" الحياة اليومية للنساء الريفيات " لأرسولا كينغسميل هارت: مقاربة سوسيو- أنتربولوجية - محمد عزوزي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

التعريف بالكاتب:
أورسولا كينغسمايل هارت، من أبوين بريطانيين، ولدت في جنوب وسط الهند سنة 1920، وتربت في فرنسا في ظل النظام التربوي الفرنسي لتترعرع فيما بعد في المغرب، البلد الذي كانت دائما تعتبره وطنها.

بعد عودتها إلى المغرب سنة 1958، تعرفت على الأنتروبولوجي الأمريكي دافيد مونتكومري هارت. تزوجت به ورافقته في عمله الميداني في قبيلة " أيت ورياغل " بالريف، فساعدته على التعرف عن قرب على العالم الداخلي للبيت الريفي حيث كان من المستحيل على الباحث الذكر أن يتعرف عليه في مجتمع محافظ.

عاشت المؤلفة وزوجها في إقليم ألميريا باسبانيا منذ 1967، وفي نفس المنطقة وافتها المنية يوم 22 يناير 1996، من مؤلفاتها :

 Two ladies of colonial algeria the lives and times of Aurelie picard and isabelle Eberhadort , ohio University , monographs in international studies ; africa series ; N 49 university of ohio press, 1987

التعريف بالكتاب:
يعد كتاب " وراء باب الفناء الحياة اليومية للنساء الريفيات" أحد الكتب التي ألفتها أورسولا كينغسمايل هارت، وهو كتاب ترجمه عبد الله الجرموني، وراجعه جمال أمزيان وعبد المجيد عزوزي، صادر سنة 2010 في طبعته الأولى عن مطبعة النجاح الجديدة منشورات تفرازن اءريف – طنجة - يقع هذا الكتاب في 194 صفحة، يتضمن بالإضافة لنبدة عن حياة المؤلفة، والفهرس، وكلمة لفسنتي موكا روميرو، تقديما للترجمة العربية، وتقديما للترجمة الإسبانية قدمه زوج الكاتبة الانتروبولوجي دافيد مونتغموري هارت، وأيضا شخصيات الكتاب وإهداء الكاتبة، ويحمل الكتاب إضافة إلى هذا 15 فصلا، ومقدمة وخاتمة، كما أفردت الكاتبة في آخر الكتاب بعض الصفحات لبسط مجموعة من الصور التي تجسد الشخصيات التي تعتمل داخل دفتي الكتاب.

 تحاول من خلالهم الكاتبة رصد حياة الريف عبر التعريف ببعض العادات المحلية التي ترافق الاحتفال ببعض المناسبات، وينحصر هذا العمل حسب المترجم على تدوين الملاحظات والأشياء معتمدة على الذكريات عبر حكي غير كرونولوجي، وقد نقلت عن النساء نظرتهن للحياة الزوجية ومكانتهن في بيوتهن وأسرهن زيادة على تخوفهن وهمومهن في مجتمع رجولي بامتياز. يذكر أن الكتاب نشر بالانجليزية بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 1994، وقد صاغته الكاتبة قبل عشرين سنة من نشره حسب ما جاء في مقدمة الترجمة الاسبانية لدافيد هارت.

قدم كتاب الحياة اليومية للنساء الريفيات خدمة كبيرة لتاريخ الأسرة المغربية، فقد سجل عن قرب الحياة في الريف قبل انتشار المدارس وتطور وسائل المواصلات، وذلك بعفوية مطلقة، وبطريقة سينيمائية رائعة، يخال معها القارئ أن الأوراق التي أمامه في هذا الكتاب إنما هي وثائقيات مرئية أنجزت بتقنيات الصورة الحديثة، خاصة وأن المؤَلَف يضم في النهاية ملحقا للصور تجعل القارئ ينتقل بعفوية من النص إلى الصورة لاكتشاف القسمات الحقيقية لشخصيات الكتاب، حيث تحضر بكل عفوية الأحاسيس الحية والهواجس العاطفية والانفعالات والاحباطات وقسمات الوجوه الصادقة في حيرتها وبؤسها وسعادتها، والزوايا بكل تفاصيلها الدقيقة والألوان بكل رمزيتها، والطبيعة بكل ودها وبشاعتها من خلال تركيزها على حياة أسرة محددة، ويتمثل أحد إنجازات المؤلفة الدالة على نجاحها في استخلاص العديد من التفاصيل والمعلومات الدقيقة حول الحياة العائلية الخاصة وعالم العواطف والأحاسيس، وهي مجالات يبقيها الريفيون عادة قيد الكتمان ويخفونها وراء ستار الصمت.  لذا فإن هذا الكتاب يعد بحق مصدرا أساسيا عن تقاليد وعادات النساء في منطقة الريف المغربي قبل نصف قرن.[1]

