ـ لم تفقد المعارف المرتبطة بالوحي انتشارها أبدا منذ قرون,و يستمر حضور الأديان و مؤسساتها . و تزدهر الفرق بمعاضدة أشكال ناجعة من السلطة الاقتصادية, كما يقع تضخيم المعتقدات الغيبية من قبل وسائل الإعلام.في خضم ذلك يحافظ العلم اليوم بما هو إنشاء معارف موضوعية وكلية مراقبة عن طريق التجربة على صواب أحكامه التي أضفاها عليه فلاسفة الأنوار.فهو حقل محايد يصف الظواهر و ترابطها.و " يتخلى عن البحث في أصل الكون و مصيره و عن معرفة العلل الخفية للظواهر ليهتم فقط باكتشاف قوانينها أي علاقات التتالي و التماثل الثابتة عن طريق استخدام مركب جيد ا من الاستدلال و التجربة ". لكن يجب علينا ملاحظة أن الوضعية تذهب أبعد من ذلك بكثير و لا تتوانى عن اعتبار الفكر العلمي الإطار الملائم للتسيير الأفضل للشؤون الإنسانية بشرط استبعاد " المجازات المأخوذة على أنها استدلالات " من جهة و " إنشاء القواعد العامة الملائمة وسيلة موثوقة في البحث عن الحقيقة " من جهة أخرى.
إن من سمات الحداثة عموما اعتبار أن المتطلبات المنهجية للعلم ليست ملائمة فقط لحركة المعرفة بل هي شرط كل تقدم حقيقي لها, مستبعدة كل شكل آخر من التمثل و الفهم . فيما بعد سيكون كلود برنار في الطب من الداعين إلى اقتصار العلاج على ملاحظة الوقائع و أسبابها الفعلية فقط . هكذا وخلال القرن 19 وبتشجيع من التطور التقني سيزعم العلم أنه لا يتركب فقط من الحد الأدنى من التمثلات المتفق عليها فحسب بل إنه يشكل اللغة الوحيدة للحقيقة و النجاعة.
ـ ستدفع هذه الرؤية الأحادية الضريبة بفعل صعوبات منتشرة في مجالات متعددة لم ينتبه إليها الوضعيون أو طمسوها . ففي المقام الأول يبين التفكير في أسس علم الاجتماع أنه لا يمكن استبعاد البعد الاجتماعي لوعي الملاحظ و أن الأمر يتجاوز مجرد المحاذير المنهجية إلى بيان أن الدراسات الاجتماعية تكمن في الفهم الذي يظهر من خلال تعاطف العالم مع الوضعيات المدروسة . كما أن التحليل النفسي , رغم أن علميته لم تعد موضع جدل بعض مؤسسيه,يعترف له النقد بأن له تطبيقات ذات فضائل علاجية موضوعية(Grumbaum) حتى و إن قامت على علاقات ذاتية (Ricœur). و خلال القرن 20 , فإن اكتشاف المحدودية الداخلية لأشكال الصورنة (Gِdel – Church – Turing) و الإثبات التجريبي للمبادئ الغريبة للفيزياء الكوانطية ( اللاإنفصال ) , و خاصة ما كشف عنه نمو ما يعرف " الدراسات الاجتماعية (social studies) مع توماس كون حيث يدرس العلم داخل مؤسساته و علاقاته بالتقنية و المسارات الاجتماعية للمجادلات التي يحدثها , كل ذلك سيحدث شرخا عميقا. فالعلم الذي ظل بالنسبة للبعض مصدرا للآمال الأكثر جنونا , تحول لدى البعض الآخر إلى سبب لعدم الاطمئنان , فهو متهم بكونه قابل للتوظيف من قبل القوى التجارية , و أنه ذكوري في خدمة الرجال , و أنه يمثل أيضا خطرا على البيئة و أخيرا يسير دون دليل مدفوعا بفضول العلماء من جهة و السعي إلى الربح من جهة أخرى.
ـ لنفكر في اتجاه مختلف . هذه الانتقادات حتى و إن كانت مقبولة لا تتعلق إلا بالتفاؤل التقدمي للأنوار , و لا تضع موضع تساؤل الالتباس الأساسي الخاص بتصور للعلم يعتبره لغة "الحقيقة و النجاعة". ذلك أنه في الحد الأدنى ليس من البديهي أن الفضائل المكتسبة من أجل وصف الواقع بطريقة عقلانية , موضوعية وكلية هي نفسها الفضائل التي ننتظرها من لغة تواصل بين فاعلين , شركاء أو خصوم ,في إطار تعقد اللعبة الاجتماعية . يبدو أن هكذا لغة تتطلب معارف من طبيعة مختلفة : آثمة لأنها نافعة و نافعة لأنها آثمة. و قد درس علماء اجتماع أمريكيون هذه الظاهرة تحت مصطلح " الإنتاج الجديد للمعرفة New production of knowledge " و يميزونها عن غيرها بالحضور المستمر للتفاوض و ضرورة اعتبار مصالح الفاعلين المتعددين و الاختصاصات المتداخلة . و يمكن أن نذهب أبعد من ذلك فنقحم , استنادا إلى تحليل مفصل , دراسة الوسيط اللغوي لهذه المعارف الذي يبدو شبه ـاصطناعي : خليط من لغة مخصوصة و معنى أساسي هو النموذج يستخدم العلوم بماهي حقل مواد رمزية.
