يميز إمبرطو ايكو في "تمكن بارث"، بين صنفين من المعلمين، دون تقصد صياغة مراتبية Hiérarchie اختزالية. فثمة صنف يبتدع النماذج النظرية أو التجريبية لتشغيلها بالاسترشاد بقواعد الملاءمة Pertinence، وإخضاع الجهاز النظري لاختبار قابلية التطبيق Applicabilité ولقابلية الكمال Perfectibilité. ويقدم كغرار لهذا الصنف: شومسكي وغريماص. أما بالنسبة للصنف الآخر، فإنه "يعمل ليعطي حياته ونشاطه كنموذج"(1)، بدون أي هوس بتقنين النظرية وتنميط المقاربة؛ مما يضع المتأمل في مسار هذا الصنف، في موقف هرطوقي Hérétique بالضرورة(2).
وينتمي بارث بالتأكيد إلى هذا الصنف، لأنه حسب إيكو، شدد على نجاعة الممارسة الكتابية كمدخل خصب لولوج المعرفة، بعيدا عن كل رسم تخطيطي مجرد Diagramme abstrait، وعن إقصاء النبوغ الشخصي ونبذ المنحى الاقتدائي. وبمعنى آخر، إنه يحتفل بالذاتية ولا يغيبها لصالح غيرية تسمى موضوعية! الشيء الذي تولد عنه مروره على نحو كلبي cynique أمام واجهات المذهبيات والمرجعيات النظرية والترسانات المعرفية. والواقع أن زئبقية بارث ولغزيته ومعاندته للتصنيف على حد تعبير اديث كيروزيل ترجع إلى ذلك المسلك الوجودي والأنطلوجي بالذات. وليس من المستبعد أن يفسر هذا المسلك تأويل تودوروف للمتن البارثي كمتن يتاخم الرومانسية ويتماس معها نقدا ونظرية.
بارث إذن، رحال Nomade على شاكلة دولوز، إنه لا يرضخ لأي وطن معرفي، ولا لاقتضاءات نسقية تطابقية أيقونية. وهذا ما وقف عنده جون أبديك John Updike حين قال: "انتقل [بارث] من الوجودية والماركسية إلى "التحليل النفسي للماهيات"، وإلى النظريات اللسانية لفرديناند دوسوسير، ومؤخرا التحق بالأناسة "الجديدة" لكلود ليفي ستروس"(4). إلا أن بارث لم يكتف بهذه التحولات فقط، بل زحزح ممارسته الكتابية إلى مواقع إبداعية متجذرة في قيعان الاختلاف، وفي العمقين الكتابيين لنيتشه وباطاي تحديدا؛ حيث تتشظى الذات ويتقوض منطق الهوية لتستأثر الجينالوجيا بالحفر والتأويل، والاستعارة بالكتابة وعملية إيجاد المعاني (بصيغة الجمع لا المفرد) وتسميتها بفعل القراءة"(5).
وقد أكد ريتشارد موراد واديث كيروزيل على انقلاب بارث على مغامرته السيميولوجية، ليساكن اللذة أو اللذات بالأحرى. وهكذا فالحديث عن بارث برسم الواحدية هو إعلان عن منطق التطابق، في حين أن الحديث عنه برسم التعدد إخلاص لمنطق التكرار المتشبع بالتربة النيتشوية (العود الأبدي) المخصبة حتما، للمتن البارثي. فمن البديهي أن يتم الحديث عن لذات بارث، تماما مثلما صنع جاك دريدا إذ رأى إلى ميتاته في نمه عن "الدرجة الصفر للكتابة" و"الغرفة المضيئة".
ولم يكن لتلك اللذات أن تنداح، لو لم يرتب العلاقة بين مواقع النظر على النحو الذي يلقح برانية فعل النقد بجوانية فعل الإبداع. وذلك ما عبر عنه يوسيكو اسيكاوا YOSHIKO ISHIKAWA بقوله "كان بارث أولا، ناقدا يتكلم عن شيء ما: ولكن بعد الامبراطورية، صار يبحث عن التموضع في موقع الكاتب الذي يقوم بشيء ما"(6)، فقبل عودة المبعد أي عودة الذات، كان بارث منصاعا إلى حاجة مازوشية إلى إنكارها وتعزيمها أنطلوجيا كما قال ادجار موران. إلا أن عمليات إزالة المخادعة Démystification والتغريب Distanciation والموضوعية الوصفية أو التفسيرية-وهي حسب موران أهم العلامات المميزة لبارث الأول- أخلت مكانها لما سماه إريك مارتي ERIC MARTY برغبة التعبير أو الرغبة التعبيرية، حيث تبين له أن لذته هي الأدب وأن الأدب لذة(7). لم يعد بارث يكتفي بصفته كاتبا يكتب عن الكتاب، ويتعلق بالسيميولوجيا ضدا على الكتاب لا ضدا على العالم كما يؤكد إريك مارتي، بل سيكتب رغباته التي لا نهاية لها على حد قوله في سيرته الذاتية، "رولان بارث بقلم رولان بارث". ويكفي أن ننظر إلى الببليوغرافيا البارثية بعد س/ز - S/Z، لنقف على حجم الرغبة المتسع دوما، لدرجة أن مؤلفاته التالية: لذة النص Plaisir du texte ورولان بارث بقلم رولان بارث Roland Barthes par Roland Barthes وشذرات من خطاب عاشق Fragments d'un discours amoureux، تبدو وكأنها بيانات من أجل "استعمال اللذات" l’usage des plaisirs. واستعارة اسم كتاب فوكو هذا، له دلالة في هذا المقام، إذ فيه قطع فوكو مع كتاب "إرادة المعرفة" الذي درس حسب دولوز الجنسية من زاوية نظر السلطة والمعرفة معا ليكشف علاقة الذات بذاتها(8).
ونستنتج بلا لأي، أن خطاب الرغبة واللذة، علاوة على انخراطه الصميم في الحداثة البعدية كما يحلو لمطاع صفدي أن يعبر، فإنه يؤشر على إحدى العلامات الناشئة التي شكلها جيل البنيويين بكثير من الاختلافات في اللغة، والاختصاص والمنظور والحساسية، وبشيء من التوحد في المقاصد النهائية كما قد تقول سوسيولوجيا المعرفة في تشخيص وتعليل الظاهرة البنيوية.
إن ما سماه ادجار موران بعودة المبعد retour du distancé، لا يجب تأوله كشكل من أشكال عودة المكبوت، بل كمسايرة لسيرورة الانزياحات الابستمولوجية، التي طالت منطق المعنى، وفلسفة الذاتية والكوجيطو الديكارتي وخطاب المنهج، لصالح النظم المعرفية المسماة إبستيميات (فوكو) أو براديمات (إبدالات) (توماس كوهن) أو ضد المنهج (بول فايرباند) أو الكوجيطو الفرويدي المصوغ لاكانيا على النحو القائل "أرغب إذن أنا موجود" أو "أنا أفكر حيث لا أوجد، وأوجد حيث لا أفكر".