في أنواع المقاربات المعتمدة في قراءة الكتاب :

يمكن لنا مقاربة كتاب أورسولا كينغسمايل من خلال نماذج متعددة : منها الاثنوغرافيا والتي تعني: الدراسة الوصفية لأسلوب الحياة ومجموعة التقاليد والعادات والقيم والأدوات والفنون والمأثورات الشعبية لدى جماعة معينة أو مجتمع معين خلال فترة زمنية معينة". وتسمى أيضا بعلم الإنسان الوصفي، ويسعى هذا العلم إلى اعتماد منهج البحث الوصفي أو منهج المسح معتمدا على الملاحظة المباشرة والمشاركة أحيانا، وموجها عنايته للثقافات الإنسانية والظواهر الاجتماعية بالوصف الدقيق. فهذا بالضبط ما نعثر عليه بين ثنايا هذا السرد الكرونولوجي.

 إن دراسة أورسولا للمنزل الريفي يمكننا أيضا مقاربته من خلال مدرسة " تحليل المحادثة " الذي استهدف التخاطب في الحياة اليومية على الخصوص. فأورسولا بنت دراستها على تتبع التخاطب بين النساء ما وراء باب الفناء بغية تقديم ملاحظات لزوجها دايف بغرض تحليلها وبناء نتائج تسمح له بدراسة المجتمع الريفي وعاداته وتقاليده. وهي مقاربة حركية للنظام الاجتماعي تعطي مكانة مركزية لوجهة نظر الفاعلين في حياتهم اليومية.

وقد أولى هذا العلم اهتماما بالغا بالأنشطة الاجتماعية المألوفة في الحياة اليومية التي ينبع منه السلوك التواصلي بين أفراد المجتمع، كالحديث بين أفراد الأسرة، او الحديث أثناء العمل، والحديث في الفضاء العام كصفقات البيع والشراء، والنقاش، والمجادلات. ولعل مؤسسي هذا التيار هارولد غارفينكل h garfinkel و هارفي ساكس h sacks وإيمانويل شيغلوف e schegloff وغايل جيفرسون g jefferson.

استطاعت أورسولا بأسلوبها الروائي وبمنهجها الأنتربولوجي التأريخ لعادات المنطقة، ونقل ثقافة المرأة الريفية ومواقفها من قضايا متعددة: الزواج، والولادة، والأعمال المنزلية، والمدرسة؛ فهي تؤمن بشكل مطلق بالقدر، وبقوة تأثير السحر، وبقدرة الأولياء على الشفاء من الأمراض العضوية، وتعتقد في الطب الشعبي، وفي نفس الوقت تتوجس من فكرة إرسال الأطفال إلى المدرسة.[2]

وهذا سيجعلنا ننفتح على الدراسات السوسيولوجية التي قاربت المجتمع المغربي خصوصا في ستينيات القرن الماضي، والتي تدعى بالسوسيولوجيا الكولونيالية، وذلك من خلال التركيز على مقال الأساطير والمعتقدات في المغرب لبول باسكون المنشور في كتاب علم الاجتماع القروي.

الرحلة من طنجة إلى الريف

تتحدث أوسولا في مقدمة كتابها عن ولعها بجبال الأطلس والصحراء، وسلسلة جبال الريف شرق طنجة في المغرب، هذا الولع الذي سيصبح ممكن التحقق بعد تعرفها على دافيد هارت الأنتروبولوجي الأمريكي، الذي سيصبح زوجها وسيدفعها للبحث الميداني، والعيش مع أفراد قبائل أيت ورياغل حياة طبيعية بسيطة، وهي الحياة التي كانت دائما ترغبها[3].

