..نحن إذا أمام بنية اجتماعية معقدة تغطيها مؤشرات متداولة مثل القبيلة. وهذه البنيات العميقة إن صح التعبير هي المعبر الحقيقي عن مجتمع لا نقول بدون مشاريع، إنما مشاريعه إما ضخمة سريعة العطب –مبنية على ريع خارجي- أو متوسطة أو صغرى دائمة. إنه سلوك المزارع الذي لا يطمح إلى تسويق ولا ربح، سلوك لا ينظر إلى العمل عبر الفائض، بل العمل عنده جزء من الحياة اليومية رغم كون الفقه الإسلامي، عبر العقود وضبط الملكية، أعطى صورة تجارية لمجتمع لا يسمى مجتمعا إلا إذا كان وسيطا… ومن هذا المنطلق نتفق مع ماركس على أن الدولة ليست إلا محمولا وأن المجتمع هو الموضوع خصوصا في المجتمعات التقليدية.
إن أية دراسة مونوغرافية، سوسيولوجية خاصة كيف ما كانت درجة دقتها وقيمة وصفها، إذا لم تستطع أن تقوم بنقد إبستمولوجي، بل وحتى إيديولوجي للمفاهيم والنظريات "الجاهزة" المستغلة، إما عبر نقد منطقي أو عبر التجريب الميداني من جهة، وإذا لم تستطع صياغة استنتاجات وخلاصات تعميمية تتجاوز الرقعة المدروسة إلى المجتمع العام من جهة أخرى (قد يكون مثل هذا العمل نتيجة عوامل ذاتية أو موضوعية مشروعة أو قد يكون إحجاما عن الطموح النظري باسم مغالات المنظرين في التحليق على الواقع –الأمر الذي لا يخلو من كثير من الصواب- إلا أنه ليس مبررا كاملا للإنزواء والبقاء في مستوى الوصف الأمين)، إن مثل هذه الدراسة رغم حسناتها تبقى غير مكتملة… -مع الأخذ بعين الاعتبار طبعا الأهداف التي يحددها كل باحث لبحثه..- ولا يجب أن نفهم من هذا الحكم ضرورة استخلاص نتائج نهائية ومغلقة –الأمر الذي ليس ممكنا في أي حال من الأحوال- بل هو نوع من الدعوة إلى تجاوز التحفظ الذي طغى على العلم الاجتماعي المغربي بصفة عامة، وعلى الأعمال المونوغرافية بصفة خاصة، رغم وصول بعضها إلى درجة عالية من الجودة في التوثيق والتصنيف والوصف. بحيث لا يعدو الإحجام عند البعض أن يكون سوى ذلك التواضع الذي يسم المثقف المغربي عبر العصور. ونريد أن نشير وأن نلمح هنا بالخصوص إلى المونوغرافيات التاريخية الجيدة والتي نلمس لها العذر في عدم الاختصاص من جهة وفي المجهود التوثيقي من جهة أخرى. كما أن إحجامها مبرر في عدم تغطية ومسح المجتمعات المحلية كلها حتى نعمم على المجتمع العام.
إلا أن الأمر إذا كان بهذا العموم –أمر البقاء عند حدود الوصف والتصنيف- فقد أصبح ظاهرة تستدعي هي نفسها تفسيرا نلتمسه افتراضا في عدم وصول الكم إلى كيف ونوع يقتضي تنظيرات منافسة لما هو عليه الأمر في الغرب… إلا أنه لا بد من اجتهاد علمي مقتنع تمام الاقتناع بالأهمية القصوى للخطإ العلمي في بناء سيرورة العلم كله…
إن الوصف جد مفيد. لكن البقاء عند مستواه لا يحقق المطمح الإبستيمولوجي الرئيسي الذي هو النفي والتجاوز والقطيعة وإعادة سبك العلم. وحتى وإن اتفقنا على أن الوصف ليس ما قبل تاريخ العلم بل هو لحظة حاسمة في بناء العلم نفسه إذ هو تتويج للملاحظة، فإنه لا يرقى إلى طرح الإشكالية التي هي المحور الأساسي لكل معمار علمي… إلا أن طرح التجاوز من أجل التجاوز قد يكون في بعض الأحيان من أخطر العوائق الإبستيمولوجية نفسها، بل قد يخرجها ذلك من الدائرة العلمية كلية.
إن عمل السوسيولوجي عمل حذر باستمرار. من هنا ضرورة البقاء على مستوى الواقع دون السقوط في الخيال والوهم… مع ضرورة تعنيف هذا الواقع من أجل تفسيره انطلاقا من أن الظاهرة العلمية بناء وليست معطى. لكن دون إغفال أي استغلال للنفوذ من طرف النظرية بتعبير بورديو Les abus de pouvoir de la théorie.
إن الاعتراف المسبق والمجاني في بعض الأحيان بعلمية ما يسمى بالعلوم الحقة، قد يعتبر عائقا إبستيمولوجيا خطيرا قلما ينتبه إليه. أما كون قوة إرادة السوسيولوجيا إثبات علميتها باستمرار فذلك الذي يجعلها تكثف الحرص والحذر.
انطلاقا مما سبق ارتأينا أن لا يقتصر عملنا على الوصف والضبط والتوثيق والتصنيف –وهي كلها أمور لا تقل أهمية- بل لا بد من تجاوزها إلى شجاعة نظرية تعتبر خلاصة العمل كله من جهة واستنتاجات تعميمية من جهة ثانية وأجوبة مفتوحة، طبعا لما طرحنا كفروض في المدخل النظري لعملنا الميداني.
