إن هذا الكتاب من أهم الكتب التي طالعتها في حقل العلوم السياسية، لما ينطوي عليه من قيمة معرفية كبيرة للمختص في علم السياسة، وأيضا للقارئ العادي، بوصفه كتابًا مرجعيًا في موضوع الإيديولوجيات السياسية، من حيث ظروف نشأتها وقضاياها المركزية، فضلا عن التقاليد الفكرية المتنافسة داخل الإيديولوجية الواحدة .
وفي مستهل الكتاب، يدقق المؤلف في أصول مصطلح "إيديولوجيا" (idéologie) ودلالته الأصلية، حيث ظهر المصطلح لأول مرة أثناء الثورة الفرنسية على يد دوتراسي، في العام 1796، وكان يحيل إلى "علم الأفكار". لكن سرعان ما تطورت دلالة المفهوم شيئا فشيئا بعد إضفاء الطابع المنهجي عليه، وأضحى يرمز إلى "مجموعة متناسقة من الأفكار، بدرجة تزيد أو تنقص، تضع أساسًا للنشاط السياسي المنظم". وتتسم الإيديولوجيا بثلاثة ملامح رئيسية، تتجسد في كونها تسدد نقدًا للنظام أو الوضع السياسي القائم، كما أنها تقدم تصورا عن المستقبل المنشود أو المجتمع الصالح، إضافة إلى تفسيرها لكيفية إحداث التغيير السياسي، وهي بذلك تتميز عن الطوباويات.
وهنا وجب التمييز بين الإيديولوجيات الكلاسيكية (الليبرالية، المحافظة، الاشتراكية، القومية)، التي تبلورت معالمها خلال القرن التاسع عشر في سياق التحول من المجتمع الإقطاعي إلى المجتمع الصناعي الرأسمالي، والتقاليد الإيديولوجية الجديدة (النسوية، الإيكولوجية، الأصولية الدينية، التعددية الثقافية...)، والتي نشأت إبان منتصف القرن الماضي، على خلفية الانتقال من المجتمع الصناعي إلى المجتمع ما بعد الصناعي، الذي أمست فيه القضايا المادية أقل إلحاحًا، بالتزامن مع بروز قضايا واهتمامات ما بعد مادية كالبيئة وحقوق الإنسان .
وسأحاول في هذا الحيز الاقتصار على تلخيص أهم أفكار الإيديولوجيات الكلاسيكية، كما ورد ذكرها في الكتاب:
أولا: الإيديولوجية الليبرالية
إن الليبرالية هي إيديولوجية الطبقة الوسطى الصاعدة (البورجوازية) بامتياز، إذ ترجمت تطلعاتها في مواجهة نفوذ طبقة الأرستقراطيين المالكين للأراضي. وتتمحور القضية المركزية لليبرالية حول إيمانها بأولوية الفرد على الجماعة، حيث تفترض بأن الأفراد كائنات عاقلة بوسعهم تحديد مصالحهم الذاتية وتعظيم المنفعة القائمة. وتبعا لذلك، ينبغي مكافأة الأفراد بحسب مواهبهم ومدى استعدادهم للعمل. ولعل من أهم انعكاسات هذه الرؤية في الفكر الليبرالي نظرية العقد الاجتماعي، التي تعتقد بأن المجتمع يتشكل بواسطة الأفراد العقلانيين، بغرض صون حقوقهم وأمنهم الخاص.
وعطفا على تمجيد الليبراليين لقيمة الفرد، فإن قيمة الحرية هي إحدى أهم أعمدة الفكر الليبرالي. وترتبط الحرية في الليبرالية بالعقل، بما هي امتداد لإرث التنوير، الذي يُعتبر شاغله الأساسي تحرير الإنسان من التبعية الفكرية والجهل والخرافة وتدشين عصر العقلانية، دون إغفال دفاع الليبرالية عن قيمة التسامح، وهو ما تجسده المقولة الشهيرة لفولتير: "قد أختلف معك في الرأي، ولكنني على استعداد للتضحية بحياتي كي تعبر عن رأيك ".
