كانت استراتيجيات التواصل الإشهاري حتى الثمانينيات من القرن الماضي تعتمد على ثنائية: مقاولة-مستهلك. وكان لزاما على المستشهرين تطوير هذه الوضعية التواصلية، لأن الإشهار لا يمكن أن يستمر في تجاهل ثقافة المقاولة الإشهارية ومحيطها الخارجي، كما أن الأزمة التي عرفها الإشهار فيما بعد، أي في التسعينيات من القرن ذاته، فسحت المجال أمام المستشهرين لإعادة التفكير في العلاقات القائمة بين المقاولة و مجمل شركائها، لأن الإفراط في إغراء المستهلك يقتل الإغراء ذاته.
إن استراتيجيات التواصل المفتوح[1] الذي دشنته المقاولة في الغرب جعلها تنسج علاقات جديدة مع محيطها. وكذلك تبينت أن الأزمة التي عرفها الإشهار ظاهرة تنضاف إلى تغييرات بنائية:اقتصادية واجتماعية وتواصلية. ويقدم التواصل المفتوح مفهوما جديدا للمقاولة الإشهارية التي أصبحت تعتمد في تصريف الخبر على تواصل داخلي وآخر خارجي هو (محيطها الاجتماعي). إن الصعوبة الأساسية التي تواجهها هذه المقاولة وغيرها في الوقت الراهن ترتبط بالسؤال الخاص بمشروعيتها، كما ترتبط بأهمية معرفة البعد الاجتماعي لأنشطتها. إن رهانها الأساس يمر، إذن، عبر مأسسة التواصل."كما أن تدبير مشروعية تنظيم ما انطلاقا من تقويم مشروعه يمر عبر التحليل الثقافي المكمل للتحليل الاستراتيجي."[2] وهكذا تصبح المقاولة في منظور التواصل المفتوح مكانا للتقاطع بين «الداخل» و«الخارج».إنها فضاء اجتماعي أكثر من كونها نظاما لتبادل السلع والمنتوجات والأخبار.
يمثل الإشهار المباشر، راهنا، شكلا من أشكال التواصل المعروف باسم: تواصل خارج الإعلامCommunication Hors Media . ويتطور شيئا فشيئا على حساب الإشهار الكلاسيكي.فإذا كان التسويق المباشر منهجية خاصة بالبيع ، فإن الإشهار هو مجموع الوسائل الضرورية التي يتم توظيفها لإنجاح المبيعات. إنه ،أي الإشهار، «مهمة مرصودة للإخبار عن خصوصيات هذا المنتوج أو ذاك، وتشجيع البيع. وتظل هذه الوظيفة«الموضوعية» في الجوهر، وظيفة الإشهار الأولية.»[3]
إن تطور الإشهار هو بدون شك نتيجة من نتائج التطور السوسيو-اقتصادي، بما في ذلك التقدم الذي عرفه عمل المرأة مثلا، وكذلك تطور وسائل المعلوميات وتقنيات التواصل ووسائل النقل ورغبة المستهلك في إقامة علاقات متميزة مع المنتوج.
وتكمن الأهداف الرئيسة للإشهار المباشر في التعريف بالمنتوجات الجديدة وبعث الثقة في الزبون وإنعاش القدرة الشرائية لديه. «إن الإشهار برمته مرصود لهذه الوظيفة التالية:يستطيع المستهلك أن يقرأ في كل لحظة وكأنه داخل مرآة ألنسبيكل من هو و فيما يرغب-وارضائه في الآن معا.»[4] وينتظم هذا الإشهار من خلال الوسائل أو الأسناد التالية:البيانCatalogue ، والكراس المعد للدعاية التجارية Prospectus، والإعلانات التي ترسل عبر البريد Mailling و عبر حافلات النقل الحضري Bus Mailling. وكذلك البيع بواسطة التلفزيون Tele-Achat. إن كثيرا من هذه التقنيات التي بدأت تقتحم متخيل المستهلك والمتلقي المغربي لا تحقق مبتغاها بسهولة. لأن هذا الأخير ينفر بسرعة من تدفق الوصلات الإشهارية التي تتعبه وتفتر إدراكه. ولهذا بات من ا لضروري اليوم السعي إلى استبدال هذه التقنيات بنوع من الإشهار المباشر الذي يتوفر على مصداقية قوية. ولكي يكون الإشهار المباشر فعالا ينبغي أن يتوسل بتقنيات إعلامية وأخرى ليست إعلامية. إذ بدأنا نشاهد في المغرب وصلات إشهارية تشتغل على المحكي المستلهم من المتخيل المجتمعي والرمزي"لأن مظاهر المحكي المتباينة جدا في الإشهار تسم حياتنا."[5] وأخرى تستند إلى ممثلينDes Comédiensمعروفين بحكم ارتباطهم بدراما تلفزيونية عرفت نجاحا جماهيريا[6] وأصبحوا هم العارضين للمنتوج.
