منذ اعتلاء البابا بندكتوس السّادس عشر كرسي البابويّة، شهدت الكنيسة الكاثوليكية تحويرات ومراجعات ذات شأن، مسّت اللّيتورجيا وأجهزة المؤسّسة الدّينية. وآخر هذه التحويرات الإقرار في الرّابع عشر من سبتمبر من العام الحالي العودة للقدّاس الترنتي –نسبة لمدينة ترنتو الإيطالية-. ويتمثّل التّراجع، في إقرار أداء القدّاس المذكور، وما يتضمّنه في نصّه من نعت لليهود بالمخاتلة والعمى ودعوة لهم بالتوبة والاهتداء للمسيحيّة، مما أثار بعضهم واعتبروه تنكّرا للمصالحة.
أمّا الجانب الأهمّ في الإصلاح اللّيتورجي فيتمثّل في إحياء استعمال اللّغة اللاّتينية في الصّلاة المسيحية، بعد أن جمدت على إثر المجمع الفاتيكاني الثّاني (1962-1965). تأتي العودة في ظلّ ردّ الاعتبار للعهد الترنتي -Tredentine-(1545-1563)، الذي تميّز بالتقليدية والإصرار على وحدة الشّعيرة، كردّ فعل على ما سمي بانحرافات المصلح البروتستاني مارتن لوثر حينها. فما هي مقاصد هذه العودة؟ كانت دواعي التخلّي خلال العقود السّابقة عن اللّغة اللاّتينية بدافع تقريب القدّاس من النّاس، وإقامته بلغات حيّة مفهومة، بدلا من اللّغة اللاّتينية المتوارية. ترتّب عن اتخاذ ذلك القرار المجمعي تبرّما لعديد رجال الدّين، باعتبار اللاّتينية لغة الكنيسة، والتي صارت تجري مجرى اللّغة المقدّسة، كما شأن العبرية والعربية لدى اليهود والمسلمين. نظرا للحميمية النّاشئة عن تزاوج المسيحية المأوربة مع اللاّتينية، اللّغة الأمّ لعديد اللّهجات واللّغات المنحدرة منها، كالفرنسية والكورسية والإيطالية والسّردينية والإسبانية وغيرها.
كان مبرّر التخلّي عن اللاّتينية بدعوى ابتعاد النّاس عن هذه اللّغة وعدم فهمهم عظة يوم الأحد، بصفة القدّاس موجّه لعموم النّاس لا لرجال الدّين، الذين يفترض إلمامهم بهذا اللّسان. والواقع، وإن بقيت اللاّتينية تدرّس في الثّانويات في البلدان الغربية في التخصّصات الأدبية، فهي عبارة عن تقليب جثمان ميّت، فهي لغة منقرضة لا يتكلّمها الطلاّب، والغرض من دراستها تعميق فقههم بلغاتهم المحلّية وتوسيع دائرة الفهم والدلالة لديهم. وقد عاينت موت اللّغة اللاّتينية حين كنت طالبا في الجامعة البابوية الغريغورية بروما، فطلاّب اللاّهوت يدرسون اللاّتينية لا ليستعملونها ولكن لإعانتهم على ربط صلاتهم بالمفاهيم والدّلالات اللاّهوتية، ذات الصّلة بالكتاب المقدّس المدوّن بتلك اللّغة لا غير.
لكنّ إلغاء اللاّتينية من الاستعمال في القدّاس مع قرار المجمع الفاتيكاني الثّاني، أوقد نارا بقيت خامدة، وأثار ثائرة العديد من رجال الدّين، ممن لم يتقبّلوا هذا القرار، الذي اعتبروه استئصاليا في حقّ تراثهم الكنسي. كان المونسنيور مارسال لوفابر الفرنسي أبرز من تزعّم الانشقاق، وشقّ عصا الطّاعة للكنيسة الكاثوليكية. انعزل رفقة جمع من رجاله وتحصّنوا بكنيسة القدّيس نيكولا دي شاردوني بباريس، نظرا لتوفّر حرّية أوفر في فرنسا. عرفت الجماعة حينها بـ"الأصوليين" أو بفتنة لوفابر تحقيرا لهم، وبلغت الأزمة أوجها بتسليط سيف الحرمان على الرّجل، وهو أعلى العقوبات التي يصدرها مجلس مراقبة العقيدة، وريث محاكم التّفتيش سيّئة الذّكر.
وفي نطاق اشتغال البابا الحالي راتسينغر على لم شمل الكنيسة، تركّزت اهتماماته على إرجاع أتباع لوفابر إلى حضن الفاتيكان. كانت استراتيجية المصالحة تأتي ضمن خطّة أشمل، من ردّ الاعتبار للّغة اللاّتينية. ففي ظلّ النزيف الذي تعرفه الكاثوليكية في فرنسا، والتي تشهد أسوأ أيّامها، لا تضاهيها فيه فترة ما بعد الثّورة الفرنسية، أو فترة إقرار العلمانية والفصل بين الكنيسة والدّولة سنة 1905.
