كارل غوستاف يونج هو صاحب مدرسة علم النفس التحليلي، وهو أحد أصدقاء فرويد والخارجين عليه فيما بعد.
يرى يونج أن فهم النفس الإنسانية قد غاب عن أذهان الكثير من المثقفين وحتى المختصين منهم في علم النفس، تحت سيطرة أفكار فرويد لذلك يقول يونج "إنه يضع اقتراحات ومحاولات منظمة لخبرة علمية جديدة مع الكائنات الإنسانية" ويونج من مواليد سويسرا عام 1875م.
مارس الطب النفسي عام 1900 "بزيوريخ" ودرس على يد "جانيه" في باريس عام 1902، لكن الفترة الحاسمة في حياته كانت يوم التقى بالعالم النمساوي سيجمند فرويد عام 1907 حيث وجد تقارباً فكرياً بينهما، استمر سنوات طويلة. لكن يونج لم يصل إلى أفكاره من خلال هذه العلاقة مع فرويد لأن نضوج أفكاره حول اللاشعور برز تباينها الواضح مع أفكار فرويد وآرائه في التكوين النفسي للإنسان، وخاصة عندما صدر كتابه "سيكولوجية اللاشعور" الذي أذاع فيه ما يفرّق مفاهيمه عن مفاهيم فرويد، حيث بدأت القطيعة بينهما؛ فأصبحت أعمال فرويد وتلاميذه تعرف بمدرسة التحليل النفسي، بينما انتمت أعمال يونج وتلاميذه إلى ما سمي بعلم النفس التحليلي أحياناً وعلم نفس العقد النفسية أحياناً أخرى.
وإذا أردنا أن نوجز أفكار يونج في علم النفس كما يراه من خلال تعريفه للنفس البشرية، باعتبارها جهازاً دينامياً في حركة مستمرة تنتظمها الذات، ويطلق كلمة "الليبيدو" libido على تلك الطاقة النفسية العامة.
مفاهيم جديدة :
وهذا المفهوم اليونجي عن الليبيدو يختلف عن المفهوم الفرويدي، ويقترب كثيراً من مفهوم إرادة الحياة عند "شوبنهور" وفترة الاندفاع الحيوي عند "برغسون" ففرويد يطلق هذا المفهوم على جانب من الجهاز النفسي المسمى "بالهي" وهو مستودع للغرائز الجنسية والغرائز العدوانية، وهو بهذا يقتصر على جانب من اللاشعور في الذات.
أما يونج فهو يطلقه على جوانب شعورية ولا شعورية من الطاقة النفسية.
وحركة الليبيدو الطبيعية عند يونج، إما حركة متقدمة، أو حركة راجعة، ويسمي الحركة المتقدمة بالحركة التقدمية والتي من شأنها إرضاء الحاجات الشعورية للشخصية.
أما الحركة الراجعة والتي يسميها النكوس فمهمتها إرضاء الحاجات اللاشعورية، وهكذا يرى أن الحركة التقدمية من شأنها العمل على تكيّف الفرد الإيجابي مع بيئته أما النكوس فمن شأنه تكيّف الفرد مع حاجاته الداخلية.
ومفهوم النكوس عند يونج يختلف عن مفهوم النكوس عند فرويد، حيث يرى فرويد أنه ميكانيزم دفاعي يشهره الأنا في وجه الوجدانات والحوافز الغريزية الصاعدة من "الهي" فهو ميكانزم مرضي يتراجع فيه الأنا بكليته إلى مراحل طفولية من الإشباع النفسي للطفل.
أما يونج فيستخدمه بمعنيين: إما رجعة إلى حالة حالمة بعد فترة من التركيز والنشاط العقلي المستمر، وإما رجعة إلى مراحل مبكرة من النمو النفسي، ولكنها ليست بالضرورة مرضية كما هي عند فرويد.
ويعتبر مفهوم اللاشعور عند يونج اكتشافاً مهماً جداً، يحلّ كثيراً من غوامض النفس، وينير الطريق لمعرفة وفهم الكثير من العقد النفسية وملابساتها. فاللاشعور كما يراه يونج مفهوم نلمس نتائجه ولا نحسّه, وهو مختلف عن الشعور ومستقلّ عنه، إلا أنه أكثر منه فاعلية وقدرة، فهو يؤثر في العقل الشعوري ويوجهه. وهو ظاهرة عامة موجودة في حياة كل فرد. ولا يقتصر على الحالات الشاذة والمرضية كما يُعتقد، فهو يظهر حتى في حياة الأسوياء والأصحاء, فكثيراً ما تصدر عنا أفعال لا ندري كنه دوافعها الحقيقية حيث تملأ الدهشة أحدنا وهو يسأل:
ما الذي دهاني؟
الشر كغريزة :
ويميز يونج بين نوعين من اللاشعور: اللاشعور الشخصي، واللاشعور الجمعي، ويطلق يونج على اللاشعور الشخصي اسم "الظل" "Libido" والظل كائن وضيع يعشش في ذواتنا، فهو قوة هائلة تصارع الفرد، وتدفعه للقيام بأفعال لا يسمح له شعوره بها. وهو بهذا المعنى جانب شرير يدمر "الجانب الرمزي لذاتنا الشعورية الواعية" وفي هذا الجانب من الشخصية تكمن كل الرغائب المسفّة والانفعالات البربرية، وكل ما ترفضه الجماعة, وهذا الجانب كما يرى يونج لا يمكن تغييره بالتربية المألوفة، لأنه هو طفولتنا بما فيها من أنانية فطرية واندفاعية خالصة، إنه موجود منذ أن خطا الإنسان أولى خطواته على الأرض.
