في لقاء مطول أجرته معه مجلة لندن ريفيو الأدبية مؤخرا تحدث الكاتب والروائي البيروي ماريو فارغاس اليوسا الحاصل على جائزة نوبل عن تجربته الأدبية والحياتية فكان معه هذا الحوار .
أنت كاتب معروف جيدا وقراءك قد تعودوا على ما كتبت فهل يمكن أن تخبرنا عما تقرأه أنت ؟
اليوسا: خلال السنوات القليلة الماضية حصل لي شيء غريب . فقد لاحظت إنني بدأت اقرأ اقل فاقل للكتاب للمعاصرين بينما تزداد قراءتي أكثر فأكثر للكتاب الماضين . فقد قرأت لكتاب القرن التاسع عشر أكثر مما قرأت لكتاب القرن العشرين . ففي تلك الأيام كنت أميل أكثر نحو المقالات والتاريخ أكثر من الأعمال الأدبية ولم أكن أفكر كثيرا للسبب الذي يدعوني لقراءة ما قرأت ، فربما تكون بعض الأسباب متعلقة بمهنتي ككاتب، فمشاريعي الأدبية كانت تتعلق بالقرن التاسع عشر مثل مقال يتعلق برواية البؤساء لفيكتور هوغو مثلا أو رواية تم استلهامها من حياة فلورا تريستان او بمصلح اجتماعي بيروي يؤمن بمساواة الجنسين. الحقيقة حينما تكون في الخامسة عشر او الثامنة عشر من عمر تشعر انك تملك امامك كل الوقت الموجود في العالم لكنك حينما تبلغ الخمسين تدرك أن ايامك معدودة ويجب أن تكون انتقائيا في اختيارك وهذا ربما احد الاسباب التي جعلتني لا اقرأ الكثير عن المعاصرين .
لكن من بين معاصريك من الذين قرات لهم ومن تحترم منهم بالخصوص؟
اليوسا: حينما كنت شابا كنت قارئا شغوفا بسارتر وقرأت للروائيين الأمريكان وخصوصا الجيل المفقود امثال فولكنر و همنغواي وفيتزجرالد ودوس باسوس . كان فولكنر بالخصوص احد المؤلفين الذين قرأت لهم حينما كنت شابا ، وهو واحد القلائل الذين مازالت قراءتهم تعني لي الكثير ولم اشعر بالإحباط ابدأ حينما أعيد قراءته مقارنة بسارتر او همنغواي .
فولكنر كان أول روائي اقرأ له وأنا أضع الورقة والقلم في يدي لأن التقنية التي كان يستخدمها أذهلتني وهو أول روائي أنا حاولت بوعي أن أعيد بناءه من خلال تتبعه من خلال مثلا عملية ترتيب الزمن وتقاطع الوقت والمكان والتوقفات أثناء القص والقابلية على رواية قصة من مختلف وجهات النظر لخلق نوع من الغموض وإعطائه عمقا إضافيا.
كأمريكي لاتيني اعتقد أن من المفيد بالنسبة لي قراءة كتبه لأن فيها مصدرا ثمينا من التقنيات الوصفية التي يمكن تطبيقها في العالم الذي بمعنى ما لا ينتمي إلى العالم الذي وصفه فولكنر. كما أنني قرأت لاحقا روائيي القرن التاسع عشر أمثال فلوبير وهوثورن وبلزاك وديستوفيسكي وستندال وديكنز وملفل ومازلت قارئا نهما لكتاب القرن التاسع عشر .
بالنسبة لأدب أمريكا اللاتينية فالغريب لم يكن لي اهتمام به حتى عشت في أوروبا و اكتشفته وقرأته بحماس كبير لأنه كان علي أن أقوم بتدريسه في جامعة في لندن وكانت تجربة غنية للغاية لأنها أجبرتني على التفكير في أدب أمريكا اللاتينية ككل فقرأت بورخس الذي كنت على دراية بأدبه جنبا إلى جنب مع كاربنتيه وكورتازار وغيمراش روزا وكل الجيل ما عدا ماركيز الذي اكتشفته لاحقا وكتبت كتابا عنه ثم بدأت بقراءة أدب القرن التاسع عشر اللاتيني لأني كان يجب أن ادرسه.