ففي الأوان الذي تحاول فيه "النظرية النقدية" مع مركيوز تثوير المفاهيم النفسية في إطار "فلسفة التحليل النفسي"، ويحاول فيه كارل بوبر السعي إلى إخراج التحليل النفسي صحبة الماركسية من دائرة العلم، فإن البنيوية الفرنسية ركزت -بالاستعانة بالمعطيات اللسانية والخلفية الإناسية- على العودة إلى فرويد باعتباره مثل ماركس ونيتشه "لم يضف دلائل جديدة للعالم الغربي.. بل غير في الحقيقة طبيعة الدليل وبدل الكيفية التي بإمكان الدليل أن يؤول بها"(9)
إن هذا الاستنتاج الفوكوي، يحيلنا على جاك لاكان الذي قارب، من زاوية استنطاقية مضمرات ومسكوتات العمل الفرويدي وتعميقه لمنطوقه وافتراضاته. ويلخص مطاع صفدي محصلة الإنجاز اللاكاني قائلا: "وإذا كا لاكان شديد الحزن لمصير التحليل النفسي هذا لدى الأمريكيين، فإن محاولة انتشاله جعلت من (تعليم) لاكان نيتشويا مجددا للفرويدية بتعابير لسانية بنيوية مقنعة بفلسفة الاختلاف قبل أن تعرف تسميتها تلك: يرجع لاكان التحليل النفسي إلى حضن السؤال الفلسفي، بعد أن سعت الفرويدية الأوروبية إلى طرح نفسها بديلة عن الفلسفة مؤقتا.."(10).
إلا أن الإحقاق الأرأس لإنجاز لاكان كان هو تمتيع خطاب التحليل النفسي بشرعية اكتساح الشعورية الكلاسيكية مثل الديكارتية التي منعت فيلسوفا من عيار سارتر من استساغة فكرة اللاشعور، وتقدميه بجهاز من المفاهيم القابلة للاستثمار في أكثر من قطاع. ولعل هذا يذكرنا بتحليل لاكان لقصة (الرسالة المسروقة) لادجاربو، ذلك التحليل الذي أسعفه كثيرا في بلورة اللاشعور البنيوي، وإظهار فاعلية الدال في تركيبة اللاشعور. واعتبارا لهذه النقلة، فإن جان لوكايو، حدد مرحلتين أساسيتين في المقاربة التحليلنفسية للنص، مرحلة ما قبل لاكان ومرحلة ما بعد لاكان(11). هذا المسار الانعطافي الذي شكلته "الإشكالية اللاكانية" la problématique Lacanienne، يجد سنده في "إعادة المفهمة اللاكانية" Reconceptualisation Lacanienne للشكلانية بإدخال غير الممثل Le Non représentable، أي الرغبة، إلى المنظومة اللسانية، "وبإعادة مفصلة" réarticulation الحقل النظري للتحليل النفسي، بالانعراج بالمرجعية الفرويدية إلى تخوم النموذج اللساني"(12). ولئن كان Jean le GALLIOT يرى في التحليل النفسي البنيوي، أهم أداة لتأويل النصوص، فإن Michel Grimaud يؤاخذ على التحليل النفسي من موقع المنافحة عن علم النفس، عدم أخذه بعين الاعتبار لتلك الانقلابات الحاصلة في تصورات العلم منذ قدوم الفكر السبرنيطقي:(Pensée cybernétique)(13).
ودون الدخول في السجالات المعرفية الدائرة حول التحليل النفسي نظرية وممارسة، فإننا نسجل أن "كتابات" لاكان قد جعلت، بكل استبهامها وخصوبتها النظرية، من قراءة الخيال تحليلنفسيا، قمينة بإعطاء النصوص بعدا آخر، وبرؤية الكتابة في تكونها واشتغالها كما قال بلمان-نويل(14).
لم يكن بارث بعيدا عن "العدمي المستمتع: أي لاكان (والتوصيف هنا لأندريه غرين)، وعن التحليل النفسي. فقد أكد في كتابه عن راسين، أن المعالجة التي قدمها "للبطل الراسيني" ليست تحليلنفسية، وأن اللغة المستعملة كانت عكس ذلك على نحوما. كما نوه بشارل مورون وبعمله عن "اللاشعور في عمل وحياة راسين"، مؤكدا استفادته منه، مع أن عمله يتغيا تشكيل نوع من "الإناسة الراسينية"(15).
وسجل في شذرات من خطاب عاشق، في مرجعيات الذات العاشقة، القراءة الاعتيادية وهي قراءة فارتر لجوته، والقراءات الملحة وهي قراءة مأدبة أفلاطون، والزن وخطاب التحليل النفسي، وبعض المتصوفة ونيتشه..الخ(16). والسبب الكامن وراء تمديد بارث لخطابه على حدود التحليل النفسي بشفافية نادرة، هو رؤيته إلى الفرويدية Freudisme باعتبارها إبستيمية كبرى (إلى جانب الماركسية) للتحديث(17). والأكثر من ذلك أنه ذهب أحيانا إلى إبراز اطروان ما أسماه: Jean CROCQ الجهاز التحليلنفسي Dispositif psychanalytique والجهاز الماركسي Dispositif Marxiste، على حساب الجهاز السميولوجي Dispositif sémiologique الموسوم في تقوميه بالتبعثر(18).
إلا أن بارث لم يبلور إشكالية خاصة به، في خضم امتياحه من نظرية التحليل النفسي، كالتي قدمها ما سماه بلمان-نويل بالتحليل الببليوغرافي psychobiographie أو العمل النظري الهام لبلمان نويل في التحليل النصي Textanalyse ، أو مجهود شارل مورون في النقد النفساني Psychobiographie. لا يبدو بارث منشغلا بأية أشكلة لخطاب التحليل النفسي، وهو يمدد أدواته على الفعالية الأدبية، ولا بأي نسق فكري على النحو الهيجيلي. كان أقرب إلى "ديالكتيك المفارقة" عند كير كيغارد من الديالكتيك الهيجيلي أو الماركسي، خصوصا بعد أن أسفر خطاب العقلانية عن أشويتز Aushwitz (إخفاق الأنوار) وعن الغولاغ Goulag (إخفاق الماركسية الستالينية)، وما نتج عنها من انخراط سبعيني في مقاربة الظاهرة التوتاليتارية وواقعة الانشقاق. وقد أشار ادغار موران إلى أن بارث كان منشقا، ولكن على طريقته المتمايزة. ولا غرو بعد ما تقدم، أن يقبل الانخراط في قضايا العصر، دون ضرب الحصار على جانب المتعة في الكتابة، مع التشديد على أن الرهان، هو رهان الاختيار بين فلسفة واحدية وفلسفة تعددية(19). وكأننا نمر بخفة، من قلق المتعدد الذي كد فلوبير في ترويضه باسم مقولة المثيل، إلى عبطة التنوع، من الخوف من التعدد المنفصل عن الواحد، إلى لذة التعدد كما قالت فرانسواز كايار(20)، في مقارناتها بين من يحلم بكتابة النص المطلق، ومن يحقق بالكاد شذرة ويحلم بالصمت النبيل على غرار قرينه جورج باطاي.