ومن ضمن أهم القضايا المركزية لليبرالية إيمانها بمبدإ الحكومة الدستورية، فهي وإنْ كانت تقر بضرورة وجود حكومة وقانون لضمان حرية الأفراد وعدم اعتدائهم على بعضهم البعض، غير أنها في المقابل تعي المخاطر التي يشكلها وجود الحكومات لكون أن هذه الأخيرة تملك قابلية للطغيان، وكما قال اللورد أكتون: "السلطة تعمد إلى الإفساد، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة". ولذلك، نادى الليبراليون بإقامة ضوابط دستورية لتقييد سلطة الحكومة، والتي يمكن تقسيمها إلى ضوابط خارجية ونعني بها الدساتير المكتوبة ومواثيق الحقوق، ناهيك بضوابط داخلية عبر توزيع القوة السياسية على مختلف سلطات الدولة لدرء خطر الاستبداد.
ثانيا: الإيديولوجية المحافظة
ظهرت الإيديولوجية المحافظة كرد فعل على الثورة الفرنسية وعملية التحديث الاجتماعي في الغرب، وهي تنبع من الرغبة في الحفاظ على التقاليد والنظم والمؤسسات الاجتماعية القائمة، لأنها تمنح إحساسًا لأفراد المجتمع بالهوية والانتماء والأمن والاطمئنان، خلافًا للتغيير الذي تنظر إليه تلك الإيديولوجيا على أنه "رحلة نحو المجهول"، مما يولد شعورًا باللايقين وعدم الاطمئنان، ومن ثم فهي تدعو إلى مقاومته ومنع حدوثه.
ثالثا: الإيديولوجية الاشتراكية
يرتكز الفكر الاشتراكي بخلاف الليبرالي على الاعتقاد بأولوية الجماعة على الفرد، إذ يصدر من تصور مناقض للتصور الفرداني عن الطبيعة البشرية، بحيث يصور الأفراد ككائنات اجتماعية، لا يمكن تَعَقل وجودها بمعزل عن الآخرين والظروف الاجتماعية. ومن هذا المنطلق، فإن العلاقات الاجتماعية ينبغي أن تقوم بالأساس على التعاون والتكاتف، لا على التنافس الذي يشجع على الأنانية والعدوان، إذ ينافح الاشتراكيون عن الحوافز المعنوية للعمل، التي تنصرف إلى الرغبة في المساهمة في الخير العام ومساعدة المحتاجين.
وإضافة إلى النزعة الجماعية، يؤمن الاشتراكيون بقيمة المساواة الاجتماعية، إذ يرفضون الرؤية الليبرالية التي تقصرها على المساواة في الفرص دون التوزيع (= توزيع الثروة والدخل)، نظرًا إلى أنها تربي عقلية البقاء للأصلح. ولكن رغم إجماعهم حول هذه القيمة، يختلف الاشتراكيون في تحديد مداها، بين الشيوعيين الماركسيين التقليديين الذين يدعون إلى المساواة الاجتماعية المطلقة عبر إلغاء مؤسسة الملكية الخاصة والتحول إلى الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج، وبين الديمقراطيين الاشتراكيين (يسار الوسط) ينادون بالمساواة الاجتماعية النسبية من خلال إعادة توزيع الثروة بواسطة دولة الرفاه الاجتماعي لإقرار الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية.
وقد أضاء الكاتب في هذا الفصل أهم منطلقات كارل ماركس الفكرية، حيث وصف هذا الأخير نتاجه الفكري بالاشتراكية العلمية لأنه لم يكتف بتقديم نقد أخلاقي للرأسمالية، وإنما عمل أيضا على سبر عملية التطور التاريخي والاجتماعي، من طريق تبنيه منهج الفهم المادي للتاريخ أو ما عُرف بالمادية التاريخية، حيث خلص إلى أن المبنى الفوقي ما هو إلا انعكاس للمبنى التحتي للمجتمع، بمعنى أن الظروف المادية والاقتصادية هي التي تحدد أوضاع السياسة والقانون والمجتمع، إذ اعتبر أن الأفكار السائدة هي أفكار الطبقة المسيطرة اقتصاديًا (البورجوازية)، وأن الطبقة التي تملك وسائل الإنتاج المادي(الثروة) هي التي تملك وسائل الإنتاج العقلي (الثقافة والأفكار والقيم الاجتماعية).
