تذهب إحدى الأطروحات المركزية في النقاش الرّاهن حول "ما بعد الديموقراطيّة" إلى التأكيد على أنّ الديموقراطيّات الحديثة تخضع، بشكل متصاعد، لسيطرة نخب تتمتّع بالامتيازات، خلف واجهة من المبادئ الديموقراطيّة الشكليّة. كما يؤدّي اعتماد سياسة نيوليبرالية إلى "استعمار" الدولة من قبل مصالح كتل اجتماعية ومؤسّسات اقتصادية، ممّا يجعل القرارات السياسية الهامّة تتّخذ اليوم خارج القنوات الديموقراطيّة التقليدية. وينعكس فقدان المؤسّسات الديموقراطيّة للمشروعيّة في تفاقم الاستلاب السياسي.
لا أرفض هذه النظريّة ولكنّي أعتقد مع ذلك أنّنا عندما نبحث في أسباب تلك الظاهرة، بالنظر إلى إمكانية قلب ذلك الاتجاه من جديد، فلا بدّ لنا أيضا من إبراز الدور الذي لعبته أحزاب الطيف اليساري في سيرورة استلاب السياسة الديموقراطية.
الأفق "ما بعد السياسي" للمجتمعات الديموقراطية
بحثت في كتابي الذي يحمل عنوان "السياسي" (1)، الأسباب العميقة لظهور الأفق "ما بعد السياسي" والتي أصبحت، في الأثناء، تهيمن على المجتمعات الليبرالية الديموقراطية. تتمثّل أطروحتي في أنّ الأفق "ما بعد السياسي" مرتبط بكون الأحزاب الاشتراكية الديموقراطية الأوروبية قد اتّبعت، خلال العقود الماضية، استراتيجية للتحرّك باتجاه وسط الساحة السياسيّة.
تمّت بلورة هذه الاستراتيجية لأوّل مرّة من قبل أنثوني غيدنز (Anthony Giddens) ، وهو عالم اجتماع بريطاني، تحت يافطة "الطريق الثالث" لصالح "حزب العمّال الجديد" بإنجلترا. وتدّعي هذه المقاربة أنّ المجتمعات الغربية بلغت مرحلة ثانية من الحداثة هي مرحلة "التحديث الواعي"، حيث يصبح النموذج السياسي الذي استندت إليه المرحلة الأولى، والمتميّزة بما يسمّى بالتحديث "البسيط" المعتمد على التناقضات (أي الصراعات الاجتماعية ..)، أمرا تجاوزه الزمن. يفسّر غيدنز كيف أنّه أصبح من الضروري اليوم التفكير "فيما وراء اليمين واليسار" (2) والسعي إلى سياسة جديدة "للوسط الراديكالي" تتجاوز ذلك التقسيم القديم.
تمّ تبني مثل هذه النظرة لاحقا من قبل أحزاب اشتراكية واشتراكية ديموقراطية بدأت تقدّم نفسها على أنّها "يسار الوسط" بما يعنيه ذلك من ابتعاد صريح عن المكوّنات السابقة المعادية للرأسمالية. ولكنّ أحزاب يسار الوسط – بطموحها لتحديث المشروع الاشتراكي الديموقراطي من أجل ملاءمته لعصر العولمة- قد "استسلمت" في الواقع أمام التيّار النيوليبرالي. وقبلت تلك الأحزاب النظام القائم بعد أن اقتنعت بغياب أيّ خيار حقيقي للفعل السياسي وتخلّت عن كلّ المحاولات الساعية إلى وضع موازين القوى القائمة موضع التساؤل. وأصبحت تقتصر على محاولة إظهار الإمكانيات التي تسمح بتشكيل العولمة النيوليبرالية بطريقة "أكثر إنسانية". ولكن يصعب، في هذا المجال تحديدا، تمييز الأحزاب المختلفة عن بعضها البعض.