وإذا كان بارث يخلخل الحدود بين الأنواع، لدرجة أن مطاع صفدي يقرر اكتشاف بارث في "لذة النص" لنوع أدبي جديد كحقيقة،، فلأنه، أولا، بقي مخلصا لإعلانه في "الدرس" عن قوى الحداثة التي تخلخل كل مركزية، ولأنه ثانيا، تمسك باختياره لمهمته ككاتب دون أية تطلبات فكرية تخصصية مؤسساتية، مع مالازم ذلك من انشداد محموم إلى الرواية وتوق إلى تتابتها. "لست اعتبر نفسي ناقدا، وإنما اعتبرني، بالأحرى، روائيا، كاتبا يدويا، لا للرواية هذا صحيح بل لـ"الروائي": إن ميثولوجيات وإمبراطورية العلامات هي روايات بدون حكاية، [كما أن ] عن راسين وS/Z روايات حول حكاياتـ أما ميشلي "فهي بيوغرافية موازية…الخ"(21).
والحق أن هذا التوجه الكتابي لا يمكن إلا أن يعد شكلا من أشكال الهرطقة أو العدمية النظرية، من منظور الأنواع الأدبية. بيد أن بارث يمر على تقديم خطاب رغائبي مناهض لكل حزم بيداغوجي ولكل صفاء "أنواعي"، مستفيدا من جراءة التحلل من كل نزوع مؤسساتي مجبول على التسلط. فليس الروائي، حسب جوليان بارن، مطالبا بتقديم الدروس والنماذج، إنه منذور، بالأحرى، لمعاينة القضايا الوحدوية، أي كرامة الوجود بلغة محمود المسعدي. من المؤكد أن بارث سيوافق على الجانب التقني الكتابي من هذا الاختيار، أما محتواه الميتافيزيقي، فلا يستحق إلا أن يكون موضوعا لرأفة السخرية القاسية ولمفعول المطرقة النيتشوية. ولقد وقفت اديث كيروزيل عند هذا المستوى، بقولها: "لقد أصبح بارت شبيها بلاكان في أهوائه، وأصبح أكثر سخرية وانغماسا في نزواته الذاتية"(22).
ليست السخرية عند بارث أمرا ذاتيا محضا، إنها تعديم Nihilisation للمحتويات الموضوعية وتذرية للكتابة بمثابتها مسكونة بالرفض والعزلة "الكتابة لا تتوخى شيئا من ورائها، فعل الكتابة لازم وليس متعديا، لأن الكتابة عندنا خلخلة. والخلخلة لا تتعدى ذاتها.. وإن أبسط صورة عن الخلخلة هي العملية الجنسية التي لا تنجب. بهذا المعنى لا تتعدى الكتابة نفسها، إنها لا تنجب ولا تولد منتوجا، الكتابة خلخلة لأنها تتحدد كمتعة"(23) قد لا يرى ميشيل سير مثلا في هذا التأكيد المفتوح على جوانية الفعل الإبداعي إلا بروثيوسية أو إنتاجية في الدرجة الصفر، وغيابا فصيحا للهرمسية أو التواصلية.
غير أن للمسألة أوجها أخرى، إن نحن حاولنا الوقوف على حضور التحليل النفسي في مؤلفاته، وخصوصا لذة النص وفي طريقة مداورته له كمنهج أو كشبكة مفاهيمية أو كتصور نظري عابر بشموليته للكل الثقافي. لا مندوحة لنا هنا عن الإيماء إلى أن بارث اهتم منذ 1968 بالأدب بوصفه يتمتع بثلاث قدرات وضعها تحت ثلاثة مفاهيم محورية: هي ماتيسيس Mathésis وميميسيس Mimésis وسيميوسيس Sémiosis. إن الكتابة الأدبية "تجعل من المعرفة احتفالا" في حالة القدرة الأولى، وتحقق قوة الكتابة بالتعنت وتغيير المواقع وزعزعة الواقعي لفائدة الطوباوي في حالة القدرة الثانية (وهي ذات طبيعة تمثيلية)، وتلعب لعبة الدلائل بدل أن تقوضها، حيث تخرج النصوص السيميولوجيا من الوثوقية، والسيميولوجيا النصوص من خرافة الإبداع الخاص، في حالة القدرة الثالثة (وهي ذات طبيعة وميول سيميولوجية)(24).
إن ما يمكن استنتاجه من هذا التصور، هو أن بارث ينظر إلى الأدب كممارسة شاملة تتوسل الاستعارة كمحفز، وتنفلت من أي إجراء نظري صارم في نسقيته، مطمئن إلى أساساته الإبستمولوجية. ولعل بارث سيقول في هذا الأمر، شبيه ما قال دريدا يوما، عن نفسه حين سئل عن امتلاكه لفلسفة مخصوصة: فأجاب بأنه ليس صاحب فلسفة بل صاحب تجربة، منزاحة عن مبدأ الثالث المرفوع ومبتعدة عن تخوم الأطروحات الوثوقية. ونجد لهذا الاحتمال دعما في قول بارثي أورده في معرض تعاطبه مع السيميائيات التحليلية (التحليل الدلالي) Sémanalyse "للغربية". "إن النظرية ليست تجريدا، وتعميما ولا تفكرا، إنها تأملية"(25).
ومن البديهي إذن، لا يستثمر بارث خطاب التحليل النفسي، بطريقة منهاجية متشددة في منهاجيتها، بل بطريقة ذاتية تجعل من التحليل النفسي إمكانية من بين الإمكانيات المسعفة في قراءة النصوص الأدبية وتأويلها، وفي التأمل والتفكر في عملية القراءة (قراءة النصوص) بوصفها القرين الدال على رجحان الكتابة و"موت المؤلف".
وحسبنا هنا، التركيز على "لذة النص"، فهو نص مركزي، "مرجعي وإشكالي، تتجسد فيه احتمالية الكتابة البارثية، الناتجة عن احتمالية المرجعية، وانفتاح الإحالة، وهشاشة الكائن الإنساني (الذات الإنسانية)، كأحسن مايكون التجسد.
