المشكلة الأساسية التي يعاني منها مصطلح الايديولوجيا هو سعة مدلوله وتنوع استعمالاته، مثله في ذلك مثل العديد من مصطلحات العلوم الإنسانية كالثقافة والاستلاب والوعي وغيرها.
وبالاضافة إلى ذلك فهو مصطلح تزاحمه العديد من المصطلحات المقاربة مثل ذهنية، وعقلية وعقيدة، ومذهب، ورأي، وفكر ومنظومة فكرية، وسياسة وثقافة وما ماثلها من المصطلحات (رؤية العالم، رؤية كونية).
بل إن معناها ذاته يتراوح بين المعنى الواسع الذي يشمل ما تسميه الأنتروبولوجيا الثقافية بالثقافة أي كل مظاهر النشاط والانتاج الفكري والروحي في المجتمع، وبين المعنى الضيق الذي يستعمل به في سياق علم الاجتماع السياسي أو في علم السياسة وهو جملة الآراء والأفكار والتمثلات المرتبطة بسلطة سياسية.
حين نوسع المفهوم بالنظر إلى الايديولوجيا باعتبارها الظاهرة الفكرية والثقافية العامة المؤطرة للمجتمع تصبح الايديولوجيا أقرب ما تكون إلى الثقافة المهيمنة أو الثقافة التلقائية للمجتمع. وهذا المعنى يجعلها تماثل ما يدعوه دوركهايم بالوعي الجماعي.
لكننا نستطيع أن نميز داخل تصور الثقافة بين الثقافة كمعارف وخبرات، والثقافة كتوجيهات أخلاقية وسلوكية وكتأطير اجتماعي للفرد. وهذا الشقّ الثاني هو الأقرب إلى مدلول الايديولوجيا أو هو الوجه الايديولوجي للثقافة.
ومن ثمة فإن وظيفة الايديولوجيا في هذه الحالة هي تزويد المجتمع والأفراد بهويتهم الجماعية المميزة. الايديولوجيا هنا حكاية تقدم للمجتمع صورة عن نفسه من خلال وعبر مسار تاريخي يعود إلى أصلٍ متدرج عبر تعرجات الزمن. وهذا يصدق بالدرجة الأولى على الايديولوجيات الاجتماعية المحليّة الاثنية (كالوطنية والقومية) أكثر مما يصدق على الايديولوجيات الطوباوية (كالاشتراكية). فالايديولوجيا الأمريكية تعود إلى حرب التحرير وإلى بطولاتها وأبطالها كمنطلق، فهي تشكل الحدث المؤسس المرجعي للدولة الأمريكية الحديثة. والايديولوجيا السوفياتية الحديثة تعود باستمرار إلى الحدث المؤسس للدولة السوفياتية الحديثة وهو الثورة الروسية في 1917 كمرجع رئيسي يكسب كل الأحداث اللاحقة والسابقة معناها ودلالتها ويعيد ترتيبها وتصنيفها. والايدولوجيا الفرنسية هي نوع من العودة الدائمة إلى الحدث المؤسس لفرنسا الحديثة وهو الثورة الفرنسية في 1789 والذي تستلهم كافة القوى السياسية مغازيه ودلالاته. أما بالنسبة لدول العالم الثالث فأغلب إيديولوجياتها ترتكز على المرحلة الفاصلة بين النضال من أجل الاستقلال ولحظة الفوز بالاستقلال. فاللحظة الدينامية لاستقلال هذه الشعوب هي في الأغلب الأعم الحدث المرجعي في الايديولوجيات السياسية لدول العالم الثالث إلا في الحالات التي حدث فيها انقلاب سياسي أدى إلى ضرورة إحلال حدث مؤسس آخر محل هذا الحدث المؤسس الأول .
إن ملحمة النضال من أجل الاستقلال بكل بطولاتها وأبطالها وعذاباتها ما تزال هي الحدث المرجعي الأول بالنسبة لمعظم الايديولوجيات السياسية في العالم الثالث.