إن السؤال المركزي الذي يقود كل هذه الاستنتاجات هو: إلى أي حد تصدق "التشاؤمية" الخلدونية والثنائيات الكولونيالية والتفكك الانقسامي والهشاشة في البنيات حسب المنظور الماركسي؟ هذا كله من جهة والوحدة حسب المنظور الاجتماعي الوطني من جهة ثانية؟ أو بتعبير آخر وبتركيز شديد، هل نحن في مجتمع قبائل أم في دولة؟
إلى أي حد تصدق التصورات كل واحدة على حدة أولا؟ وإلى أي حد تصدق المعارضة النظرية: خلدونية، كولونيالية، انقسامية، ماركسية من جهة والعلم الاجتماعي الوطني من جهة ثانية؟ إلى أي حد تصدق هذه المعارضة –آخذين بعين الاعتبار التداخل الحاصل بين النظريات فيما بينها من جهة وفي المعارضة نفسها من جهة أخرى؟- انطلاقا من واقع الواحات المغربية قبل الاستعمار، غريس نموذجا؟ لأي الطرحين تستجيب البنيات؟ هل للتفكيك أم للوحدة؟ آخذين أيضا بعين الاعتبار نسبية وهشاشة المفاهيم. وهل الاستجابة كلية مطلقة؟ إيجابية بالنسبة لطرح وسلبية سلبا نهائيا بالنسبة للطرح الآخر؟ أم أن الاستجابة نسبية لا تلغي الطرفين؟ بل في الواقع ما يؤكد جوانب كل منهما؟…
وانطلاقا من هذه التساؤلات، ما هي المحددات الأساسية، الواقعية كما استخلصناها من الدراسة الميدانية، التي تفيد تحديد وتعريف المفاهيم الرائجة والمتداولة مثل القبيلة والسيبا والمخزن والزاوية والعرف؟
ثم ما علاقة ما هو محلي هنا بما هو عام؟ هل هناك خصوصيات تامة وكاملة أم هناك تلاق وانجذاب؟
كلها أسئلة فرضتها طبيعة الموضوع من جهة والواقع من جهة أخرى. ولا نجازف فنقول بأجوبة جامعة مانعة. بل هي قراءة قد تصبح متجاوزة انطلاقا من إيماننا بكون تاريخ العلم تاريخ أخطاء العلم بتعبير غاستون باشلار.
وحتى لا نتيه في استنتاجات عشوائية ارتأينا تنظيمها انطلاقا من بناء العمل نفسه حيث نظمناها كما يلي:
1 – إيكولوجيا وتنظيم المجال
2 – دينامية القبيلة؛ هجرة أم تهجير؟ غزو ملك أم غزو اضطرار؟..
3 – الزاوية ضرورة سوسيولوجية
4 – نمط إنتاج الفقر.
1 ـ إيكولوجيا وتنظيم المجال:
إن المجال الغريسي –والواحات جنوب الأطلس كلها- مجال صنعته الطبيعة قبل أن يصنعه التاريخ. فالطريق الطبيعية التي تربط بين تافيلالت من جهة وسهول ما بعد الأطلس الكبير من جهة ثانية، ملوية وتادلة عبر مخانق، "أمسد" و"تيزي مقورن"، هذه الطريق هي التي نشلت الواحة من عزلتها وربطتها بالحضارة الجنوبية الإفريقية والشمالية المتوسطية. الأمر الذي حتم الدور بل والمستوى الحضاري للواحات.
ثم إن تعامل الإنسان في الواحات مع المجال تعامل مثابرة وخبرة تتجاوز أية بدائية. فهي نتيجة وسبب في نفس الوقت لاستقرار طويل. ومن ثمة فهي غاية البدو الذي قد يغزوها في ظروف إيكولوجية محددة، (جفاف…) أو تاريخية خاصة (ضغط مخزني، قبلي، خارجي حتى…) والصراع بين البدو والرحل مطابق وبقوة ووضوح لكنه ليس طبيعة وفطرة بل بعد من الأبعاد الإيكولوجية التاريخية.
إن امتلاك المجال هنا لا يعرف الثنائية الكولونيالية؛ عرب/بربر. بل يمكن أن يكون هناك تقابل في تصور ابن الواحة للاثنيتين بشكل مجالي حتى أن العربي هو من ليس ابن الواحة ولو كان أمازيغيا في بعض الأحيان!. إذ هناك حذر من عرب السهول وبربر السهول على حد سواء، "أعراب" يساوي تقريبا في المخيال الغريسي (أشلحي نزغار) أمازيغي السهل، وبذلك فالانتماء إلى "تامازيرت"، البلاد عامل وحدة وليس عامل انقسام لا يمكن القفز على العناصر العربية مثلا المكونة للحلفين أيت عطا وأيت يافلمان..
إن الواحة مجال ميكروسوبي يمكن اعتباره عينة ممتازة لحضارة جنوب المتوسط كلها، فيه حضارة تجاوزت البدائية عبر الاستقرار وبناء القصور وإقامة تجارة مزدهرة في بعض الأحيان. بل ومن الواحات انطلقت الممالك المغربية وغزوات الأندلس. وفي الواحة أوفاق منظمة للتعامل الدقيق وترشيد اليومي.. كما في الواحة ثقافة فقهية رسخت تصورا موحدا للعالم عبر الاتجاه حول القبلة. إلا أن قلة التساقطات والحرارة والسنوات العجاف وتهديد الأجنبي، كل هذا يحجم طموح الواحة ويبقيها في دائرة المشروع المتوسط المدى. الأرض مرفوعة فوق قرن ثور، يمكن أن تسقط في أية لحظة.
ليست الواحة قبائل التقاط قسموية أو صيادين يمكن أن تتفكك إلى ما لا نهاية. إن القصر عندما يبلى بحكم الزمن أو بحكم الديمغرافيا يصير قصرا آخر أكثر متانة وأكثر قوة في غالب الأحيان، إذ القصور المهمة في غريس هي تجمع سكني وكونفدرالية قصور إن صح التعبير. فهي لا تتفكك بل تتوحد… لكنها في نفس الوقت ليست حضارة ريع وفائض مستمر يستطيع خلق إمبراطوريات طويلة النفس. ألا توحي الواحة إذا بالإمبراطوريات المغربية السريعة العطب بل وبحضارة جنوب المتوسط كلها –باستثناء مصر طبعا-؟ "الأمة الوسط؟".