ـ يفترض النظر في أمر معارف أنفع من العلم توضيح هذه المرجعية المعيارية.هل يتعلق الأمر بمساعدة النمو الاقتصادي و تقديم خدمات للمؤسسات الاقتصادية ؟ ليس ذلك فحسب , يتعلق الرهان بالتقدم في اختيار مشاريع في ظل حضور مصالح متناقضة حيث يكون العلم قليل الحيلة.يتطلب نمو المدن و حماية المحيط أشكالا من التهيئة تفضل المصلحة الجماعية على مصلحة الأفراد و وجهات نظرهم إنها صعوبة تعيشها مجتمعاتنا و لا تستطيع الليبيرالبة الاقتصادية أن تجد لها حلولا . نطرح اليوم التساؤل الفلسفي القديم المتعلق بانتقاء المترشحين الذي كان حاضرا دائما لدى الإغريق القدامى.وهو مشكل ساهم أفلاطون في تقديم حل له من خلال نظرية المثل.و يبدو أنه يطرح اليوم على صعيد أكثر تعقيدا من التحالفات الفردية و الجمعيات و مجموعات الضغط و الشبكات الاقتصادية و فضاءات التمثيل الديمقراطي استنادا إلى مدونة علمية هائلة.
ـ يظل معنى المنفعة عاما ضبابيا و هو لا يمكن أن يكون إلا كذلك.إن العودة إلى هذا المعنى أمر مهم لأنه كان أحد الأسس الإيديولوجية للوضعية الأنجلوساكسونية مع ج.س.ميل معاصر أوغست كونت ومراسله, و مرتبط بالاقتصاد الليبرالي , و فيما بعد بالبحث العلمي دون عوائق إيتيقية curiosity driven research .
ـ ليسمح لي , من أجل التوضيح , أن أستعين بمثال حيث النافع يؤخذ في معنى أولي بما هو أداء مادي. من المعلوم أن "كأس أمريكا" مسابقة يتنافس فيها ليس الرياضيون فحسب بل كذلك التقنيون و الصناعيون بهدف صناعة القوارب الشراعية الأسرع و الأسهل قيادة و الأكثر صلابة من غيرها.
ـ إن الاستعدادات لهذه المناسبة يمكن أن يكون بطرق متنوعة.فلنتصور فريقا يتكون من الباحثين و المهندسين و الممولين و الرياضيين اللذين يتمسكون بأن لا يتواصلوا بينهم إلا حول وقائع موضوعية ظاهرة للعيان,تجريبية كانت أو نظرية,مستنبطة أو قابلة للقيس . في هذا الفريق يمكن للتقنيين من الناحية النظرية أن يتصوروا موادا ذات أداء جديد لكن يتم استبعاد هذه التصورات الذاتية من البرمجيات الإعلامية بهدف النجاعة.فالحسابات لا تتعلق إلا بالواقع و تؤوج الأشكال و الكميات و الوسائل.بالمقابل فإن فريق " بسي psy " ينشطه علماء نفس ـ اجتماعيين و يعملون على خلق مناخ من الثقة المتبادلة و روح انتصارية قادرة على جعل الرياضيين يعطون أفضل ما لديهم من قدرات. و لنتصور أخيرا , فريقا ثالثا يعتمد على المعارف العلمية المتوفرة في نفس الوقت الذي يستثمر فيه الإعلامية المعاصرة من أجل المقارنة بين أحلام تقنية متنوعة و تبادل وجهات نظر قد تكون تأليفية بهدف إنشاء مشروع مجدد و تحديد أهداف جماعية و فردية. سنسمي هذا الفريق "نمذجة".
ـ من المحتمل ألا يكون السؤال الأهم معرفة الفريق الأكثر حظا في الفوز , بل فهم لماذا اليوم في " كأس أمريكا" تحديدا كل الفرق هي من صنف فريق " نمذجة" حيث لا يهمل لا العلم و لا تحضيرات نفسية معينة بل يثمن حرية التعبير القصوى لكل المشاريع المتخيلة.
