تمهيد:
وُجد الإنسان في بناء اجتماعي، وبيولوجي، ونفسي معين مقيّدا بأهواء ونوازع يحسّها مغروسة في وجوده، ولا يستطيع الحياد عنها، ويشعر أن قوة من قدره تسيطر عليه فيحاول مجابهتها بقوة من نفسه متحدّيا الأحاسيس التراجيدية التي تعتريه منذ صرخت الولادة، وهو في رحلة التحدي وإثبات الذات يظل خائفا، ومترقباّ، ومحاطا بنوازع ذاتية، وأهواء غريزية تحرك فيه غريزة البقاء، وتعزز فيه شعور الاستمرار، وتمنحه إحساسا دائما بالتحفز، والتوثب لمجابهة المنتظر المجهول، ولكن هذا الانتظار دائما ما يبعث في نفسه هواجس الخوف، وبواعث القلق.
1. مفهوم القلق:
يصدمنا مصطلح القلق بما يحمله من دلالات مفزعة، تعادل التشاؤم، والسّوداوية، والكآبة وتتمظهر في الحيرة والتأرجح واللاستقرار، وكثيرا ما يشعر الواحد منا أنّه غير مطمئن، وأنّ بداخله شيئا ما يؤرقه، ويزعجه، يربكه ويمتصّ راحته، ويجعله عاجزا منطويا تتجاذبه اتجاهات متناقضة في الزمان، والمكان، وتضغط على روحه عوالم روحية مثقلة بالمبادئ، والمثاليات، وأخرى مادية مليئة بالفراغ و اللاجدوى.
أ- لغة:
جاء في لسان العرب:" القلق: الانزعاج، يقال، بات قلقا، وأقلقه غيره، وإمرأة مقلاق الوشاح؛ لا يثبت على خصرها من رقّته، وأقلق الشيء من مكانه، وقلقه: حركه.
والقلق: أنّ لا يستقر في مكان واحد، وقد أقلقه فقلق، والقلقيًّ: ضرب من الحلي، قال ابن سيده: ولا أدري إلى أي شيء نسب إلاّ أنّ يكون منسوبا إلى القلق الذي هو الاضطراب، كأنّه يضطرب في سلكه ولا يثبت، فهو ذو قلق لذلك.
ب- اصطلاحا:
يجمع مصطلح "قلق" مفاهيم كثيرة، فهو ليس مصطلحا دقيقا، ولا يمتلك تعريفا خاصا به وحده، بل يجتمع أو يشترك في طقوسه النفسية مع مصطلحات مشابهة زخرت بها معجمات علم النفس، ومن هذه المفاهيم[1]:
- القلق: انكماش نفسي يؤدي إلى فساد العقل والذهول في الأحكام.
- الأدبيا: الكآبة، والقلق وهما مظهران من مظاهر داء العصر، ونفسيات الفنانين، والأدباء الشديدي الحساسية.
- القلق: حالة نفسية تتصف بانشغال البال، والاضطراب الفكري خوفا من خطر مرتقب.
2. أسباب القلق:
ينشأ القلق في اللحظة التي يدرك فيها الإنسان نفسه، أو بالأحرى يدرك تفاهته وضآلته مقارنة مع الكون الواسع العملاق ومع الآخرين الذين يضعون لوجوده المفرد وجودا أوسع حيزا، أو شيئا مواجها باستمرار، ويجد نفسه مجرّد ذرة رمل في صحراء شاسعة بل مجرّد هبوة تراب في رياح عاتية، فكلما ازداد إحساسه بعجزه كلما تضخم قلقه، حتى يصبح عاجزا بالفعل عن التعلق بأي شيء قد يمنع وجوده المفرد معنى، فيصاب بالشك في ما حوله، ثم يفقد قدرته على الحياة ويتحول قلقه الوجودي هذا إلى عبثية لا معقولة، ويصير إلى تملّص تام من الكون وما يحتويه.