إن القصر حالة وسطى بين سكن البدو والمدن، بل هو تعامل ذكي مع شروط المناخ من جهة والتاريخ من جهة ثانية والرغبة في الحضارة من جهة ثالثة، لكن دون أي طموح نحو الرفاه اللهم إذا زكي بتجارة بعيدة –سجلماسة- أو اتخذ كمنطلق دعوة…
2 – دينامية القبيلة؛ هجرة أم تهجير؟ غزو ملك أم غزو اضطرار؟
ركزت السوسيولوجيا الكولونيالية على الثنائية المشهورة؛ بربر/مخزن. وإذا كان المخزن في تصورهم قد استطاع أن يمد نفوذه وسلطته على السهول المحيطة بالمدن-العواصم، فهو لم يستطع –أي المخزن- إلا أن يكسب بعض الاعتراف الديني من طرف القبائل السيبة التي طبعتها المعارك المستمرة والاقتتال الشبه الطبيعي الغرائزي. وإذا كان هذا التصور يغذي الروح الاستعمارية تمهيدا "لتنظيف" البيت المغربي عبر "التهدئة"، فهو تصور انبنى أساسا على التبرير التوسعي من جهة وعلى قراءة خاصة للخلدونية من جهة أخرى وللهيستوغرافيا الحضرية من جهة ثالثة انطلاقا من كون هذه الأخيرة لم تستطع الفهم الحقيقي للدينامية الداخلية للقبيلة بل كانت تنطلق باستمرار من التصور المخزني السياسي المبرر لحركاته عبر سيبا القبائل. وكان هذا التصور وهذه القراءة أساس النظرية الانقسامية. ما القبيلة إذا بالنسبة للسوسيولوجيا الغربية اللاتينية والأنكلوساكسونية على حد سواء؟ إنها المؤسسة الطبيعية التي لم يستطع الإنسان المغربي تجاوز مستواها. وبذلك تصبح القبيلة مؤسسته السياسية الأولى بدون منازع أو جمهوريته بتعبير روبير مونطاني. تلك الجمهورية الدمقراطية التي يتساوى فيها الأفراد في الحظوظ السياسية على عكس توتاليتارية وتراتبية المجتمع المخزني الحضري. ولما لم تستطع القبيلة أن تتجاوز ذاتها، عملت على إثباتها باستمرار عبر الغزو والنهب وهضم حقوق القبائل الأخرى.
ماذا أعطى التحري الميداني بصدد الواحة حول القبيلة؟
وقبل ذلك لا بد من إشارة منهجية ضرورية، وهي أنه على الباحث السوسيولوجي أن يقوم بفرز وتصنيف ما هو مؤشر عن ما هو مؤسسة فعلية طبيعية كانت أم مصطنعة.
لقد أعطت لنا وقائع القبيلة الغريسية مجموعة من الأبعاد التي لا يمكن القفز عليها إلى حد أنه يمكن أن نتحدث عن القبائل بصفة الجمع وليس بصفة المفرد. أما بخصوص استقرار الساكنة وازدهار مدنها، فالكل يتحفنا بأوصاف دقيقة عن ذلك من ابن حوقل والبكري وابن بطوطة والمسعودي وغيرهم… وإذا أضفنا إلى الأمر افتراض مملكتي الكوشيين السود واليهود، حصلنا على نسيج اجتماعي فقد نصف لحمته العصبية منذ أقدم العصور. إلا أن التصور احتفظ بالانتماء السلالي بشكل نعتبره استجابة للأمن النفسي للرحل على الخصوص. إذ القرابة سور الخيام الذي لا تنفك عراه…
وعندما نصعد شيئا ما في التاريخ نجد خلخلة عميقة لبنية ساكنة غريس عبر الإيكولوجيا تارة (هجرة كروان عن غريس الذي تفسره الذاكرة الشعبية بفعل الرياح كرمز للجفاف والقحط) وعبر الفعل المخزني تارة أخرى (تهجير ملوان إلى حوز مراكش من طرف مولاي إسماعيل). وعندما تهاجر القبيلة أو تهجر تترك بقايا، أسرا أو إخوان يذوبون في القبائل الأخرى أو يصبحون عامل مورفولوجيا مستقرة تتجاوز اللحمة العصبية رغم ذكرى ما تبقى آدابا أكثر منها واقعا… وليست الإيكولوجيا وحدها ولا حتى المخزن وحده من يحطم القبيلة. بل لفوفها نفسها أيضا عامل تهميش للقبيلة. إذ اللف مجموعة من القبائل تتجاوز العنصر والأرومة إلى المصلحة المشتركة؛ (يافلمان وعطا). ثم أخيرا هناك الفعل الخارجي الذي يفعل فعله في الحراك عموديا وأفقيا (حرب تطوان مثلا وأثرها على المستوى المعيشي للقبائل المغربية. ولا غرابة أن يكون ما بعد حرب تطوان سيبا تحاول القبائل من ورائها أن تحافظ على ذاتها كأي كيان مهدد بالزوال وهي نتيجة تاريخية مشروعة…).
أربعة عوامل حقيقية إذا تصنع مصير القبيلة:
1 – الإيكولوجيا
2 – المخزن
3 – اللف
4 – الفعل الخارجي
وهي كلها عوامل فوق القبيلة وليست تحتها وهذا ما ينفي أي تهافت طبيعي لها… وإذا أضفنا أوفاق القبائل فيما بينها وأوفاق الأسر والجماعات بل وأوفاق الأفراد حصلنا على مجتمع معقد على عكس ما قد يظهر. إن هذه العوامل الأربعة هي نفسها التي تحكمت في "سيبا" ما قبل الجهاد. سيبا مشروطة بالجفاف من جهة والضغط الخارجي من جهة ثانية والعداوات القديمة من جهة ثالثة لكنها سيبا لحظة وسيبا مشروطة بتقنيات عرفية دقيقة تعبر عن "فوضى" منظمة بتعبير مونطاني، محملين التعبير جانبه الإيجابي.
ما هي القبيلة الغريسية إذا؟ وافتراضا ما هي القبيلة المغربية؟ حسب معطيات البحث الميداني استطعنا أن نصوغ تعريفا إجرائيا لمفهوم القبيلة.