كما لا يمكن فهم تحليل ماركس للتاريخ دون استحضار منهج المادية الجدلية أو الديالكتيك الذي طوره من هيغل، والذي يشير إلى أن التقدم هو ثمرة الصراع، بمعنى وجود الفكرة ونقيضها. وهكذا، تنبأ ماركس بحتمية انهيار الرأسمالية، لأنها تحتوي على نقيضها أي البروليتارية، إذ ينظر ماركس إلى التاريخ على أنه صراع ممتد بين المضطهدين (بكسر الهاء) والمضطهدين (بفتح الهاء) أي بين السادة والعبيد، بين ملاك الأراضي والأقنان، بين البورجوازية والبروليتارية، وأن نهاية التاريخ أو الصراع ستتحقق بتشكل المجتمع الشيوعي، القائم على الملكية الجماعية والمشتَرَكة لوسائل الإنتاج مما يضع حدا لجدلية الصراع الطبقي.
وبالنسبة لأهم ملامح نقد ماركس للنظام الرأسمالي، نستحضر هنا مفهوم الاغتراب الذي تسببه الرأسمالية للإنسان، بالنظر إلى أن العامل ينتج سلعا ليس في حاجة إليها، وإنما الهدف الأساسي من هذه العملية هو در الأرباح على ملاك رؤوس الأموال. كما أضاء ماركس على الاستغلال الاقتصادي الذي يتجسد في حرمان العمال من فائض القيمة لحصولهم على رواتب أقل من قيمة العمل التي ينتجونها. ولذلك، يراهن ماركس على أن الطبقة العاملة ستطور من تلقاء ذاتها وعيا طبقيا، سيؤدي إلى الإطاحة بالرأسمالية، في حين تشدد الماركسية اللينينية (نسبة إلى فلاديمير لينين قائد الثورة البلشفية) على الحاجة إلى حزب ثوري طليعي يقود الطبقة البروليتارية من الوعي النقابي إلى الوعي الطبقي الثوري .
رابعا: الإيديولوجيا القومية
تعود جذور القومية إلى الثورة الفرنسية، التي اندلعت باسم الأمة والسيادة الشعبية، وهو ما يجد أساسه في تنظيرات الفيلسوف جان جاك روسو. غير أن فكرة القومية لم تعد حكرا على فرنسا، بعدما انتشرت في مجمل أنحاء القارة الأوروبية على خلفية الحروب النابوليونية (1815_1792)، التي عززت الوعي القومي، لا سيما وأن أوروبا في تلك الفترة لم تكن تعرف قيام دول وطنية كما هو عليه الحال الآن، إذ شهدت تلك الحقبة هيمنة الإمبراطوريات والممالك والإمارات كما كان عليه الحال مع إيطاليا وألمانيا (بالتسمية الحالية). وعليه، فالغاية الأساسية للفكرة القومية هي تشكيل نموذج الدولة- الأمة (l'État nation) .
وترتيبًا على ما سبق، فإن القضية المركزية للإيديولوجية القومية هي إيمانها بأن الأمة ينبغي أن تمثل المبدأ المركزي للتنظيم السياسي، بحيث تتطابق الحدود القطرية للدولة مع حدود الانتماء القومي لمواطنيها، كما ذهب إلى ذلك جون ستيوارت مل. وهنا وجب التمييز بين المفهوم الضيق للأمة الذي يختزلها في وجود روابط تضامن مشتركة بين أعضائها، كاللغة والدين والتاريخ المشترك، والذي اقترن بالفكر القومي الألماني والتيارات المحافظة والفاشية، والمفهوم الاستيعابي للأمة كما جسدته النظرية القومية الفرنسية، بحيث يمكن أن تكون الأمة في هذه الحال متعددة الانتماءات الإثنية والدينية والثقافية، ما دام أن الرابط بين أعضائها هو فكرة المواطنة والوعي بالمصير المشترك، وهو المنظور الذي تدافع عنه التيارات الليبرالية والتقدمية.