أما الإحساس بالقلق فإنه ينشأ عندما تتحدّد أوجه القرار، وعندما تكثر الأقطاب الجاذبة والمنفّرة، ما يجعل الإنسان « في حالة شدّ ومدّ وتوتر، إذا جذب أو شدّ إلى مجالين مختلفين في وقت واحد، وسوف لا يحس الإنسان وهو في هذه الحالة بل سوف يحس بالألم لأنّ الضغوط تمزقه وتشده، وتسبب له التوتر والقلق »[2]، لذلك يجب على الإنسان أنّ يكون نفسه، لكي يستطيع هزم أسباب القلق، فيكف عن الغضب، والحسد، والتطلع إلى ما في يد الغير، لأنّ العدوانية تقتل صاحبها، « وهكذا يسود القلق، ويسيطر، وتفقد أنت الراحة، وتفقد الشعور بالأمان، وتفقد الإحساس بالدعة »[3]، والمشاكل مدخل للقلق، خاصة إذا ضُخمت، « فنحن نثور لأتفه الأسباب؛ نثور لأمور لا تستأهل الثورة، ونحزن، ونشقى، وتخفق قلوبنا، وكل هذا أشبه بالسهام المسمومة التي نرشق بها أعمارنا فنصهرها!»[4]، وبالتالي فإنّ أكثر حالات القلق تنجم عن أمور تافهة، وهو نفسه القلق الذي يعاني منه معظم الناس، والأسوء أنّهم لا يفكرون في التخلص منه، بل ينساقون أكثر إلى قيوده، « كل شخص من عشرة أشخاص في هذه المدينة الصاخبة المكتظة متعرض للانهيار العصبي بسبب ما يستولي عليه من قلق لا مبرر له في أغلب الحالات »[5]، هذا هو القلق الذي لا يبقي ولا يذر.
« أجل إنّه القوات الباغية التي تخلقها نزواتنا الباطنة وتقويها أوهامنا وتضيف إلى منعتها غريزة الإفناء والإهلاك القابعة في قرارة نفوسنا، فالقلق لا يقل ضراوة عن غريزة الإفناء متى رسخت جذوره وتفرعت أغصانه! »[6]، ومع ذلك فالقلق نوعان: أولا نوع يبني الرجال فيدفعهم إلى النجاح ويشحذ همتهم، ويحثهم على الاصرار للوصول إلى الهدف المنشود، وثانيا نوع هدم الرجال فيمزق نفوسهم، ويبعث فيها الجبن، والخوف، و الدونية، ويركز فيها الحيرة، والتردّد، والاحتراق البطيء نتيجة حرب الأعصاب، والنوازع.
كما قد ينشأ القلق نتيجة مناسبات وظروف مؤلمة في أي مرحلة من مراحل الحياة « وقد أدى هذا التركيز على أحداث معينة في الطفولة يمكن أنّ تعدّ في كثير من الأحيان مسؤولة عن نمو القلق، وهذه الأحداث تتضمن أمورا أكدّها المحلّلون النفسيون في نظرتهم إلى النمو النفسي والجنسي»[7]، ويدخل سوء معاملة الطفل أو الإفراط في تدليله ضمن أسباب القلق، كما لا نغفل بعض الإصابات الفيزيولوجية التي تكون أحيانا سببا رئيسا في الإحساس بالقلق كالأشخاص الذين يعانون من فرط إفراز الغدّة الدرقية إذ « يلاحظ عليهم الميل إلى زيادة التوتر العصبي وشدّة الاستثارة والقلق، كما تزداد لديهم شدّة استجابة الجهاز العصبي المستقل، فيكون المريض كثير الحركة زائد النشاط لا يستقر له قرار، ويكاد يكون في حالة توتر مستمر، وتضاف إليها الأورام، والإصابات، والتهابات الدماغ؛ فالالتهاب السحائي الشديد قد يحدث تغيرات ملحوظة وحادة في الشخصية إذ يصبح المريض قلقا ومضطربا .»[8]
هذه هي إذًا أسباب القلق، تنوّعت بين نفسية وجسدية، وحقيقية ووهمية، ولكنها جميعا انتهزت فرصة الضعف الإنساني لتستقر في كيانه، وتصب جراثيمها في أعصابه، فتتركه مقيدا إليها وبها.