حالات عينية من معارف إجرائية:
لنترك الحكاية المثلية و لننظر في بعض الأمثلة الواقعية التي تصور لنا السجل الذي تتحدد فيه المنفعة التي سبق أن تحدثنا عنها . أول الأمثلة يتعلق بحركة المرور.
من النادر أن يهتم العلماء بهكذا أمر رغم أن الوقت الذي نقضيه في السيارة داخل التجمعات العمرانية الكبرى و القيمة الاقتصادية لصناعة السيارات و النقل البري و الطاقة المستهلكة و التلوث الناتج عن ذلك تدل كلها على أن هكذا نشاط يعد من الدرجة الأولى من حيث الأهمية و لعله يستحق فعلا اهتماما يوازي الاهتمام بفقه اللغات الهندوأوروبية أو نظرية حركة الصفائح. و مهما كان وجه الاهتمام بهذا الأمر فإن الرهانات هائلة و تفضي إلى التساؤل عن السبب الذي يفسر ضعف تحفيز الذكاء على الأقل في شكله الجامعي بشأن هذه المسألة.
ـ لننظر في الأمور عن كثب , تقاس حركة المرور باستعمال أجهزة لاقطة متنوعة منها أسلاك توضع تحت الرصيف و اسطوانات ممغنطة ...الخ. توضع هذه الأجهزة في نقاط معينة من الشبكة المرورية لإحصاء عدد وسائل النقل أو تقدير سرعتها , و تمثل هذه الأقيسة مادة خاما , يبدو أنها غير كافية لحل مشاكل تنظيم حركة المرور في المدن عن طريق الأضواء. و توزيع الاستثمارات المخصصة لإنشاء الطرقات حسب الحاجات المفترضة أو مساعدة المهندسين العمرانيين على برمجة أحياء جديدة.للنظر في القرارات , نحتاج إلى نمذجة حركة المرور. و هذا يعني خلق تمثل مناسب يتركب من تفسيرات مفهومة من قبل المهندسين المعنيين تتضمن رموزا رياضية مبرمجة في الأغلب معلوماتيا. يمثل هكذا تمثل تأويلا لأقيسة تمكننا من التوقع.
ـ ماهي نماذج حركة المرور المستعملة في أغلب الأحيان ؟ يمكن ترتيبها حسب سلم تصاعدي يذهب من الأدنى إلى الأعلى دقة بتمييز أربعة مستويات :
أ) نماذج انطلاق ـ وصول : تتمثل في تقسيم تجمع ما إلى مناطق متجانسة من جهة نسب الشغل و السكن و التجهيزات ثم تقدير حركة المرور بين المنطق "أ" و المنطقة " ب" عن طريق ضارب "أ ب ج" منشئين بذلك جدول أدفاق الحركة المرورية اليومية أو الأسبوعية أو السنوية . يعتمد المهندسون العمرانيون على مثل هذه النماذج لدراسة أمثلة التهيئة العمرانية كما تمثل مادة الملفات الخاصة بتبرير الاستثمارات الهامة لدى الجماعات المحلية.
ب) النماذج المائية : تهدف إلى تقديم صورة أدق عن سيلان حركة المرور اليومية من خلال تمثيل بمائع Fluide قابل للانضغاط إلى حد معين و يتميز عند نقطة مكانية و زمنية محددة بكثافة وسرعة و قاعدة سلوك.تمثل المحافظة على الكتلة محافظة على عدد وسائل النقل.تأخذ هذه النماذج في اعتبارها ظواهر موجة الضغط خلال فترات الازدحام أو الانبساط عندما يتحول الضوء إلى الأخضر أو خلال فترات السيلان العالية و غير المستقرة التي تتجاوز المنسوبات الحرجة. و هذه النماذج مفيدة لمصالح استغلال شبكات الطرقات السيارة.
ت) النماذج الجسيمية : تزيد من دقة النماذج السابقة من خلال تحديد مفصل لجسيمات المائع. و تعتمد على نظرية شبكات طوابير الانتظارla théorie des reseaux de files d’attente المتقدمة جدا بالنسبة للإعلامية لكنها تعمل هنا وفق فرضيات مختلفة. و تعقيدها الرياضي هائل مسبقا.
ث) النماذج المجهرية : تهتم أكثر بالتفاصيل آخذة في الاعتبار السلوكات الإحصائية للأصناف المستعملين من خلال نمذجة , تعتمد قوانين الاحتمال, للمسافات بين وسائل النقل بحسب السرعة و حالات المجاوزة ...الخ.