وإذا كان جيرار جينيت قد رأى في النقد الأدبي البارثي سيميولوجيا للأدب تدرس الدلالات وتعمل أكثر من ذلك على نقد الدلائل(26)، وبأر فكر بارث في مشكل الدلالة(27)، فإن "قناص الأساطير" بدا بعد "س/ز" وكأنه يمحور إبداعيته في مفهوم اللذة، في النصوص الأدبية تحديدا. ولئن كان إيكو وايزابيلا بتزيني قد لاحظنا التحول الذي صاحب بارث ابتداءا بـ"س/ز" - وهو المؤلف الذي يطبع الربط بين إقفال اللحظة النسقية المتمثلة في مبادئ في السيمياء ونسق الموضة والعودة إلى الانتشار الكامل للحساسية السيميائية النشطة" بما صاحبها من انتقال من النص الاجتماعي الكبير إلى نصوص الكتابة"(28)-، فإننا نتساءل عن السبب في توسع حقل اشتغال وتشغيل خطاب الدلالة، ليطال أكثر من موضوع، وحصر خطاب اللذة في الأدب وحده؟ هل نجيب على هذا السؤال بالقول بأن خطاب اللذة نفسه ليس إلا خطاب دلالة متميزة، ونتجه بذلك بكل من يساكن التمايز والتفرد إلى حيث إمبريالية السنن الثقافي؟ أم نقف على انكفاء خطاب الدلالة وهو خطاب استكشافي لعلامات العالم، إلى خطاب اللذة وهو خطاب إروائي للذات أي خطاب صوفي في العمق. ولعل الاستحضار تجربة سويد نبرغ دلالة فادحة في هذا المقام. والواقع أن بروميثيوسية بارث المفككة لترهل الخطاب البورجوازي ورواسم اللانسونية، قد تركت المجال لقورينائية جديدة تستحضر الجسد في الكتابة، وتعمد شذراتها باشيكا خاصة. ولا جدال في أن مفهوم اللذة كما يستعمله بارث، يجد أصوله في التحليل النفسي، وفي أن له جنيالوجياه الفلسفية-الصوفية الحاضرة بقوة في المتن الفلسفي الغربي. فقانون غريزة اللذة، يقتضي كما يرى بيير داكو البحث عن اللذة، والرفاهية والحماية، والابتعاد عن الألم(29). وكما يقول بارث: "فمفهوم اللذة مرتبط، على الأرجح، بمفهوم الخوف، مادامت اللذة هي أن نحس أخيرا بأننا محميون".
فهل يبحث بارث عن الحماية إذ يقيم للذات لذة في ثنايا الأدب؟ أم يصون نفسه من المناهج الناطقة بلسان حال "مبدأ الواقع"، لصالح الانفلات المنهجي المأخوذ "بمبدأ اللذة"؟
"استعملت مفهوم اللذة بطريقة تكتيكية شيئا ما، في الظرف الذي تأكدت فيه من التقدم الكبير الذي عرفته الدراسات والأفكار والنظريات المقدمة عن الفعل الأدبي، على المستوى النظري.ولكن إدراك النص، صار بعد هذا التقدم الموسوم بالنمط النظري، تجريديا، وباردا شيئا ما، وأضحى على الخصوص خاضعا شيئا ما لقيم ضمنية للسيطرة. ذلك ما يسمى في التحليل النفسي بالأنا الأعلى"(30).
ولئن تميز فرويد بفتح باب اللاشعور، فإن بارث تفرد بتوجيه قراءته إلى المجاهل والخفايا التي تجنبتها النظريات البرانية والموضوعية الوضعانية، مما دفعه إلى فتح باب اللذة باقتدرا بليغ. إنه يقدم القراءة اللاعقلانية إلى جانب القراءة العقلانية، ويحتفل بالوقائعية (علي حرب) بمحاذاة الواقعية في ذات الآن، ويبتهج بكينونة النص مع وضع حقيقته وصيرورته البرانية بين قوسين، كما تفعل الظاهراتية بنص العالم، "فالنص ليس فقط موضوعا إيديولوجيا، أو موضوعا للتحليل بل هو كذلك منبع للذة"(31).
وتأسيسا على العنصر الناظم للخطاب البارثي حول اللذة، نقول بأن المعالجات التحليلية، تميزت بانعدام الحماية، وسيادة الثقافي، واعتبار المؤلف (الخالق) وحده، وباسترسال الخوف، في حين تقترح المغامرة اللذية بهجة الحماية، واندياح الطبيعي، وبروز المتلقي(المخلوق). والواقع أنه يمكن النظر إلى مقولة "موت المؤلف" البارثية باعتبارها تنويعة على "موت الله" عند نيتشه. فالخطاب البارثي، إذن مسكون بالمحايثة حد البذخ، ومفارق لمواضعات التعالي شأن قرينه الدولوزي.
وتجب الإشارة هنا، إلى أن بارث قد وظف مفهوم اللذة، في أعمال سابقة له. فقد ذهب في ساد وفورييه ولويولا إلى أن أنه ليس ثمة، ما يبعث على الإحباط، أكثر من تصور النص كموضوع ثقافي (للتفكير والتحليل، والمقارنة، والانعكاس…الخ). النص هو موضوع للذة"(32). ولا يمضي في هذا الإلحاح، دون التأثير إلى عودة حبية للمؤلف، المنفصل تماما عن المؤسسات المعتادة؛ وكذلك دون زحزحة المسؤولية الاجتماعية للنص إلى مكان القراءة Le lieu de la lecture الغائص في لغزيته وعتمته(33).
ومن هنا بالضبط، يطل بارث على التحليل النفسي، أي من مطل القراءة، كشكل لممارسة الذات والدفع باللعب إلى مداه الأقصى. فلئن حدد لوكايو، أربع واجهات لتطبيق التحليل النفسي على الأدب (واجهة المؤلف، واجهة العمل الأدبي واجهة النص الأدبي، واجهة القارئ)، فإن بارث يعمل تحديدا في الواجهة الأخيرة، حيث يتمتع المستهلك (أي القارئ) بعملية الاستهلاك، ويعمل على استيلاد لذة النص. بيد أن بارث لا يستثمر مفهوم اللذة فقط، بل كذلك مفهوم المتعةJouissance ينوس خطاب بارث الشذري، بين اللذة كمحصلة للفعل الثقافي والمتعة كاستهداف للتأزيم الجذري، ويتدثر بالتباساتهما، ويتسلل معناه الضليع في جدلية الخفاء والتجلي من شقوقهما الفاتنة. لدرجة أن مفهوم اللذة والمتعة يستحيلان إلى مفهومين عائمين أو إلى مفاهيم كاذبة Pseudo-concepts أو إلى أطياف مساندة "للروائي" Le Romanesque في انبنائه. بل إن اللذة نفسها "غير أكيدة الحصول: فلا شيء يؤكد أن هذا النص بعينه سوف يلذ لنا مرة أخرى، فهي لذة قابلة للتفتيت، تتحلل بالمزاج والعادة والظرف، فهي لذة هشة.."(34). أما المتعة فلا يمكن توصيفها إلا بالتوحش وانعدام قابلة المعايرة مطلقا.. "إنها نصوص منحرفة انحرافا يكمن في كونها خارج كل غاية يمكن تخيلها، حتى ولو كانت غاية اللذة"(ص 53).