التبعات فيما يخص تصوّر السياسة الديموقراطيّة
إنّ هذا "التوافق للوسط السياسي" له تبعات سلبية على تشكيل السياسة بأسلوب ديموقراطي. فالنفور الحالي من السياسة، والذي أدّى إلى تراجع حادّ للمشاركة في الانتخابات، يفسّر في الواقع بغياب اختيار حقيقي بين بدائل يمكن التمييز بينها بوضوح. وساعد التقارب بين أحزاب الوسط من اليمين واليسار ببلدان عديدة، فضلا عن ذلك، في صعود أحزاب شعبوية يمينية الاتجاه يستند نجاحها إلى أسباب ليس آخرها كونها تظهر نفسها على أنّها الوحيدة التي تقترح بديلا حقيقيا للنظام القائم. ويبدو لي أنّ دور هذا الوضع "ما بعد السياسي" لم يؤخذ بعين الاعتبار بما فيه الكفاية في النقاش حول "مابعد الديموقراطية". من الطبيعي أن يكون مهمّا فهم تحوّلات النظام الرأسمالي التي أنشأت الشروط الاقتصادية لنجاح العولمة الليبرالية. ولكنّ تلك التحوّلات لا تفسّر مع ذلك اندثار الحوار الديموقراطيّ الحيّ حول الإمكانيّات المتعدّدة لتنظيم العلاقات الاجتماعية وكذلك المرافق العامّة.
ويجب على الأحزاب الجماهيرية أن تكون في هذا السياق أيضا واعية بمسؤولياتها إزاء هذه السيرورة. فبسبب عجزها عن إدراك أنّ السياسة في جوهرها يجب أن تكون حزبية وأنّ السياسة الديموقراطيّة تحتاج إلى جدل بين مشاريع متصارعة مع إمكانية الاختيار بين بدائل حقيقية، ساهمت سياسة "الطريق الثالث" في "استلاب السياسة" الذي يكمن في صميم وضعنا "ما بعد الديموقراطي".
عندما يحصل الانطباع للمواطنات والمواطنين بأنّهم لم يعودوا قادرين على المساهمة في القرارات الأساسية المتعلّقة بشؤونهم المشتركة وأنّ الخبراء وحدهم هم الذين يشتغلون بالمسائل السياسية، لأنّها ينظر إليها على أنّها مشاكل تقنية معقّدة، يحصل بذلك تعرية المؤسسات الديموقراطية من جوهرها والسطو على شرعيّتها. وتصبح الانتخابات مقصورة على مباركة إجراءات فاعلين مختلفين، لا يجب تحمّل مسؤوليّة مصالحهم بشكل علني. وبذلك تفقد السيرورة الديموقراطيّة مبرّر وجودها.
الحرّية والمساواة
من البديهي أن تدّعي مجتمعاتنا لنفسها دائما وصف الديموقراطية. ولكن ماذا تعني "الديموقراطية" في عصرنا "ما بعد السياسي" ؟ عندما درست جوهر الديموقراطية الليبرالية في كتابي "المفارقة الديموقراطية" (3)، وضعت العلاقة المتوتّرة بين مبدأيها الأخلاقيين السياسيين أي الحريّة والمساواة في الصدارة. إذ علينا فهم الديموقراطية الليبرالية كتأليف بين تقليدين : التقاليد الليبرالية لسيادة القانون والحقوق الفردية من ناحية والتقاليد الديموقراطية لسيادة الشعب من ناحية ثانية. وقد بيّن الباحث الكندي في العلوم السياسية كراوفورد برو ماكفرسون ( Crawford Brough Macpherson) كيف اصطبغت الليبرالية بالديموقراطية والديموقراطية بالليبرالية بفضل ذلك التأليف الذي ظهر خلال القرن التاسع عشر.