3. مظاهر القلق ونتائجه:
تختلف مظاهر التعبير عن القلق باختلاف شخصية الإنسان إذ يتراوح « بين مستوى الخلو التام من التوتر، ومستوى التوتر المطلق الذي يقرب من حالات الذهان »[9]، وباختلاف الدوافع والمظاهر تتعدّد نتائج القلق بين البسيطة منها أو العارضة، وبين الخطيرة والمزمنة والمزعجة أو المرضية فتختلف « شدة القلق باختلاف خطورة التهديد، وفاعلية عمليات الأمن التي تكون في حوزة الشخص»[10]، فنجد حالات الأرق المرضي، والقلق « الذي يتزامل مع الأرق هو الطامة الكبرى، لأنّه قمة المأسي! فمتى أرق المرء وقلق حانت ميتته، وأزفت نهايته! »[11]، وهي من أبشع نهايات الإنسان لأنها تؤدي به إلى الانتحار، والهروب من الحياة، إذ تؤكد معظم الدراسات أن « حوادث الانتحار أصحابها يعيشون في قلق وريبة، يتخبطون في ديجور الشك، ولا يفتحون أعينهم إلاّ على الظلام »[12].
ولكن النتائج الخطيرة فعلا لحالة القلق هي تطوّره إلى القلق المرضي، بالأحرى إلى أنواع من الجنون، والهستيريا، والعصاب، والفصام، وغيرها من الأمراض التي تسيطر على وعيي الإنسان وعقله، وتخلع عنه إنسانيته، وتحرمه من هويته في الوجود، فينتهي به المطاف عبدا لسيل من الآلام التي « ينجم عنها أمراض عصابية كالقرحة الملعونة، وعسر الهضم، واضطرابات القلب، والشلّل الجزئي، والسهاد »[13]، وما أكثر الذين أفنت أجسامهم أمراض القلق، وما أكثر الذين يموتون من جراء مرض كان سببه القلق، ما أكثر القائلين مثل هذا القول: « عشت في قلق، وفي ترقب، وفي استعجال، وفي استمهال، وأنا الآن أشقى إنسان، وبقايا إنسان! »[14]، لكن هذه البقايا ليست كومة من الطين، إنّها كومة من الرماد، سرعان ما تسفيها رياح الانفعالات المختلفة، فيولد الإنسان العصابي المرهق الذي لا يملك القدرة على ضبط أعصابه « والعصابي الذي يشكل خطرا على نفسه قبل أنّ يكون خطرا على عيره، فهو يجسّم الأمور، يجسّم الحوادث الصغيرة »[15]، فيبني جحيمه داخل أعصابه، ويجعل ثورته التي لا تهدأ وقودا لها، فبحرق غيره، ويصطلي هو نفسه بنارها؛ لأن « عصاب القلق يظهر لدى الفرد حين يشعر بعجزه عن السيطرة على المثيرات، وفي هذه الحالة تسلك النفس كما لو كانت تسقط هذه المثيرات على العالم الخارجي »[16]، فيتطور العصاب ويصير جنونا مرضيا.
وحتى لو عجز العلم عن تفسير أسباب الجنون غير أنه أيقن أنه مرض يصيب الأعصاب، إذ يصرّ كثير من الأطباء المختصين على أنّ القلق يفضي أحيانا إلى الجنون؛ لأنّ القلق الدائم دون مبرّر، يجعل الإنسان الخائف من الخوف يخترع لنفسه واقعا من الوهم، يغرق فيه أفكاره [17].