ومن الواضح أن بارث، لا يحدد موضوع اشتغاله إلا على نحو هلامي، ولا يقنن أدواته بل ولا يعاملها بما هي أدوات، ربما لأن اللذة والمتعة "وقائع" احتمالية، ذات طبيعة "كشفية" لا تجريبية. وللتمييز بين اللذة والمتعة، استعان بالتحليل النفسي الذي يرى أن اللذة قابلة لأن تقال dicible والمتعة غير قابلة لذلك" (ص 28). ولمزيد من الإبانة، استشهد بلاكان القائل "ما ينبغي التمسك به هو أن المتعة ممنوعة على الذي يتكلم، من حيث هو متكلم، أو أيضا لا يمكن أن تقال إلا فيما بين السطور"(ص 28). وليس ما أشار إليه لاكان ممكنا، لولا ما أومأ إليه بارث بقوله "إن اللذة والمتعة قوتان متوازيتان، وأنهما لا يمكنهما أن تلتقيا، وأن ما يقوم بينهما هو شيء أكثر من حرب أو معركة: شيء هو لا تواصل.."(ص 27). ويستحسن قراءة تاريخ الحداثة الغربية على هذا الأساس، لا على أساس اعتبار نص المتعة تطورا منطقيا عضويا وتاريخيا لنص اللذة.."(ص 27). ولا يخلو كلام بارث هنا من مجافاة لكل سببية أو موضوعية تاريخية أو لكل خطاب في الأصول العقلانية، لصالح خطاب في المتعة والقطيعة. ولذلك لا غرابة في أن لا تكون القطيعة هنا ابستمولوجية؛ وهي والحال هذه قطيعة تحليلنفسية إن جاز التعبير، ناجمة عن انشطار الذات sujet وسقوط الأنا Moi. إنها قطيعة ذات نفحة نيتشوية بعيدة كليا عن بشلارية لازمت بارث أحيانا، كما في ميشليه Michelet. وعلى الرغم من مركزية مفهوم اللذة، عند بارث، فإنه يعتبره مفهوما غير قوي على العموم، عكس مفهوم المتعة المترع بقوة كبرى، وبشيء غير قليل من اللغزية والسرية(35). ولامشاحة في أن تسريع القول في اللذة والمتعة، يستلزم حديثا حتميا عن الرغبة، وكيفية اندماجها في الفكر وفي الخطاب وفي الممارسة كما قال فوكو في تقديمه لكتاب "أوديب مضادا".
وعلى الرغم من استواء الرغبة كشيء سوسيولوجي وتاريخي، وتفكيره في تاريخ الرغبة، فإنه يرى في التأويل التحليلنفسي، الأداة الأصلح في مقاربة الرغبة كقيمة قوية، مخترقة بنقص أساسي لا يعرف الترضية(36). كما يميز بين الأيدي المرفوعة للرغبة والأيدي المبسوطة للحاجة، على غرار التحليل النفسي. ولقد سجل بارث كبت الهيدونية Hédonisme، "لا نسمع إلا الحديث عن الرغبة، أما اللذة، فلا حديث عنها مطلقا، لكأن للرغبة شرفا إبستيميا [Dignité épistémique] لا يتوفر للذة"(ص 57). وما دامت الرغبة متعالقة مع الاستيهام ويجمعهما "رباط أساسي باللغة، وبالذات نفسها باعتبارها كائنا متكلما كما يفعل لاكان(37)، فإن الرغبة تشوش على ما يسميه بارث بالملاءمة في تحليل القراءة Analyse de la lecture (38) وتخترق كل قراءة، مع العلم أن أي فعل قرائي يتم ضرورة داخل بنية محددة.
وإذا كانت الرغبة المتمتعة باستمرار فلسفي كما لاحظ بارث، تتجدد بوساطة طاحونة الكلام كما يرى لاكان، فإن لذة القراءة تتجدد بوساطة طاحونة اللعب القرائي، وبأرستقراطية القراءة". فما ينبغي إذا أردنا أن نقرأ مؤلفي اليوم، ليس هو الالتهام والابتلاع، بل الارتعاء والحش المحكم، واسترجاع الفراغ الذي كانت تمارس فيه القراءات القديمة: علينا أن نكون قراء أرستوقراطيين (ص21). لكن تلك القراءة الموسومة بالأرستقراطية، تنبثق ليس من الرغبة وحدها بل من الطلب المحتاج، من المنظور اللاكاني إلى الإخفاء لأخذ نسق الآخر بالاعتبار. "إن على النص الذي تكتبونه أن يقدم إلي الدليل على أنه يرغب في"(ص 15). غير أن الوقوف عند الطلب ليس إلا وقوفا على تغثغة Babil النص، المضجرة والمتكونة من رغوة اللغة. والعصاب وحده هو القادر على نقل ثغثغة النص إلى مستوى الكتابة. ولـئن كان العصاب تصدعا في الشخصية في نظر بييرداكو، ومرضا نحن في حاجة إلى العلم الطبي لفهمه ومعالجته كما يرى ألفريد أدلير، فإن العصاب عند باطاي هو "الارتياع الفزع من قاع المستحيل…الخ) (ص 15)، هو أسوأ الاحتمالات [ الذي ] يتيح وحده الكتابة (والقراءة) (ص 15). وليس باطاي بدعا في الأمر، فلاكان مثلا قدم مقارنة خصبة بين العصابي والفيلسوف، وسار بموازاته الكيي، في ذهابه إلى القول بأن العصابي وحده يطرح، برفقة الفيلسوف مشكل الكينونة. وهذا أمر يبدو ذا أهمية بالغة، إن هذه العلاقة التي تربط التجربة العصاببية بالتجربة الفلسفية موجبة جدا"(39).
وتشهد "لذة النص" على أن علاقتها بالتجربة الأدبية، لها القوة الإيجابية ذاتها. لكن الجديد هنا، هو أن بؤرة الاشتغال هي كينونة النص حصرا وليس إشكالية الكينونية بإطلاق. وليس من الممكن القبض على عنفوان العصاب، إلا بقوة البلاغة الكلاسيكية" سوف يقول لك كاتب إذن: إن أكن مجنونا فلن أقوى على العمل، وإن أكن سليما فلن أراه خليقا بي، فأنا عصابي"(ص 15).