ولكن كان هناك مع ذلك دائما علاقة توتّر بين مقتضيات الحريّة ومتطلّبات المساواة، وهو توتّر يتسبّب إلى اليوم في ديناميكية المواجهة بين اليسار واليمين على المستوى السياسي. ويمكن عرض التاريخ السياسي للديموقراطية على أنّه صراع من أجل سيادة أحد هذين المبدأين على الآخر. فقد هيمن في بعض الفترات الطابع الليبرالي وفي أخرى الطابع الديموقراطي، ولكنّ النزاع بقي مفتوحا.
وفي ظلّ الهيمنة الحالية للنيوليبرالية مع ذلك فإنّ المكوّن الليبرالي أصبح طاغيا إلى درجة أنّ المكوّن الديموقراطيّ يكاد يتلاشى. صارت الديموقراطية تفهم اليوم على أنّها دولة القانون والدفاع عن حقوق الإنسان، في حين أنّ فكرة سيادة الشعب تعتبر متجاوزة ومتروكة. أمّا من يتمرّد على قواعد النخب ويصرّ على إعطاء الشعب حقّ المساهمة في صنع القرار وفتح المجال لاحتياجاته، فيتمّ رفضه على أنّه "شعبوي".
أعتبر هذا الكبت للتقاليد الديموقراطيّة أحد أهمّ معالم وضعنا "ما بعد الديموقراطي". وبدون التخلّي عن سياسة "التوافق على مستوى الوسط الاجتماعي"، التي هي أحد أسباب تزايد تهميش المؤسسات الديموقراطية، لا يبقى أي أمل في الإفلات من اتجاه "ما بعد الديموقراطية". ويجب النضال السياسي ضدّ تمييع الحدود بين اليسار واليمين.
إعادة إحياء الديموقراطية
مع كلّ الاحترام لمنظّري "الطريق الثالث" فإنّ مثل هذا التمويه ( الذي يعبّر عنه الوصف)، عوض أن يساعد على تحقيق تقدّم نحو ديموقراطية "ناضجة"، يساهم في انحطاطها. يجب إعادة إحياء السيرورة الديموقراطية بشكل عاجل، وهو ما لا يمكن أن يحدث إلاّ من خلال بدء أحزاب اليسار لهجوم رافض للهيمنة وموّجه للمحاولات الهادفة إلى تحطيم مؤسّسات الرفاه الاجتماعي وخوصصة مجمل الحياة الاجتماعية وإخضاعها لقواعد السوق. وإذا لم يستطع اليسار السياسي تعبئة آمال وحماس الناس من أجل مجتمع أكثر عدلا ومساواة، فإنّ الخطر الجدّي يبقى من أن تحاول الأحزاب الشعبوية ذات الاتجاهات اليمينية احتلال هذا المجال. وسيكون ما ينتظرنا عندها أسوأ من "ما بعد الديموقراطيّة".
---
* Chantal Mouffe : مفكّرة سياسية بلجيكية من مواليد سنة 1943 وهي أستاذة بقسم العلوم السياسيّة والعلاقات الدولية بجامعة وستمنستر/لندن.
نشر هذا المقال بملحق جريدة "داس برلمانت" ( البرلمان) الألمانية الأسبوعية بتاريخ 3 /1/2011 .
Aus Politik und Zeitgeschichte ( Beilage von Das Parlament )
مراجع :
Vgl. Chantal Mouffe, On the Political, London 2005 (deutsche Übersetzung: Chantal Mouffe, Über das Politische. Wider die kosmopolitische Illusion, Frankfurt/M. 2007).
2) Vgl. Anthony Giddens, Jenseits von Links und Rechts, Frankfurt/M. 1997 (Originalausgabe: Anthony Giddens, Beyond Left and Right. The Future of Radical Politics, Cambridge 1994).
3) Vgl. Chantal Mouffe, The Democratic Paradox, London-New York 2000 (deutsche Übersetzung: Chantal Mouffe, Das demokratische Paradox, Wien 2008).