يكاد الحديث حول أسطورة أوديب لسوفوكليس يصبح مستهلكا لفرط ما لاكته الألسن و سودت به الصفحات، منذ أن اتخذ منها رائد التحليل النفسي سيجموند فرويد، بل و من الأسطورة بشكل عام، دعامة أساسية مكنته من بلورة منهج جديد أسعفه في فهم اللغة الرمزية و بالتالي فك شفرة الأحلام بناء على قاعدة ترى في الأسطورة كما في الحلم "مجرد تعبير عن النوازع اللاعقلانية و اللامجتمعية التي تسكن البشر" .
و لئن كانت النتائج التي استنبطها فرويد من اشتغاله على هذه الأسطورة قد لقيت استحسان الغالبية العظمى من الناس سواء كانوا علماء نفس أو غيرهم، لاسيما في زمن لم تكن فيه الأساطير تعدو كونها خرافات توظف للتسلية و الترويح عن النفس أو كوسائل لجلب النوم للأطفال، فإنها (النتائج) سرعان ما ستعتريها تصدعات و تتعرض أسسها لتشققات، جراء الضربات النقدية القوية التي تعرضت لها مع توالي السنوات، و هو أمر عادي جدا، ما دمنا نؤمن بأن سر تقدم العلوم مرتبط بهذه الحركية المستمرة لسيرورة البناء و الهدم.
لن نقف في هذا المقال عند مجمل الانتقادات التي طالت التفسير الفرويدي لأسطورة أوديب، بل حسبنا منها الوقوف عند واحد من أهمها، يتعلق الأمر بالنقد الذي بلوره إريك فروم في كتابه "اللغة المنسية". أما مناط الاختلاف بين الرجلين في تفسير مضمون هذه الأسطورة فمرده إلى النقطة التالية:
يرى فرويد كما هو معلوم لدى كل مهتم أن أسطورة أوديب هي تجسيد لعقدة نفسية تطلق على الذكر الذي يحب والدته ويتعلق بها ويغير عليها من أبيه ويكرهه، و هو اختبار يطال الطفل حتما بين الثالثة و الخامسة من العمر، بسبب انتقال النشاط الجنسي من النشاط الذاتي إلى العالم الخارجي أي انتقال شهوانيته من نفسه إلى خارجها، و موضوع الرغبة الجنسية الخارجي هذا ليس سوى الأم التي سرعان ما تصبح موضوع حب بعيد المنال بسبب وجود منافس يلزم مقاومته هو الأب. إن محورة أسطورة أوديب بأكملها حول الرغبة الجنسية فيه نوع من الانزياح عن المضمون الحقيقي للأسطورة، حسب فروم، الذي يقدم، تصويبا لهذا الانزياح، أطروحة تفيد بأن الغرض من الأسطورة هو تسليط الضوء على أحد الجوانب الأساسية للعلاقات بين الناس، و المتعلق أساسا بالموقف من السلطة، السلطة الأبوية على وجه التحديد. لذلك و بغية التدليل على موقفه هذا، حاول فروم، بداية، تقويض دعائم أطروحة فرويد و تبيان تهافت الحجج التي انبنت عليها، قبل أن يدافع عن البديل الذي ارتآه، لذلك تقدم بمجموعة من الأسئلة النقدية/ التشكيكية نوردها كالتالي:
• هل كان يحق لفرويد أن يستخلص من هذه الأسطورة تأكيدا لأطروحته القائلة بأن النوازع الرهاقية اللاواعية و الكره الذي ينجم عنها تجاه الأب الغريم ينبغي أن تكون موجودة لدى كل طفل ذكر؟