" Tout écrivain dira donc: fou ne puis, sain ne daigne, névrosé je suis"(40) والواقع أن إبراز فعالية العصاب الإبداعية هو إبراز لمركبه المركزي أي عقدة أوديب. تلك العقدة التي ما إن تتكون، حتى تكبت، لتعمل في أعماق اللاشعور، كما يذهب فرويد إلى القول في إطار ما يسميه داكو بعقدة أوديب الكلاسيكية. ويقتفي بارث إثر لاكان في تأكيده على ميثية أو أسطورية الأوديب، التي لا تحمل معنى قدحيا، بل تؤشر إلى ضرورته. وهكذا يعلن، رغبته في تأييد الأوديب، وتفعيله في كل يوم من حياته يحس فيه برغبة وهي تنبجس. وهنا بالضبط، يعمل بارث على تقريب إوالية العقدة من إوالية القراءة "كثير من القراءات منحرفة، وتتضمن انتظارا. فكما أن الطفل يعرف أن أمه لا تملك أيرا، ويعتقد في الوقت ذاته أنها تملكه (اقتصاد أبرز فرويد مردوديته) كذلك يستطيع القارئ أن يقول بدون انقطاع: أعرف جيدا بأنه إن هي إلا كلمات ولكن مع ذلك.. (إني أنفعل كما لو كانت هذه الكلمات تعبر الواقع)"(ص 50).
وأخذ إوالية العقدة لتقريبها من إوالية القراءة، يتأصل في جذرهما المتوحد، "كل سرد (كل كشف عن الحقيقة) هو إخراج مسرحي للأدب (الغائب، المختبئ أو المؤقنم) مما يفسر تضامن الأشكال السردية والبنيات العائلية وتحريمات العري، وهي مجمعة برمتها، عندنا في أسطورة نوح الذي أعاد عليه أبناؤه، الغطاء سترا لسوأته"(ص 19). كما أن النص لا يسمي الأشياء بأسمائها، بل ويفكك التسمية ذاتها، وذلك بسبب ارتهانه بالأوديب مثل أ.الذي قد يحتمل التهتك من أبيه وقد لا يطيقه من أمه (ص 47). ولا يمكن الحديث عن عقدة أوديب، دون استحضار "قتل الأب" والتنوعية اللاكانية عليها، أي "قتل الابن" سوف ينتزع موت رمز الأب من الأدب كثيرا من لذاته. فإذا لم يعد هناك رمز الأب فما جدوى حكي الحكايات؟ أفليس كل سرد يعود إلى الأوديب؟"(ص 49). ليس قتل الأب، طبعا جريمة حقيقية، بل حقيقة نفسية كما يقول فتحي بن سلامة؛ وكذلك الشأن بالنسبة لموت رمز الأب على مستوى الأدب.
فالأدب مسكون بالأيروسية أي بالطاقات اللذية على الرغم من استعداد دركيان للانقضاض عليك وهما حسب بارث: الدركي السياسي ودركي التحليل النفسي، كما أن ما سماه بإسقاط حق اللذة الراجع إلى سيطرة منظومتين أخلاقيتين للتسطيح (بالنسبة للأولى) والصرامة السياسية أو العلمية (بالنسبة الثانية)، جعل المجتمع الفرنسي يصاب بالبرود الجنسي (ص 49). لكن الإيروسية تطال مواقع الصدع في الثقافة، الناتجة عن حضور الفصلة Tmèse في كل سرد ولو كان سردا كلاسيكيا، فالفصلة "صدع لا ينتج من بنيات اللغات مباشرة، وإنما ينتج لحظة استهلاكها، وليس بوسع الكاتب أن يتنبأ به، فليس في وسعه أن يشاء كتابة ما لن يقرأ"(ص 20). وهنا يعامل بارث النص كجسد، والقراءة كتعرية تخييلية لذلك الجسد، بترتيب واستعجال في الآن ذاته، كمتفرج على متعرية strip-teaseuse في ملهى ليلي.
والواقع أن الكبت بما هو إوالية لا شعورية، تمنع الغريزة من الوصول إلى الشعور، يذوب في سيرورة من التحرر كما أن الاستلاب، النظير الإيديولوجي للكبت المخصب بالمرجعية النفسية يضيع في الاستمتاع (في نص اللذة، لم تعد القوى المتضادة في حالة كبت، بل هي في حالة صيرورة: ما من أشياء متناحرة حقا، كل شيء متعدد" (ص 36 و 37). وإذا كان بارث تحدث في مقاله "حول القراءة" عن مكبوتات القراءة les refoulements de la lecture وايروسية القراءة Erotisme de la lecture، فإنه حول النص في لذة النص إلى تميمة Fétiche (أو الأثر كما يقترح الدكتور يوسف مراد وبعده سمير كرم في ترجمته ("أفكار لأزمنة الحرب والموت" لفرويد) "النص تميمة وهذه التميمة ترغب فيّ"(ص 33). ويترتب على تميمية النص تغيير في مواقعية المؤلف العائد حيا بعد إعلان موته على غرار الميتات التي افتتحها نيتشه: فموت الإنسان (فوكو)، موت العلامة (إيكو) "يخطب النص ودي عن طريق ترتيب كامل لشاشات غير مرئية، وعن طريق مماحكات انتقائية: تتصل بالمفردات، وبالمراجع، وبقابلية القراءة.. والآخر المؤلف، يضيع دائما وسط النص (لا وراءه على شاكلة إله من آلهة آلية من الآليات)"(ص 33) "إني أرغب في المؤلف على نحو ما داخل النص: إنني بحاجة إلىصورته (وهي ليست تمثلا لي ولا إسقاطا) كما أنه بحاجة إلى صورتي.."(ص 33).
ومن نافلة القول، الإشارة إلى أن بارث يستعمل التميمية بالمعنى الذي يعطيه جان-ميشيل غيتس لها، كطريقة للذهاب مباشرة إلى ما يبعث على اللذة دون المرور عبر منعرجات العصاب"(41). ويمضي بارث في استثمار بعض منجزات اللاكانية، إلى التمييز بين واقعيتين(*): الواقع le réel وهو يفك مغاليق الواقع" ما يبرهن عليه ولكن لا يرى رأي العين" والواقع la réalité ففي حسب بارث" ما يرى ولا يبرهن عليه"(ص 48).
ويترتب على هذا التمييز إقرار بتعددية الأدب والقراءة وكذلك التعاطي مع الواقعي برسم التنوع لا برسم الواحدية ذات القاع الثيولوجي أو الوضعاني. ويستضمر ذلك التمييز الثالوت اللاكاني المعروف: الخيالي والرمزي والواقعي. إن لفظ رمزي كما تقول كاترين كليمان، عندما يستعمل مع لفظي خيالي وواقعي، فإنه يشير، عندئذ إلى ثالوث خاص بالمتن التحليلنفسي، وبصورة أخص بجاك لاكان الذي منهج استعمالها [ هكذا] تتجاوز الوظيفة الرمزية معنى الرمز، مثلما يتجاوز الخيالي المعنى المشوش للخيال، والواقعي المعنى الفلسفي لـ"الواقعي"(42).
