إذا تحدثنا عن الدولة المغربية، فإن هناك فئة اجتماعية لربما لا تعتبر نفسها مغربية بقدر ما هي فرنسية أو كتوضيح أدق، فرنسيون بنكهة مغربية. طبعا سنفهم أكثر إذا عدنا لهيغل واستدعينا معه فوكوياما حينما يقوم هذا الأخير بناءً على مشروع الأول بتعريف التاريخ الإنساني انطلاقا من سعي الناس لفرض الاحترام الذاتي، من ضمن ذلك يرى فوكوياما أن من شروط هذا الاحترام عند البعض هو "اللامساواة"، حتى يظلوا أفضل من غيرهم. هنا تحقق اللغة الفرنسية للفئة ـ التي نطوقها بالحديث هنا ـ ذلك عن طريق جعلهم شبيهين بالفرنسيين، طالما أن هناك بأعماق العقل المغربي، صدمة كامنة عن تفوق الفرنسي ـ والثقافة الفرنسية إجمالا ـ منذ ما قبل الاستقلال، ومحاولة التأقلم الصدموي (المرضي) مع ذلك بمرحلة ما بعد الاستعمار.
لا أود الخوض في الحديث الممل، عن الأفق الذي يفتحه إتقان اللغة الفرنسية بالمغرب ـ خاصة بالنسبة لفئة الشباب ـ والعنصرية المموَّهة تجاه من لا يجيدون التحدث بالفرنسية ببعض المؤسسات والمراكز بالدولة، إضافة للاحترام الروحاني لكل ما يمت لثقافة جون جاك الروسو السوداوي بصلة !
إذا كانت اللغة الألمانية لغة الفلسفة، والعربية لغة الشعر، فإن اللغة الفرنسية هي لغة الأدب والحب (الرومانسية) ـ حسب رأي النقاد ـ رغم أن الماليخوليا (الاكتئاب) هيمنت على معظم الكتابات الفرنسية منذ روسو مرورا بسارتر لغاية شطحات أونفري المنتصر للكلبية المضحكة كإعادة بعث للجو اليوناني العبثي الساخر ضد الغم الباريسي، كما فعل فولتير مع تحفظه البرجوازي بالعمق !
إن للموضوع تاريخاً، فبعودتنا لعقود نجد المهدي المنجرة قد كتب : "ما أنتقده، ليس هو اللغة الفرنسية، لأنني استعمل هذه اللغة، وأكتب بها كما أكتب بغيرها، وأنا شديد الاعتزاز بمعرفتها، ولن يخطر ببالي أن ننتقد لغة قدمت الشيء الكثير لتاريخ البشرية.. ولكني أنتقد مفهوما سياسيا، يكتسي طابعا استعماريا جديدا، لا يقبل واقع تطور الأشياء ويريد التعلق بشيء نبيل مثل اللغة الفرنسية من أجل استعمالها كوسيلة للتفاوض من أجل إبقاء الوضع القائم على ما هو عليه، ومنع التغيير في بعض البلدان، بل أكثر من ذلك، استعمالها كوسيلة لمحاربة اللغات الوطنية واللغات الأم.
لم يحدث أبدا، بالنسبة لأبناء جيلي، صراع في هذا المجال. كنا نذهب في الصباح إلى المسيد. ثم نذهب إلى مدرسة أبناء الأعيان ثم إلى الثانوية، كنا نتابع دروسا للغة العربية بالثانوية، وكنا نتابع دروسا إضافية في أماكن أخرى، ولم يخطر ببالنا إطلاقا ـ على الأقل بالنسبة لأبناء جيلي ـ أن هناك تعارضا بين اللغتين. الشيء الوحيد الذي كنا نعرفه هو أن اللغة العربية، هي اللغة الأم، هي منبع جذورنا، والتجسيد الحي لهويتنا، أما اللغة الفرنسية أو الإسبانية (في المنطقة الشمالية) فهي تفتح لنا نوافذ على ثقافات أخرى. لم يكن هناك تناقض أو تعارض على الإطلاق. هذا النقاش الذي نعيشه حاليا حول العربية والفرنسية، هو مشكل مصطنع، افتعله أناس يحرصون على الدفاع عن اللغة الفرنسية، بمنطق الذي لا يقبل شريكا. أنا أو لا شيء. الفرانكوفونية أو لا شيء. هذا غير معقول! "(1).