ولكن هل هذا النوع من الهروب هو الحل؟ بالتأكيد لا؛ لأن هذا الإنسان القلق (المجنون) لن يغفر له أحد جنونه، ولن يتغاضى أحد عن سلوكاته، وهذا ليس حال الكبار فقط للأسف، إنّ القلق لا يختار ضحيته، فحتى الطفل القلق « يحاول أنّ يستجيب لمشاعر القلق عنده باتخاذ أساليب مختلفة توافقية وإلى درجة كبيرة غير عقلية إذا كان القلق شديدا ومستمرا، وهذه الأساليب التوافقية تتبلور في أنماط دفاعية مستمرة في صورة حاجات عصابية »[18]، فينشأ في نفسه العناد والصلابة، ويعيش التعاسة طول حياته.
4. القلق والشخصية الهستيرية:
القلق حالة طبيعية يجد الإنسان خلالها نفسه في « صراع بين قوة مانعة تحول دون العناصر الغريزية اللاشعورية وبين التعبير عنها، إنّ هذه القوة المانعة المتمثلة في "الأناء" تخاف على الدوام من أنّ تقهر من مثل النزعات الغريزية الممثلة في "الهو" ومن ثم نعيش في قلق دائم »[19]، هذا الصراع بين الأناء والأنا الأعلى، أو بين الأوامر، والنواهي يعتبره الوعي البشري شيئا لا يطاق « وفي هذه الحالات تسيطر على الشخص حاجة ملحة إلى إتمام الذات ومعاناة أشد أنواع الآلام والعذاب »[20] ، فيزداد نزوعه نحو الرحيل بعيدا عن كوامن الصراع، ويزداد توغلا في دهاليز الهرب متخذا أشكالا عدّة كالهستيريا المرضية، أو الشخصية الازدواجية « وهذه الحالات المزدوجة تعتبر من حالات الهستيريا التي تظهر وتتطور كرد فعل لما يشعر به المريض من قلق، أو يعدّ إزدواج الشخصية وسيلة يعتدي بها الفرد على نفسه لا شعوريا كوسيلة للعقاب، ولتخليص الفرد من حالة القلق بعد صراع معين، ذلك أنّ المريض يعاقب نفسه على جرمه لا شعوريا عندما يسجن شخصيته الأولى ويمنعها من الاستمتاع جرّاء سلوكها في الحياة الدنيا »[21]، فالشخصية الهستيرية، أو المزدوجة هي النهاية الضرورية لأحد أنواع القلق النفسي، وهؤلاء لا ينعمون بعلاقاتهم الاجتماعية في كل مجالات الحياة، وليس هذا فحسب فالقلق يشهر سياط العذاب، ولا ينثني عن جلد ضعفاء النفوس، « ولابد من الإشارة إلى وجود أنواع أخرى من الفصام غير محدودة كالذهان الدوري الذي قسمه العلماء إلى ذهان القلق والنشوة، وهو عبارة عن نوبات شديدة من القلق أو من المرح مصحوبة بهذاءات وبعض الهلاوس وهي متأتية من اضطراب أولي في المزاج. »[22]
وأشد مخاطر الشخصية الهيسترية التي يشحذها القلق بأحاسيس وأفكار مدمرة أن تنتشر صورها من الجماعة؛ لأن الشخصية الهيسترية على مستوى الفرد يمكن مراقبتها وتتبع تطورها واقتراح العلاج المناسب لها، بينما لو انتشرت هذه الشخصية في المجتمع وزادت أعدادها فإن الخطر يكمن في ظهور ما يسمى القلق الاجتماعي والذي يعني « عدم الرضا من جانب الجماعة بسبب حوادث أو عمليات معينة، وكثيرا ما يأخذ هذا النوع من القلق صورة انتفاضة يراد بها الاحتجاج أو المقاومة لأوضاع تراها الجماعة مجحفة بحقها، فتسعى إلى تغييرها وتنشأ الأزمات إذا ما حدث توقف أو انقطاع للسبل العادية المألوفة لسد حاجات الجمالات الأساسية، ومن أمثلة ذلك ما يحدث نتيجة الجرائم وحوادث الاغتيال والإهانة التي تلحق بالجماعة أو من تعتبره رمزا لها »[23]، بل قد يعود القلق الاجتماعي أيضا إلى حالة جنون جماعية تسمى ثورة في صور سريعة وعنيفة، على شكل ردود أفعال مناهضة لا عقلانية، ولا واعية، هدفها الأول هو السيطرة على ما يحتويه الجو العام من مناظر الموت المعنوي للإنسان، ولأحلامه.