لقد كان الدافع لزيارتها قبائل الريف، هو عشقها رؤية كل مناطق المغرب العميق غير المكتشف والعيش مع القبليين. هذه الرغبة التي ستلتقي مع رغبة دافيد هارت في البحث الأنثروبولوجي والتي ستثمر دراسة حول حياة الريفيات ما وراء باب الفناء، دراسة عبارة عن حكي لتلك الشهور التي قضتها مع الريفيات داخل منزل موحند[4].

الكتاب تدور أحداثه، حول رحلة من مدينة طنجة شمال المغرب إلى الريف سنة 1959، تصف الكاتبة الطريق بكونها سيئة جدا وغير معبدة، كثيرة المنعرجات، ما يميز المنطقة التي قدموا إليها، مناطق قاحلة وقرى معزولة وصولا إلى ترجيست، ووجود غابات أشجار الأرز بكثافة[5].

الطابع التوثيقي للمجال

كان الوصول إلى سوق أسبوعي لقبائل أيت ورياغل " أربعاء تاوريرت وهو صلة الوصل بين قرى القبيلة حيث يقضون فيه مآربهم، لقد كان السوق الأسبوعي المكان المتفق عليه " التخابر القبلي كان يتم بالتلغراف " للقاء بمحند مساعد دافيد ومخبره الأساسي وترجمانه وصديقه[6].

هذا المكان هو نقطة اللقاء الأولي، قبل الانتقال إلى منزل موحند بقرية أرعطاف حيث سيقضي دايف وزوجته بعض الشهور معه، تقدم أورسولا وصفا دقيقا لموحند " قوي، قصير القامة، أخنس الأنف،، ". توجد القرية على تلال مقدمة جبال الريف والوصول إليها يمر بالضرورة عبر القيادة بالسيارة على وادي النكور. فخلال الرحلة على طول الطريق بين سوق أربعاء تاوريرت وقرية أرعطاف كان يتم استقبال دايف الذي كان معروفا في هذه المناطق بحفاوة كبيرة.

تصف أوسولا الأمكنة بدقة متناهية، أعلى التل يوجد منزل موحند، منزل منخفض مشكل من طين ومحاط جزئيا بنبات الصبار، وجود المنزل أعلى التل كان يقدم نظرة شاملة على المحيط المقابل له، وقد كانت المنازل منتشرة في هذا الفضاء منعزلة بعضها عن بعض، وهذا الأمر يعود تفسيره إلى عدم ثقة الريفي بجيرانه وسوء ظنه بهم. كما أن المنازل الريفية شكلت بطريقة تسمح بالحفاظ على خصوصية النساء داخله، تجدها مكونة من فناء داخلي منغلق ومنعزل تماما عن الخارج يشكل الفضاء الرئيسي الذي تعيش فيه المرأة[7].

يمكن أن نتمثل من خلال هذه الاقتباسات حركة السارد الجوال[8] فتحرك أورسولا بين الفضاءات " طنجة-اربعاء بني ورياغر- أرعطاف " ، وأيضا اعتمادها في كتابتها على الطابع البيوغرافي الذي تتميز به الرحلة، بالإضافة إلى الطابع التوثيقي وهذا يظهر جليا في وصفها لمواصفات الطريق، الغابات، المنازل المتفرقة، المنزل أعلى التل.

تقدم الكاتبة وصفا دقيقا للمنازل الريفية المبنية بالطوب، والتي تتميز بالانخفاض ومربعة الشكل وذات سقف منبسط، وهذا هو حال منزل موحند، فغرفة الضيوف لها بابان. باب يطل على الخارج ويسمح بدخول وخروج الضيوف الرجال بكل حرية، وباب ينفتح على ممر يفضي إلى الفناء الداخلي وسط المنزل، وهو الفضاء الخاص بالمنزل عليه تنفتح كل الغرف. وعل مسافة قصيرة من المنزل بينت أفران للخبز من فخار وتبن، تتوفر كل امرأة من نساء المنزل المتزوجات على فرن خاص بها ومجمر وقلال ماء وجرار زيت وأواني خزفية للسمن والعسل[9].

