ودع ويدع ووذر يذر وترك يترك ووادع وتارك لغات متساوية، مرصودة بالقاعدة. ويبدو أن ابن درستويه أكّد التضارب، لكنّه لم يُحدّد سببه. وفيما يلي، نبين أن الحكم نفسه ينطبق على فصيح المفرد.
2.1.5. فصيح المفرد
أجمل البلغاء ضوابط عدم الفصاحة في " التنافر والغرابة ومُخالفة القياس والكراهة في السّمع والابتذال". عرّفوا التناقض بثقل الكلمة وعسرها في النطق، والغرابة بالوحشية، ومخالفة القياس بالخطأ فيه، والكراهة بالنبُوِّ عن سماع الكلمة، والابتذال بالاستعمال العاميّ الذي يُغيِّر الكلمة. مثّلوا للفظة المنفرة بالهُهْخُع في كلام أعرابي، ومُستشزر في قول امرىء القيس. واستدلّوا على الغرابة بوحشية الكلمة، وعدم ظهور معناها، بحيث نحتاج إلى التنقيب عن معناها في كُتب اللغة، ومن ذلك ما رُوِي عن عيسى بن عمرو النحوي: تكأكأتُم علي، ومسرّجاً في قول العجّاج. وذكروا من مخالفة القياس ما جاء في قول الشاعر: الحمد للّه العليّ الأجْلَل، إذ القياس الأجلّ (بالإدغام). واعتبروا الجِرِشّى في قول المتنبي نابية، إذ تُسمع كصوت مُنكَرٍ. وقالوا يُعدّ مُبتذلاً كلّ لفظ استعمله العامة.
وهكذا نلاحظ من الأمثلة أن صفات البلاغيين تنطبق على القليل في الاستعمال، كما يظهر. ولقد استخلص السيوطي ذلك حين قال: والتحقيق أن المُخلّ هو قلّة الاستعمال وحدها، فرجعت الغرابة ومُخالفة القياس إلى اعتبار قلّة الاستعمال "بل إن كلّ هذا " تقرير لكون مدار الفصاحة على كثرة الاستعمال وحدها، وعدمها على قلّته".13  وعليه، نعتبر روائز تعيير البلاغيين مثلها عند اللغويين، لم تخرج من دائرة كثير / قليل، ولم تتعداه إلى متجانس ومتماثل.
6. عن طبيعة المقاييس
انبنى تصنيف القدماء لفصاحة اللغات والأشكال والمفردات على عدد من المبادئ غير الموضوعية، كونها، أحكام قيمة لا تعتبِر اعتباطية الدليل (sign) وتشكيك في الثروة اللغوية، لأنها لا تعتد بالمعنى والاستعمال، والتباس في تحديد الفصاحة، بسبب عدم اعتبار تعدّد اللهجات واختلافها، والتعامل معها كما لو كانت متجانسة.
1.6. أحكام قيمة غير موضوعية
لقد رأينا أن إصدار أحكام القيمة واعتماد الحجج غير المنطقية ظاهرة كليّة معروفة في كل المجتمعات. كما تعد مواقفاً مجتمعية غير لغوية يتبناها الناس من غير المختصّين. ويدخل حكم القبح والجمال، واعتقاد أن لهجات أو لغات هي أقبح أو أحسن أو أفضل من أخرى ضمن هذا الإطار. ومن ذلك اعتبار القدماء، مثلا، أن لهجات الكسكسة والكشكشة والجعجعة والاستنطاء والطمطامنية لغات قبيحة. لقد تعوّد الناس، منذ قديم الزمان على تثمين الكلمات وربطها بخصائص وقيّم لا علاقة لها بمفهوم اعتباطية الدليل. ومازلنا اليوم نسمع آراء مختلفة تتفاوت بين المجموعات والطبقات والأفراد. ففي الشرق مازلنا نسمع إن العربية أفضل اللغات، وفي المغرب يسود الاعتقاد لدى بعض الناس أن الفرنسية أجدى من العربية في قطاعات العلوم والاقتصاد والتقنيات. كما نرى تقديراً واحتراماً للهجة الفاسي على حساب لهجة المكناسي أو غيره. ذلك لأن هناك عدم وعي بكون الأنساق اللهجية واللغوية، على السواء، متساوية من حيث القيمة اللغوية، وليس لأحكام القيمة أهمية في تصنيف اللغات واللهجات ووصفها بالقبح أو الجمال. ينطبق الرأي على التصورات القديمة للغات واللهجات، كما ينطبق عليها في مقاربة الأشكال من الكلمات والألفاظ والصيغ، فيما سنرى الآن.