"القبيلة تجمع سكني جغرافي، تاريخي، ثقافي مرن يتخذ طابع القرابة بمعناها الإثني-الثقافي وليس بمعناها العرقي. تتكون من أفخاذ وقسمات وأسر. تحددها ظروف الزمان من حرب وسلم ورخاء وضيق… والمجال من ظروف الترحال أو الإنتاج أو الاستقرار في السهل أو الجبل أو في الصحراء أو الواحات. وكل تحديد ثبوتي لها، أي القبيلة يبقى متعسفا. إذ تبقى طبيعتها المرنة أهم خاصية لها؛ إنها القدرة على التشكل وامتصاص الغريب عبر الهجرة والمصاهرة والأوفاق وتقبل الاختلاف. إن القبيلة عندما ننظر إليها من الداخل بنية فوقية بالنسبة لنفسها، وهي بنية تحتية بالنسبة للمخزن، فهي السلطة التنفيذية والجيش والإدارة بل وحتى القضاء في غياب هذه السلط…". لماذا الحروب والاقتتال؟ الأمر اقتصادي غالبا. والحروب حرب أحلاف أكثر مما هي حرب قبائل… كما أن صعود القبيلة إلى مستوى الدولة دون تملك وسائل الإنتاج قد يغري بالقول بنظرية نمط الإنتاج الآسيوي، لكن دون مشاعات قروية.
3 – الزاوية ضرورة سوسيولوجية:
تعتبر الزاوية مؤسسة تواصل بين الأفراد والجماعات، بل وبين المخزن من جهة والقبائل من جهة أخرى. فهي المتنفس الثقافي والأمني والديني للأفراد والجماعات صعودا. وهي تصريف السياسة المخزنية نزولا. وتلعب الزاوية هذا الدور نظرا لطبيعتها المزدوجة؛ ثقافة عالمة فقهية سنية مرنة وثقافة شعبية رمزية طقسية صوفية عجائبية تؤثر في العقل المستعد للانقياد وفي الوجدان. إن مسألة وظيفة الزاوية يجب أن ينظر إليها من زاويتين؛ زاوية ثابتة وأخرى متحولة. أما الثابت فهو في كون الوظيفة الأساسية كما لمسنا بالنسبة للزاوية هي الوظيفة التربوية بمعناها العام (معنى يتراوح بين التعليم، تعليم القرآن وتعاليم الدين حتى الترشيد الاقتصادي وربما الإداري حتى التربية السياسية وصولا إلى الحربية من استنهاض الناس للجهاد…). هذه هي الوظيفة الثابتة. أما المتحول فقد يعطي طابع الإمارة، "نموذج الدلائيين". إلا أن الذي لا يمكن أن نستنتجه بأي حال هو كون الزاوية إسلام البربر كما يرى ميشوبيللير وطموح البربر إلى السلطة. إن الطموح السياسي غير مشروط بأية مؤسسة أو إثنية إذ هو طموح الجميع (قبيلة، زاوية، أسرة، فرد…).
إن وظائف الزاوية في مجتمع غير بيروقراطي متعددة. فهي خادمة الأمة عبر المخزن والسلطان –يمكن أن تتعارض معه إما نظرا لطموحها الخاص أو عندما يتعارض في تصورها مع مصالح الأمة- وخادمة نفسها عملا على تأبيد تعاليمها ومصالحها. ثم هي المرشدة للعوام الذين يربحون من ورائها المصالحة مع الخصم، إذ هي الحكم، وتكوين الأحلاف بمباركتها؛ (حلف أيت عطا بمباركة شريف تامصلوحت وحلف أيت يا فلمان بمباركة سيدي بويعقوب) وبذلك فالزاوية، قبل أن تكون بركة وشفاعة، ربح دنيوي واضح المعالم. والمتتبع لمسار الزوايا وكيفية استقرارها عبر المجال يفهم قيمتها الاستراتيجية والإيكولوجية بل وحتى التقنية في بعض الأحيان؛ (تايسا سيدي عبد العالي مثلا) وفوق ذلك كله فهي الرابطة الخفية للوحدات المكونة للمجتمع الإسلامي والمحافظة على استمراره. بل وبالجهاد والمرابطة إن استدعى الأمر ذلك. هي إذا ضرورة إسلامية، وليست إسلاما بربريا أو دولة بالقوة كما تتصور السوسيولوجيا الكولونيالية رغم عدم نفي الصفتين كلية.
وإذا طغى فعل زوايا كبرى مركزية في مناطق معينة فالواحة العادية (غريس) تعطي لنا صورة عادية وميكروسكوبية لزوايا فرعية وصغرى وصلحاء مبثوثين هنا وهناك، صلحاء لكل قصر يؤكدون الضرورة السوسيولوجية.
4 – نمط إنتاج الفقر:
يملك النمط الإنتاجي السائد في الواحات (غريس نموذجا)، أبعادا ثلاثة رئيسية:
1-بعد زراعي-كفافي
2-بعد رعوي-تجاري
3-بعد عسكري-غزو
وقد تحكمت في هذه الأبعاد شروط الإيكولوجيا من جهة والتاريخ من جهة ثانية وأعطت مجتمعا معقدا إلى أقصى الحدود. فهو بعيد كل البعد عن المشاعات. حيث التراتبية واضحة أشد الوضوح عبر طبقات شبه مغلقة: إكرامن، الشرفاء، العوام: أمازيغ وعرب، الحراكين، العبيد. إن ما يلاحظ على إنتاج واحة غريس هو غياب الريع والربح والفائض. حتى وإن تواجد فهو بشكل خجول تقضي عليه السنوات العجاف وتعب الأرض، وبذلك يصبح السوق في الواحة لقاء رمزيا ثقافيا إخباريا أكثر منه لقاء اقتصاد وربح، رغم المثابرة وتقنيات لا تخلو من ذكاء. كما أن هناك ضرورة تسجيل ملاحظة كثيرا ما تغيب عن ذهن الباحث وهي كون الرحل أكثر قابلية للتجارة من المستقرين. إذ المستقر لا يستبدل أمن الأرض الذي يدعوه بـ"الأصل" بأي أمن كان ولا أية مغامرة مهما كانت مغرية. أما البدوي فهو منقل بضاعة طبيعية يسميها "المال". إن البدوي كما هو محارب بالقوة تاجر أيضا بالقوة ومنقل ثقافات وحضارات وأخبارا…
من هذا المنطلق وبشيء من التعميم يمكن أن نستنتج كون المجتمع المغربي وصل إلى درجة عالية من البنية والتعقيد (مستقرون بجذور بدوية وبدو بسلوك المستقرين) بحيث لا يمكن للهجرات الكبرى ولا التهجيرات المخزنية أن تمس وأن تغير شيئا في عمق البنيات المستقرة عبر قرون من السلوك. ويتجلى الأمر بقوة في عمق البنيات المستقرة عبر قرون من السلوك الثابت؛ بنيات الواحة نموذجا –التي فقدت لحمتها العصبية منذ استقرت- هذه البنيات الشبه الحضرية المنتشرة في المغرب كله –النموذج البورغواطي إن صح التعبير- لا تشكل الأساس السياسي للبلاد كما هو الأمر بالنسبة للقبيلة. لكنها تشكل البعد الاجتماعي الذي لا يمكن القفز عليه… إن القاع الاجتماعي-التاريخي للبنيات المغربي قاع معقد لا يمكن تصنيفه في أي تصنيف متسرع.