الذبيحة احتفالا بالضيافة والزواج

تتحدث الكاتبة على الاستيقاظ المبكر في منزل موحند، لتنتقل من غرفة الضيوف إلى حيث توجد النساء، تناولت كوبا من القهوة، ولاحظت أن جميع النساء منشغلات بتحضير الغذاء ولو أن الوقت لا زال مبكرا، في الوقت الذي كان موحند يستعد لذبح أرنب كبير. أما من ستتكلف بالسلخ فهي خدوج بمساعدة من ابنتها الصغيرة، فحتى الأطفال يربون على حس المسؤولية منذ صغرهم من خلال تعليمهم طرق القيام بأعباء المنزل[10].لهذا انخرطت مونات في مساعدة رقية في حك جلد الأرنب بالملح، فالجلود لا ترمى بل تستغل في صناعة دفوف، تستعمل للاحتفال بها في أوقات المناسبات وعند أوقات الراحة. فقد اقترب زواج ابنة اخت موحند، واحتفالا بهذه المناسبة سيذبح موحند عجلا فكان من الضروري أن تخرج مونات لتحضر عملية الذبح.

يرى بول باسكون في كاتبه علم الاجتماع القروي، أن المغاربة مثلهم في ذلك مثل السواد الأعظم من الشعوب، يعيشون في ظل العديد من أنساق الاعتقاد، فهناك مجموعة من الممارسات الطقوسية منها طقس كبش الفداء الذي يتم فيه تكثيف العنف الجماعي في عنف فردي مؤسس[11].

تتحدث مونات " أورسولا " عن تقاليد الزفاف في الريف والتي تدوم ثلاث أيام، وتكون مصحوبة بالموسيقى والرقص. موحند خال العروسة مضياف ومقتدر، وبما أن العروسة يتيمة الأب فقد تكفل بها، وكانت آخر مسؤولياته هو أن يضمن لها زواجا طيبا. لم يبخل بالمصاريف، ورغم التكاليف الضخمة فقد تكلف بها ورفض أية مساعدة مالية من طرف دايف[12].

كما تتحدث أيضا عن تقاليد اللباس عند النساء في الحفل، فالنساء جميلات بقفاطينهن المموجة والمطرزة، وفوق كل قفطان جميل ترفرف دفينة ثوب شفاف يوضع فوق القفطان المطروز بخيط  ذهبي أو حرير ملون، ويضعن في أعناقهن قلادات لامعات من عقيق وخرز وذرات، وتضع النساء المتزوجات فوق الجبين قطعا نقدية فضية لامعة، وتغطين رؤوسهن بمناديل من حرير، أم العازبات فيستعملن مناديل من قطن مثبتة ب " أحراز "[13].

بدأ الضجيج يعم الفناء ايذانا ببداية موكب العروسة التي تجوب أرجاء القرية، تزور كل بيت من أجل دعوة العازبات لحضور حفل الزفاف حتى يقدمن لها الهدايا، وهو تقليد ريفي لا تخرج فيه المتزوجات مع العروسة بل فقط العازبات ووصيفات العروسة.

تتحدث الكاتبة عن حفل الزفاف في ليلته الثانية، بعد ليلة من الموسيقى والرقص الذي استمر حتى ساعة متأخرة، والذي سيتواصل دون توقف خلال الأيام الثلاثة اللاحقة من المساء حتى الشروق. حفل تزينت النسوة بأحسن اللباس وقد جئن من كل المنازل المجاورة.

كما تتحدث أورسولا " مونات " عن ليلة الحناء التي استدعيت لحضورها، إذ هي طقوس حميمية وعائلية خاصة بالريف، ولا يحضرها أحد من خارج دائرة العائلة بمن فيهن المدعوات إلى الحفل، لهذا فحضورها في حفل الحناء جعلها تحس بالتشريف والإكرام لدعوتهن لها وهي الغريبة والأجنبية.

كما تورد تفاصيل ليلة الحناء التي تكون في الليلة الثانية من الأيام الثلاثة من الاحتفالات، وهي طقوس سرية لا تعلم بها سوى النساء، فحتى موحند رب الأسرة لم يكن له علم بما يجري في تلك المراسيم، لأن النساء لا يتحدثن عن ذلك، وبالنسبة له هي فرصة تبكي فيها النساء.

