1 ـ وحدة لتفكير الزيملي
ظلّت أعمال زيمل Simmel محلّ تناول أهمّ في مجال الفلسفة منه في مجال السوسيولوجيا ، فأعماله عادة ما تنسب إلى الفلسفة وكثيرا ما يذكر عنها طابعها أو توجّهها أو مضمونها أو مقاربتها الفلسفية لظواهر موضوع التناول السوسيولوجي . وقد حظي بمتابعة من قبل المدرسة الفرنسية لعلم الاجتماع أو علماء اجتماع ـ المجلّة الدولية لعلم الاجتماع والمجمع العالمي لعلم الاجتماع ، لم تخل من نقد مثل الذي وجّهه دوركايم Durkheim" لمعارفه الإجمالية المحمّلة بكيفيّة مبكّرة والغير خاضعة لأيّ مراقبة "[1]. وقد حاول جانكاليفيتش بعد انقطاع الصلة بين المثقّفين الفرنسيين ونظرائهم الألمان إثر الحرب العالمية الأولى،إحياء الفكر الزيملي عبر مقال حول فلسفة الحياة لديه نشر بمجلّة الميتافيزيقا والأخلاق 1925 م. إلاّ أنّ أكثر المقاربات الجديّة والناجحة تعود إلى آرونAron الذي خصّ زيمل Simmel بدراستين[2]. أمّا خارج فرنسا فقد حظي الفكر الزيملي بإهتمام في ايطاليا واسبانيا واليابان وخاصّة عبر مدرسة شيكاغو في الولايات المتّحدة الأمريكية من قبل بارك وبرجس . وقد اجتهد العديد من علماء الاجتماع والباحثين في فلسفة الحياة وتمثّل زيمل للعالم الاجتماعي على الوقوف على الوحدة الممكنة لطرحه أو لفكره.
فشنابل يعتقد أنّ وحدة التفكير الزيملي تتجسّد في إبستيمولوجية النقدية "التي لا تعرف إمكانية أخرى غير إمكانية معرفة تقريبيّة"[3]. يعتبر لاندمانن أنّ المقولة المحورية لفلسفة زيمل Simmel هي مقولة " القانون الفردي "[4] وهو ما يماثل فهم دومون لتمثّل زيمل Simmel للظواهر الاجتماعية باعتبارها"تختزل في تفاعل بسيط من الأفراد"[5]. أمّا جولين فرود فتنكشف نقطة تقاطع أو وحدة الفكر الزيملي لديه في فلسفة الارتباط والانفصال والانغلاق والانفتاح في عبارة الجسر والباب. ويسمّي زيمل Simmel ثنائيّة الحياة مثلما موضوعات الفكر"بموضعة الفكر البشري"[6]. يشكّل الجسر صورة الربط أو إيجاد صلة في حين أنّ دلالة الباب هو الفصل والتفكّك أو العزل أي القطيعة. فصورة الأشياء الخارجية تظهر لنا " في معنى مزدوج، هو أنّ الطبيعة يمكن أن تبدو لنا كما لو أنّ كلّ شيء كان مترابطا أو كما أنّ كلّ شيء كان منفصلا "[7]. كانت عبارة الجسر تتواتر كثيرا في مؤلّفه فإنّ عبارة الباب تظهر نادرا [8]. هذا التعارض لا ينطبق على الأشياء الخارجية للطبيعة فحسب ، فمثلما يوجد ترابط مستمرّ بين هاتين العمليتين " سواء تعلّق الأمر بالمعنى المباشر أو بالمعنى الرمزي أو بالمعنى الجسدي أو الروحي، فنحن في كلّ لحظة كائنات نفصل ما هو موصول ونوصل ما هو منفصل"[9].إذا كان الجسر الذي هو صورة الربط يوحّد ويستدعي الوحدة ، فإنّ الباب يمثّل لدى زيمل Simmel عون التفكّك الذي يدخل الانفصال في الوحدة المتواصلة وأحادية الشكل .