• إذا كان التفسير الفرويدي صحيحا، كان علينا أن نتوقع من الأسطورة أن اوديب التقى جوكاست دون أن يدري أنها أمه، و أنه وقع في هواها و قتل أباه دون أن يدري أنه أباه؟
• ثم هل يحق لنا التسليم بأن الأسطورة التي يقوم موضوعها المركزي على العلاقة الرهاقية بين الأم و الابن قد أسقطت إسقاطا كليا مسألة الميل الذي ينبغي له أن يقرب بين الشخصين المعنيين؟
هذه، في المجمل، الأسئلة التي حاول فروم التصدي لها في سعيه نحو تقديم تأويل لمضمون أسطورة أوديب ينسف التأويل الذي قدمه قبله فرويد و يحل محله. لكن قبل أن نستعرض إجابات فروم عن هذه الأسئلة، يحسن بنا أولا أن نعرض لهذه الأسطورة موضوع الخلاف بشكل مختصر:
"ملخص أسطورة أوديب كما وردت في مأساة سوفوكليس يفيد بأن العراف قال لملك طيبة آنذاك (لايوس) بأنه سيقُتل بيد ابنه، وفي ذلك الوقت كانت زوجته (جوكاست) حاملا فلما ولدت اوديب أمر الملك بان تدق مسامير في أقدام الوليد، [ و هو السر في تسمية الطفل "أوديب" أي صاحب الأقدام المتورمة] ويرمى فوق الجبل(*) وهكذا دقت المسامير ورمي فوق الجبل فوجد الرعاة ذلك الطفل على تلك الحالة فأخذوه إلى ملك ( كورنثيا ) الذي تولى تربيته كما يُربى الأمراء، ولما كبر أوديب أراد أن يعرف موطنه ومولده ولكن العراف لم ينصحه بذلك، أي العودة إلى بلاده، وقال له أن هناك خطرا ينتظرك وستقتل أباك وتتزوج أمك ولم يأبه اوديب بذلك وقرر أن يغادر كورنثيا ويذهب إلى طيبة موطنه الأصلي، وفي الطريق صادف رجلا تشاجر معه واشتدت المشاجرة حتى قتله، ولكنه لم يعرف أنه قتل أباه. ذهب أوديب إلى طيبة وفي ذلك الوقت كان أبو الهول (السفينكس) يقسو على أهالي طيبة ويعذبهم أشد العذاب(**). و قد أرسلته الآلهة إلى طيبة ليسأل الناس ألغازا ومن لم يحل تلك الألغاز يقتله. دفع هذا الوضع (كريون) خليفة الملك (لايوس) أن يعلن للناس بأن كل من يخلّص البلد من محنتها التي يسببها لها هذا المخلوق الشرير سيتولى العرش ويتزوج أرملة الملك (لييوس) الملكة الجميلة (جوكاستا)، وعندما دخل اوديب المدينة قابله (السفينكس) و ألقى عليه ذلك اللغز الذي يتضمن: ( ما هو الحيوان الذي يمشي على أربعة صباحا، وعلى اثنين ظهرا، وعلى ثلاثة مساءا؟ ) أجاب ادويب على هذا السؤال وذلك بقوله انه الإنسان، أي عندما يكون طفلا يحبو على أربعة وعندما يكبر يمشي على اثنين، وعندما يشيخ يستعين بالعصا أي انه يمشي على ثلاثة. هناك روايتان إحداهما تقول عندما سمع سيفينكس هذا الجواب انتحر، وأخرى تقول إن اوديب قتله. ونتيجة لذلك صار ملكا على طيبة وتزوج الملكة دون أن يعرف بأنها أمه وأنجب منها، عندها جاء العراف وابلغه بالحقيقة المرة فعندما عرفت زوجته التي هي أمه الحقيقة شنقت نفسها، أما اوديب فقد فقأ عينيه وغادر طيبة وهام ليعيش بقية حياته في البؤس."