بركة الولي سيدي ابراهيم

تتحدث أرسولا عن بركات الشريف سيدي علي الذي سيزور منزل موحند لمعالجة ارحيمو من مرض رماد العينين. وهي التي كانت تنتظر زيارته على أحر من الجمر وكأنها طفل صغير ينتظر قدوم شخص مهم. كان عليها أن تلبس لباسا نظيفا وتغسل عينيها بالماء والملح. كما تصف الطريقة التي اعتمدها سيدي علي بين نفخ في القصبة وتدليك للعينين لبضع دقائق.

بعد مرور الوقت الذي أمر به الشريف سيدي علي أزالت خدوج الضمادات من على عينيها، وقام موحند بغسل جفونها، لقد كانت عيناها تتحركان داخل الجفون، كانت الدهشة بادية على محياها وصاحت أنها ترى وبدأت تدعو بالخير لسيدي علي[14].

يعتبر المغرب وليس الريف فقط من بين البلدان الاسلامية التي تبجل عدد أكبر من الأولياء. فلا وجود فيه مطلقا لهضاب لا يتوجها مزار، وقليلة هي القرى أو المقابر التي لا يوجد بها وليا أو أكثر من ولي. إلا أن تزاحم الأولياء الضخم هذا يملك جغرافيته وتاريخه وتراتبياته التي تضم المنازل.. فهؤلاء الأولياء يمكن لفضائلهم أن تكون خارقة، مثل سيدي رحال الذي يحوم في الهواء .. وسيدي ابراهيم الذي يقتات بثمرة طوال اليوم..الخ[15]

التمائم أو الحروز

تدرج أرسولا حديثا طويلا عن الحمل والعقم والولادة، فالعقم في المجتمع الريفي يجعل حياة النساء مليئة بالمحن، إذ وضعية المرأة مرتبطة بإنجاب عدد كبير من الأطفال وخصوصا الذكور[16]، ولذلك فإن اروازنة تعبت من ترديد التمائم[17] وتناول الخلطات التي تعدها النساء المسنات دون جدوى، وكانت تظن أنها مسحورة من قبل فتاة كانت تريد أن تصبح الزوجة الثانية لعبد الرحمان.

يتحدث بول باسكون عن دور التمائم في حماية الناس، إذ يقول : قليل من الناس بالمغرب من يعيش دون حماية التمائم، فحيثما توجهت وسط الشعب ترى صغار الأطفال والنساء الحوامل والمرضى والأشخاص المشوهين أو المعوقين يعلقون جرابات ضئيلة الحجم تتضمن بعض الطلاسم الواقية، كما ترى أصحاب السيارات يعلقون سباحات أو علامات نذرية في المرآة الارتدادية لداخل السيارة[18].

بعد هذه التجربة السعيدة، التي عاشتها أورسولا عن كثب، تنقل إلينا تجربة مغايرة تماما، ذلك أن من عادة أسرة موحند زيارة ارعاص نهاية فصل الربيع، وهو المكان الذي ولد فيه، وبه يوجد المنزل الذي تقطن فيه زوجته الأولى حدومة. وهناك تعرفت إليها عن قرب، وسمعت حكايتها، التي روتها بالتفصيل في متن الكتاب، وحدث في أحد الأيام أن اتجهت نسوة العائلة إلى العين، وفي طريق العودة، وهي تحمل قلة الماء على ظهرها، سقطت حدومة بكامل جسمها على الطريق، ولم تجد محاولات الإسعاف التي قامت بها أورسولا والنسوة في شيء، فقد ماتت المرأة وسط ذهول الجميع، وتمت المناداة على زوجها الذي حمل الجثة إلى المنزل بمساعدة أقربائها. وقد عم الحزن وسط النساء والأطفال، فالجميع يبكي بصوت ينخفض ويعلو لمرات عديدة، وقد شاركتهن أورسولا البكاء، وتأثرت بالحدث، وروت تفاصيل الطقوس المرافقة لعمليات الدفن[19].