هذا فيما يخص الايديولوجيات السياسية، أما فيما يتعلق بالايديولوجيات الثقافية فلكل أمة حدث ثقافي مؤسس. والمرجع الأساسي للدول العربية الاسلامية كدول وكأمة واحدة هو زمن النبوة الفاصل بين عهدين: عهد الظلام والجهالة، وعهد النور والهدى. وأحداث عصر النبوة وعصر الخلفاء الراشدين هي الأحداث المؤسسة بالنسبة لكل دولة على حدة أو للأمة العربية والاسلامية ككل. بل إن كل دولة تجتهد في تكييف حدثها المؤسس اللاحق مع هذا الحدث المؤسس المرجعي المشترك الذي هو ظهور الاسلام.
أما بالنسبة للدول الأوربية فالحدث المؤسس المشترك في إيديولوجيتها الثقافية هو ظهور المسيحية ونشوء الدول المسيحية وتوسيعها. إلا أن هذه المرجعية، أخذت في التضاؤل مع تقدم الفصل بين السلطتين الزمنية والروحية في أوربا. وهكذا نجد في تاريخ كل أمة مفاصل أساسية يتم الرجوع إليها بهذه الدرجة أو تلك حسب متطلبات ومقتضيات الحاضر.
في كل مجتمع إذن هناك مجموعة أحداث مؤسسة إما ثقافية أو سياسية يتم باستمرار الرجوع إليها والاحالة عليها وإعادة تأويلها في اتجاه تأسيس وترسيخ ذاكرة جماعية مشتركة لأعضاء الجماعة. ووظيفة هذه الايديولوجيا هي تزويد الأفراد، والمجتمع، والأمة ككيان اجتماعي بهوية جماعية مميزة. هذه الايديولوجيا تحدد للفرد من هو وتحدد للأمة من هي، مع ما يترتب عن ذلك من أدوار ورسالة تاريخية وأهداف مستقبلية.
وهذا المستوى الاجتماعي للايديولوجيا هو أعمق مستوياتها لأنه يتعلق ببناء المجتمع نفسه حيث تتحول الايديولوجيا إلى أداة صهر وعامل إندماج وتماسك لأعضاء الجماعة. في هذا المستوى تصبح الايديولوجيا بمثابة ملاط أو إسمنت يشد البناء الاجتماعي كله. فصورة الهوية التي تقدمها الايديولوجيا (سواء في صيغتها الثقافية أو في صيغتها السياسية) لا تنقذ الفرد من التيه والضلال، وتجعله يتماسك كذات فقط بل تشده إلى الجماعة ككل بأواصر هي من القوة والصلابة بحيث يتعذر تكسيرها.
يرتبط بعملية تزويد المجتمع أو الفئة أو الهيئة بهوية عملية أخرى أساسية هي جعل الفاعلين الاجتماعيين متماثلين ومنصهرين في نفس البوتقة. ومن ثمة تلعب الايديولوجيا _سواء أكانت ثقافية أم سياسية، أم مهنية أم عرقية أم غيرها، وسواء على مستوى المجتمع كله أو على مستوى قطاع واحد من قطاعاته _ دور إسمنت إجتماعي يجعل الجميع يشعر بقوة بالانتماء للمجموعة، وبأن وجوده رهن بها وبأن مصيره متوقف عليها، وأن أهدافه هي أهدافها. وهذا ما دفع ألتوسير إلى القول بأن الايديولوجيا تحول الفرد إلى ذات، أي تحوله من كائن غفل ومن رقم مجهول ضمن الجماعة إلى فرد واعٍ بذاته، معتز بانتمائه للجماعة ومهيأ لتقبل قيمها واختياراتها وأهدافها، أي في النهاية إلى ذوات تعتقد أنها حرة وواعية ومريدة وفعالة وأساسية في الجماعة.
