جدلية التاريخ والحضارة - عبد السلام السعيدي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاس صفوة القول، إن الاهتمام بتدقيق المفاهيم وتقعيدها يعتبر ضروريا سواء من الناحية الإبستمولوجية أو من الناحية الديداكتيكية/التربوية خاصة إذا تعلق الأمر بمفهومي التاريخ والحضارة اللذين أعطيت لهما دلالات وتعاريف مختلفة، أحيانا متضاربة وأحيانا أخرى متكاملة تبعا لتضارب أو تكامل الحقول المعرفية والمدارس المنهجية التي توظفهما في أبحاثها وخطاباتها "العلمية".
مقدمة:
يبدو أن المراجعات النقدية والتقويمية التي تتم اليوم لبعض المفاهيم وحمولاتها المعرفية داخل "مطبخ" العلوم الإنسانية، لا زالت لم تتخلص بعد من شحنتها الإيديولوجية، ولم يتحقق لها بعد شرط الحياد والانفصال عن تلك الشحنة لإعادة تقويمها تقويما موضوعيا ومعقولا، وينطبق هذا القول على مفهوم التاريخ، وبشكل أكثر حدة على مفهوم الحضارة. فالبحث عن تحديد دقيق لدلالة هذين المفهومين يبقى صعبا وشائكا، وغير مانع في نفس الآن وذلك لعدة أسباب منها: أولها أن الحديث في موضوع تحديد مفهوم التاريخ ومفهوم الحضارة يجرنا، وبالضرورة إلى الحديث عن فلسفتهما، ثانيها وجود مقاربات منهجية وحقول معرفية متعددة تستعمل وتهتم بمفهومي الحضارة والتاريخ وموضوعهما، وثالثها تعدد التعاريف وتناقضاتها أحيانا التي أعطيت لهذين المفهومين يحول دون إعطائهما تعريفا دقيقا، شاملا ومانعا. لكن رغم هذه الصعوبات المذكورة وغيرها، فهذا لا يمنعنا من تجديد طرح الأسئلة التالية:
ما هو التاريخ وما هي الحضارة؟ وما هو إطارهما المنهجي والمعرفي؟ وأية علاقة يمكن أن توجد بينهما حاليا؟ هل من نماذج لكتابات قاربت مفهوم وموضوعة "تيمة" الحضارة من خلال الدراسات التاريخية؟
1 – إشكالية تعريف المفاهيم المركزية الثلاثة: تاريخ، حضارة، جدلية:
1-1-مفهوم التاريخ: أي تعريف؟
يقول عبد الله العروي إن ".. التساؤل حول مفهوم التاريخ أمر جوهري وتافه في آن. هذا ما قاله ابن خلدون وهذا ما نؤكده اليوم.. جوهري لأنه قائم أينما اتجه الفكر، وتافه لأن منفعته غير واضحة لكل فرد متخصص، الخطاب موجه في ظاهره إلى المؤرخ، لكنه في العمق يستهدف كل مفكر..". هكذا يؤكد العروي على أهمية البعد الإبستمولوجي لمفهوم التاريخ بالنسبة للمفكر قبل المؤرخ ما دام التاريخ في حقيقته هو المجال المفضل للفكر والتفكير العامين.
وعموما فإن التاريخ لغة يعني تحديد الزمن، وهي كلمة مشتقة من مادة ".. أرخ يؤرخ التي تعني الشهر في اللغات السامية القديمة كاللغة الأكدية واللغة البابلية واللغة الآشورية..". "وتطلق لفظة "تاريخ تارة على الماضي البشري ذاته، وتارة على الجهد المبذول لمعرفة الماضي ورواية أخباره، أو العلم المعني بهذا الموضوع..". فنحن نرى نفس اللبس حتى في اللغات الأجنبية: Histoire الفرنسية وhistory الإنجليزية وGeschichte الألمانية تستعمل الكلمة للمعنيين على السواء إذ يراد بكل من تلك الكلمات الإفرنجية حوادث الماضي وأحيانا أخبار هذه الحوادث؛ أو العلم الذي يحققها. وقد حاول بعض الباحثين في الغرب التمييز بينها، فأطلق بعض الفرنسيين مثلا كلمة Histoire (ب H كبرى) على الماضي وhistoire (ب h صغرى) على العلم الذي يدرسه. واحتفظ الألمان (بعضهم) بـ Geschichte للمعنى الأول Histoire للمعنى الثاني، ولكن العادة الجارية ظلت غالبة وبقي اللبس قائما. ولعل ذلك ناشئ عن شعور أصيل في الإنسان بالارتباط الدقيق بين معرفة الماضي والماضي ذاته أي بين المعرفة التاريخية والكتابة التاريخية.