2- الإشهار و بناء الفضاء العمومي
تحرر أنماط الاستهلاك النشيطة الفرد من العلاقات الاجتماعية التقليدية،كما أنها تطرح في الآن معا ضرورة تحديد العلاقة بين المحيط الخاص والمحيط العام. ولهذا فإن اقتراح مفهوم جديد للعلاقة بين المحيطين معا ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار«الرابطة الاجتماعية» وتشكيلاتها. وكذلك الأمر نفسه بالنسبة للفضاء العمومي الذي يعرف بكونه العنصر المشترك بين جميع الناس:"… ينبغي أن «تغادر بيتك» لتكون «مع الجمهور» فالفضاء العمومي مقدس، إذن، بصورة مدهشة منذ سيادة إله الشمس من خلال التناسق المنتظم للبنيات والحدائق العمومية."[7]
ونعاين اليوم في الثقافة المغربية مظاهر لزعزعة المنتوج الرمزي التي يتم التعبير عنها من خلال تيمات متنوعة من قبيل: أزمة القيم، أو الاحتماء بموضوع الأخلاق لرفض هذا المنتوج الرمزي أو ذاك. "ثم إن الإشهار لم يعد يملك هذه القوة العجيبة. و لم يعد يملك هذه القوة التي تدمج الجماعة في اللذة اللامنتهية للمستهلك."[8] وكذلك أبان الإشهار في الوقت الراهن أيضا عن عجزه في الدفع بالاستهلاك إلى الأمام، لأن الاستهلاك يرتبط بالسياسة الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع برمته. كما أخفق هذا الإشهار في أداء وظيفته التاريخية المتمثلة في استمالة الرغبة:رغبة المستهلك.
ويبدو، في تقديرنا، أن علم العلامات أو السيميولوجيا أخفقت بدورها في الإجابة عن السؤال التالي:لماذا لم تعد الأساطير تؤدي، اليوم، أية وظيفة ؟ والوظيفة التي ارتآها لها رولان بارت على وجه الخصوص:"لقد علمتنا السيميولوجيا أن الأسطورة تعني تجسيد فكرة تاريخية تجسيدا موضوعيا، وتحويل العارض إلى أبدي."[9].
وإذا تم تغييب هذا السؤال المرتبط بموروثنا الثقافي والرمزي ارتباطا وثيقا، فإن الاستهلاك الرمزي للعلامات الذي تحدث عنه جون بودريار[10] غدا نوعا من الحنين الذي يتقاسمه بعض الإشهاريين، في الغرب، خلال احتفالهم بليلة الإشهار. كما أصبح هذا الاستهلاك نوعا من المعرفة التجريبية اليومية التي لم تعد تحتمل البساطة في التحليل.إن المظهر المعرفي للتجربة يدفعنا إذن إلى الاهتمام بكل الأحداث والظواهر الثقافية والرموز وكل ما ينخرط في اللحظة الآنية. أي كل ما يحتضنه الفضاء العمومي ويدبره. "لقد أقام ماكيافل في ليدسكورسي les Discorsi تمييزا بين فكر القصر وفكر الساحة العمومية.واعتبر هذه الأخيرة في امتدادها الشاسع جدا )أماكن للسلطة الاقتصادية،والسياسية،وحتى الرمزية كذلك(، ومن المؤكد أن تمييزا مثل هذا تمييز قائم باستمرار."[11] .