نحن إذا أمام بنية اجتماعية معقدة تغطيها مؤشرات متداولة مثل القبيلة. وهذه البنيات العميقة إن صح التعبير هي المعبر الحقيقي عن مجتمع لا نقول بدون مشاريع، إنما مشاريعه إما ضخمة سريعة العطب –مبنية على ريع خارجي- أو متوسطة أو صغرى دائمة. إنه سلوك المزارع الذي لا يطمح إلى تسويق ولا ربح، سلوك لا ينظر إلى العمل عبر الفائض، بل العمل عنده جزء من الحياة اليومية رغم كون الفقه الإسلامي، عبر العقود وضبط الملكية، أعطى صورة تجارية لمجتمع لا يسمى مجتمعا إلا إذا كان وسيطا… ومن هذا المنطلق نتفق مع ماركس على أن الدولة ليست إلا محمولا وأن المجتمع هو الموضوع خصوصا في المجتمعات التقليدية .
* هذه المساهمة في الأصل بعض نتائج الرسالة التي دافعت عنها لنيل دبلوم الدراسات العليا في علم الاجتماع في يونيو 1996 بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط تحت عنوان: الواحات المغربية قبل الاستعمار، "غريس"، نموذجا.
بن محمد قسطاني
إن عمل السوسيولوجي عمل حذر باستمرار. من هنا ضرورة البقاء على مستوى الواقع دون السقوط في الخيال والوهم… مع ضرورة تعنيف هذا الواقع من أجل تفسيره انطلاقا من أن الظاهرة العلمية بناء وليست معطى. لكن دون إغفال أي استغلال للنفوذ من طرف النظرية بتعبير بورديو Les abus de pouvoir de la théorie.
إن الاعتراف المسبق والمجاني في بعض الأحيان بعلمية ما يسمى بالعلوم الحقة، قد يعتبر عائقا إبستيمولوجيا خطيرا قلما ينتبه إليه. أما كون قوة إرادة السوسيولوجيا إثبات علميتها باستمرار فذلك الذي يجعلها تكثف الحرص والحذر.
انطلاقا مما سبق ارتأينا أن لا يقتصر عملنا على الوصف والضبط والتوثيق والتصنيف –وهي كلها أمور لا تقل أهمية- بل لا بد من تجاوزها إلى شجاعة نظرية تعتبر خلاصة العمل كله من جهة واستنتاجات تعميمية من جهة ثانية وأجوبة مفتوحة، طبعا لما طرحنا كفروض في المدخل النظري لعملنا الميداني.
إن السؤال المركزي الذي يقود كل هذه الاستنتاجات هو: إلى أي حد تصدق "التشاؤمية" الخلدونية والثنائيات الكولونيالية والتفكك الانقسامي والهشاشة في البنيات حسب المنظور الماركسي؟ هذا كله من جهة والوحدة حسب المنظور الاجتماعي الوطني من جهة ثانية؟ أو بتعبير آخر وبتركيز شديد، هل نحن في مجتمع قبائل أم في دولة؟
إلى أي حد تصدق التصورات كل واحدة على حدة أولا؟ وإلى أي حد تصدق المعارضة النظرية: خلدونية، كولونيالية، انقسامية، ماركسية من جهة والعلم الاجتماعي الوطني من جهة ثانية؟ إلى أي حد تصدق هذه المعارضة –آخذين بعين الاعتبار التداخل الحاصل بين النظريات فيما بينها من جهة وفي المعارضة نفسها من جهة أخرى؟- انطلاقا من واقع الواحات المغربية قبل الاستعمار، غريس نموذجا؟ لأي الطرحين تستجيب البنيات؟ هل للتفكيك أم للوحدة؟ آخذين أيضا بعين الاعتبار نسبية وهشاشة المفاهيم. وهل الاستجابة كلية مطلقة؟ إيجابية بالنسبة لطرح وسلبية سلبا نهائيا بالنسبة للطرح الآخر؟ أم أن الاستجابة نسبية لا تلغي الطرفين؟ بل في الواقع ما يؤكد جوانب كل منهما؟…
وانطلاقا من هذه التساؤلات، ما هي المحددات الأساسية، الواقعية كما استخلصناها من الدراسة الميدانية، التي تفيد تحديد وتعريف المفاهيم الرائجة والمتداولة مثل القبيلة والسيبا والمخزن والزاوية والعرف؟
ثم ما علاقة ما هو محلي هنا بما هو عام؟ هل هناك خصوصيات تامة وكاملة أم هناك تلاق وانجذاب؟
كلها أسئلة فرضتها طبيعة الموضوع من جهة والواقع من جهة أخرى. ولا نجازف فنقول بأجوبة جامعة مانعة. بل هي قراءة قد تصبح متجاوزة انطلاقا من إيماننا بكون تاريخ العلم تاريخ أخطاء العلم بتعبير غاستون باشلار.
وحتى لا نتيه في استنتاجات عشوائية ارتأينا تنظيمها انطلاقا من بناء العمل نفسه حيث نظمناها كما يلي:
1 – إيكولوجيا وتنظيم المجال
2 – دينامية القبيلة؛ هجرة أم تهجير؟ غزو ملك أم غزو اضطرار؟..
3 – الزاوية ضرورة سوسيولوجية
4 – نمط إنتاج الفقر.
