يرى فرويد أن اللذة الجنسية لا ترتبط بالبلوغ فقط، بل هي سابقة عليه. ترتبط بمرحلة الطفولة وكل اختزال للجنس في الممارسة الجنسية الميكانيكية أمر خاطئ ولا يتجاوز المعنى الدارج للجنس كما هو الأمر مع العامة وجهلة القوم. إن الجنسية توجد عند الطفل منذ ولادته، والمصدر الرئيسي للذة الجنسية عند الطفل كما يرى فرويد "هو تنبيه بعض أجزاء الجسم البالغة الحساسية، خلا الأعضاء التناسلية، ومنها: الفم، الشرج، الاحليل، وكذلك البشرة ومساحات أخرى, وهذا الطور الأول من الحياة الجنسية الطفلية، الذي يتلذذ فيه الفرد بواسطة جسمه بالذات ولا يكون بحاجة إلى أي وسيط، نسميه، بموجب المصطلح الذي نحثه هافلوك إليس Ellis، طور الإيروسية الذاتية autoérotisme. أما تلك الأجزاء من الجسم المهيئة لتوفير اللذة الجنسية فنسميها بالمناطق الشهوية Zones Érogènes. ولنا في المص عند الأطفال الصغار مثال جيد على الإشباع الإيروسي الذاتي الذي تؤمنه منطقة شهوية ما"1. هذه الغرائز الجنسية الطفلية تنقسم حسب فرويد "إلى مجموعتين اثنتين واحدتهما معاكسة للأخرى، والأولى ايجابية والثانية سلبية، وفي طليعتها الغرائز التالية: لذة الإيلام (السادية) ونقيضها السلبي (المازوخية وقد تترجم بالمازوشية)".2
إذن منذ السنوات الأولى لعمر الطفل تبدأ ميولاته الجنسية وتتحدد ملامح ومقومات هويته الجنسية. ومنذ ذاك الوقت تبدأ ميولاته الجنسية إما ايجابا وإما سلبا، وهو ما يؤكد عليه فرويد في قوله:"ومن غير أن نخشى أن نكون من الجائرين، نستطيع أن نعزو إلى كل طفل ميلا خفيفا إلى الجنسية المثلية . فالغرائز الجنسية الطفلية المنفصمة كما سبق ورأينا (الفم والشرج ...)"تتكثف وتنتظم في اتجاهين رئيسيين، بحيث تكون الشخصية الجنسية للفرد قد تكونت واكتملت، في أكثر الأحيان، عند انتهاء فترة البلوغ"3. هذا التكثيف للحياة الجنسية الطفلية التي تهيء الفرد للدخول إلى مرحلة البلوغ وتركيز اللذة الجنسية في الأعضاء التناسلية فقط، وطرح كل الغرائز البدائية عبر عمليات الكبت ومقومات نفسية أخرى «كالخجل والقرف والأخلاق، حارسة تلجم وتحبس ما تم كبته"4. قد يصاحبه خلل ما خصوصا عندما يصل الفرد مرحلة البلوغ. فنتيجة للضغط الذي تولده الرغبة الجنسية والمنغصات والنكوص والمقاومات التي تعترض تحقيق اللذة الجنسية بشكل سلس وسليم بسبب الواقع الذي يرفض تحقيق اللذة الجنسية بطريقة لا شرعية، تبدأ تلك الميولات الجنسية البدائية في الظهور من جديد،وتدفع الفرد إلى تلبية رغباته بطرق ملتوية غير مرغوب فيها، وهذا ما يؤكد عليه فرويد بقوله:" حين يتدفق، مع البلوغ المد الكبير للحاجات الجنسية، تلقى هذه الحاجات في ردود الأفعال والمقاومات تلك حواجز ترغمها على سلوك الطرق المسماة بالسوقية وتمنعها من أن تحيي من جديد الميول والنوازع التي كان مآلها إلى كبت"5. فهذا الكبت الذي يقوم بطرح الغرائز البدائية خصوصا مع التطور الحاصل للوظيفة الجنسية عند الطفل، قد تكون له انعكاسات سلبية على الحياة الجنسية المستقبلية للطفل. فالتطور الحاصل في الوظيفة الجنسية الطفلية "يخلف وراءه أشكالا من الشذوذ وإستعدادات لأمراض لا حقة بفعل النكوص. وقد يحدث ألا تخضع الغرائز الجزئية جميعا لسيطرة المناطق التناسلية؛ فإذا بالغريزة التي بقيت مستقلة تؤلف ما يسمى بالإنحراف Perversion، وتستبدل