وأدركت أن لدينا كتاب ممتعون للغاية وربما يكون الروائيون أقل إمتاعا من كتاب المقالات والشعراء وربما يكون سارمنتو والذي لم يكتب أي رواية في رايي واحدا من اعظم كتاب القصص الذين انتجتهم أمريكا اللاتينية. لكن إذا كان لي أن اختار اسما واحدا فأنني سأقول بلاشك بورخس لأن العالم الذي يخلقة يبدو لي أصيلا تماما وبصرف النظر عن هذه الأصالة الهائلة فانه يمتلك أيضا خيالا كبيرا وثقافة كبيرة ثم هناك أيضا لغة بورخس، والتي تتدفق في إحساس تقاليدنا وتفتح لغة جديدة فاللغة الاسبانية هي لغة تميل نحو الوفرة والانتشار. فكل الكتاب العظماء لدينا مسهبون من سرفاتنس الى اورتيغا لكن بورخس هو الإيجاز المعاكس للجميع في الاقتصاد والدقة فهو الكاتب الوحيد في اللغة الاسبانية الذي لدية من الأفكار بقدر ما لدية من الكلمات . انه واحد من كبار الكتاب في عصرنا.
ما هي علاقتك ببورخس ؟
اليوسا : لقد رايته أول مرة في باريس حيث كنت أعيش في مطلع الستينيات وكان يقدم حلقات دراسية رائعة عن الأدب . ثم أجريت مقابلة تلفزيونية معه لمكتب راديو وتلفزيون فرنسا حيث كنت اعمل في ذلك الوقت. ومازلت أتذكر ذلك بكل محبة ، بعد ذلك تقابلنا عدة مرات في مناطق مختلفة من العالم حتى في ليما عاصمة بيرو حيث دعوته للعشاء هناك وطلب مني في النهاية أن أقوده للمرحاض وحينما كان يتبول قال لي فجأة هل تعتقد أن الكاثوليك جادون ؟ أنا لا اعتقد ذلك.
آخر مرة رايته فيها كان في منزله في بوينس آيرس في الأرجنتين وقابلته في برنامج تلفزيوني كان لي في بيرو، لكن كان لدي انطباع أنه استاء من بعض الأسئلة التي وجهتها له .
الغريب أنه غدا مجنونا لأنه بعد اللقاء الذي كنت فيه متعاطفا جدا معه . وليس بسبب الاحترام الذي أكنه له لكن أيضا بسبب التأثير الذي كنت أحسه لهذا الرجل الساحر والهش فقلت أنني فوجئت بتواضع بيته بحيطانه المقشرة وسقفه الذي يحتوي على بعض التسربات ويبدو أن هذه الملاحظة أهانته بعمق.
لقد رايته أيضا بعد ذلك وقابلني ببرود جدا حيث أخبرني اوكتافيو باث بانه كان مستاء جدا من ملاحظاتي حول بيته. الشيء الوحيد الذي آذاه هو ما قلته وماعدا ذلك لم افعل أي شيء ما عدا مدحه وأنا لا اعتقد انه قرأ كتبي فطبقا لما يقوله فهو لا يقرأ لكاتب حي بعد أن بلغ الأربعين لأنه يقرا ويعيد قراءة نفس الكتب لكنه كاتب احترمه كثيرا وهو ليس الوحيد بالطبع ، فهناك بابلو نيرودا وهو شاعر استثنائي واوكتافيو باث الذي ليس شاعرا عظيما فحسب بل كاتب عظيم أيضا ورجل لبق في السياسة والفن ومازلت اقرأه باستمتاع عظيم كما أن افكارة السياسة مشابهة كثيرا لأفكاري.
لقد أشرت الى نيرودا من بين الكتاب الذين كنت تحترمهم وقد كنت صديقة فكيف كان يبدو؟
اليوسا: نيرودا كان عاشقا للحياة وكان جامحا في كل شيء في الرسم وفي الفن عموما والكتب والطبعات النادرة والطعام والشراب فقد كان الأكل والشرب بالنسبة له تجربة صوفية وهو رجل محبوب ورائع ومليء بالحيوية وإذا تناسينا قصائده في مدح ستالين فهو قد عاش في عالم شبه إقطاعي حيث كل شيء يؤدي إلى الابتهاج بالنسبة له وكانت لديه غزارة وفيرة للحياة .
كان حظي جيدا أنني كنت اقضي عطلة نهاية الأسبوع في جزيرة نيجارا معه وكان كماكنة اجتماعية فريدة من نوعها تعمل من حوله جحافل من الناس كانت تطبخ وتعمل وهناك أعداد من الضيوف فقد كان مجتمعا طريفا جدا وحيا بشكل استثنائي دون أثر للفكر والعقلانية .