1 ـ إيكولوجيا وتنظيم المجال:
إن المجال الغريسي –والواحات جنوب الأطلس كلها- مجال صنعته الطبيعة قبل أن يصنعه التاريخ. فالطريق الطبيعية التي تربط بين تافيلالت من جهة وسهول ما بعد الأطلس الكبير من جهة ثانية، ملوية وتادلة عبر مخانق، "أمسد" و"تيزي مقورن"، هذه الطريق هي التي نشلت الواحة من عزلتها وربطتها بالحضارة الجنوبية الإفريقية والشمالية المتوسطية. الأمر الذي حتم الدور بل والمستوى الحضاري للواحات.
ثم إن تعامل الإنسان في الواحات مع المجال تعامل مثابرة وخبرة تتجاوز أية بدائية. فهي نتيجة وسبب في نفس الوقت لاستقرار طويل. ومن ثمة فهي غاية البدو الذي قد يغزوها في ظروف إيكولوجية محددة، (جفاف…) أو تاريخية خاصة (ضغط مخزني، قبلي، خارجي حتى…) والصراع بين البدو والرحل مطابق وبقوة ووضوح لكنه ليس طبيعة وفطرة بل بعد من الأبعاد الإيكولوجية التاريخية.
إن امتلاك المجال هنا لا يعرف الثنائية الكولونيالية؛ عرب/بربر. بل يمكن أن يكون هناك تقابل في تصور ابن الواحة للاثنيتين بشكل مجالي حتى أن العربي هو من ليس ابن الواحة ولو كان أمازيغيا في بعض الأحيان!. إذ هناك حذر من عرب السهول وبربر السهول على حد سواء، "أعراب" يساوي تقريبا في المخيال الغريسي (أشلحي نزغار) أمازيغي السهل، وبذلك فالانتماء إلى "تامازيرت"، البلاد عامل وحدة وليس عامل انقسام لا يمكن القفز على العناصر العربية مثلا المكونة للحلفين أيت عطا وأيت يافلمان..
إن الواحة مجال ميكروسوبي يمكن اعتباره عينة ممتازة لحضارة جنوب المتوسط كلها، فيه حضارة تجاوزت البدائية عبر الاستقرار وبناء القصور وإقامة تجارة مزدهرة في بعض الأحيان. بل ومن الواحات انطلقت الممالك المغربية وغزوات الأندلس. وفي الواحة أوفاق منظمة للتعامل الدقيق وترشيد اليومي.. كما في الواحة ثقافة فقهية رسخت تصورا موحدا للعالم عبر الاتجاه حول القبلة. إلا أن قلة التساقطات والحرارة والسنوات العجاف وتهديد الأجنبي، كل هذا يحجم طموح الواحة ويبقيها في دائرة المشروع المتوسط المدى. الأرض مرفوعة فوق قرن ثور، يمكن أن تسقط في أية لحظة.
ليست الواحة قبائل التقاط قسموية أو صيادين يمكن أن تتفكك إلى ما لا نهاية. إن القصر عندما يبلى بحكم الزمن أو بحكم الديمغرافيا يصير قصرا آخر أكثر متانة وأكثر قوة في غالب الأحيان، إذ القصور المهمة في غريس هي تجمع سكني وكونفدرالية قصور إن صح التعبير. فهي لا تتفكك بل تتوحد… لكنها في نفس الوقت ليست حضارة ريع وفائض مستمر يستطيع خلق إمبراطوريات طويلة النفس. ألا توحي الواحة إذا بالإمبراطوريات المغربية السريعة العطب بل وبحضارة جنوب المتوسط كلها –باستثناء مصر طبعا-؟ "الأمة الوسط؟".
إن القصر حالة وسطى بين سكن البدو والمدن، بل هو تعامل ذكي مع شروط المناخ من جهة والتاريخ من جهة ثانية والرغبة في الحضارة من جهة ثالثة، لكن دون أي طموح نحو الرفاه اللهم إذا زكي بتجارة بعيدة –سجلماسة- أو اتخذ كمنطلق دعوة…
2 – دينامية القبيلة؛ هجرة أم تهجير؟ غزو ملك أم غزو اضطرار؟
ركزت السوسيولوجيا الكولونيالية على الثنائية المشهورة؛ بربر/مخزن. وإذا كان المخزن في تصورهم قد استطاع أن يمد نفوذه وسلطته على السهول المحيطة بالمدن-العواصم، فهو لم يستطع –أي المخزن- إلا أن يكسب بعض الاعتراف الديني من طرف القبائل السيبة التي طبعتها المعارك المستمرة والاقتتال الشبه الطبيعي الغرائزي. وإذا كان هذا التصور يغذي الروح الاستعمارية تمهيدا "لتنظيف" البيت المغربي عبر "التهدئة"، فهو تصور انبنى أساسا على التبرير التوسعي من جهة وعلى قراءة خاصة للخلدونية من جهة أخرى وللهيستوغرافيا الحضرية من جهة ثالثة انطلاقا من كون هذه الأخيرة لم تستطع الفهم الحقيقي للدينامية الداخلية للقبيلة بل كانت تنطلق باستمرار من التصور المخزني السياسي المبرر لحركاته عبر سيبا القبائل. وكان هذا التصور وهذه القراءة أساس النظرية الانقسامية. ما القبيلة إذا بالنسبة للسوسيولوجيا الغربية اللاتينية والأنكلوساكسونية على حد سواء؟ إنها المؤسسة الطبيعية التي لم يستطع الإنسان المغربي تجاوز مستواها. وبذلك تصبح القبيلة مؤسسته السياسية الأولى بدون منازع أو جمهوريته بتعبير روبير مونطاني. تلك الجمهورية الدمقراطية التي يتساوى فيها الأفراد في الحظوظ السياسية على عكس توتاليتارية وتراتبية المجتمع المخزني الحضري. ولما لم تستطع القبيلة أن تتجاوز ذاتها، عملت على إثباتها باستمرار عبر الغزو والنهب وهضم حقوق القبائل الأخرى.
ماذا أعطى التحري الميداني بصدد الواحة حول القبيلة؟
وقبل ذلك لا بد من إشارة منهجية ضرورية، وهي أنه على الباحث السوسيولوجي أن يقوم بفرز وتصنيف ما هو مؤشر عن ما هو مؤسسة فعلية طبيعية كانت أم مصطنعة.