5. علاج القلق:
يعد القلق كظاهرة إنسانية نفسية من بين أعقد الحالات التي تؤثر في حياة الفرد والجماعة، فالاضطراب وعدم السكينة كثيرا ما يجلب المشاكل والتعاسة، والعلاج الكيميائي عن طريق العقاقير تكون له انعكاسات سلبية على مستوى الفرد والمجتمع في أغلب الأحيان، ولكنه قد يؤتي ثماره مع معض المرضى الذين يوصف لهم كعلاج وقائي، ويذهب أغلب الدارسين أن عوامل القلق معلق بالنفس الإنسانية وعلاجه يعطي نتائج إيجابية عندما يتم التعامل معه روحيا، إذ تطمئن القلوب بذكر الله، وهذا الحل هو أسلم المخارج من مهالك القلق،؛ لأن الدين « يقوي الفرد ويحصنه ضد غزوات القلق، والشك، واليأس، ويزوده بالقصد الذي يمكنه في كل مرة من مراحل النمو بأنّ يربط نفسه بكلية الوجود ويطاله معناه »[24]، وثبت بالممارسة أن الارتماء في خضن الإيمان بالله، والمسارعة في الهرب إلى جنة كتابه الذي يشرح الصدور لا تعالج القلق فحسب، بل نتفي السباب التي تقود إليه، وقد أشار علماء النفس لعلاج القلق بطريقة علمية فقالوا: « حطّم جلمود القلق بتنامي نفسك وجّه اهتمامك إلى الناس والعمل، لا تفكر بما يقلق، لا تستسلم للسوداء، أجل حطّم الجلمود بالعمل، فكر في الدنيا على أنّها دار وجدنا فيها لكي نؤدي رسالة »[25]، لأن الاهتمام بالعمل يشغل الإنسان عن التفكير في المشاكل والنوازع، ويشغله عن الناس، وتفاهاتهم، وهتاراتهم، قال برنارد شو: « متى توقف لك الوقت الكافي للتفكير بسعادتك أو بشقائك فإنّك في الغالب شقي »[26]، لماذا نفكر إذًا في جلب السعادة، فلا نجلب إلا البؤس والشقاء لأنفسنا؟ ببساطة لأنّ السعادة تصنع في مخابر النفس، ولا تأتي من الخارج، ومنه فلا جدوى من الكسل والخمول.. إذن في « العمل شفاء النفوس من قلقها، بل شفاء الأجسام من موت يجلب عليها القلق »[27]؛ لأنه مع العمل، لا غضب، ولا اختناق.
الإرادة كفيلة بهدم الظروف الممهّدة للموت، تهزم غريزة الفناء وتعلي غريزة البقاء و« الطمأنينة هي المنفذة الوحيدة، والطمأنينة التي تنبثق عن التسليم بالسوء المفروض، فالتسليم هذا يخفف عن النفس ويطلق النشاط المكبل من قيوده، الطمأنينة التي تلاشي الخوف، وبالتالي تمحو القلق »[28].
إذا لابد من محاربة القلق وسدّ ينابيع الهواجس والوساوس، وأعتقد في داخلك أنّ عملك ممتع، وأنك ترتاح فيه، وتحبه، وهذا سيبعد عنك القلق حتما ويدفع بك إلى الطمأنينة التي تقودك إلى الاسترخاء الذي ركز عليه أطباء النفس فقد كان « فرويد ينظر إلى الاسترخاء كعملية دفاعية ضد القلق؛ لأنه يترتب عليه خفض حدّة التوتر لدى الفرد »[29]، فكان ضروريا لمن يهمّه مصير الإنسان أنّ يساهم في إشعال شمعة أمل في نفوس القلقين التعساء، وكان واجبا أنّ نعلم جميعا طريقنا للخلاص هو طريق الإيمان، الذي به تشيع الطمأنينة وطريق العمل الذي يجعل متعة العطاء حائلاّ دون هواجس الانطواء.