بهذا المعنى يصبح الشر طبيعة غريزية متأصلة في النفس الإنسانية. مكتوب على الإنسان مصارعة تلك الرغبات بشكل مستمر، تصرعه أحياناً كما في حالات الجنون والجريمة، ولا يستطيع مغالبتها أبداً لأنها جزء من ذاته.
وإذا تمكن من إلغائها وإفنائها فهو يلغي ويفني نفسه، إنما يستطيع أن يُعليها ويحوّلها عن مجراها، كما هو الحال عند الفنان والمبدع والعالم، أو يكبتها كما هو الحال عند الإنسان العادي الذي يمارس حياته الاجتماعية بشكل طبيعي، أو يغالي في كبتها، حتى يولّد ضد الكبت المغالى به مرض نفسي "عصاب، بفئاته المختلفة من قلق أو كآبة أو حالات هستيرية تطفح آثارها على البدن في حالات العمى أو الشلل الوظيفي. أما اللاشعور الجمعي، فهو يمثل طبقة عميقة من اللاشعور أعمق جذوراً، وأكثر تأملاً في النفس من اللاشعور الشخصي ولعلّ أول أنماط اللاشعور الجمعي التي درسها يونج هو نمط الذكورة والأنوثة. فرأى أن للرجل والأنثى شخصية وظلاً بالتساوي، والفرق الوحيد بين الذكر والأنثى يتركز في مستوى الظل "اللاشعور الشخصي" عند كل منهما.
فظل الرجل ذكري، بينما ظل المرأة أنثوي، وفي رأي يونج التفرقة بينهما سلوكية لا طبيعية، فاللاشعور الذكري يشتمل على عنصر أنثوي، واللاشعور الأنثوي يشتمل على عنصر ذكوري.
فالرجل ليس رجلاً في كل الأحوال، والأنثى ليست أنثى في كل الأوقات "وإنما نجد في ذات الشخص سمات ذكورية تعيش جنباً إلى جنب مع السمات الأنثوية" وأكثر الذكور رجولة نجد لديهم مظاهر العطف والرقة وأقوى الرجال لا يخجل من الاستسلام لعواطفه وبهذا المعنى يقول يونج "توجد في لا شعور الرجل أنماط ذات طبيعة أنثوية، وهي التي تمكّنه من فهم طبيعة المرأة".
العلاقة مع الأم :
والنمط الأنثوي في اللاشعور الجمعي للرجل يتشكل من خلال العلاقة بالأم. ومن خلال هذه العلاقة يحمل الشخص خبرته الأولى الفعالة من الأنثى، وكثيراً ما نجد بعض الرجال عاجزين عن التحرر من تلك العلاقة مع الأم فتستمر حياتهم سلسلة من الفشل المتلاحق في علاقاتهم بالجنس الآخر, فخبرة الطفل بأمه تكتسي بثوب ذاتي. لذلك ليس المهم أن نبحث عن كيفية معاملة الأم لطفلها، وإنما المهم أن نتساءل عن شعور الطفل إزاء تلك المعاملة.
أما العنصر الذكري في المرأة، فينبع وفق نظرية يونج من ثلاثة مصادر.
1 ـ الصورة العالمة الموروثة وخبرتها بالذكورة التي تأتيها من خلال ما تقيمه من علاقات بالرجال في حياتها كالأب.
2 ـ عنصر الذكورة الكائن في ذاتها.
3 ـ يظهر العنصر الذكري نفسه في المرأة بشكل إيجابي من خلال ما تقوم به من أعمال ذكرية في صميمها.
وهذا ما يظهر عندما تتخلى المرأة عن أعمالها الطبيعية وتخرج أثناء الحروب مثلاً لتقوم ببعض الأعمال الفدائية ومع ذلك عندما تقوم المرأة بمثل هذه الأعمال تصبغها بصبغة أنثوية.
وإذا كانت الذكورة والأنوثة نمطين أصيلين يعودان إلى نطاق اللاشعور الجمعي، فإنها ليسا بالنمطين الوحيدين من أنماط هذا الشعور.
فيونج يردّ إلى هذا اللاشعور كل ما من شأنه العمل على ديمونة تقاليد وعادات السلالة كما يردّ إليه أعمال السحر والأساطير التي تجري في مجتمعات مختلفة، ولكن بطرق متشابهة لدرجة تدعو إلى الاستغرب. كما يردّ إليه أيضاً الأحلام ذات المحتوى الشائع والرموز العامة.