يضطلع الإشهار بدور رئيس في تطوير الدورات الاستهلاكية التي تغير أحوال المجتمع، ويلعب فضلا عن ذلك دورا اجتماعيا قويا. ومن هنا فإن الظهور التدريجي والحضور الملحوظ للتسويق الاجتماعيMarketing Social Le الذي يستعمل الإشهار شيئا فشيئا للدفاع عن بعض القضايا المجتمعية يعد مؤشرا من المؤشرات التي تدل على العودة إلى الفضاء العمومي للإشهار. ذلك أن "الوظيفة الاقتصادية للإشهار تلي وظيفته الاجتماعية بشكل تام."[12].
لقد بدأ الإشهار يكتسح فضاءنا العمومي والمجتمعي بصورة تدريجية، بحيث قدمت التلفزة المغربية بقناتيها الأولى والثانية وصلة إشهاري خاصة ب«خميرة إديال IDEAL»، وهي إرسالية تخاطب النساء دون الرجال، ويهيمن فيها نشاط العلامات اللفظية، أي الكلام على نشاط العلامات البصرية. إذ تبتدئ الإرسالية بصوت خارجي voix-off يعرف بالمنتوج. ويوجه الخطاب إلى نساء ينتمين إلى فئة عمرية واحدة.وتوظف الإرسالية اللقطات المقربة Plans Rapprochéesلتقريبنا من النساء هاته، وهن يعبرن عن رغبتهن في إيجاد مورد مالي لتحسين وضعيتهن الاجتماعية، دون أن تكتسي هذه الللقطات بعدا تأويليا أو رمزيا، وإنما تكتسي بعدا إخباريا. ويقضي قانون المسابقة الخاص بهذا المنتوج، والذي يبث من خلال صوت خارجي أن الفائزات يحصلن على آلة خياطة من النوع الممتاز وعلى أدوات الخياطة وموادها، بالإضافة إلى مساعدة تقنية و مساعدة أخرى في التسويق. وهو نوع من الإشهار الذي ينخرط في تشجيع المبادرة الحرة والفردية.هنا حيث يملك المستفيد، كما يقول جون بودريار، الاختيار الذي يجعله «حرا» في الدخول ضمن حسابات الإنتاج بوصفه قوة منتجة[13].
3- وسائل التواصـل الإشهــاري
ويقصد بها مجموع الآليات التواصلية والإعلامية، وآليات أخرى تستند إلى سنن خارج تقنيات التواصل والإعلام. وكلها أدوات يستعملها البائعون لمخاطبة المستهلكين بهدف تسويق منتوجاتهم والإعلان عن ظهورها في الأسواق، والتعريف بها وتبيان خصائصها. وسنقتصر هنا على آليات هي: الملصق L'Affiche والتلفزيون والسينما باعتبارها أسناد Des Supports قاعدية لتصريف الخبر الإشهاري.
أ-الملصق : ويتكون من ثلاثة أبعاد، ويتشكل من علامات أيقونية ورسومات وخربشات Graffitis، و من علامات لفظية. ويعتبر من أقدم وسائل التواصل الجماهيري التي يتم الولوج إليها مجانا ، لأنه يوجد في متناول معظم المستهلكين.
فالملصق باعتباره وسيلة تواصل خارجية يخاطب الأفراد من خلال تنقلاتهم اليومية في المدينة. وهي ظاهرة بدأت تمس فضاءنا العمومي الخارجي.
أ-1الملصق باعتباره وسيلة اتصال جماهيرية.
يتميز الملصق بقدرته على خلق سلطة جدب قوية ، وهو يخاطب جمهورا واسعا بطريقة مكثفة ومتكررة من خلال تواجده الدائم في المدينة. ويروم مصممو الملصق ترك بصمات المنتوج في مكان ما في ذهن المستهلك والمتلقي وفي متخيله. إنه وسيلة اتصال آنية وسريعة وفعالة تتيح للمستشهرين تقييم حجم المبيعات بشكل مباشر بهدف: الإعلان عن منتوج جديد ، أو الإعلان عن نشاط تجاري منتظم، أو تقوية صورة المنتوج وشهرته.