6. القلق والإبداع:
يعتقد بعض المنظرين أنّ بواعث القلق مردّها إلى كبت اللبيدو؛ أي الطاقة الحيوية التي تتمثل فيها غريزة الحياة وإلى النواهي الصادرة من (الأنا المثالي)؛ أي الجانب الخاص من الشخصية الناتج عن عقدة أوديب ينبوع كل العلميات الثقافية العليا الفنية، والأدبية، والأخلاقية، وبذلك يكون القلق تعبيرا عن الخطر الداهم، وإشارة موجهة إلى (الأنا)؛ أي إلى الشخصية الواعية لتتخذ تدابير ضرورية للدفاع، وهذا المظهر من المظاهر إيجابية للقلق الإنساني الطبيعي الذي يستدعي تحفيز « ما يسمى بنظام الذات أو دينامياتها، فلكي يتجنب الشخص أو لكي نقلل إلى حدّ ممكن القلق الفعلي أو المعتدل، فإنّه يصطنع أشكالا مختلفة من الأساليب الوقائية، والضوابط لسلوكه »[30]؛ ونظام الذات هذا يجعل الشخصية تحمي نفسها من القلق عندما تتمكن من خفض شدته خاصة أن كان باعثا لإنتاج عدد من الآثار النفسية[31].
وعلاقة القلق بالإبداع الأدبي خاصة تعود إلى أن القلق يمثل عند الذات الإنسانية نوع من الاغتراب الذي يعد نفي مستمر للواقع، وشعور دائم بالابتعاد الذي يميز علاقات الفرد بالمجتمع والأشياء، ويرى "كير كجارد" أنّ المرء محكوم عليه بالاغتراب نظرا لطبيعة العناصر المأسوية التي تشكل علاقات الفرد بالواقع الذي يعيش فيه، كما يؤكد "فرويد" حتمية إحساس الذات المبدعة بالاغتراب حتى تتفرد في فكرها ورؤيتها للعالم والأشياء، وهذا الاغتراب الذي يمثل نوعا من القلق الفني الذي يشكل انعكاسا لدوافع اللاشعور التي لا يمكن إزاحتها أو التخلّص منها والتي لا تستفرغ إلا في عمليات الإبداع الفني؛ لأن الشخصية الاغترابية- في الأدب خصوصا وفي الفن عموما – تعد شخصية إشكالية، إذ تتسم دائما بمجموعة من السمات الجوهرية المتنافرة وغير الانسجام، وذلك يعود ربما بسبب من تأبيها، وعدم خضوعها لمجمل الشروط التي يتم فرضها - قسرا- من الخارج، مما يجعلها تبدو في نظر الناس دائما شخصية "انطوائية" لها عالمها الخاص الذي تصنعه، وتشكله وفق مجموعة من التصوّرات الخاصة التي لا تعبر في مجملها إلاّ عن عناصر ذاتية صرفة.