أما بصدد التعاريف التي أعطيت لكلمة/مفهوم التاريخ، فإن المتصفح للكتب والمقالات المهتمة بإبستمولوجية التاريخ كعلم، سوف يجدها تعاريف متعددة ومختلفة ومتناقضة فيما بينها حينا ومتكاملة فيما بينها حينا آخرا. وكأمثلة عن تلك التعاريف نورد ما يلي:
*تعريف ابن خلدون (عبد الرحمان): فهذا العلامة المتوفي عام 1406م عرف التاريخ في مقدمته الشهيرة على أنه "...في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى.. وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق.." . هنا نرى أن ابن خلدون أخذ بقواعد الجرح والتعديل المطبقة عند أهل الحديث (صرامة النقد).
*تعريف كولينغوود: Collingwood: "التاريخ هو الماضي الذي يقوم المؤرخ بدراسته، لكن هذا الماضي ليس ميتا، ولكنه بمعنى ما ماضي لا يزال يعيش في الحاضر.." . وبهذا الفهم يكون كولينغوود قريب في رؤيته لعلم التاريخ من رؤية Paul Veynne للتاريخ حيث يرى أن التاريخ هو نشاط عقلي يقوم به المؤرخ، فهو ماضي يحييه المؤرخ ويستحضره.
*تعريف كروتشه Croce (الإيطالي): ".. التاريخ بأجمعه هو تاريخ معاصر بمعنى أن التاريخ يتألف بصورة أساسية من رؤية الماضي من خلال عيون الحاضر وعلى ضوء مشاكله.." . هنا كروتشه يلح على أن رؤية المؤرخ للماضي لا بد وأن تنطلق من إشكاليات وتحديات عصر هذا المؤرخ أو ذاك.
*تعريف إدوارد كار Edward carr: ".. التاريخ هو عملية مستمرة من التفاعل بين المؤرخ ووقائعه، وحوار سرمدي بين الحاضر والماضي.." ولماذا لا نقول مع المستقبل لأن الزمان التاريخي هو ثلاثي في طبيعته الأصلية: ماض، حاضر ومستقبل، زمن مسترسل.
*تعريف هيغل Hegel: حسب هذا الفيلسوف الموسوعي فإن التاريخ عملية عقلية منظمة وخلاقة لظهور قيم جديدة.. "لكن التاريخ هو ليس الماضي والحاضر فقط، بل إنه المستقبل أيضا، مستقبل الإنسانية الحرة..".
وبهذا الطرح ربط هيغل مفهوم العقل الحر بمفهوم التاريخ ربطا وثيقا، إذ أن تاريخ الإنسان عنده هو تاريخ التقدم البشري. كما أنه يمثل مراحل نمو العقل الحر للإنسان عبر الزمان.
*تعريف Henri Berr: ".. إن التاريخ في المفهوم العلمي هو البحث عن الأسباب التي أنتجت الحضارة منذ أقدم العصور ودفعتها قدما عبر الكثير من الأزمات..".
*تعريف ريمون أرون Raymond Aron: ".. إن التاريخ هو سرد أو هو قصة الأموات يحكيها الأحياء..".
«L’Histoire est le récit ou l’histoire des morts racontée par les vivants..».
*تعريف فرناند بروديل Fernand Braudel: ".. إن التاريخ هو الإنسان والباقي، وأن كل شيء تاريخ: الأرض والمناخ.. التاريخ علم للإنسان، لكن شريطة أن تكون علوم الإنسان بجواره.. والتاريخ أداة لمعرفة الإنسان في الزمان عبر المكان.." يؤكد هنا بروديل على "جيو.. تاريخ Géo-histoire.
*تعريف د.عبد الله العروي: ".. التاريخ من صنع المؤرخ، معناه التاريخ المحفوظ، هو ما يرويه الحافظ.. التاريخ ينتهي عند المؤرخ، معناه المؤرخ لا يعرف إلا ما حفظ، يجهل بالتعريف غير المحفوظ أكان ذلك المجهول ماضيا أو مستقبلا..". فالتاريخ حسب منظور العروي هنا هو استحضار للماضي من طرف المؤرخ. وما دام أن هذا الأخير لا يمكن استحضار كل شيء فالتاريخ انتقائي في معرفته.