2.6. اعتباطية وضعف
ذهب قدماء اللغويين إلى أن شكل الكلمة أهمّ من معناها، و الثلاثي أحسن من غيره، و الكلمة قد تحسُن أو تقبُح، إذا نُقلت من وزن إلى آخر. قالوا إن الثلاثي أحسن من الأحادي والثنائي والرباعي والخماسي لتوسّطه بين قلّة الحروف وكثرتها. فهو فصيح، لأنه متوسّط بين كثرة الحروف وقلّتها، وفصاحته ثابتة، وإن كثُر المعنى في غيره. قال حازم في عروس الأفراح:"فإن قُلْتَ: زيادة الحروف لزيادة المعنى؛ كما في اخشوشن، ومُقتدر، وكبكبوا، فكيف جعلتم كثرة الحروف مُخلاًّ بالفصاحة مع كثرة المعنى فيه؟ قلت: لا مانع من أن تكون إحدى الكلمتين أقلّ معنى من الأخرى، وهي أفصح منها". وقال ابن النفيس: في كتابه الطريق إلى الفصاحة: "قد تُنقل الكلمة من صيغة إلى أخرى أو وزن إلى آخر، فتحسُن بعد قُبح، والعكس"  فمثلا، خوّد فعلاً قبيحةُ، لكنّها، إذا جُعِلت اسما، خودا (المرأة الناعمة)، قلّ قُبحُها. كما أن دَعْ تقبُح بصيغة الماضي، لأن وَدَعَ لا يُستعمل إلا قليلاً، غير أنه يَحسُن فعل أمر أو مضارع. وكذلك اللب والصوف والرّجا (البئر) تَقْبُح مُفْرَدةً، وتحسُنُ مجموعة. وبالعكس، تحسُن بُقعة مفردة، وتَقْبُح جمعاً. ثمّ إن كل ما يَقبُحُ يحْسُن، إذا أضيف.14
إن معيار الفصاحة، كما نلاحظ شكلي. وإذا استثنينا مبرّر التوسّط في الثلاثي والقلّة في بعض الصيغ، فإن التصنيفات الأخرى اعتباطية، خصوصاً، إذا عرفنا أن عامل الإضافة يُبطل حكم القبح في القبيح منها. زد على ذلك أن ما اعتبروه قبيحاً في المفرد مازال مُستبقى إلى الآن، ومن ذلك الصوف، مفرد أصواف، وبقع، جمع بُقعة (لون مميز عن غيره). كما إن بعض المفردات ليست قبيحة، في اعتقادنا، بل قليلة، إذا اعتبرنا أن لها مُناوبات تفوقها بكثرة الاستعمال، ومن ذلك العقل في اللبّ. وعليه، نعتبر الاستدلال القديم على القبح والجمال اللغوي، إما شكليّاً أو ضعيفاً، أو اعتباطياَ أو إنه، في كل الحالات، لا يعتبر الاستعمال والمعنى، ويُشكّك في ثروات اللغة ومضامينها.
3.6. خلط وتناقض
صنّف القدماء المفردات الفصيحة باعتبار صفات وأحكام عامة من مثل الأفصح من الفصيح رديء وفاسد وخبيث وبعيد وضعيف ومُنكر ومتروك وغير جيّد وغير مرغوب فيه. واعتمدوا في تصنيفهم اللهجات واللغات المختلفة، وتعاملوا مع التعدد، كما لو كان وحدةً مُنسجمة مُوحّدة، ولذلك سقطوا في التضارب واللّبس والخلط. وسنحاول، فيما يلي، مناقشة تقييمهم، ونبين أن تصنيفهم قام على أحكام قيمة. ذلك أن المبررات تتلخص في تفضيل لغة على أخرى. للاستدلال على هذه الثغرات، جردنا من كتاب المزهر عددا من المفردات، وقارنا بين التقييم القديم للفظ، والمعنى الحديث، واستخلصنا كثيرا من الأحكام الدالة على الخلط والتضارب:15وفيما يلي نلخص الأمثلة القديمة، ونراجعها بعد الخط المائل على ضوء المعجم الوسيط، ثم نستخلص، بعد ذلك، التعليقات المناسبة.