غير أن آليات اشتغال الملصق تنطوي على نقط ضعف معينة أهمها ؛ عجزه عن انتقاء الهدف انتقاء دقيقا. كما أن الحجج التي يقدمها لإقناع المستهلك باقتناء المنتوج، حجج ضعيفة أحيانا ،لأن قراءتنا له تكون قراءة سريعة باستثناء بعض الأماكن العمومية التي يتحول فيها الملصق إلى سند للقراءة المتأنية. وهي ظاهرة بدأت تتجسد أيضا في فضاءنا الحضري من خلال ملصقات إشهارية ذات أحجام كبيرة توجد معلقة على واجهات العمارات المتمركزة وسط المدن الكبرى وفي مفترق الطرق الكبرى كذلك. "وارتباطا بسلوكنا السوسيوثقافي، فإن الملصق يضمن حضور المنتوج أو النوع La Marque في ذهن الأشخاص[14].
أ-2 أشكال الملصق وأحجامه.
لقد أصبح مصممو الملصقات يبدعون أشكالا من الملصقات وفق أحجام مختلفة بعضها تقليدي وأخرى تستجيب لمختلف «الوسائط» التي تحمل هذا الملصق أو ذاك بما في ذلك وسائل النقل العمومية ، وكذلك وسائل النقل الخاصة بتوزيع المنتوجات. كما أن الملصق أو الإشهار الخارجي يتخذ أشكالا أخرى متباينة ؛ بما في ذلك الملصقات الموجودة في محطات القطارات والمطارات والملاعب الرياضية والمسابح والمؤسسات التعليمية والأسواق الممتازة. غير أن هذا النوع من الإشهار الخارجي لم يترسخ بعد ترسيخا حقيقيا في نسيجنا الاقتصادي والاجتماعي والتربوي. فكيف يمكن الحديث والحالة هاته عن الإشهار الجوي Publicité Aérienne والإشهار الضوئي Lumineuse Publicité.
ب-التلفزيون في خدمة الإشهار
يمثل التلفزيون وسيلة اتصال جماهيرية قوية نظرا لارتفاع عدد الجمهور الذي يشاهد برامجه. وكذلك ساعات البث الطويلة التي تستغرقها هذه البرامج. كما تتجلى قوة هذه الآلة أيضا في غنى سننها الثقافي، فهي وسيلة اتصال تركيبية تمزج بين العناصر البصرية والصوتية والحركة في إرسالية واحدة. ولهذا فهي توفر للمستشهرين فضاء مناسبا لعرض المنتوج و تلفيفه وعرضه من خلال وضعية تستميل رغبة المستهلك وتنعش غرائزه. وتبعث فيه الإحساس بالتماهي مع (الأسرة النموذجية ) التي تظهر على الشاشة بوصفها ممثلا للمنتوج، كما يوضح ذلك جون بودريار : «التلفزيون :«نحن نحاول أن نخلق تطابقا بين حياة بيوتنا و صباغة الأسر السعيدة التي يقدمها لنا التلفزيون؛ والحال أن هذه الأسر ليست إلا مختصرا مسليا لكل أسرنا»[15].
إن معظم المنتوجات التي تخاطب جمهورا واسعا تستعمل التلفزيون باعتباره وسيلة اتصال قاعدية. مما جعله يحظى بأسبقية إعلامية وتواصلية لدى المستشهرين مقارنة مع الوسائط الأخرى، لكونه يصيب الهدف بدقة وبثمن أقل. ثم إن هذه الأسبقية ترتبط أيضا بحوافز إبداعية يوفرها التلفزيون لأنه آلة متكاملة «للإظهار» Monstration . ومن ثمة فهو يفسح المجال أمام تطوير شهرة المنتوج ونقله إلى جمهور واسع بفعل عملية البث المتكررة اليومية للوصلات الإشهارية. إن التلفزيون ،إذن، وسيلة تواصل مؤثرة. بحيث تكاد معظم الإرساليات الإشهارية في المغرب تبث عبر القناتين التلفزيونيتين الأولى والثانية، نظرا لمحدودية استعمال الملصق وضعف تأثيره في المستهلك، وكذلك الأمر نفسه بالنسبة للإشهار المنقول عبر الصحافة المكتوبة أو الإذاعة.