ومن أنماط اللاشعور الجمعي التي اهتم بها يونج اهتماماً كبيراً الدين. ونظرية يونج في الدين هي نظرية قريبة من الواقع، ولا تصدم الناس في معتقداتهم، كما يفعل الذين يرون في الدين خداعاً وهروباً من الواقع وعودة إلى ضعف الطفولة.
الدين وظيفة طبيعية :
ففرويد يرى في الدين ما يراه في الأمراض النفسية التي كان يعالجها، حيث تنطبق عليه كل أعراض العصاب القهري والطقوس التي يقوم بها المتدين من صوم وصلاة، والتطهير المستمر أشبه بفعلة الحوازي "obsessioned " الذي يغتسل في اليوم مئات المرات، اغتسالاً قهرياً نتيجة إحساس لا شعوري دفين بالألم والنجاسة.
والدين كما يراه يونج إنما هو وظيفة طبيعية ترتهن بإشباعها صحة الإنسان النفسية واستقراره الوجداني فعن طريق هذا الإشباع يرتبط عالم الفرد الداخلي بالخارجي بدرجة متساوية.
والسمة الجوهرية في الدين هو هذا التعبير الشعوري عن أنماط مختفية في غياهب اللاشعور، وهي وظيفة تستطيع أن تقوم بأدائها أي معرفة عقلية.
بالإضافة إلى ذلك يرى يونج أن الدين مفهوم دينامي وديناميته تجعل من العبث تعريفه تعريفاً واضحاً ومحدداً "وقد عبرت هذه الدينامية عن نفسها في الماضي في حركات الإصلاح، وفي الحروب الدينية، والاضطهادات الدينية، كما في سيطرة السحرة، ثم في تعذيبهم، وكذلك في الجهود الخلاقة المبدعة التي دفعت الناس لبناء المعابد، والجوامع، والكنائس، كما تعبّر عن نفسها اليوم في حركات التمرد كالشيوعية والنازية والفاشية".
كذلك يرى يونج أن في نفس كل منا، وبالذات في منطقة اللاشعور الجمعي صورة "لله" وأن كل إنسان محتاج لاختبار هذه الصورة، والإحساس بمدى ملاءمتها للعقائد التي يمدّها به دينه. وإذا لم يحدث ذلك، فإن الشخصية الإنسانية ستعاني انقساماً خطيراً يظهر في سلوك هذه الشخصية بشكل بربري ومتوحش, رغم مظهرها المتمدن وتتمركز مساهمة يونج في علم النفس الشعوري بتمييزه بين نمطين من الاتجاهات يحويان كل الشخصيات الإنسانية واتجاهاتها.. وهما:
التمحور حول الأنا :
النمط المنطوي، والنمط المنبسط, وكل نمط يمثل سلوك الشخص الذي ينتمي إليه، ونوع تصرفه أمام التجارب التي يلقاها في حياته كما يرى عبد الكريم اليافي في كتابه تمهيد في علم الاجتماع.
ويطلق النمط الانطوائي على الأشخاص الذين يتميزون باتجاه عقلي يدفعهم إلى الاتجاه نحو باطنهم، نحو عالم ذاتي تغمره الذكريات، والنزوات العاطفية الجامحة، يعتمدون المبادئ المطلقة، والعوامل الذاتية، دون مراعاة الواقع، أي أنهم يتمحورون حول الأنا والابتعاد عن الآخر، بل يصبح الآخر مجرد مُضايف سيكولوجي وامتداداً للأنا وانعكاساً له، بمعنى آخر فإن أصحاب هذا النمط تنقصهم المرونة في التصرف، يميلون إلى حياة التأمل، مترددون يجدون صعوبة في التكيف، نرجسيون، ويتجه الليبيدو عندهم إلى الداخل، ويصب في الذات بالمعنى الفرويدي والمرض النفسي الذي يتعرضون له هو "الوسواس" أما النمط المنبسط فيطلق على مجموعة الأشخاص الذين يتميزون بتهيؤ عقلي يدفعهم إلى الارتباط بالجماعة، والابتعاد عن تأمل الذات أو التمركز حولها، فهو يتجه نحو العالم الخارجي، بفهمه، ومن ثم يوفّق بينه وبين حاجاته ومآربه.
والليبيدو عنده يتجه إلى الخارج بالمعنى الفرويدي وهو متفائل من الناحية النفسية، ومتحمس، سريع إلى العمل، قليل الانتظار، يعمل ثم يفكر، قليل التردد، جريء، علاقته بالواقع إيجابية ومرضه النفسي هو "الهستريا".
هذه صورة مبسطة لآراء يونج، وإذا كنا قد المحنا إلى الاختلاف بينه وبين فرويد فإن التدقيق في فكر كل منها يرينا أن ثمة تشابهاً رغم اختلاف المصطلحات التي اعتمدها كل واحد، فاللاشعور الجمعي عند يونج على سبيل المثال يقابله عند فرويد الأنا الأعلى مع بعض الفروق في التفاصيل.