نيرودا كان على العكس تماما من بورخس الذي كان يبدو رجلا لا يشرب أبدا أو يدخن أو يأكل والذي قال مرة أنه لم يمارس الحب فهذه الأشياء بالنسبة له كانت ثانوية وإذا قام بها فهي بالنسبة له خارجة عن اللياقة وليس أكثر من ذلك ،وهذا ربما يكون بسبب الأفكار والقراءة والانعكاسات والخلق الذي كانت عليه حياته. نيرودا كان خارجا من تقاليد جورجي أمادو ورفائيل البرتي والتي تقول أن الأدب يتولد من الخبرة الحسية للحياة.
أتذكر اليوم الذي أراد فيه نيرودا ألاحتفال فيه بعيد ميلاده في لندن وكان قد أراد أن تكون الحفلة على قارب في نهر التايمز ولحسن الحظ كان واحدا من المعجبين به وهو الشاعر ألأنكليزي اليستر ريد يعيش على متن قارب في نهر التايمز حيث كنا قادرين على تنظيم حفلة له وجاءت اللحظة التي أعلن فيها انه ذاهب لتقديم الكوكتيل . وكان المشروب الأكثر غلاء في العالم وكنت لا اعلم كم عدد زجاجات الدوم بيرغون وعصائر الفاكهة والله يعلم ماذا بعد وكانت النتيجة بالطبع رائعة لكن كأسا واحدا من ذلك الشراب كان كافيا لأن يجعلك سكرانا لذلك كنا هناك جميعا وبدون استثناء في حالة سكر ومع ذلك ما زلت أتذكر ما قاله لي في ذلك التاريخ وهو الحقيقة العظيمة التي ثبتت على مر السنين .
لقد كان هناك مقال حولي لا أتذكر عما كان يتحدث بالضبط لكنني كنت مستاء ومنزعجا لأن فيه اهانة وأكاذيب عني وقد أريته لنيرودا . في منتصف الحفلة قال لي نيرودا وكأنما يتنبأ " لقد غدوت شهيرا وأريدك أن تعرف ما ينتظرك ، كلما أصبحت أكثر شهرة كلما تعرضت لهجمات كهذي فلكل مديح ستجد أمامه اثنين أو ثلاث من الشتائم . و صدري مليء بمثل هذه الشتائم والخباثة والخسة لكن على الرجل أن يتحمل ولم انفصل عن أي واحد فاللص والبلطجي والديوث و كل شيء إذا أصبحت مشهورا ستمر بهم ". لقد قال نيرودا الحقيقة وجاء تشخيصه صحيح تماما. وليس لدي صدري لأحتفظ بهذه الاهانات فحسب بل كانت لدي حقائب كاملة مليئة بالمقالات التي تحتوي على كل اهانة يعرفها رجل.
ماذا عن غابريل غارسيا ماركيز ؟
اليوسا: لقد عشنا كجارين لمدة عامين في برشلونة في الشارع نفسه وكنا أصدقاء لكننا افترقنا عن بعضنا البعض لأسباب سياسية وشخصية . لكن سبب الانفصال بالأصل كان شخصيا وليس له علاقة بمعتقداته الإيديولوجية والتي كنت لا أوافق عليها أيضا ، وفي رأيي الشخصي إن كتاباته وسياسته ليسا على نفس القدر من النوعية ولنقل إنني احترم أعماله ككاتب وكما قلت سابقا إنني كتبت كتابا ب600 صفحة عن أعماله لكنني لا احترمه كثيرا كشخص وليس بسبب معتقداته السياسية والتي لا تبدو جادة بالنسبة لي لأنني اعتقد انها انتهازية وذات منحى دعائي.
فيما يتعلق بمشكلتك الشخصية مع ماركيز هل هي مرتبطة في حادث دار السينما في مكسيكو حيث زعمت انك تشاجرت بالأيدي معه؟
اليوسا : كان هناك حادث في المكسيك لكن هذا الموضوع لا يهمني مناقشته فقد أثار الكثير من التكهنات لدرجة إنني لا أريد إعطاء الموضوع المزيد من المادة للمعلقين وإذا كتبت مذكراتي ربما سأذكر القصة الحقيقية لما حصل.
هل تختار مواضيع كتبك أم هي التي تختارك ؟
اليوسا: بقدر تعلق الأمر بي اعتقد بان الموضوع هو من يختار الكاتب ، وكان لدي شعور دائما ان بعض القصص تفرض نفسها علي ، ولا استطيع تجاهلها لأنها وبطريقة غامضة مرتبطة ببعض التجارب الأساسية – ولا استطيع في الواقع أن أقول كيف حدث هذا. على سبيل المثال الوقت الذي أمضيته في مدرسة ليونيكو برادو العسكرية في ليما حينما كنت شابا صغيرا منحني حاجة حقيقية ورغبة استحواذية في الكتابة .