ج-السينما والإشهـار
إن السينما باعتبارها فنا للصورة ،توفر بدورها للمستشهرين إمكانيات تقنية وبلاغية وسردية مرنة. ومساحة زمنية معينة تمكن من عرض الوصلات الإشهارية على جمهور واسع يتضمن مختلف الطبقات والأعمار.
وتكمن القوة التواصلية للسينما فيما يلي:
- إن السينما تبيع المستشهرين مدة زمنية معينة، خلال أسبوع أو أسبوعين أو أكثر.
- إن السينما تبيع المستشهرين فضاء معينا؛ إن داخل بهو منزل أو في ساحة عمومية أو حديقة أو مدرسة.و يمكن أن يعرض الفيلم الإشهاري في منطقة بعينها أو في مجموع التراب الوطني أو خارجه.
- قدرة الصورة السينمائية على التأثير في نفسية المستهلك وفي متخيله، أي فدرتها على القيام بانتقاء سيكولوجي واستمالة الفئة العمرية الأكثر حيوية ونشاطا في مجموع الساكنة.وبناء عليه يقوم المستشهرون باستغلال هذه الإمكانيات التواصلية لدعم موقع المنتوج ونوعه و حتى تقييمه.
إن الصورة السينمائية وسيلة اتصال متكاملة تتميز هي الأخرى بغنى سننها الثقافي، فهي تجمع بين الصورة والصوت والحركة. وتعرض فرجة معينة؛ تخاطب من خلالها جمهورا حاضرا ومهيئا لاستقبال الخبر الإشهاري. كما أن عملية تلقي هذا الخبر يتم بشكل جماعي داخل قاعة العرض.إن السينما آلة قوية للتواصل الإشهاري، ومع ذلك فإن توظيف الفيلم الإشهاري في ثقافتنا البصرية لازال توظيفا محدودا إن لم نقل منعدما؛ على الرغم من الدور الذي يمكن أن يضطلع به هذا الفيلم الإشهاري ذي الصبغة العمومية في التربية على المواطنة واحترام حقوق الإنسان وتشجيع المبادرة الحرة والفردية.
4- الاستهلاك بوصفه مظهرا طبقيا .
هل ينبغي أن ننظر إلى الأشياء objets Les واستعمالاتها الموضوعية وخصائصها باعتبارها أجوبة عملية لحاجات الأفراد؟
يعيش الفرد داخل مجتمع معين وتتولد لديه ضرورة قوية للانتماء إلى جماعة بشرية. ويسهم الاستهلاك في تحقيق هذا التماهي الاجتماعي من خلال استبطانه للقوانين الخاصة بالجماعة التي ينتمي إليها هذا الفرد.وكذلك فـ"إن روعة الإشهار والاستهلاك تكمن وظيفتها في تيسير الامتصاص التلقائي للقيم الاجتماعية المحيطة وتيسير الانكفاء الفردي داخل التوافق الاجتماعي"[16]. إلا أن الاستهلاك يعتبر أداة تميز الفرد عن الجماعة من خلال تمثله لـ «علامات» الاستهلاك الخاصة به. كما أن « الاستهلاك لا يوجد إلا في تجريدية نسق يقوم على «حرية» المستهلك[17]. وعندما يقبل المستهلك على اقتناء منتوج ما، فإنه لا يسعى إلى الاستفادة من وظيفته وصلاحيته الموضوعية بالمعنى الذي يعطيه إياها علماء الاقتصاد، بقدر ما يتزود في بداية الأمر بـ «العلامات الاجتماعية»، إذ « لا يوجد موضوع للاستهلاك إلا ابتداء من اللحظة التي يكون فيها قابلا للتبادل، وابتداء من اللحظة التي يكون فيها هذا التبادل محددا من قبل القانون الاجتماعي الذي يعتبر قانونا لتجديد المواد الفارقة، وقانونا لتثبيت الأفراد في هذا المستوى من الوضعية الاجتماعية تثبيتا إجباريا.وتعتبر الوضعية الاجتماعية هذه النظام الاجتماعي الصرف... من خلال الوساطة التي تضطلع بها جماعتهم ، وارتباطا بعلاقتهم بالجماعات الأخرى[18] وليس فعل الاستهلاك خاصية اقتصادية فقط، وإنما هو خاصية ثقافية أيضا. وكذلك يمنح الإشهار للأشياء دورها كذوات تحققية ويجعلها تعكس سننا اجتماعية خاصة بقيم معينة :« فنحن مدعوون أو منجذبون من خلال مظاهر خاصة تهم العرض : تقديم المنتوج وتلفيفه، والوصلة الإشهارية ذاتها. وفي هذه الحالة، فإن البائع يبيع قيمة ويشبع حاجة ويستجيب لحالة نفسية...»[19] ويجد المستهلك نفسه مطالبا بالتعبير بواسطة الأشياء التي يفترض فيها أن تجعله مختلفا عن غيره.بحيث لا ترتبط هذه الأشياء بوظيفة أو بحاجة محددة، بقدر ما تستعمل لغة اجتماعية مزيفة كما يقول جون بودريار.