كما تتميز الشخصية الاغترابية بالعديد من المظاهر الداخلية والخارجية التي تتمظهر في حركة الانسحاب المستمر، والعجز عن مسايرة الواقع، ومعاناة الخارج، إضافة إلى الشعور الدائم بالاضطهاد، والرفض التام لكل الموضوعات المتعارف عليها مع نمو متزايد للقطيعة بين مكونات العالم الداخلي للشخصية وبين تلك المكونات الأخرى التي يتم فرضها من خلال شروط الخارج، وما يمليه عليه من أنساق ومواضعات »[32]، والمبدع بهذا المفهوم هو ذلك الإنسان القلق « مما يسببه هذا العصر المستبد للناس من قلق، وفزع »[33]، والذي يجد صعوبة في الاستفادة مما وفرته الحضارة له من أسباب الراحة المادية، والرفاهية التي ساعدت الإنساني في تحقيق سعادة ذهنية، ولم تسعفه على الاطمئنان والاستقرار، بالعكس لقد أصبح خائفا على الدوام خائفا مما سيأتي، ومما يحيطه، وتحول القلق من حالة نفسية طبيعية إلى حالة انفصال مع الواقع « سرعان ما يتنامى لتصل حدّ الفصام حيث تنشطر الذات على نفسها، وتتخلى عن كل تطلعاتها لتعيش في منطقة الظلال، تلك المنطقة التي تتخفى فيها من ثقلها الموضوعي »[34] ويتحول ذلك الفصام إلى قوة دافعة تخرج من مكنون الشخصية المبدعة ما تعجز عنه لو كانت في حالتها المستقرة العادية، فالقلق إذًا يجعل الحالة النفسية للشخصية المبدعة غير مستقرة، وهو ما يدفها إلى استدعاء ما أمكن من الأفكار التي تنير درب الآخرين على حاب تآكلها واهتلاكها حزنا وكآبة.
هوامش البحث:
[1]-عبد النور جبور، المعجم الأدبي، ص142.
[2]-سيد محمد غنيم: سيكولوجية الشخصية(محدّداتها، قياسها، نظرياتها)، دار النهضة العربية، القاهرة، د ت، ص470.
[3]-مجموعة من المؤلفين: القلق، سلسلة السيكولوجية المبسطة، ط5، منشورات دار الأفاق الجديدة، بيروت، 1983م، ص80.
[4]-المرجع نفسه، ص26.
[5]-المرجع نفسه، ص36
[6]-المرجع نفسه، ص28.
[7]-سيد محمد غنيم: سيكولوجية الشخصية، ص621.
[8] -المرجع نفسه، ص90.
[9]-سيد محمد غنيم، سيكولوجية الشخصية، ص70.
[10]-المرجع نفسه، ص571.
[11] -مجموعة من المؤلفين، القلق، ص154.
[12] -المرجع نفسه، ص132.
[13] -المرجع نفسه، ص36-37.
[14] -المرجع نفسه، ص15.
[15] -مجموعة من المؤلفين: القلق، ص22.
[16] -سيد محمد غنيم: سيكولوجية الشخصية، ص511.
[17] -المرجع نفسه، ص38.
[18] -سيد محمد غنيم: سيكولوجية الشخصية، ص55.
[19] -مصطفى غالب: فصام الشخصية(الازدواجية)، مكتبة الهلال، بيروت، ط3، 1981م، ص102-103.
[20]-المرجع نفسه، ص103.
[21]-المرجع نفسه، ص46.
[22]-المرجع نفسه، ص76.
[23]-محمد عبد المنعم نور: المجتمع الإنساني، مكتبة القاهرة الحديثة، مطبعة دار الهناء، ص109.
[24]-جوردن ألبرت، نمو الشخصية، ص156.
[25]-مجموعة من المؤلفين: القلق، ص124.
[26]-المرجع نفسه، ص54-55.
[27]-المرجع نفسه، ص51.
[28]-المرجع نفسه، ص32.
[29]-سيد محمد غنيم: سيكولوجية الشخصية، ص21.
[30]-سيد محمد غنيم، سيكولوجية الشخصية، ص572.
[31] - عبد النور جبور: المعجم الأدبي، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ط2، (يناير)، 1984م، ص215.
[32] -محمد كشيك، ملامح البطل المغترب، ص298.
[33] - جوردن ألبورت: نمو الشخصية، ترجمة جابر عبد الحميد، محمد مصطفى الشعيبي، دار النهضة العربية، القاهرة، 1963م، ص23
[34] - محمد كشيك: ملامح البطل المغترب في ظهيرة لا مشاة لها للقاص يوسف المحيميد، مجلة فصول (زمن الرواية)، الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ الجزء الأول، المجلد الحادي عشر، العدد الرابع، شتاء 1991م، ص299.