الهدف الجنسي السوي بغائيتها الخاصة. وكما سبق لنا التنويه، كثيرا ما يحدث ألا يتم التغلب على الإيروسية الذاتية بتمامها، وهذا ما تنم عنه شتى أنواع الاضطرابات التي يمكن أن نلحظ ظهورها في مجرى الحياة. وقد يستمر التكافؤ الأولي بين الجنسين كموضوعين جنسيين، وهذا ما سينجم عنه في حياة الإنسان الراشد ميل إلى الجنسية المثلية التي قد تتطور، بالمناسبة، إلى جنسية مثلية كاملة وحصرية. وهذه المجموعة من الاضطرابات يقابلها توقف في تطور الوظائف الجنسية؛ وتشمل هذه الاضطرابات انحرافات الحياة الجنسية وطفالتها infantilisme العامة، الكثيرة التواتر أصلا".6
إن النكوص الذي يحدث للطفل أثناء تطور غريزته الجنسية والمنغصات التي تقف أمام هذه الغريزة قد تقود الفرد إلى الانحراف الجنسي. فالعوائق التي تقف أمام العملية الجنسية السوية في سن الرشد تدفع إلى عودة المكبوت، وعودة الغرائز الجنسية البدائية التي تم كبتها بفعل التربية....لهذا وجب الانتباه إلى تربية الطفل التربية الجنسية السليمة، والانتباه لعلاقاته الأولى مع والديه وأهله منذ ولادته، لأن أول علاقة حبية يربطها الطفل في حياته تكون مع والديه، الأنثى تحب والدها، والذكر يحب والدته، قبل أن ينتقل موضوع الحب إلى أشخاص غرباء. لهذا فالمربي يتحمل كامل المسؤولية فيما سيؤول إليه الوضع الجنسي للطفل مستقبلا، وهذا ما يؤكده فرويد بقوله:"تترتب على المربي واجبات خطيرة، لا تؤدى في الراهن بذكاء على الدوام".7
إن أي خلل في نمو الوظيفة الجنسية للطفل وفي التكثيف الذي يصاحب نموها حتى يكثفها في غريزة سوية، كل خلل يقود حتما إلى الانحراف الجنسي لدى الفرد؛ "فالناس يمرضون حين لا يجدون من سبيل، بفعل عقبات خارجية أو تكيف ناقص، إلى اشباع حاجاتهم الإيروسية في الواقع".8
لمواجهة عودة الرغبات الإيروسية إلى سطح الحياة من جديد خلال مراحل النضج والتسبب في الانحراف الجنسي وفي العصاب يقترح فرويد ثلاثة وسائل لتجريد هذه الغريزة من أذيتها:
أولا: التحكم فيها والسيطرة عليها وعدم الإقتصار على الكبت فقط، لأن الفرد أصبح ناضجا كفاية حتى يستطيع ضبط غرائزه.
ثانيا: التصعيد:"النوازع التي منها تتألف الغريزة الجنسية تتميز على وجه التحديد بهذه القابيلة للتصعيد: فمحل غايتها الجنسية يحل هدف أسمى وذو قيمة اجتماعية أكبر. وأنبل منجزات الفكر الإنساني تدين بوجودها لهذا الاغتناء النفسي الناجم عن سيرورة التصعيد تلك".9
وأخيرا:"من المشروع أن يتم إشباع عدد معين من النوازع الليبيدية المكبوتة بصورة مباشرة وأن يتم الوصول إلى هذا الإشباع بالوسائل المعهودة".10 إن الغريزة الجنسية بمثابة طاقة للجسم ولا يمكنه أن يحيا دون طاقة.
بهذه الطرق إذن، يتجاوز الطفل والراشد، والفرد بصفة عامة جملة من الأمراض العصابية والانحرافات الجنسية التي تهدده.
الهوامش:
1-خمسة دروس في التحليل النفسي ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت- لبنان . ص، 52.
2- نفس المصدر. ص،53.
3-المصدر السابق. ص،53.
4-نفس المصدر.ص،54.
5-نفس المصدر.ص،54.
6-نفس المصدر.ص،54-55.
7-نفس المصدر. ص،57.
8-نفس المصدر. ص،59.
9-نفس المصدر. ص،65,
10-نفس المصدر. ص،65.
++++=====
المصدر: سيجموند فرويد: خمسة دروس في التحليل النفسي، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت.
بوعزة بوبكر.