وكذلك تقدم مختلف القنوات التلفزيونية عبر العالم وصلات إشهارية تبني متونها من خلال شخصيات عمومية و عالمية مشهورة في مجال الفن أو الرياضة أمثال: سلفستر ستالون وآرنولد شوازنغير ومايكل شوماخر ومايكل جوردان و دافيد بكام .كما تقدم التلفزة المغربية وصلات إشهارية تستند إلى محكيات Des Récits تشرك في بنياتها بعض نجوم الرياضة المعروفين الذي يعرضون منتوجات مختلفة: هشام الكروج في الحاسوبFUJITSU-SIEMENS وجبنة البقرة الضاحكة. ونزهة بيدوان في منتوج فراش رشبوند. ويونس العيناوي ومروان الشماخ في المنتوجات الخاصة بشركة الهاتف Méditel .
ونلاحظ أن الأشياء التي تعتبر أشياء مستدامة، كآلات التجهيز المنزلي والتلفزيون والثلاجة والألبسة التي يتم تصنيعها جميعا للاستجابة لإكراهات مشتركة بين الأفراد، تنتشر بين الفئات الاجتماعية المختلفة بدون استثناء: «إن البشر متساوون أمام الحاجة وأمام مبدأ الارتياح ، لأن البشر متساوون أمام قيمة استعمال الأشياء والثروات (في حين أنهم غير متساوين أمام قيمة التبادل)»[20].
إن الأشياء تؤدي وظيفتها في حياتنا، باعتبارها أسنادا Des supports للتمييز بين مواقع اجتماعية، وكذلك باعتبارها عناصرا للتفاوت الطبقي .كما تمثل علامات تؤشر على الانتماء إلى أوساط اجتماعية معينة ومرجعيات ثقافية كذلك.وهذا ما يؤكده جون بودريار بقوله «إن أيديولوجية الاستهلاك شأنها شأن أيديولوجية المدرسة تلعب هذا الدور بصورة جيدة بمعنى الإحساس الذي نحس به من خلال المساواة التامة أمام آلة الحلاقة الإلكترونية أو السيارة – مثلما هو الإحساس الذي نحس به عند الكتابة والقراءة). ومن المؤكد أن الجميع يعرف اليوم القراءة أو الكتابة بالقوة، كما أن الجميع يملك (أو سيملك) آلة الغسيل ذاتها ويشتري كتب الجيب ذاتها. غير أن هذه المساواة، مساواة شكلية بشكل تام. ترتكز على ما هو محسوس بصورة إضافية، وهي تجريدية في واقع الأمر".[21]
وإذا كان صناع التسويق أو الإشهاريون يتوسلون بعدة إواليات إعلامية وتواصلية متطورة وإيحائية للتأثير في المستهلك و المتلقي وإقناعه بأهمية الحاجات الزائدة التي تخلقها لديه المنتوجات التي تقترحها عليه الوصلات الإشهارية. وإذا كانوا يسعون إلى التركيز على الدور الاجتماعي وحتى الأخلاقي للمقاولة الإشهارية، فإن بعض الدارسين المختصين في الإشهار يذهبون أبعد من ذلك عندما يرون أن معظم الصناعة الإشهارية تستند إلى تعميق الإحساس؛ إحساس المستهلك الفرد بعدم الرضا والسرور، كما تستند إلى خلق حاجات زائدة وإضافية لديه. بحيث تأتي المنتوجات والحالة هذه «لتغيير وضعية مأساوية»[22] خاصة بهذا المستهلك. إلا أن هذه الأفكار التي تهتم بعلاقة الفرد بالمنتوج أو بالشيء ترتبط بالمرجعية الثقافية أكثر مما ترتبط بالإشهار ذاته:« فالكائن البشري لا يسعى إلى إرضاء حاجاته الطبيعية أو المنزع الحيواني في شخصه فقط، بقدر ما يسعى إلى الاستجابة لحاجاته المكتسبة وذوقه النابع من الثقافة ومن الحياة الاجتماعية.»[23] من هنا تنبع حاجة الفرد إلى امتلاك أشياء وثروات متباينة وجذابة تشهد على انتمائه إلى فئة اجتماعية معينة.
