البابا في حاضرة الفاتيكان - د. عزالدّين عناية

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسينظر الكاثوليك إلى كنيستهم بصفتها تجلّيا لوحي الربّ على أرضه، تسعى لتثبيت سلطانها في الأرواح، ويغلب نعتهم لها بالدين بدل المذهب، ويراها غيرهم مؤسسة عالمية للمقدّس، تتطلّع جنب السلطات الزمنية للفوز بمغانم للمؤمنين بها. ويخبر واقع الحال أنها مؤسّسة مركّبة، قائمة على شرْعة فيها من التميّز والتماثل مع غيرها من شتى الملل والنحل، تشكّلت قداستها عبر الدهور، ضمّت بداخلها مكونات عدة. يبلغ عدد الحركات المنضوية تحتها والتي تحوز اعترافها في الوقت الراهن 120، إضافة إلى تجمّعات دينية صغرى، 226 منها رجالية و900 نسائية.
وقد بلغ عدد الكاثوليك المعمَّدين في العالم بحسب التقرير الإحصائي الأخير، الصادر عن مكتبة الفاتيكان سنة 2006، 1098366000 سنة 2004، ما يعادل 17،2% من العدد الجملي لسكّان المعمورة.
سمعان بطرس: صخرة الكنيسة
تُعَدّ كنيسة القديس بطرس في روما أكبر كنيسة كاثوليكية في العالم، وهي تمتد على مساحة 15000 متر مربّع، وتتّسع لثمانين ألف زائر، حيث تستقبل سنويا قرابة عشرة ملايين. يعتبر الحواري سمعان، الذي صار القدّيس بطرس في التقليد الكاثوليكي، بابا الكنيسة الأوّل، استنادا إلى ما ورد في إنجيل متى (16: 18) من خطاب السيد المسيح (ع) له: "أنت صخر. وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي". جرى تنصيب 264 بابا بعده، بل بالضبط 262، لأنّ بندكتوس التاسع أنتخب ثلاث مرات. من هؤلاء نجد 205 من إيطاليا، و19 من فرنسا، و14 من اليونان، و8 سوريين، و6 ألمان، و3 من شمال إفريقيا، وإسبانيين، وواحدا من النمسا، وواحدا بولونيا، وواحدا فلسطينيا، وواحد أنجليزيا، وواحدا هولانديا. ويسمّى بابا مزيّفا من يغتصب كرسي البابوية دون رضا الإكليروس، وآخر هؤلاء فيليشي الخامس 1440-1449م. بقي بيو التاسع أطول مدّة، 32 عاما، وأقصرهم ستيفانو الثاني، دامت حبريته يوما، جرّاء إصابته بسكتة قلبية. ويعود استبدال البابوات أسماءهم الأصلية بأسماء التعميد، إلى عام 553م، حين قرّر يوحنا الثاني التخلي عن الاسم المدنّس إلى الاسم المقدّس.
البابا في القصر الرسولي
يتكوّن القصر الرسولي، المقرّ الرسمي للبابا ،من 1400 غرفة، كما يحوي المكاتب الرئيسية، والإقامة الخاصة به، التي تطلّ على ساحة القدّيس بطرس من جهة اليمين، في الشبّاك الثالث، في الطابق الرّابع الأخير. وعادة تتمّ اللقاءات البابوية في المكتبة التي تقع في الطّابق الثالث، كما جرى مع الرّاحل ياسر عرفات والدلاي لاما، وهي التي تظهر عادة على شاشات التليفزيون.
بعد محاولة اغتيال البابا يوحنا بولس الثاني سنة 1981 من طرف التركي محمد علي آغا، حصّنت كافة النّوافذ ببلور مضاد للرّصاص. ولكن في حالة وقوع تهديد أو طارئ للبابا يمكنه المرور عبر ممر سرّي يفضي إلى قلعة "كاستل سانت أنجيلو"، الواقعة على ضفّة نهر التبر المحاذي، التي شيّدت ما بين 123 و129م من طرف الإمبراطور أدريانو وصارت لاحقا من أملاك الكنيسة.
لم يقطن كافة البابوات في الفاتيكان، بل دأبوا في العيش هناك بدءا من القرن الثالث عشر. تتولى خمس راهبات خدمة الحبر الأعظم من حيث مأكله ومشربه، وأغلب الغلال والثمار الطازجة التي يتناولها، ترد من حقول مقر إقامته الصيفية في كاستل غنْدولفو، الواقعة على بعد عشرين كلم في ريف روما. وعلى خلاف الكرادلة الذين يرتادون من حين لآخر مطاعم روما، يأكل البابا في قصره البابوي عادة، بدافع الحيطة الأمنية.
ومن حيث ملبسه فله محلّ خياطة خاص يتواجد بمجرّد الوصول لنهر التبر، مجيئا من الفاتيكان، وهو الذي يرعى أزياءه، وتسهر الراهبات اللّواتي يتولين إعداد مأكله على العناية بملبسه.