لقد كانت تجربة مؤلمة للغاية والتي أشرت بالعديد من الطرق نهاية طفولتي وإعادة اكتشاف بلادي كمجتمع عنيف ، مليء بالمرارة ويتألف من فصائل اجتماعية وثقافية وعرقية متعارضة ومنغمسة في معركة شرسة أحيانا . واعتقد أنها تجربة كانت ذات تأثير علي لكن شيئا واحدا أنا متأكد منه هو أنها خلقت لدي حاجة ماسة للخلق والإبداع.
ولحد الآن هذه التجربة موجودة على حالها في كل كتبي فلم احصل أبدا على شعور انني اقرر عقلانيا أن اكتب وبدم بارد قصة ، بل على العكس، هناك أحداث معينة أو أناس وفي بعض الأحيان أحلام أو قراءات تفرض نفسها فجأة وتطلب مني الاهتمام.
ولذا تراني أتحدث كثيرا عن أهمية العناصر اللاعقلانية في الإبداع الأدبي ، وهذه اللاعقلانية في اعتقادي يجب أن تمر أيضا إلى القارئ، أنا أحب أن تقرأ رواياتي بنفس الطريقة التي أقرا فيها روايات أحبها . الروايات التي سحرتني هي الروايات التي وصلت إلي من خلال قنوات اقل من العقل والسبب . هذا النوع من القصص قادر بالكامل على تدمير كل قدراتي الحرجة والتي تتركني هناك معلقا .
هذا النوع من الروايات أحب قراءته والنوع الذي أحب أن اكتبه واعتقد أن من المهم جدا للعنصر الفكري والذي يشكل وجوده أمر لامفر منه في الرواية أن يذوب في العمل . القصص يجب ان تغوي القارئ ليست بأفكارها بل في ألوانها وفي العواطف التي تثيرها وعناصر المفاجأة فيها والتشويق والغموض التي تكون قادرة على خلقه. وفي رأيي الشخصي أن تقنيات الرواية قد وجدت بالأساس لأنتاج هذا التأثير وهو تقليل او إلغاء –إذا كان هذا ممكنا- المسافة بين القارئ والقصة. بهذا المعنى أنا كاتب من القرن التاسع عشر فالرواية بالنسبة لي ما تزال رواية مغامرات وتقرا بالطريقة التي وصفتها.
هل بالإمكان أن تخبرنا عن عادات عملك؟ كيف تعمل ؟ كيف تنشأ الرواية؟
اليوسا: في البدء هي مثل حلم يقظة ، نوع من التأمل حول شخص ما ، موقف ،شيء ما يحدث في العقل ، ثم ابدأ بتسجيل الملاحظات وملخصات لسير السرد ، شخص ما يدخل المشهد ، يغادر هناك أو يفعل هذا الشيء أو ذاك .
حينما ابدأ بالعمل على الرواية نفسها ارسم موجزا عاما عن الحبكة التي لابد أن أتمسك بها وربما أغيرها بالكامل من خلال سيري معها وهو ما يسمح لي بالبدء من جديد ثم أضعها معا بدون اقل انشغال بالأسلوب ثم اكتب وأعيد كتابة نفس المشاهد وخلق مشاهد متناقضة جدا. المادة الخام تساعدني ، تطمئنني لكنه جزء الكتابة الذي امضي معه أصعب الوقت .
حينما أكون في هذه المرحلة ، امضي بحذر جدا لأنني دائما غير متأكد من النتيجة فالنسخة الأولى مكتوبة بحالة حقيقية من القلق ، ثم حينما انهي المسودة والتي تأخذ أحيانا وقتا طويلا فمسودة رواية " حرب نهاية العالم" قد استغرقت مني عامين تغير فيها كل شيء . اعتقد أن ما أحبه ليس الكتابة نفسها لكن إعادة الكتابة والتحرير والتصحيح واعتقد أنه الجزء الأكثر إبداعا في الكتابة. أنا لا اعرف ابدأ متى انهي قصة فقطعة اعتقدت أنها تنتهي ببضعة شهور قد تستغرق أحيانا بضع سنوات من اجل إنهائها .
الرواية تنتهي بالنسبة لي حينما اشعر بأنني حينما لا انهيها حالا فسوف تنتصر علي وحينما أصل إلى درجة الإشباع وعندما أتحمل الكثير وعندما لا استطيع أن اكتب فيها مجددا عند ذاك تنتهي القصة.
لماذا تكتب ؟
اليوسا : اكتب لأنني حزين، واكتب لأنها طريقة لمكافحة الحزن.