بعد عرضه لمضمون أسطورة أوديب، حاول فروم تقديم إجاباته عن الأسئلة النقدية التي أوردناها أعلاه، هكذا نجده بخصوص السؤال الأول المتعلق بالتعميم الذي قام به فرويد للنوازع الرهاقية اللاواعية و الكره الذي ينجم عنها تجاه الأب الغريم على كل طفل ذكر، لا يقدم إجابة بقدر ما يشكك في مصداقية نتيجة كهذه، و هي شكوك طالعته و هو بصدد تفحص الأسطورة فكان أن تولدت عنها أسئلة أخرى تصب في مجراها، من جملتها السؤال المتعلق بمدى التوافق الحاصل بين فحوى الأسطورة و بين ما خلص إليه فرويد من نتائج اعتبرها مترتبة عنها، إذ إذا كان التفسير الفرويدي صحيحا، يقول فروم، "كان لنا أن نتوقع من الأسطورة أن تقول لنا إن اوديب التقى جوكاست دون أن يدري أنها أمه، و أنه وقع في هواها و قتل أباه دون أن يدري أنه أباه". و هذا ما لا نعثر عليه في الأسطورة أبدا، بل لسنا نلفي "أية إشارة تنم عن أن أوديب قد مال إلى جوكاست أو أحبها". فكل ما استطاعت الأسطورة أن تبوح به بشأن زواج الابن من الأم كان ذا صلة بالعرش، أي أن الأم لم تَعْدُ كونها هدية تقدم، إلى جانب العرش طبعا، لمن يقوى على تخطي عقبة أبي الهول و تحرير مدينة طيبة. يستغل فروم هذه الهفوة من فرويد فيزيد في نكـء الجرح أكثر فأكثر، و هذه المرة من خلال التساؤل حول إغفال الأسطورة و إسقاطها كليا لمسألة الميل الذي كان ينبغي أن يقرب بين شخصين في الوقت الذي يكون موضوعها الرئيس، بحسب تفسير فرويد طبعا، هو العلاقة الرهاقية بين الأم و الابن. إن هذا التناقض ليكشف بما لا يدع مجالا للشك، رغبة فرويد في تطويع الأسطورة بالشكل الذي يجعلها تخدم فروضه الموضوعة مسبقا، و هو ما لن يُفوته فروم بسهولة، فهو لم يأل جهدا في التنقيب عن المصادر التي نقلت عنها الأسطورة، و التي، لسوء حظ فرويد، لا تطلعنا على أي ذكر لزواج تم بين أوديب و جوكاست، اللهم باستثناء نص واحد كتبه المكنى يوحنا الدمشقي اعتمد فيه على مصدر حديث العهد نسبيا (***).
لن يكتفي فروم بتقويض التفسير الفرويدي لأسطورة أوديب، بل سيقدم فرضه الخاص القائم على نوع من التأويل مختلف، لا يقف عند مسرحية "أوديب ملكا" بل سيتعداه إلى النبش في المؤًلفين الآخرين الذين أبدعهما سوفوكليس و المتمثلين في "أوديب في كولونة" و "أنتيغون"، و مضمون هذا التأويل الفروموي، إن جاز لنا أن نسميه كذلك، نبسطه كالآتي: ليست أسطورة أوديب رمزا لحب رهاقي جمع أما بابنها، بل هي رمز لتمرد الابن على سلطة الأب في العائلة البطريكية لا يمثل زواج أوديب من جوكاست فيها سوى مسألة ثانوية، أي لا يعدو كونه امتيازا من بين الامتيازات التي يحصل عليها ابن انتصر على أبيه و حل بالتالي محله في كل شيء. أما الحجج التي يسوقها فروم للتدليل على أطروحته فقد تطلبت منه البحث في المؤلفات الاوديبية الثلاثة.
هناك ملاحظة يلزمنا ذكرها في هذا المقام، لأهميتها فيما نحن فيه، تتعلق بكون فروم يعتبر أن المؤلفات الثلاثة سالفة الذكر هي بمثابة ثلاثية واحدة تشكل كلا واحدا مكتملا بحد ذاته، إذ لا معنى، يقول فروم، " لأن يذهب المرء إلى أن سوفوكليس قد وصف في هذه المسرحيات الثلاث مصير أوديب و أبنائه دون أن يكون قد توخى من وراء هذا الوصف شيئا من التماسك العميق الذي يوحد بينها." لذلك نراه يستعيد مضمون مسرحية أوديب في كولونة، كي يكشف فيه عن حدة العداء الذي يسود بين أوديب الأب و ابنيه اتيوكل و بولينيس اللذان امتنعا عن مساعدة والدهما الضرير، فكان أن رفض هذا الأخير الصفح عنهما معا حينما هب بولينيس لطلب الغفران، قائلا: " اذهب إلى حتفك أيها الابن العاق، فأنا لم أعد اعتبر نفسي أباك، اذهب إلى حتفك أيها البائس بين البؤساء، و لتنزل عليك لعناتي و نقمتي..." .