لقد أعطت لنا وقائع القبيلة الغريسية مجموعة من الأبعاد التي لا يمكن القفز عليها إلى حد أنه يمكن أن نتحدث عن القبائل بصفة الجمع وليس بصفة المفرد. أما بخصوص استقرار الساكنة وازدهار مدنها، فالكل يتحفنا بأوصاف دقيقة عن ذلك من ابن حوقل والبكري وابن بطوطة والمسعودي وغيرهم… وإذا أضفنا إلى الأمر افتراض مملكتي الكوشيين السود واليهود، حصلنا على نسيج اجتماعي فقد نصف لحمته العصبية منذ أقدم العصور. إلا أن التصور احتفظ بالانتماء السلالي بشكل نعتبره استجابة للأمن النفسي للرحل على الخصوص. إذ القرابة سور الخيام الذي لا تنفك عراه…
وعندما نصعد شيئا ما في التاريخ نجد خلخلة عميقة لبنية ساكنة غريس عبر الإيكولوجيا تارة (هجرة كروان عن غريس الذي تفسره الذاكرة الشعبية بفعل الرياح كرمز للجفاف والقحط) وعبر الفعل المخزني تارة أخرى (تهجير ملوان إلى حوز مراكش من طرف مولاي إسماعيل). وعندما تهاجر القبيلة أو تهجر تترك بقايا، أسرا أو إخوان يذوبون في القبائل الأخرى أو يصبحون عامل مورفولوجيا مستقرة تتجاوز اللحمة العصبية رغم ذكرى ما تبقى آدابا أكثر منها واقعا… وليست الإيكولوجيا وحدها ولا حتى المخزن وحده من يحطم القبيلة. بل لفوفها نفسها أيضا عامل تهميش للقبيلة. إذ اللف مجموعة من القبائل تتجاوز العنصر والأرومة إلى المصلحة المشتركة؛ (يافلمان وعطا). ثم أخيرا هناك الفعل الخارجي الذي يفعل فعله في الحراك عموديا وأفقيا (حرب تطوان مثلا وأثرها على المستوى المعيشي للقبائل المغربية. ولا غرابة أن يكون ما بعد حرب تطوان سيبا تحاول القبائل من ورائها أن تحافظ على ذاتها كأي كيان مهدد بالزوال وهي نتيجة تاريخية مشروعة…).
أربعة عوامل حقيقية إذا تصنع مصير القبيلة:
1 – الإيكولوجيا
2 – المخزن
3 – اللف
4 – الفعل الخارجي
وهي كلها عوامل فوق القبيلة وليست تحتها وهذا ما ينفي أي تهافت طبيعي لها… وإذا أضفنا أوفاق القبائل فيما بينها وأوفاق الأسر والجماعات بل وأوفاق الأفراد حصلنا على مجتمع معقد على عكس ما قد يظهر. إن هذه العوامل الأربعة هي نفسها التي تحكمت في "سيبا" ما قبل الجهاد. سيبا مشروطة بالجفاف من جهة والضغط الخارجي من جهة ثانية والعداوات القديمة من جهة ثالثة لكنها سيبا لحظة وسيبا مشروطة بتقنيات عرفية دقيقة تعبر عن "فوضى" منظمة بتعبير مونطاني، محملين التعبير جانبه الإيجابي.
ما هي القبيلة الغريسية إذا؟ وافتراضا ما هي القبيلة المغربية؟ حسب معطيات البحث الميداني استطعنا أن نصوغ تعريفا إجرائيا لمفهوم القبيلة.
"القبيلة تجمع سكني جغرافي، تاريخي، ثقافي مرن يتخذ طابع القرابة بمعناها الإثني-الثقافي وليس بمعناها العرقي. تتكون من أفخاذ وقسمات وأسر. تحددها ظروف الزمان من حرب وسلم ورخاء وضيق… والمجال من ظروف الترحال أو الإنتاج أو الاستقرار في السهل أو الجبل أو في الصحراء أو الواحات. وكل تحديد ثبوتي لها، أي القبيلة يبقى متعسفا. إذ تبقى طبيعتها المرنة أهم خاصية لها؛ إنها القدرة على التشكل وامتصاص الغريب عبر الهجرة والمصاهرة والأوفاق وتقبل الاختلاف. إن القبيلة عندما ننظر إليها من الداخل بنية فوقية بالنسبة لنفسها، وهي بنية تحتية بالنسبة للمخزن، فهي السلطة التنفيذية والجيش والإدارة بل وحتى القضاء في غياب هذه السلط…". لماذا الحروب والاقتتال؟ الأمر اقتصادي غالبا. والحروب حرب أحلاف أكثر مما هي حرب قبائل… كما أن صعود القبيلة إلى مستوى الدولة دون تملك وسائل الإنتاج قد يغري بالقول بنظرية نمط الإنتاج الآسيوي، لكن دون مشاعات قروية.
3 – الزاوية ضرورة سوسيولوجية:
تعتبر الزاوية مؤسسة تواصل بين الأفراد والجماعات، بل وبين المخزن من جهة والقبائل من جهة أخرى. فهي المتنفس الثقافي والأمني والديني للأفراد والجماعات صعودا. وهي تصريف السياسة المخزنية نزولا. وتلعب الزاوية هذا الدور نظرا لطبيعتها المزدوجة؛ ثقافة عالمة فقهية سنية مرنة وثقافة شعبية رمزية طقسية صوفية عجائبية تؤثر في العقل المستعد للانقياد وفي الوجدان. إن مسألة وظيفة الزاوية يجب أن ينظر إليها من زاويتين؛ زاوية ثابتة وأخرى متحولة. أما الثابت فهو في كون الوظيفة الأساسية كما لمسنا بالنسبة للزاوية هي الوظيفة التربوية بمعناها العام (معنى يتراوح بين التعليم، تعليم القرآن وتعاليم الدين حتى الترشيد الاقتصادي وربما الإداري حتى التربية السياسية وصولا إلى الحربية من استنهاض الناس للجهاد…). هذه هي الوظيفة الثابتة. أما المتحول فقد يعطي طابع الإمارة، "نموذج الدلائيين". إلا أن الذي لا يمكن أن نستنتجه بأي حال هو كون الزاوية إسلام البربر كما يرى ميشوبيللير وطموح البربر إلى السلطة. إن الطموح السياسي غير مشروط بأية مؤسسة أو إثنية إذ هو طموح الجميع (قبيلة، زاوية، أسرة، فرد…).