الوفاة والحزن والتعاطف

عجلت وفاة حدومة بمغادرة موحند وعائلته ارغاص، وبعد الوصول إلى منزله في أرعطاف استمرت الحياة كما العادة، دون أن يكون لموت حدومة وقع كبير. وجاءت لحظة المغادرة مع انتهاء العمل الميداني لدايف، وكانت لحظة الفراق صعبة ومؤلمة على أورسولا، التي أصبحت فردا من العائلة التي استقبلتها لأزيد من سنتين، حتى أنها تعودت عليهن وتعودوا على وجودها. تقول واصفة هذه اللحظة: “رافقتني السيدات حتى الباب الرئيسي، أول من ودعتها ارحيمو التي قبلتني وعانقتني بشدة وهي تمسح عينيها، بعدها وضعت في يدي قدرا من الطين كان يعجبني كثيرا، وكانت تستغله لحفظ اللوز. كنت أحاول أن أتشجع كي لا أظهر حزني، لكن حين نظرت إلي الأخريات وقد غمرت الدموع أعينهن ضعفت، تبادلنا القبل والدموع تنهمر من خدودنا. خرجت من الباب وصعدت إلى اللاندروفر….نظرنا إلى المنزل، لم نر سوى الباب الكبير وهو موصد ووراءه يختفي الفناء والنساء والحياة  التي تغلي بداخله.. بقينا صامتين في السيارة ونحن نسير في طريق غير معبدة وكثيرة المنعرجات .

ما عسانا أن نقول؟ كان لنا نفس الإحساس، وكنا نتساءل متى -إن كان ذلك ممكنا- سنرجع مرة أخرى إلى تلك المنطقة من الريف؟ مكان كان يعني لنا الشيء الكثير ، ليس في حدود العمل الانتربولوجي كما هو واضح، بل أكثر من ذلك لأسباب عميقة، وهي العلاقات الإنسانية التي نشأت بيننا والتي كانت في البداية متحفظة، لكنها تغيرت إلى حميمية وعزيزة.

على سبيل الختم

بعد اثنين وعشرين سنة من مغادرتهما الريف آخر مرة، عادا ثانية إليها أواخر الثمانينيات. وقد تحدثت أورسولا في خاتمة كتابها عن فحوى هذه الزيارة الأخيرة واصفة في خطوط عريضة ما جرى خلال العقدين من تغيرات: فموحند غادر إلى أوربا سنة 1968، واستقر بهولندا حيث يوجد أقرباؤه، ولم يكن الوحيد من منطقة الريف، فأعداد المهاجرين تصاعدت بعد الستينيات إلى الجزائر وأوربا التي كانت في أمس الحاجة إلى اليد العاملة، وبين سنة استقراره بهولندا وسنة عودته إلى الريف نهائيا بعد وفاة والدته سنة 1985 كان موحند يمر ببيت دافيد وزوجته في اسبانيا بمعدل مرة كل سنة. وخلالها كان يطلعهما على التغيرات التي تجري في ارعطاف، حيث التمدن السريع و التوسع العمراني.

في سنة 1987 قرر دايف زيارة الريف بغرض نسخ وترجمة وثيقة مكتوبة بالعربية عبارة عن شجرة عائلة موحند التي تتضمن السلالة القبلية ونسبه الشريف من جهة أمه، وكان الهدف من ذلك إدراجها إلى جانب وثائق ريفية أخرى وإصدارها في كتاب.

أرسل دايف لموحند تلغرافا يعلمه بقدومه مع زوجته أورسولا، وعلى طول الطريق من طنجة إلى الحسيمة، تصف المؤلفة حقول القنب الهندي التي انتشرت على طول حدود كتامة، والبنايات العشوائية المرتفعة في كل الأسواق التي مرت بها. وعند الوصول إلى الحسيمة انتظرا أمام المكان المتفق عليه قدوم موحند لساعات دون جدوى، فذهبا في اتجاه سوق أربعاء توريرت، وعبَّرا عن شعورهما بالحزن وهما يشاهدان امزورن وقد تحولت إلى غابة إسمنتية. ولارتفاع منسوب مياه نهر نكور لم يستطيعا الوصول إلى ارعطاف، فاتجها إلى بني بوعياش حيث علما أن موحند يعيش هناك منذ ستة أشهر مع ابنه الأصغر، وبعد السؤال توصلا إلى منزله بسهولة، ولم يكن هناك. انتظراه في أحد المقاهي، وبعد ساعتين ظهر أمامهما وهو يقود سيارة مرسيديس كبيرة. لقد توصل بالتلغراف غير أنه لم يهتم كما في السابق، ولم تكن هناك دعوة لشرب الشاي أو الأكل، وكان ذلك -في نظرها- تقصيرا غير معهود بواجب الضيافة. وخلال أسبوع قضياه هناك لم يأخذهما موحند لزيارة نساء العائلة.