يعتبر تقليد تقبيل خاتم البابا، الذي يضعه في بنصر يده اليمنى، إجلالا له وعربون خضوع لقوانين الكنيسة وتعاليمها، ويسمّى الخاتم "خاتم الصيّاد" نسبة لبطرس البحّار. علما أن لكلّ بابا خاتمه الخاص، الذي يهشّم بعد رحيله، وهو من الذهب الخالص المرصّع بالحجارة الكريمة. تُرَى على الخاتم صورة بطرس على متن السفينة، منقوش حوله اسم حامله. خلال شهر جانفي الفارط سقط خاتم الصيّاد من إصبع البابا جوزيف راتسينغر، أثناء عقد القدّاس للمرة الأولى في "الكابيلا سيستينا"، حيث كان ملتفتا بظهره للمصلين بحسب التقليد السائد في القرون الوسطى.
حاضرة الفاتيكان
تمتد المدينة على أربعة وأربعين هكتارا، وباتباع السور المحاذي يمكن الطّواف بها على مدار الساعة، وتعد اللّغة الرسمية فيها اللاتينية. يقيم إلى حدود 2003 ما يناهز 1100 نفر في المدينة، نصفهم يحوزون جنسية الفاتيكان، من بينهم 61 كردينالا ومئة من العسس السويسريين، يتولّون الحراسة.
تضمّ المدينة عدّة مرافق ضرورية وكمالية، فمثلا ثمة مغازة عامة وأخرى للإلكترونيات تبيع معروضاتها بأسعار منخفضة، يشترط التبضيع منهما حيازة بطاقة، تثبت أن المقتني يشغل مهمة أو وظيفة تابعة للفاتيكان أو لمؤسساته المنتشرة في روما. لا يدفع متساكنو المدينة الضرائب، كما لا تعبر الطائرات مجالهم الجوي. ويوجد بالمدينة متحف تاريخي وصيدلية، كما تمتدّ سكة حديدية هي الأقصر في العالم، يزيد طولها على ثمانية كلمترات بقليل. تحوي المدينة مكتبة الفاتيكان الشهيرة التي تضمّ مليون كتاب، ومئة ألف بين خريطة ومخطوط. وللفاتيكان جريدة رسمية بعنوان "L’osservatorio Romano" "المرصد الرّومي"، تأسست سنة 1861م، تتولى نشر أخبار الفاتيكان وأخبار العالم، وقد التحق جزائري بطاقم تحريرها، الأستاذ خالد فؤاد علام، وليس الصحفي المصري المتنصّر مجدي علاّم، تسحب يوميا قرابة ستين ألف نسخة. كما يوجد في الفاتيكان سجنان صغيران، يحبس فيهما المخالفون وقتيا ليحوّلوا لاحقا إلى السجون التابعة للدولة الإيطالية. أما جيش البابا، فهو يتكوّن من حرس سويسري، يتشكّل أساسا من مرتزقة. جرى تقليد انتدابهم منذ 22 جانفي 1506م، زمن البابا جوليو الثاني، فقد حاز هؤلاء المرتزقة ثقة الفاتيكان منذ حادثة نهب روما الشهيرة، في القرون الوسطى خلال العام 1527م، والتي قضى فيها 147 حارسا سويسريا دفاعا عن البابا كليمنتي.
كيف يشتغل البابا؟
للبابا سكرتيران تحت إمرته يتوليان شأن مكتبه، يرأسهما سكرتير ثالث خاص، إلى جانب كردينال يلازمه في الشؤون الهامة. إضافة إلى خمس راهبات يتولين شأنه الخاص، بما فيها مراسلاته، إذ تصله مقدار ثلاثة قناطير ونصف القنطار من الرّسائل يوميا. أما من حيث التنظيم الإداري، فنجد في هرمه البابا، تساعده سكرتارية خاصة، تليها "الكوريا" وهي عبارة عن سكرتيرية الدولة، والتي تتفرع عنها سكرتيريتان، واحدة للشأن الدخلي وأخرى للشأن الخارجي. وتضم المكلفة بالشأن الداخلي، المجامع والمجالس البابوية والمحاكم.
إضافة إلى اللقاءات الدبلوماسية اليومية، يتولى البابا إقامة القدّاس صبيحة كلّ أحد بساحة القديس بطرس، ونظرا لكثرة الزوّار تُنتقى مجموعة قليلة لمناولتها خبز القربان والخمرة، ليُتِم الطقس الكهنة. حدث بعض المرات لم ينه فيها البابا القدّاس، كما جرى بميامي سنة 1987، جرّاء المطر الغزير المتهاطل في الساحة، فقد أجبرت الرياح العاتية البابا الراحل يوحنا بولس الثاني على قطع القدّاس.