و للذهاب أبعد من ذلك لا بد من اعتبار المعلومات التي يتلقاها السائقون أنفسهم حول حركة المرور و أنظمة تحديد الجولان و الطرقات المجهزة ( الطريق الذكية).نلاحظ حركة المرور العصي على التحديد. و للإشارة إلى مدى تعقيد النماذج المجهرية نافت الانتباه إلى أن أعظم الحواسيب لا يمكن أن يحسب إلا بعض العشرات من مفترق الطرقات.
يجد المهندس نفسه في مسار النمذجة التي يقوم بها أمام خيارين اثنين : النماذج البسيطة من قبيل نماذج انطلاق ـ وصول و هي نماذج كثيرة الأخطاء بسبب بساطتها لكنها الأيسر تحديدا لأنها تحتاج إلى أقيسة قليلة نسبيا.في المقابل , تزعم النماذج المجهرية إدراك الظواهر عن كثب أكثر ما يمكن و لكنها تستخدم قوانين احتمال مجهولة و متغيرات لا نملك بعد وسائل معرفتها. سيكون النموذج الأقل سوءا , نموذجا وسيطا , ليس مبسطا جدا و ليس دقيقا جدا .
ـ في جميع الحالات , ليس هناك بالتأكيد نموذجا جيدا في ذاته. و قبل أن يشرع المهندس في نمذجة ما , لا بد أن يتساءل عمن سيستفيد من النموذج.فالتمشي يختلف من ممول إلى آخر, فقد يكون مؤسسة عمرانية ,أو إدارة نقل جماعي ,أو مصلحة تصرف في أضواء المرور ,أو جمعية للدفاع عن البيئة ضد مشروع ضار. فوسائل العمل التي تملكها منظمة ما و قدراتها على القيام بأقيسة تحدد مدى دقة المعارف المبنية و صوابها. ندرك, حينئذ, لماذا يهمل العلم الكبير la grande science المهتم بالكلية و الموضوعية مجالا مثل حركة المرور فهو عاجز تقريبا عن ذلك.
المثال الثاني أللذي نقدمه هو هندسة المواد يصور لنا بطريقة أفضل الدور المحدود الذي يقوم به العلم في إنتاج معارف معينة.يتعلق الأمر بالمواد وهو ما يتطلب الفيزياء و الكيمياء و الاختصاصات الفرعية التابعة لهما.لكن سنتبين أن الرياضيات تستعمل هنا بطريقة أخرى تتجاوز مجرد التعبير فقط عن الواقع الذي تسمح به العلوم السابقة.
ترتبط أغلب قطاعات الأنشطة الاقتصادية بالمواد المتوفرة و تشجع البحث على أمل تحسين الأداء و الضغط على النفقات أو لمواكبة أفضل لطلبات المحيط الآنية.تصور لنا هندسة المواد تماما الحركة المزدوجة التي يخضع لها التجديد: البحث من جهة و الطلب من جهة أخرى.و يعبر الطلب عن نفسه اليوم من خلال اقتصاد السوق.
تقترح المخابر من جهة أولى مواد جديدة.و هي قريبة من مؤسسات التعليم العالي و تمتلك معارف نظرية.توفر المخابر عن طريق تطبيق بعض العمليات الفيزيائية أو القيام بتركيبات كيميائية جديدة أو باستعمال أجهزة جديدة, موادا لها بعض الخصائص غير العادية .
و من جهة أخرى تنتظر الصناعة المستندة إلى السوق حلا للمشاكل العالقة.يقول الأمريكيون:" العلوم تدفع و الأسواق تجذب sciences push and markets pull " . وبصفة أدق يمكن القول : تطرح التقنية مشاكل في انتظار حلول و يقدم العلم حلولا في انتظار مشاكل.
من الواضح أن ظهور مادة ذات خصائص جديدة يكون البحث قادرا علي إنشائها مثل معجون البلور gel de silice ستغير لعبة الأسئلة الأجوبة في التطور التقني .إضافة إلى كون هذه الحركة المزدوجة جدلية ضرورية للتجديد و تستغرق بعض الوقت.بعض المواد تركت في رفوف المخابر أكثر من عشر سنوات قبل أن تدخل في مسار نمو صناعي .فالصفائح البلورية السائلة بقيت طويلا موضع فضول قبل أن نصنع منها المحرار الطيفي و شاشات عرض البيانات الخاصة بالساعات في مرحلة أولى ,ثم الحواسيب في مرحلة موالية.
في مثل هذه الظروف , المسألة المهمة التي تطرح تتعلق بمعرفة مدى إمكانية إضفاء قيمة أكبر على منتجات البحث و التخفيف من حدة المشاكل التي تطرحها التقنية.
نيكولا بولو N.Bouleau منشور ضمن عمل جماعي : "بحث حول مفهوم النموذج".إدارة باسكال نوفال عن المنشورات الجامعية الفرنسية لسنة 2002.