ــــــــــــــــــ
1- يهتم التواصل المفتوح بالروابط القائمة بين المقاولة و محيطها الاجتماعي، وكذلك الموقع الذي تحتله داخل هذا المحيط.واستنادا إلى هذا المفهوم،فإن المقاولة يمكن أن تنتمي إلى المجموعة الاجتماعية دون أن يختزل دورها في تبادل المنتوجات والسلع تبادلا بسيطا.إنها تعتمد في تصريف الخبر على تواصل داخلي وآخر خارجي.
[2] -Franck Cormerais, Alain Milon, La Communication Ouverte, édt.Liaisons,1994,p.19.
[3] -J.Baudrillard,Le Système des objets, , édt. Gallimard,Paris 1968.p.230.
[4] - J.Baudrillard , La Société de Consommation ,Denoél ,Paris,1970.p.314.
[5] - Jean Michel Adam, Le Récit,PUF,Paris,1984,p.3.
[6]- نذكر على سبيل المثال، مسلسل "لالة فاطمة"الذي بثته القناة الثانية M2 خلال موسميين تلفزيونيين متتاليين2002- 2003 في إطار برامجها الرمضانية، وهي فترة تعرف فيها نسبة مشاهدة التلفزيون ارتفاعا كبيرا.مما رسخ قويا صورة الممثلين في ذهن المتفرج. وأصبح حضورهم، فيما بعد، في بعض الوصلات الإشهارية للإعلان عن بعض المنتوجات، إستراتيجية من استراتيجيات التسويق.
[7] - J.M.Pradier, D.Dekerchov, M.C.Vettrano-Soulard, S.J.Thorpe, H.Zettl, Le Téléspectateur face à la
Publicité; Edts. Nathan,1989,p.134.
[8] - Franck Cormerais, Alain Milon, La Communication Ouverte, op.cit.,p.24.
[9] - R. Barthes , Mythologies , éd. du Seuil, Paris,1957,p.219.
[10] --تحدث بودريار عن الاستهلاك الرمزي للعلامات في صفحات كثيرة من كتابه:مجتمع الاستهلاك،ص ص :29-30-107-265.
[11] - Michel Maffesoli,La Connaissance Ordinaire, Précis de sociologie compréhensive,Paris,Librairie
des MERIDENS ,1985 p: . 184
[12] -J. Baudrillard, La Société de Consommation, op. cit., p.264.
[13] - J. Baudrillard, Pour une Critique de l’Economie Politique du Signe, éd. Gallimard, Paris, 1972 p.88
[14] - Franck Cormerais, Alain Milon, La Communication Ouverte, op.cit., p 88.
[15] - J. Baudrillard, La Société de Consommation,op.cit.,p.314.
[16] -J. Baudrillard, Le Système des Objets, éd .Gallimard , Paris,1968,p242.
[17] -J. Baudrillard, , Pour une Critique de l’Economie Politique du signe Op. Cit.,pp87-88..
[18] - Ibid. p.66.
[19] -Jack Mahoney, Le Retour de l’Ethique dans la Publicité, Numéro spécial sur “Le Marketing et ses hommes »,L’Economiste, Janvier 2000, p.25.
[20] -J. Baudrillard, La Société de Consommation, Op. cit ; p.61.
[21] - -Ibid pp. 75.76.
[22] - Charles Mauron , Psychocritique du Genre Comique, Librairie José – Corti, 1985 p.31
[23] -Jack Mahoney, Le Retour de l’Ethique dans la publicité.Op. Cit ; p.22.