تدخل استمرارية سيرورة الحياة الإنسانية بشكل لانهائيّ في تعارض وصراع مع الأفعال الفردية مثلما المبدعة التي"تتعالى على تدفّق الحياة "[10]. وتلك هي مأساة والقدر المحتّم للإنسان لديه. تشكّل تلك الظواهر الاجتماعية،ضمن هذا التدفّق ، كلاّ يقتضي تناوله إيلاء اهتمام ضروريّ لكلّ مظاهر الوضعية.ويتّجه زيمل Simmel إلى اكتشاف الثوابت ضمن مدّ الحياة الاجتماعية ومن ناحية أخرى"كيف تنتج هذه الثوابت وهذه الأشكال ،الفعل المتبادل للأفراد [11].
2 ـ نظرية الشكل: الارتباط والانفصال.
تبدو أهميّة زيمل في مجالنا المبحثيّ،في مقاربته للوجود الإنساني وللحياة الاجتماعية والمعاش" الذي تنكشف ضمنه الحياة "[12]،التي هي في مواجهة مستمرّة مع الحركة التناقضيّة أي الجدليّة[13] للتوحيد والتجزئة والتجميع والتفكيك والربط والفصل التي تشكّل أساس نظرية الشكل لدى زيمل. وسواء كانت " هذه الحياة بيولوجية أو نفسية أو تاريخية أو اجتماعية فهي لا تستمرّ بما هي كذلك إلاّ بتديمها وإحيائها المتواصل لهذه الحركة في أشكال جديدة "[14] .
تهيمن الأشكال التي" تنتج عن الفعل المتبادل للأفراد "[15]، على حراك الحياة ذاتها إلاّ أنّها تغيّر موقعها وذلك عبر الربط والفصل أي الجسر والباب. يفضي هذا القول إلى التنبّه إلى تلازم حضور مقولة الشكل في التحليل الزيملي متعدّد المرجعيات للحياة مثلما للثقافة التي هي بعبارته " طريق الروح نحو ذاتها "[16] وهي جهد الروح للتحرّر. الحياة ذاتها تقع وسط ضغوط تثيرها عند إقرارها أشكالا تستقلّ عنها . فالحياة لا تكون إلاّ إذا كانت معطاة وفي كلّ مرّة في شكل " ينتمي لحظة ظهوره نفسها إلى نظام مغاير تماما "[17]. فالحياة محكومة دائما تحت شكل يناقضها . من هنا يتّضح لماذا يوجب على علم الاجتماع أن يبحث عن موضوعاته ، لا ضمن مادّة الحياة الاجتماعية بل ضمن شكلها وهذا الشكل هو الذي يعطي خاصياتها الاجتماعية لكل الظواهر التي تهتمّ بها العلوم الجزئيّة.
ينكشف الشكل أو الفكر الموضوعي بعبارة كانط ، لدى زيمل ، كمبدأ للمغايرة"يولج الانقطاع داخل التدفّق المتواصل للمعاش" [18] من قبل الأفراد وكتمثّل رمزي يوحّد في لفظه ظواهر عديدة أو مظاهر متعدّدة لنفس الظاهرة . والظاهرة الاجتماعية لديه " تختزل في تفاعل بسيط بين الأفراد "[19].
يمثّل الشكل،أيضا، مبدأ تفريد اعتبارا لكونه يرسم الفواصل والحدود بين الأشياء. وكلّ عمليّة فرديّة "في وحدتها وخصوصيتها، تتصرّف ككلّ في نفس الوقت الذي هي فيه جزء من كلّ"[20]، هو الحياة الاجتماعية وتمظهر جديد لجدلية الجسر والباب أي الربط والفصل ، يتداخل ضمنه العام والمفرد. فالعامّ هو "شيء مفرد في المستوى نفسه الذي يتعارض فيه مع الخاصّ"[21].فلا هو هذا الكلّ وهو المطلق بل،في الواقع، هو شكل يتغاير عن باقي الأشكال في خاصية المفرد رغم أنّه يميل لأن يكون في ذاته كلاّ أو موازيا له. ويتّخذ الشكل بالنظر لطابعه التفريدي،خاصية كليّة في الوقت ذاته الذي يبقى فيه عنصرا من كلّ. هذا الكلّ يشمله وفي الوقت ذاته يتجاوزه وهو ما يشكّل ديناميّة الحياة لدى زيمل تجسّد لعبة التحوّلات هذه للأشكال، الحرية الإنسانية التي تدرك لديه " تتخلّص بالنظر للصلات الشخصية "[22] وتمثّل شرطا لكلّ تجديد في الحياة الاجتماعية. فإذا كان الكائن في الفهم الزيملي لا يتغيّر في ذاته فهو"عامل لأشكال دائما جديدة والتبلورات تجد مرجعها في الفكر التاريخي الذي يستبدل أشكالا بأخرى"[23].