في أعقاب إقامة القدّاس في روما يطوف البابا بالساحة لتحية الوافدين، وقد كان فيما مضى ينقل على متن عرش، يتولى حمله على الأكتاف من الجهتين 12 من حملة العرش. وهو من البرونز، صاغه وتولى توشيحه الفنان برنيني. قلّ استعماله مع يوحنا بولس الأوّل ويوحنا بولس الثاني، فقد فضّل البابوان السير على الأقدام. وقد استعاض البابوات في الفترة الأخيرة عن العرش بسيارات مصفّحة، تسمح بالتجوّل وسط الزائرين، وهي عربات مهداة غالبا من شركات عالمية، آخرها من نوع فرّاري أهدتها الشركة ليوحنا بولس الثاني بمناسبة عشرينية اعتلائه كرسي البابوية.
للبابا 3500 موظّف يشتغلون وقتا إداريا كاملا، من بينهم 1500 رجال دين منتظمون، وآخرون من الإكليروس العلماني. يبلغ عدد المحيطين به من الكرادلة 120، ويتولون أعلى المناصب في الكنيسة ويُعدّون أعوان البابا الرئيسيين، يتولون عادة رئاسة التجمعات الكنسية أو تسيير الأبرشيات عبر أرجاء العالم، وقد اشترطت تنقيحات القانون الكنسي الأخيرة عدم تخطّي ثمانين سنة شرطا للمشاركة في انتخاب البابا. وهم يرتدون القلانس الحمراء التي ترمز لدم المسيح على الصليب، ويعيَّنون مباشرة من البابا. عادة في إيطاليا يكون التوجه إليهم بعبارة “Eminenza” التي يقارب معناها كلمتي "سماحة ونيافة"، أما الأساقفة ورؤساء الأساقفة فقد بلغ عددهم إلى حدود العام 2004 4784، وهم يرتدون عادة اللباس الأسود بحواشي حمراء، ويعينون كذلك من البابا مباشرة. وعند التوجه إليهم يكون بنعت”Eccelenza” التي تضاهي كلمة "معالي"، أما الرهبان أو الكهّان فعددهم يقارب أربع مئة ألف، يلبسون عادة الأسود ويساعدون الأساقفة في أنشطة الأبرشيات والكنائس ويسمون بالآباء، وفي حالات خاصة يمنح الأب لقب مونسنيور.
أزمة الرّهبنة
- الرّاهبات: جيش الكنيسة النّسوي
يتواصل تقلّص عدد الرّاهبات برغم شتى محاولات إيقاف النزيف، فقد تراجع العدد من 990000 خلال 1978 إلى 770000، بعد 26 سنة. وقد ضرب هذا الانحدار ثلاث قارات، الأوقيانوس وأوروبا وأمريكا. في حين يشهد العدد تطوّرا في إفريقيا وآسيا. إذ انتقل من 13% إلى 27% من نسبة المجموع العالمي.
الرهبان
تزايدَ عدد الرّهبان في إفريقيا بين 1978 و2004 بنسبة %85، وفي آسيا بنسبة %74، وتبقى أوروبّا محتفظة بأكبر عدد للرّهبان برغم التّراجع العددي فيها. البيّن من خلال الإحصاءات أنّ تراجع عدد الكاثوليك في الغرب على مستوى الكوادر أيضا، وتناميهم بخلاف ذلك في القارات الفقيرة. المسألة عائدة بالأساس إلى إصرار المؤسّسة الكنسية على تبني فلسفة الرّهبنة الكلاسيكية بكافة شروطها وإلزاماتها المجحفة، من عزوبة وقطع مع أسرة المنشأ وانضمام لعائلة الإكليروس، بدعوى التفرّغ التام للكنيسة. وقد خلّف ذلك التعنّت، إفراز نفور من الرّاغب الطّوعي في الانضواء تحت سقف الكنيسة. أما الوضع في البلدان الفقيرة فهو مختلف عن الأوضاع في الغرب، فلا زالت الكنيسة في إفريقيا وآسيا الضّامنة للمطيع والوفيّ: الدّراسة ورغد العيش ونفوذ السّلطة، وهي امتيازات لا تتوفّر للفرد من دولته ومؤسّساتها الاجتماعية المنهَكَة. لذلك تجد عديد الأفارقة والآسياويين ينضمّون زرافات إلى نمط العيش الكنسي، فتُعمِل فيهم الانتقاء والفرز، لوعي السّاهرين على الكنيسة أن انتماءهم لا يعود لرغبة صادقة في الرّهبنة ولكن هربا من أوضاع بلدانهم، التي لا تضمن للفرد الحدّ الأدنى من شروط العيش الكريم.
 رغم الحديث عن تراجع سلطة الدين في الغرب، لا يزال للبابا دور فاعل في الخيارات الإستراتيجية الكبرى في أوروبا بالخصوص، لما تتجسد فيه من رمزية دينية وحضارية عاليتين، وبالمثل لا تزال للفاتيكان اليد الطولى في التأثير في سياسات عديد الدول خارج العالم الغربي، وخصوصا التي تحوي جماعات كاثوليكية. فرغم صغر حجم دويلة الفاتيكان، تملك جيشا من المؤثّرين الفعليين أقوى من أعتى الجيوش في العالم.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