وقد اقترح بارث كلمتين أخريين في شذرات من خطاب عاشق هما: déréel iréel وفعلين iréaliser و Déréaliser طبعا، لا يتسع المقام هنا، لاستقصاء كل المؤشرات التحليلنفسية المؤشرة في خطاب بارث حول اللذة، لذة النص على التحديد، والمسؤولة عن الكثير من منعطفاته ومستغلقاته وحجبه، فكل خطاب حجاب كما قال علي حرب.
إلا أنه لا يعمل فقط على قراءة نصوص اللذة، بالاستعانة بأدوات العصر النظرية والتحليلية (النظرية الفرويدية، اللاكانية، البنيوية، اللسانيات، السيميائيات)، بل يقفز إلى ميتاقراءة Méta-lecture، في شكل صناعة للذائذ القراءة أو لقراء اللذة. ولن تكون تلك الصناعة سوسيولوجية."إذ اللذة [ حسب بارث] ليست صفة تحمل على المنتوج ولا على الإنتاج" (ص 62)، بل هي تحليلنفسية. ولقد تساءل في موضع آخر عن إمكانية إقامة صنافة للذائذ القراءة. فقال بأنه، هناك على الأقل ثلاثة أصناف للذة القراءة. ففي الصنف الأول يعقد القارئ علاقة تميمية بالنص، وفي الصنف الثاني تتحدد تلك العلاقة بما يسميه باللذة الكنائية plaisir métonymique، وفي الصنف الأخير يتحدث عن مغامرة القراءة ويسمي المغامرة، تلك الطريقة التي تأتي عبرها اللذة إلى القارئ وهذه المغامرة هي مغامرة الكتابة(43). وقدم في لذة النص صنافة مكونة من أربعة أصناف مشبعة بنفحة تحليلنفسية فاقعة. فالقارئ الأول تميمي أو فيتيشي.." مع النص المقطع، مع تجزيء الشواهد والصيغ وآثار الكتابة، ومع اللذة التي يحصل عليها من الكلمة" (ص 62). أما الثاني فموسوس، "فلذته ستكون في الحرف" (ص 62). أما المصاب بالذهان الهذيانيّ فسيستهلك أو سينتج نصوصا مبرومة، حكايات مبسوطة كأنها استدلالات، إنشاءات موضوعة كأنها لعب، إكراهات خفية"(ص62), أما الهستيري "فيثق في النص ثقة عمياء. [ فهو] ذلك الذي ينخرط في المهزلة التي لا محتوى لها ولا حقيقة، ذلك الذي يكف عن كونه ذاتا لأي نظرة نقدية ويرتمي عبر النص.."(ص 62).
لا تتمحور صنافة بارث، على المؤلف بل على القارئ، لا على الإنتاج بل على الاستهلاك (إعادة الإنتاج)، لا على مادية الأثر بل على عفوية لخطة القراءة الموسومة بحس لعبي متأجج، كما يذهب ميشيل بيكار، إلى القول في كتابه عن قراءة الزمن. غير أن القارئ هنا، لا يتعين في ماديته أو تاريخيته، وإنما في تقاطب علائقي هو المكان الحقيقي للأصالة كما يقول في شذرات من خطاب عاشق "القارئ هو الفضاء الذي ترتسم فيه كل الاقتباسات التي تتألف منها الكتابة دون أن يضيع أي منها ويلحقه التلف"(44).
يصف بارث ذاتا هامشية، متمسكة بهامشيتها إزاء كل أشكال المجتمع، ومرتابة من كل أنواع الآمال الجماهيرية والاجتماعية. كما أنه يرى اللغة تخترق الإنسان لدرجة انعدام الفكر المحض la pure pensée، ووجود الفكر-الكلمة la pensée-mot فقط(45). ولقد ترتب على ما سبق اعتماد الكتابة الشذرية القريبة من لغة الرضيع (ص 14) المزدانة بتميمية دالة. ولعل بارث يتحدى هنا، ذلك الإحباط الأوديبي الذي تحدث عنه في سيرته الذاتية، بالانخراط في كتابة هامشية تستوحي حسب رفاييل لولوش، الإشكالية النيتشوية الدائرة حول مجاوزة مفهوم الحقيقة(46).
إن نص لذة النص مخترق بخطاب التحليل النفسي في كل جهاته وزواياه وعتماته، كما أن لا شعوره (لاشعور النص) طافح بالزخم الرغائبي والغرائبي كما يقول مطاع صفدي. إلا أن لذة النص، كأي نص بارثي، نص ثخين، متخم بالطبقات الكلامية والانتظامات الخطابية، إيحائي لا تقريري؛ ومن هنا إشكالية قراءة بارث التي أومأ إليها فاشيل لولوش، فنص اللذة يقوم، علاوة على سنده التحليلنفسي، على قاعدة تمثل روح النيتشوية، وهضم علم اللامتجانس Hétérologie كما أسسه باطاي، كما أن أركيولوجيا فوكو تعشعش في زواياه المضللة حسب عبارة جميلة لمطاع صفدي(47).
ولقد اختصرت كيروزيل علاقة بارث بالتحليل النفسي بقولها:"والحق أن مسعى بارث كله لا يمكن فهمه إلا بعون من التحليل النفسي الذي ينظر بعين الاعتبار إلى التداعيات الصوتية والسياقية والرمزية الآنية. صحيح أن رولان بارت لا يقوم بتحليل نفسي للأفراد أنفسهم بل بتحليل نفسي لنصوصهم فحسب، ولكن يلح على تداعيات غريبة كل الغرابة.. إن كليهما [تقصد بارث ولاكان ] -على أي حال- يقرأ نصوص المجتمع المعاصر، عن طريق الإعلاء من فكرة الدال، فيما يقول كلاهما. ولكن إذا كان جاك لاكان يتجه إلى الكشف عن الوعي، فإن رولان بارت "يوحد النص، ويعيد اكتشاف مقولاته اللاواعية" أولا، ليلح على استخراج كل علاقة ممكنة تصل هذا النص بقارئه؟ فتلك هي الطريقة التي يثور بها بارث "العلامة" signé والدال signifié فيما يقول"(48).