ففي ملفّ نشرته مجلة "عالَم الأديان" الفرنسيّة، لشهر يناير فبراير من العام الحالي، خصِّص للكنيسة الكاثوليكية، تبيّن أن إكليروس الكنيسة خسر تقريبا كافة سلطته الأدبية على المؤمنين في فرنسا. كشفت الأبحاث أنّ ممارسة الشّعائر صارت لا تعني سوى 10% من الفرنسيين. والاعتقاد في الله الذي بقي تقريبا مستقرّا إلى نهاية السّتينيات، حوالي 75%، تنازل إلى 52%. كما أنّ 7% فقط يرون أنّ الكاثوليكية هي الدّين الصّحيح فحسب، وارتفع عدد الذين "بدون دين"، حيث بلغوا 31%. كما يسجّل تباعد النّاس عن المؤسّسة الدّينية، خصوصا حين يتعلّق الأمر بالمسائل ذات الصّلة بالأخلاق والانضباط، إذ نجد 81% مع زواج رجال الدّين، و79% كذلك، مع ترقية النّساء للمناصب الدّينية. فضمن أوضاع تدهور الكاثوليكية الفرنسية استوجب الأمر السعي الحثيث للمصالحة الدّاخلية.
ودائما ضمن إيلاء مؤسّسة الفاتيكان اهتماما أكبر للإصلاح العقدي والمؤسّساتي، جاء إقدام البابا بندكتوس على خطوة خطيرة في ذلك الاتجاه، بإلغاء مجلس حوار الأديان المعروف بـ(Nostra aetate). فبعد ضجيج أثاره هذا المجلس بالتّوظيف لمقولة الحوار بين الدّيانات، طيلة العقود الماضية، جرى نسف الأساس الذي أقيم عليه ذلك التوجّه. فبفعل غلبة تيّار أصولي داخل الكنيسة شعاره "لا خلاص خارج الكنيسة"، يعارض معارضة شرسة وضع الكاثوليكية على قدم المساواة مع ديانات ومذاهب العالم، جاء إلغاء المجلس المذكور، جرّاء الوعي بما سبّبه من توتّر وانشقاق في الدّاخل، خصوصا عندما دعا البابا السّابق كارول ووجتيلا لصلاة أسيزي المسكونية، والتي جمّع لإقامتها ممثّلو أديان ومذاهب من شتى أنحاء المعمورة. فاعتبر ذلك الفعل من طرف التيّار الأصولي، داخل الكنيسة الكاثوليكية، تنكّرا لروح المجمع الفاتيكاني الثاني، الذي أقرَّ في قانون المسكونية الصّادر في 21 نوفمبر 1964 "فقط عبر كنيسة المسيح الكاثوليكية ووحدها يكون الخلاص، وعبرها فقط يتيّسر الإمساك بكافة وسائل النّجاة المتاحة". هذا اليقين ألحّ عليه مفتّش مجلس مراقبة العقيدة الحالي الكاردينال وليام ليفادا حين أكّد، في شهر جويلية الفارط، على علوّ الكنيسة الكاثوليكية، بقوله: "فيها فقط تمكث إلى الأبد كافة العناصر التي صاغها المسيح".
فهذا التوجّه الكاثوليكي نحو المراجعة اللّيتورجية الدّاخلية، جعل الفاتيكان ينؤو عن التقرّب من الأديان الأخرى في الفترة الحالية، ويولي عناية لشأنه الدّاخلي. فخلال الأيّام القليلة الماضية صدرت وثيقة عن مجلس مراقبة عقيدة الإيمان، أقرّت إلغاء الإيمان بالبرزخ، قدّمها الكاردينال ويليام ليفادا، ونالت رضا البابا جوزيف راتسينغر. وحسب الاعتقاد المنسوخ، كان يمكث في البرزخ الأطفال الذين يُتوفَّون قبل التعميد، فلا يفوزون برؤية وجهه تعالى، لكن في مقابل ذلك لا يمسّهم العذاب، لعدم وعيهم بذلك المنع، ومع المعتقد الجديد صار الأطفال المتوفّون بدون تعميد ينعمون بتلك الرّؤية.
لئن كان البابا السّابق كارول ووجتيلا مولعا بالبهرجة والحشود الغفيرة والأسفار، ولا غرو في ذلك، فالرّجل كان يتعاطى التّمثيل قبل انضمامه لسلك الرّهبنة، وهي سياسة جعلت الكنيسة الكاثوليكية تتغافل عن ترتيب شؤون البيت، فإن خلفه الحالي راتسينغر يبدو أكثر انشغالا بالشأن الدّاخلي، فماذا يعنيه إن كانت المسيحية تتقدّم في إفريقيا وتتراجع في عقر دارها في أوروبا؟
* أستاذ تونسي إيطالي يدرّس بجامعة لاسابيينسا بروما
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
الهاتف الجوال: 3496704641 0039