تغيرت أشياء كثيرة في الريف بفعل الهجرة، فبعض الأزواج تركوا نساؤهم، وتزوجوا بأجنبيات في أوربا، وغالبية الشباب ممن لم يهاجر عاطل عن العمل، وبعضهم مدمن على استهلاك الحشيش والجلوس بالمقاهي في انتظار فرصة للعبور إلى الضفة الأخرى، والفلاحة متأخرة بالرغم من العملة الصعبة التي تدرها الهجرة. ورغم التغيرات التي عرفتها المنطقة بعد تصاعد هجرة الريفيين للعمل في الجزائر وأوربا، فإن التقاليد والعادات المرتبطة بالحريم والمناسبات لم يطرأ عليها إلا تغييرات بسيطة، لأن النساء لم يكن قد انخرطن بعد في الهجرة. ولهذا السبب، فإن الحياة بالنسبة لهن بقيت مستقرة كما كانت من قبل، محتجبة وراء باب فناء المنزل.

شكلت العودة الثانية لأورسولا إلى منطقة الريف صدمة ثقافية لها، وظلت تبذل جهدها لنسيان ذلك الأسبوع السيئ الذكر الأخير لها هناك. ففي السنوات الأخيرة من عمرها ظلت تتذكر ريفها كما كان من قبل أثناء الأيام الرائعة من عملهما الميداني، أما زوجها فقد عاد مرة أخيرة بعد وفاتها إلى الريف، وكان ذلك صيف عام 2000، حيث نظم حفل تكريمي على شرفه من طرف إحدى الجمعيات الثقافية المحلية في امزورن.

المصادر والمراجع

  • أوسولا كينغسميل هارت، ما وراء باب الفناء الحياة اليومية للنساء الريفيات. منشورات تفرازن اءريف، ترجمة عبد الله الجرموني، الطبعة الأولى 2010 مطبعة النجاح الجديدة.
  • خاليد فؤاد طحطح، نساء الريف بعيون زوجة الأنتروبولوجي، مقال منشور بمجلة رباط الكتب بتاريخ 27 أكتوبر 2014
  • بول باسكون، علم الاجتماع القروي، مجموعة نصوص، من تأليف محموعة من الأساتذة، مطبعة دار القرويين الدار البيضاء 2013
  • الدكتور محمد العناز، محاضرة السرديات ، ماستر التأويليات والدراسات اللسانية 2023        

 

[1] - خاليد فؤاد طحطح، نساء الريف بعيون زوجة الأنتربولوجي، مقال منشور في مجلة رباط الكتب بتاريخ 27 أكتوبر 2014

[2] - خاليد فؤاد طحطح، مرجع سابق

[3] - أورسولا كينغسمايل هارت، ما وراء باب الفناء الحياة اليومية للنساء الريفيات، ترجمة عبد الله الجرموني، منشورات تفرازن ءاريف، الطبعة الأولى 2010 ص 23

[4] - نفس المصدر، ص 23

[5] - أورسولا كينغسميل، مصدر سابق ص 27

[6] - أورسولا كينغسمايل  ص 27

[7] - أوسولا كينغسميل ص 31

[8] - الدكتور محمد العناز، محاضرة السرديات ، ماستر التأويليات والدراسات اللسانية 2023

[9] - أورسولا كينغسميل، مصدر سابق ص 36

[10] - أورسولا كينغسميل مصدر سابق ص 45

[11] - بول باسكون، علم الاجتماع القروي، مجموعة نصوص، من تأليف محموعة من الأساتذة، مطبعة دار القرويين الدار البيضاء 2013 ص 83-84

[12] - أورسولا كينغسميل مصدر سابق ص 53

[13] - نفس المصدر ص 56

[14] - أوسولا كينغسميل، مصدر سابق ص 98-99

[15] - بول باسكون، علم الاجتماع القروي ص 96

[16] أورسولا كينغسميل، مدر سابق ص 109

[17] بول باسكون يتحدث أيضا عن التمائم في مقاله الأساطير والمعتقدات بالمغرب.

[18] - بول باسكون نفس المرجع ص 90

[19] - أورسولا كينغسميل مصدر سابق ص 162 وما بعدها

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