غير أن "الفرعون الدقيق"، أي بارث كما وصفه فيليب روجير، لا يتقمص شخصية الحفار فقط، بل يقبع خلف شخصية الاستطيقي". إنه ينحث لنا فورا استطيقا جديدة تماما، طريفة، وجذابة جاذبية العطاء الجسدي نفسه" (49) لـما عبر مطاع صفدي، ليدشن ما سماه إريك مارتي باتيكا العلامة Ethique du signe(50). غير أن تلك الاثيكا لا تستند على إبستمولوجيا محددة في نسق علمي، ففي رأي فيليب روجير، ليست هناك إبستمولوجية بارثية، بل هناك فقط ميثودولوجيات خصوصا في الطور الأخير، الذي صار فيه "بارث الأخير" حميميا intimiste وذاتانيا subjectiviste دون أن ينزلق إلى المواقع القبالية. فبارث اغسطيني Augustimien وليس قباليا Kabbaliste فيما يخص تأويل لانهائية النص كما يتأول إيكو الأمر(52).
وقصارى القول، إن بارث يقدم اللذة بوصفها متعة معتدلة ويرى تحرر القراءة في تحرر الكتابة بما هي لا مكانية Atopique، في معرض إجاباته على الأسئلة الثلاثة، التي طرحها في مقاله "عن القراءة":
ما هو فعل القراءة؟
كيف نقرأ؟
لماذا نقرأ؟(53).
الهوامش
1 - Umberto Eco "la maîtrise de Barthes", in Magazine littéraire, n° 314, Octobre 1993, p. 41.
2 - Ibid, p. 42
3 - Ibid.
4 - JOHN UPDIKE , Navigation littéraire, essais et critique, éditiosn Gallimard, 1985, page 270.
5 - Roland Barthes, S/Z, éditions du Seuil , 1970, page 17.
6 - YOSHIKO ISHIKAWA/ la passion du Japon / in Magazine littéraire, n° 314, p. 71.
7 - EDGAR MORIN / le retrouvé et le perdu / in Magazine littéraire, n°314, p. 29.
8 - جيل دولوز: المعرفة والسلطة، مدخل لقراءة فوكو، ترجمة سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1987، ص 110.
9 - ميشيل فوكو: جنيالوجيا المعرفة، ترجمة أحمد السطاتي وبنعبد العالي، ص 1، 1988، دار توبقال، ص 35.
10 - مطاع صفدي: الجمعانية / الفردوية، الفكر العربي المعاصر، ع 94-95، ص 6.
11 - Jean le Galliot - Psychanalyse et langages littéraires ( théorie et pratique), Nathan, 1977, p. 251.
12 - Ibid.
13 - Michel Grimaud, Psychologie et littéraire, in théorie de la littérature /1981/ page 257.
14 - Jean Bellemin-Noël - Psychanalyse et littérature - PUF - 1978, p. 122.
15 - Roland Barthes / sur Racine - Seuil - 1963, page 5.
16 - Roland Barthes / Fragments d'un discours amoureux - Seuil 1977, page 12.
17 - Abdallah Bensmaïn / symbole et idéologie / Productions media, 1987, p. 144.
18 - Colloque de Cerisy - Prétexte: Roland Barthes / U.G.E -coll 10/18, Paris 1978, p. 315.
19 - رولان بارث: درس السيميولوجيا، ترجمة ع.بنعبد العالي، دار توبقال، ط 2، 1986، ص 47.
20 - Françoise Gaillard "qui a peur de la bêtise!" in Prétexte: Roland Barthes, p. 287.
21 - رولان بارث: "عن الحياة والأعمال" في مجلة بيت الحكمة، العدد السابع/ السنة الثانية، 1988، ص 22.
22 - اديث كيروزيل: عصر البنيوية، من ليفي ستراوس إلى فوكو، ترجمة جابر عصفور، ط 2، 1986، ص 200.
23 - رولان بارث، درس السيميولوجيا، ص 50.
24 - نفسه، ص 23.
25 - Roland Barthes: Essais critiques - le bruissement de la langue - Seuil 1984, p. 198.
26 - Gérard Genette - Figures I - Seuil 1966, p. 199.
27 - Ibid, page 188.
28 - امبرتوايكو - ايزابيلا بتزيني، سيمياء "الميثولوجيا"، بيت الحكمة، العدد 7، 1988، ص 114.
29 - Pierre Daco: les triomphes de la psychanalyse, Marabout, 1978, page 265.
30 - Abdallah Bensmaïn: Symbole et idéologie, page 133.
31 - Ibid.
32 - Roland Barthes: Sade Fourier, Loyola, Seuil 1971, page 12.
33 - Ibid, p. 15.
34 - رولان بارث - لذة النص - ترجمة فؤاد صفا والحسين سحبان - ط 1، 1988 - دار توبقال، ص 53.
35 - Abdallah Bensmaïn - Symbole et idéologie, p. 133.
36 - Ibid, p. 132.
37 - فيليب شملا: لاكان واللغة، بيت الحكمة، العدد الثامن، 1988، ص 9.
38 - Roland Barthes: Le bruissement de la langue , Seuil, 1984,p. 39.
39 - جاك لاكان: حوار مع الفلاسفة الفرنسيين، العدد الثامن، بيت الحكمة، ص160.
40 - Roland Barthes: le plaisir du texte, Seuil, 1973, page 13.
41 - Prétexte: Roland Barthes: Colloque de cerisy, page 386.
(*) لا يميز المترجمان (أي صفا وسحبان) بين réalité و réel؛ إذ يكتفيان بكلمة "الواقع" في ترجمة الكلمتين الفرنسيتين. أما مؤمن السميحي فيقترح ترجمة réalité بالواقع و le réel بالمتواقع (مواقف ع 61-62). أما محمد الرفرافي ومحمد خير بقاعي فيترجمان le réel بالواقعي و réalité بالواقع (العرب والفكر العالمي) ع 10).
42 - كاترين كليمان -الخيالي، الرمزي والواقعي - مجلة بيت الحكمة - ع 8، ص22.
43 - Roland Bathes: le bruissement de la langue, p. 44
44 - رولان بارث: درس السيميولوجيا، ص 87.
45 - Abdallah Besmaïn - Symbole et idéologie, p. 140.
46 - Prétexte: Roland Barthes: Colloque de Cerisy, p. 236.
47 - رولان بارث: لذة النص، تقديم مطاع صفدي، العرب والفكر العالمي، العدد العاشر، 1990، ص 5.
48 - اديث كيروزيل: عصر البنيوية، ص 198.
49 - رولان بارت: لذة النص، تقديم مطاع صفدي، العرب والفكر العالمي، ع 10، ص4.
50 - Eric Marty: l'autre Barthes, in magazine littéraire, n°314, page 25.
51 - Philippe Roger: Roland Barthes, Roman - Grasset, 1986, page 59.
52 - Umberto Eco: la maîtrise de Barthes, page 45.
53 - Roland Barthes: le bruissement de la langue, page 37.