أما مسرحية انتيغون فهي بدورها لم تشد عن القاعدة، حيث أن فروم لم ير فيها سوى تجسيدا من نوع آخر لشكل من أشكال الصراع بين الأب و ابنه؛ فكاريون رب العائلة على عداء مع ابنه هامون الذي يأخذ عليه معاملته الفظة و العنيفة تجاه انتيغون، فيقرر قتل أبيه، لكن الأمر ينتهي به إلى قتل نفسه بعدما فشلت محاولته.
يخلص فروم بعد تنقيبه في ثلاثية سوفوكليس إلى تأكيد أطروحته القاضية بأن ما يتحكم فيها جميعها هي مسألة الصراع بين الأب و الابن، بمعنى أن الموضوع الرئيسي فيها يتمثل في الصراع ضد السلطة الأبوية، الذي هو صراع ضارب في القدم بين نظامين مجتمعيين مختلفين؛ نظام سلطة الأب و نظام سلطة الأم، فهذا النظام الأخير مجسد، في الثلاثية، في أشخاص أوديب و هامون و أنتيغون، في سعي مستمر للتصدي للنظام الثاني مجسد في شخصي لايوس و كريون. أما ما توصل إليه فرويد، من خلال أوديب ملكا، من أن حبكتها الأساسية تدور حول مشكلة الرهاق، فلا يعدو كونه ضربا من الاستنتاج الذاتي المحض.
لقد بدل فروم مجهودا كبيرا في سبيل الوصول إلى ما به يثبت صدق دعواه؛ فمن التفتيش العميق، و التحليل الرصين للمؤلفات الثلاثة سالفة الذكر، إلى التماس الحجة لدى باحثين آخرين جمعه بهم نفس الهدف أمثال كارل روبير صاحب "اوديب" و باشوفن صاحب "في أساطير الشرق و الغرب" و مورغان صاحب "نسق علاقات الرحم و النسب" و غيرهم... تمكن صاحب "اللغة المنسية" في النهاية من إسقاط دعوى و إثبات أخرى؛ أما الأولى فتمثلت في إسقاط الزعم الفرويدي القائم على كون أسطورة اوديب كما نقلتها ثلاثية سوفوكليس تدور حول مشكلة الرهاق الإجرامي كموضوع مركزي. في حين تمثلت الثانية في إثبات دعوى بديلة مفادها أن هذه الأسطورة هي تعبير عن صراع ضد كل أشكال السلطة، سواء كانت من النوع الذي يجمع الآباء بالأبناء أم من النوع الذي يجمع الدولة بالشعب أم كانت غيرهما من أشكال الادعاءات السلطوية التي تحط من كرامة الإنسان و تمس بقدسيته.
1 إريك فروم، اللغة المنسية، مدخل إلى فهم الأحلام و الحكايات و الأساطير ترجمة حسن قبيسي، المركز الثقافي العربي، ط 1996، ص 177.
نفسه، ص 180.
نفسه، ص 180.
نفسه، ص 181.
(*) هناك اختلاف في هذه المسألة بين ما أوردته الموسوعة الحرة ويكيبيديا و بين ما أورده فروم في مؤلفه، حيث لم يشر هذا الأخير إلى مسألة دق المسامير في أرجل الولد (الذي سيسمى أوديب، بناء على ذلك) كما لم يتحدث عن إلقاء الطفل فوق جبل، بل أشار إلى أن الملكة جوكاست سلمته إلى أحد الرعاة و أمرته أن يقيد رجليه و يرميه في الغابة و يتركه هناك حتى يموت. انظر الصفحة 179 من كتاب اللغة المنسية لاريك فروم.
(**) بدورها هذه النقطة فيها خلاف، فهناك من اعتبر أن سفينيكس هو اسم لامرأة كانت تحمي مداخل طيبة، لكننا آثرنا، نظرا للتوافق الحاصل بين فروم و موقع ويكيبيديا حول هذه النقطة، ان نبقي على سفينيكس كما هو وارد أعلاه.
الموسوعة الحرة ويكيبيديا.
إريك فروم، مرجع سابق، ص 180.
نفسه، نفس الصفحة.
(***) اعتمد فروم في هذا الاثبات على مؤلف لكارل روبير يحمل عنوان "أوديب" صادر ببرلين عام 1915.
إريك فروم، ص 182.
نفسه، ص 182.