ينكشف مكمن الخلل، حين يقول : "في هذا العالم الفرنكوفوني، نعيش مع أشخاص مستلبين ثقافيا، سواء أرادوا ذلك أم لم يريدوا، والملجأ الوحيد أمامهم هو القول بأنهم مع اللغة الفرنسية أو مع اللغة العربية، وهو نقاش زائف.. في هذه الحالة ما على خصوم هذه اللغة إلا أن يحملوا حقائبهم ويتوجهوا إلى حيث يتحدث الناس سوى تلك اللغة التي يعشقونها.. فالأبواب مفتوحة، وهناك حرية تنقل، في هذا البلد، هناك طائرات، وأسعار خاصة، ورحلات، فليذهبوا.. ليس هناك مبرر بالنسبة لأشخاص لا يتملكون ثقافة بلدهم ولا يشعرون بالراحة فيه، لأن يتعلقوا بمفهوم ثقافي خاطئ ولا علاقة له بحب اللغة الفرنسية أو بالدفاع عنها، بل بالعكس، بهذه الوسيلة يتم تحديد مجموعة من المهمشين، الذين يوجدون خارج السياق العام لبلدهم، والذين لا يوجدون إلا في هذه الأوساط، ولا يمكنهم بالتالي أن يقدموا أو يساهموا بأي شيء. وبالخصوص للغة الفرنسية، لأنني أفضل أن أقرأ لشخص من أصل فرنسي، يعبّر عن اللغة والثقافة الفرنسية، أكثر مما أفضل القراءة لفرنسي زائف، اختار هذا النهج كنوع من التعويض ـ كما يقال في علم النفس ـ لأنه لم يستطع أن يكون شيئا آخر. إنني أفضل الرجوع إلي النبع. لماذا تريدون أن تفرضوا علي كُتّاباً رديئين بالفرنسية، فقط لأنهم يعتبرون فرانكوفونيين، وثم تشجيعهم بمنح دراسية، ويذهبون إلى المرافق الثقافية الفرنسية، وتفتح أمامهم كل الأبواب. وهم في الحقيقة، لا يتقنون لغتهم الوطنية، كما لا يتقنون اللغة الفرنسية، فنحن إذن أمام سياسة ثقافية تسيء إلى فرنسا، لأنها لا تهدف إلى تحقيق أهداف ثقافية، بل إنها تهدف إلى تحقيق أهداف سياسية"(2).
لم تهيمن اللغة الفرنسية فقط على مساحة اللغات الأخرى بالجو العام والأنتلجسي (الثقافي)، بل يُنظَر بغرابة تتضمن دونية ـ من جانب الفئة المشار إليها ـ لمن لا يجيد الفرنسية، حتى لو كان يجيد 10 لغات ـ بنفس الوقت ـ غيرها.
أستغرب أحيانا من تصرف بعض الناس، والذين ما أن يلمسوا أن لك علاقة بالفكر أو بالثراء المادي حتى يبدأوا بإدخال بعض المصطلحات الفرنسية ـ بالحديث ـ أو التحدث بها بطريقة أسوء من طفل فرنسي في الخامسة من عمره ! هل ذلك حتى يزرع فكرة أنه ينتمي للفئة الفرنكوفونية ـ المثقفة والغنية حسب مفهومه ؟! أو كانسحاب فوري من طبقته الأصلية ـ الحقيرة حسب مفهومه أيضا ؟ فما إن تدخل مكانا راقيا، أكان مؤسسة أو مطعما (قد تجد مالكه خليجي!)، حتى تتغير لهجة الناس ولغتهم، يكافح البعض حتى بإدخال مفردات قليلة فرنسية ضمن حديثه، أو كأضعف إيمان يشكّل لهجته الدارجة حتى تُشابه دارجة الفرنسيين الذين يتحدثون المغربية بصعوبة (كأطفال الروضة).
لا يقف الأمر هنا، بل حتى في محطات القطار "يتفرنس" المغربي، وكأن وضع القدم فوق الأرضية الرخامية يشترط لغة بودلير. إن أغرب ما في الأمر هو قدوم شخص عندك، وهو يدرك أنك مغربي، وأنت أيضا تدرك أنه مغربي، وكلاكما في محطة مغربية، ويسألك أو يطلب منك شيئا باللغة الفرنسية! إذن فيما تصلح الدارجة المغربية؟ إصلاح السيارات؟! للتدليك في الحمام؟!
وإن لم تفهم ما قاله فإن الإحراج يقع عليك! لأنك غير مثقف ما يعني غير مؤدب. العقدة هنا ربطت كل ما هو راقي ومتحضر وجمالي، بما هو فرنسي.
أن تكون مغربيا ولا تتقن اللغة الفرنسية، فهذا لا ينتقص منك. لست ملزما حتى بتعلمّها أو إتقانها، إلا بقدر إلتزامك نحو لغات أخرى أبرزها الإنجليزية.
هوامش :
1 : الاتحاد الاشتراكي ـ 19 و26 فبراير 1989.
2 : المصدر السابق.