*تعريف تركيبي: ماذا يمكننا أن نستخلص من كل التعاريف السابقة أعلاه؟ إنها تعاريف متنوعة ومختلفة بتنوع واختلاف مشارب ومدارس وفلسفة المعرفين أي المؤرخين وفلاسفة التاريخ. ولكن إجمالا يمكن القول إن التاريخ في العمق هو دراسة الماضي البشري انطلاقا من حس نوعي بالزمان وبإشكالات عصر الدارس، أقول الماضي البشري لأنه لا محل للحديث عن التاريخ بالنسبة لغير الإنسان، "فالإنسان بدوره تاريخي لأنه إنما يعمل في الزمان ولا تاريخ إلا بالزمان. ومن هنا ارتبطت كل نظرية في التاريخ بنظرية في الزمان..".
1-2-مفهوم الحضارة: أي تعريف؟
1-2-1-التطور التاريخي للمفهوم: ظهرت كلمة "Civilisation" في اللغة الفرنسية عام 1734 (عصر الأنوار) وينحدر أصلها من صفة Civilisé (متحضر) في القرن 17. وهذه الصفة منحدرة بدورها من فعل civiliser (ق 13) المشتق من الظرف civilement (ق14) ومن صفة civil (مدني/حضري في ق 13) المأخوذة بدورها من اللغة اللاتينية civilité (ق 14) وكذلك cité (مدينة/حاضرة في ق 11) المأخوذة من civitas. وهكذا منذ البداية ارتبط مفهوم الانتماء إلى المدينة، إلى جماعة منظمة تمثل الدولة أو تقوم مقامها، قلت ارتبط دلاليا بمفهوم التهذيب. فالإنسان المدني، المهذب، الحضري هو أيضا الإنسان البورجوازي.
وهكذا أصبح مفهوم الحضارة يعني خلال القرنين 18 و19 حالة التحضر. والمتحضر هو الذي يحمل جملة الصفات المكتسبة خارج الطبيعة، مجموع الصفات والظواهر المميزة للعالم المتقدم الذي يمثله الإنسان الأوربي آنذاك. وبذلك انبنى مفهوم الحضارة على المركزية الأوروبية أي على هيمنة أوروبا على العالم سياسيا وفكريا واقتصاديا وثقافيا.. وأصبح معيار التقدم التكنولوجي هو الذي على ضوئه نصنف الشعوب ونقول هذه شعوب متحضرة ذات حضارة وهذه شعوب غير متحضرة أي فاقدة لأية حضارة. مما أدى إلى ظهور التعارضات الثنائية الضدية التالية:
 مركز ديناميكي: منتج وهو معقل الابتكارات (أوروبا)
*التعارض بين
أطراف جامدة: مستهلكة بدون إنتاج (العالم غير الأوربي)
مجتمعات حارة: مندمجة في مسار تطوري قائم على تراكم الخبرات والابتكارات والعطاءات.
*التعارض بين:
مجتمعات باردة: متجمدة: تحجر وتخلف في العقليات وفي التقنيات والعادات.
مجتمعات تاريخية:سمحت لها كتابتها بالتقدم وتحقيق الطفرات والوعي.
*التعارض بين
مجتمعات لا تاريخية: لا كتابة لديها وبالتالي لا تاريخ لها فهي مجتمعات ما قبل تاريخية: بدائية جامدة+المشافهة.
الحضارات التاريخية: عرفت الكتابة (بلاد الرافدين+الفراعنة..)
*التعارض بين:
الحضارات غير التاريخية:جاهلة للأبجدية (في إفريقيا،آسيا..)
الإنسان المتحضر: إنسان مهذب يعيش في المدينة
*التعارض بين:
الإنسان المتوحش: إنسان همجي يعيش في الغابات والأدغال
الغرب: رمز التقدم والتحضر
*التعارض بين:
الشرق: رمز التخلف والبربرية Barbarisme
وفي هذا السياق يورد R .Kipling قولته الشهيرة:
"الشرق هو الشرق، والغرب هو الغرب، ولن يلتقيا أبدا..".
مجتمع الطبيعة: شعب طبيعي بدائي
*التعارض بين:
مجتمع الثقافة: شعب ثقافي  =  متحضر
وبهذه التعارضات الثنائية الضدية التي حاول الغرب الأوروبي في القرنين 18 و19 بثها خارج محيطه القاري معتبرا أن الحضارة مرادف للتقدم المادي والتكنولوجي للشعوب، ومتمركز حول ذاته، وذلك بالقول بأن هناك حضارة واحدة ووحيدة في العالم هي حضارة أوربا الغربية. وعلى أرضية هذا الزعم/الادعاء افتتح الغرب الأوربي عهد الزمن الإمبريالي وسمح لنفسه بقيادة حملة استعمارية واسعة ضد الشعوب التي اعتبرها هو غير متحضرة وأنه هو المسؤول الوحيد عن حمل الرسالة الحضارية إليها ولو بلغة "الحديد والنار". (التوظيف الإيديولوجي لمفهوم الحضارة).