إن وظائف الزاوية في مجتمع غير بيروقراطي متعددة. فهي خادمة الأمة عبر المخزن والسلطان –يمكن أن تتعارض معه إما نظرا لطموحها الخاص أو عندما يتعارض في تصورها مع مصالح الأمة- وخادمة نفسها عملا على تأبيد تعاليمها ومصالحها. ثم هي المرشدة للعوام الذين يربحون من ورائها المصالحة مع الخصم، إذ هي الحكم، وتكوين الأحلاف بمباركتها؛ (حلف أيت عطا بمباركة شريف تامصلوحت وحلف أيت يا فلمان بمباركة سيدي بويعقوب) وبذلك فالزاوية، قبل أن تكون بركة وشفاعة، ربح دنيوي واضح المعالم. والمتتبع لمسار الزوايا وكيفية استقرارها عبر المجال يفهم قيمتها الاستراتيجية والإيكولوجية بل وحتى التقنية في بعض الأحيان؛ (تايسا سيدي عبد العالي مثلا) وفوق ذلك كله فهي الرابطة الخفية للوحدات المكونة للمجتمع الإسلامي والمحافظة على استمراره. بل وبالجهاد والمرابطة إن استدعى الأمر ذلك. هي إذا ضرورة إسلامية، وليست إسلاما بربريا أو دولة بالقوة كما تتصور السوسيولوجيا الكولونيالية رغم عدم نفي الصفتين كلية.
وإذا طغى فعل زوايا كبرى مركزية في مناطق معينة فالواحة العادية (غريس) تعطي لنا صورة عادية وميكروسكوبية لزوايا فرعية وصغرى وصلحاء مبثوثين هنا وهناك، صلحاء لكل قصر يؤكدون الضرورة السوسيولوجية.
4 – نمط إنتاج الفقر:
يملك النمط الإنتاجي السائد في الواحات (غريس نموذجا)، أبعادا ثلاثة رئيسية:
1-بعد زراعي-كفافي
2-بعد رعوي-تجاري
3-بعد عسكري-غزو
وقد تحكمت في هذه الأبعاد شروط الإيكولوجيا من جهة والتاريخ من جهة ثانية وأعطت مجتمعا معقدا إلى أقصى الحدود. فهو بعيد كل البعد عن المشاعات. حيث التراتبية واضحة أشد الوضوح عبر طبقات شبه مغلقة: إكرامن، الشرفاء، العوام: أمازيغ وعرب، الحراكين، العبيد. إن ما يلاحظ على إنتاج واحة غريس هو غياب الريع والربح والفائض. حتى وإن تواجد فهو بشكل خجول تقضي عليه السنوات العجاف وتعب الأرض، وبذلك يصبح السوق في الواحة لقاء رمزيا ثقافيا إخباريا أكثر منه لقاء اقتصاد وربح، رغم المثابرة وتقنيات لا تخلو من ذكاء. كما أن هناك ضرورة تسجيل ملاحظة كثيرا ما تغيب عن ذهن الباحث وهي كون الرحل أكثر قابلية للتجارة من المستقرين. إذ المستقر لا يستبدل أمن الأرض الذي يدعوه بـ"الأصل" بأي أمن كان ولا أية مغامرة مهما كانت مغرية. أما البدوي فهو منقل بضاعة طبيعية يسميها "المال". إن البدوي كما هو محارب بالقوة تاجر أيضا بالقوة ومنقل ثقافات وحضارات وأخبارا…
من هذا المنطلق وبشيء من التعميم يمكن أن نستنتج كون المجتمع المغربي وصل إلى درجة عالية من البنية والتعقيد (مستقرون بجذور بدوية وبدو بسلوك المستقرين) بحيث لا يمكن للهجرات الكبرى ولا التهجيرات المخزنية أن تمس وأن تغير شيئا في عمق البنيات المستقرة عبر قرون من السلوك. ويتجلى الأمر بقوة في عمق البنيات المستقرة عبر قرون من السلوك الثابت؛ بنيات الواحة نموذجا –التي فقدت لحمتها العصبية منذ استقرت- هذه البنيات الشبه الحضرية المنتشرة في المغرب كله –النموذج البورغواطي إن صح التعبير- لا تشكل الأساس السياسي للبلاد كما هو الأمر بالنسبة للقبيلة. لكنها تشكل البعد الاجتماعي الذي لا يمكن القفز عليه… إن القاع الاجتماعي-التاريخي للبنيات المغربي قاع معقد لا يمكن تصنيفه في أي تصنيف متسرع.
نحن إذا أمام بنية اجتماعية معقدة تغطيها مؤشرات متداولة مثل القبيلة. وهذه البنيات العميقة إن صح التعبير هي المعبر الحقيقي عن مجتمع لا نقول بدون مشاريع، إنما مشاريعه إما ضخمة سريعة العطب –مبنية على ريع خارجي- أو متوسطة أو صغرى دائمة. إنه سلوك المزارع الذي لا يطمح إلى تسويق ولا ربح، سلوك لا ينظر إلى العمل عبر الفائض، بل العمل عنده جزء من الحياة اليومية رغم كون الفقه الإسلامي، عبر العقود وضبط الملكية، أعطى صورة تجارية لمجتمع لا يسمى مجتمعا إلا إذا كان وسيطا… ومن هذا المنطلق نتفق مع ماركس على أن الدولة ليست إلا محمولا وأن المجتمع هو الموضوع خصوصا في المجتمعات التقليدية .
* هذه المساهمة في الأصل بعض نتائج الرسالة التي دافعت عنها لنيل دبلوم الدراسات العليا في علم الاجتماع في يونيو 1996 بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط تحت عنوان: الواحات المغربية قبل الاستعمار، "غريس"، نموذجا.
بن محمد قسطاني