الوجه الآخر لعملية تجميل الذات وتمجيدها هو عملية تقبيح الخصوم أو الأعداء أو المغايرين على العموم. ولعل كل إيديولوجيا لا تكتسب صلابتها الذاتية وتحصّن مواقعها إلا على أشلاء الآخر، فهي في حاجة دوماً إلى خصم (إلى آخر) تسقط عليه كل الصور السلبية المترسبة في الذاكرة والوجدان. فكما يتم اجتياف الصور الايجابية وإسقاطها على الذات وعلى الجماعة وعلى النحن، كذلك يتم إخراج وإسقاط الصورة السلبية والتحقيرية على الآخر الخارجي أولاً والداخلي في المقام الثاني. كل إيديولوجيا قائمة في هذا الإطار على أساس عملية بسيطة هي إضفاء صبغة مثالية على الذات وملحقاتها، وإضفاء صبغة شيطانية على الآخر وملحقاته، وذلك بهدف تحقيق التماسك والتلاحم الداخليين.
وليس معنى هذه الآلية الفكرية أن الآخر المخالف والمختلف هو الذي يمنحني ذاتيتي كما قد يذهب إلى ذلك التصور الجدلي للعلاقة بين الأنا والآخر، بل إن الايديولوجيا _من حيث أن منطلقها هو منطلق الهوية _تميل إلى القول بأن الآخر آخر لأني أنا هو أنا. فهويتي لا أستمدها من اختلافي وخلافي بل من ذاتيتي، وهي أصل انبثاق ذاتية الآخر وهويته.
تلك هي المهمة الأساسية لكل إيديولوجيا، والتي تجعل منها مكوناً أساسياً لكل مجتمع. فالمجتمع أو الرابطة الاجتماعية لا تنشأ من تواجد الناس التلقائي في المكان وانتهائهم إلى صياغة نوع من "العقد الاجتماعي" فيما بينهم كما تميل إلى تأكيد ذلك نظريات الحق الطبيعي، كما أن المجتمع لا ينشأ فقط لأن هنالك سلطة، أو عصبية أو قوة أو تحالفاً بين قوى هو الذي فرض مؤسسات وتنظيمات وعلاقات وأنشأ المجتمع. المجتمع لا ينشأ فقط عن تلقائية المصالح ولا ينشأ عن سيادة سلطة صاهرة وموحدة، بل إن هذه الشروط لا تكتمل وتكتسب قوتها وصلابتها إلا مع نشوء إيديولوجيا جماعية، أي نشوء تمثلات جماعية تهيء النفوس والعقول لتقبل واستساغة الحياة المشتركة. ليست السلطة وحدها هي أساس نشوء واستقرار واستمرار المجتمع، بل هناك شرط ضروري ومكون أساسي لكل مجتمع هو تهيؤ النفوس وطواعية الارادات التي صهرتها الايديولوجيا وهيأتها. وهذا "العنف اللطيف" الذي تمثله الايديولوجيا هو الذي يشكل الاسمنت الأساسي في كل مجتمع، وهو الذي يهيىء له شروط الاستقرار والاستمرار. وغياب الرابطة الايديولوجية معناه غياب عنصر أساسي من عناصر المجتمع، وبدونها يصبح المجتمع ايلاً إلى التفكك أو مشدوداً فقط بقوة سلطوية خارجية لا بانبثاق داخلي للشعور بوحدة الانتماء.
وإذا كانت المجتمعات القديمة في أوربا وكثير من مجتمعات العالم الثالث الآن قائمة على إيديولوجيا مستمدة من معطيات دينية بهذا القدر أو ذاك فإن معظم مجتمعات الغرب اليوم قائمة على أساس إيديولوجيات عقلانية أي إيديولوجيات دهرية تستهدف تحقيق جملة أهداف دنيوية كالتقدم والنمو والحريات الملموسة والحقوق وتطوير القدرة الشرائية والعدالة، والتوزيع العادل للثروة والدخل، إيديولوجيا قائمة إما على الوطن أو الدولة أو العرق أو الطبقة أو غيرها. فالمجتمع بدون إيديولوجيا هو عبارة عن مجموعة أو شتات من الناس، والوطن بدون إيديولوجيا عبارة عن أرض. فهي إذن مكون أساسي من مكونات كل مجتمع إذ لا وجود لمجتمع بدون إيديولوجيا.