فالحياة سواء البيولوجية أو النفسية أو الاجتماعية لا تتجسّد أو تتمظهر إلاّ عبر أشكال تستقلّ عنها لحظة خلقها، بما يعني تواجد الحياة في كلّ شكل، بما أنّها لا تحتكم على وسيلة أخرى للتعبير. ومع ذلك فهي لا تكونه بما أنّها تصنع القطيعة معه. فهي تفرز أشكالا لا تتغاير عنها فحسب بل تكمّلها أيضا . تخلق هذه الأشكال " موضوعات خصوصية لثقافة معطاة "[24]. رغم ذلك يتحدّث زيمل عن "صراع الحياة ضدّ الشكل في العموم وضدّ مبدأ الشكل"[25].ويجعل من الحياة والشكل عالمين متضاربين . لكن لا ينفي أو يقصي الشكل الحياة ولا الحياة للشكل. وتحتكم علاقة الحياة بالشكل إلى الجدلية الانفتاح والانغلاق/الارتباط والانفصال، أي تبادليّة تمثّل في التفكير الزيملي سببا لكلّ الأفعال التبادلية في الحياة العملية التي أساسها الجوهري " صراع بلا نهاية " [26] .
لقد شكّلت فلسفة زيمل للحياة وجدليتها مع الشكل مثلما مقاربته للفعل الإنساني بالنظر إلى مقولة الفعل المتبادلة ، منطق لبلورة تصوّر السوسيولوجيا للحياة الاجتماعية والفعل الاجتماعي حتّى لدى من وجّهوا نقدا لتفكيره . لكن ما يعنينا هو تنبّه إلى العلاقات الدائمة للأفراد " تنتج ضمن كلّ المجالات وعلى كلّ مستويات الفعل الاجتماعي " [27] التي منها اليومي المعاش الذي تنكشف ضمنه الحياة.
[1] –Durkheim (Emil.), Textes, T1, Eléments d’une Théorie sociale, paris, Minuit, 1987, p. 19.
[2] –Aron (Raymond.) , La sociologie Allemande contemporaine , paris puf , 1981.
[3] –Simmel (Georges.) , Sociologie Et Epistémologie , Introduction , Julien Freud , p. 14.
[4] – Ibid, p. 14.
[5] – Dumont (J.), Vandooren (p.), La sociologie, TII, éd Gérard, 1972, p. 308.
[6] - Gurvitch (Georges.), Sociologie et Epistémologie, Art, Albert salamoun, la sociologie Allemande, TII, p. 611.
[7] - Simmel (Georges.), op cit, p. 14.
[8] - Ibid, p. 15.
[9] - Ibid, p. 15.
[10] – Gurvitch (Georges.), op cit, p. 611.
[11] –Maffesoli (Michel.) , La logique de la domination , paris puf , 1979 , p. 137.
[12] – Simmel (Georges.), op cit, p. 44.
[13] ـ هذه الجدلية ليست لها دلالة ايبستيمولوجية فقط بل أيضا أنطولوجية. فالكائن لدى زيمل هو في نفس الوقت وحدة وانفصال ، يدرك ذلته باعتباره كائنا كواحد ومنفصل .
[14] – Simmel (Georges.), op cit, p. 16.
[15] -Dumont (J.) , Vandooren (p.), op cit, p.270.
[16] – Simmel (Georges.), op cit, p. 34.
[17] – Dumont (J.) , Vandooren (p.), p.271.
[18] – Simmel (Georges.), op cit, p. 38.
[19] – Dumont (J.) , Vandooren (p.), p.308.
[20] – Simmel (Georges.), op cit, p. 38.
[21] – Ibid, p. 39.
[22] – Maffesoli (Michel.), op cit, p. 137.
[23] – Simmel (Georges.), op cit, p. 34.
[24] – Hogues (M.) , Sumph (J.) , Dictionnaire de sociologie , paris Larousse , 1973 , p. 199.
[25] – Simmel (Georges.), op cit, p. 45.
[26] - Ibid, p. 15.
[27]– Gurvitch (Georges.), op cit, p. 613.