1. البرُّ أفصح من القمح/ البر: حب القمح والقمح نبات عشبي
2. أنصبه أعلى من نصبه/ نصبه المرض: أعياه
3. غلَب غلْبا أفصح من غلبه غلْبا/ غلبه غلَبا وغلْبا: قهره
4. اللَّغوب أفصح من اللَّغب/ اللَّغوب واللَّغْب: الأحمق
5. قَرَرْت بالمكان أفصح من قرِرْت/ قرِر بالمكان: أقام به
6. الحِبْر أفصح من الحَبْر/ الحِبْر والحَبْر: العالم
7. مَلْك يميني أفصح من مِلْك يميني/ ملَكَه مَلْكا ومُلْكا ومِلْكا: بمعنى واحد
8. أنْمَلَة أفصح من أُنْمُلَة/ الأُنمُلة: عقدة الأصبع
9. ضربة لازب أفصح من ضربة لازم/ لزم ولزب: تبث، ومنه ضربة لازب ولازم
10. بُهِت أفصح من بَهِت/ بُهت وبَهِت: دهش
11. الطّعفسة مرّ يطعسف في الأرض: يخبط فيها/ لا مقابل لها
12. حفرت البئر حتى أمهت وأموهت وأميهت: انتهت إلى الماء: أبعد اللغات/ أمهاهه أكثر ماءه
13. تدخدخ الرجل مرغوب عنها/ تدخدخ: انقبض
14. رضبت الشاة مرغوب عنها/ ربضت: طوت قوائمها ولصقت بالأرض وأقامت، ولا مقابل لرضب
15. بغدان وبغذاذ أقلها وأردأها/ بغداد: حاضرة العراق
16. الحَفَر رديئة/ الحَفْر في الأسنان: الفساد
17. فلان أحول من فلان وأحيَل: رديئة/ الحواليُّ: الشديد الاحتيال
18. الفِصُّ في الفَصِّ: أردأ/ الفَصّ والفِص: ملتقى كل عظمين
19. اندخل في دخل ليس بجيد/ تدخّل مطاوع ادَّخل
20. الدِّجاج في الدَّجاج رديئة/ الدَّجاج طير الدواجن، ولا مقابل للدِّجاج
21. الوَحْل في الوَحل رديئة/ الوحْل و الوحَل: الطين الرّقيق
22. الوَتَد في الوتِد أردأ/ الوتِد والوَتَد: ما رز في الأرض من خشب
23. اليِسار في اليَسار أردأ/ اليَسار خلاف اليمين، ولا مقابل لليِسار
24. أخير في خير رديئة/ الخير: اسم تفضيل
25. أفلطني في أفلتني رديئة/ أفلته: خلصه، ولا مقابل لأفلط
26. لُقْت الدواة رديئة في ألقتها/ لاق الدواة وألاقها: جعل لها لُقية
27. قِلْتُه البيع رديئة في أقلته/ قال البيع وأقاله: فسخه
28. نَتَن ينتِن نتْنا فهو منتِن في أنتن رديئة خبيثة/ نتِن اللحم، ولا مقابل لنَتَن
29.هذا ملاك الأمر وفَكاك الرِّقاب رديئة في مِلاك وفِكاك/ مَلاكه ومِلاكه: قوامه، وفِكاكه وفَكَاكه: ما يُفك به
30. أرابني في رابني رديئة/ رابه وأرابه: جعله شكاكا
31. الرُّنز في الأرز رديئة/ لا مقابل للرنز
32. دمِعت العين رديئة/ دَمَعَت العين: سال دمعها
33. تيك في تلك لا خير فيها/ لا مقابل لتيك
34. حدَر القراءة لا خير فيها/ حدَرها: أسرع فيها
35. سؤْت به ظنا وأسأته به لا خير فيها/ ساءه وأساءه: لم يحسنه
36.الطرْياق في التِّرياق لا خير فيها/ التِّرياق ما يضاد عمل السم في المعدة، ولا مقابل للطرياق
37. الحوصلة بالتثقيل لا خير فيها/ حوْصلة الطائر: انتفاخ يختزن فيه الغداء
38. تطاللت في تطاولت لغة سوء/ تطاول: تمدد قائما لينظر إلى بعيد
39. الحمِدِ لِلّه لا خير فيها/ لا مقابل لها
40. أوقفت الدابة رديئة/ وقفه وأوقفه: جعله يقف
ففي هذه الأمثلة، نجد أن 1 و2 و5 و8 و12 و15 و16 و17 19 و37 و38 لاحنة ، كما يظهر من المقابل الصحيح المنمط والمقعد، كونه مُدمج في المعجم. ويبدو أن 3 و4 و6 و7 و9 و10 13 و18 و21 و22 و26 و27 و29 و30 و34 و35 40 مُتساوية في الفصاحة، لأنها بمعنى واحد.أما 11 و14 و20 و23 24 و25 28 و31 و32 و33 و36 و39 عامية، لأنها تمثل خاصية من خصائص العاميات كالقلب: ربض/ ربض، واستبدال حرف بآخر: الترياق/ الطرياق، والحذف: اعتنى/ اعن، ولذلك لا نجد لها مقابلا في المعجم. 16
7. خاتمة
يتبين، إذن، أن 11 من 40 لاحنة، و17 منها موازية، و12 عامية. وعليه، فإن بعضاً من تحديدات القدماء للفصيح وغير الفصيح غير دقيق. ذلك أنها انبنت على أحكام قيمة غير موضوعية وغير علمية. بل إن مواقفهم من اللغة تشبه، إلى حد، مواقف الناس العاديين، في هذا الباب، أي في وصف بعض أشكال اللغة بالفساد أو الرداءة أو عدم الجودة وقلة الفصاحة. وإذا كان تعيير اللغة يقتضي انتقاء نموذج مثالي، واعتباره الأصلح للاستعمال الرسمي والمكتوب مُبَرَّراً، فإن التبرير يفقد دقته حين لا يتلاءم مع المبادئ العلمية، ويتناسب مع المُقولبات المجتمعية. لهذا، نعتقد أننا مازلنا نحتاج إلى إعادة بحث الدراسات القديمة على ضوء المفاهيم الجديدة في اللسانيات والسوسيولسانيات.
 
ذة: ثريا خربوش
كلية الآداب – المحمدية

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