أما في القرن 20 وبسبب عدة عوامل منها:
*مرور قرنين من الزمن على استعمال/توظيف كلمتي حضارة وثقافة.
*تقدم وتطور وكثافة الأبحاث الأنثروبولوجية والإثنوغرافية والأركيولوجية والتاريخية..الخ.
*انتقال مراكز الثقل الحضاري/التقني والاقتصادي إلى جهات أخرى غير أوروبية (اليابان + U.S.A + U.R.S.S + الصين..).
قلت بفضل هذه العوامل وغيرها اتسع مفهوم الحضارة مع القرن 20 وأصبحت الكلمة لا تقاس بمدى التقدم التكنولوجي والمعرفي/العلمي للمجتمعات فقط، إذ أضحت الحضارة كمفهوم تعني كل شيء في حياة الإنسان كما أن كل شيء يعني حضارة، فهي تشمل الروح والجسد، المادة والفكر معا. وبهذا الطرح الجديد أصبح لكل مجتمع حضارة معينة خاصة به، مهما كانت درجة نموه التاريخي.
1-2-2-تعاريف مختلفة لكلمة واحدة هي الحضارة:
رغم تقدم وكثرة الدراسات والبحوث التي اهتمت بموضوعة الحضارة في القرن 20، فإن هذا المفهوم لا زال "يتضمن معنيين، فقد يعني فكرة التقدم البشري بصفة عامة، وقد يعني طريقة من طرق العيش في مجال جغرافي محدد..". كما أن "..فكرة الحضارة لا تنحصر في مضمون تمثيلي، فهي تتضمن كذلك مضمونا قيميا contenu axiologique بتوجه أخلاقي يسمح للناس بخلق مبررات لتفضيل جانب ما في الحياة البشرية عن جوانبها الأخرى..".
وانطلاقا من هذا الطرح فمفهوم الحضارة تختلف دلالته حاليا باختلاف الدول والمدارس والحقول المعرفية التي توظفه. لذا نجد Norbert Elias يقول بأن كلمة "..حضارة لا تحمل نفس الدلالة عند مجموع الدول الغربية. وهنا نسجل بالخصوص الفرق الشاسع في استعمال/توظيف هذه الكلمة ما بين الإنجليز والفرنسيين من جهة والألمان من جهة أخرى.. فهي عند المجموعة الأولى (أي الفرنسيين والإنجليز) تعني شهامة وأنفة الوطن وتقدم الغرب والإنسانية بوجه عام بينما تعني عند المجموعة الثانية (الألمان) الأشياء والمظاهر ذات المنفعة القوية مثل درجة وجود الحس الإنساني في السلوك البشري..".
وكدليل على مدى اختلاف التعاريف التي أعطيت لمفهوم الحضارة نسوق ما يلي:
*تعريف Franz Boas الذي يرى أن: ".. الحضارة هي الكم المتكامل للأفعال والنشاطات العقلية والطبيعية التي تميز السلوك الجماعي والفردي للأفراد الذين يكونون مجموعة اجتماعية، بالارتباط ببيئتهم الطبيعية.. وهي تحتوي أيضا على منتجات هذه النشاطات ودورها في حياة المجموعة..".
*تعريف Clyde Kluckhon ".. إنها (أي الحضارة) عملية تاريخية (التقليد الاجتماعي) نمطية أو اعتيادية (القواعد والقوانين والمثل) ونفسية (التعليم + العادة..) وأصولية (الأدوات والآلات والأفكار والرموز..)".
*تعريف Tylor E.B.: وهو أشهر تعريفات الحضارة وأكثر اختصارا وشمولا حيث يعرفها قائلا: ".. إنها ذلك الكل المركب الذي يحتوي على المعرفة والمعتقد والفن والخلقيات والقانون والعادات وكل قدرات واعتيادات أخرى يكتسبها الإنسان كعضو في مجتمع..".
يمكن أن نخلص من التعاريف المختلفة للحضارة على أن هذه الأخيرة أصبحت في القرن 20 هي كل شيء بما فيها من المنتجات الإنسانية المادية والفكرية والمعنوية لمجتمع معين كيفما كانت درجة ارتقائه في الزمن التاريخي (تاريخي، ما قبل تاريخي، قديم، حديث أو معاصر..) مما أدى إلى الانتقال من الحديث عن الحضارة بصيغة المفرد إلى الحديث عن الحضارة بصيغة الجمع، أي من الحضارة الواحدة (ق 18 و19) إلى الحضارات المتعددة (ق20).
1-2-3-الفرق بين مفاهيم الحضارة والثقافة والمدنية:
ما دام هناك من يخلط ما بين المفاهيم الثلاثة حضارة، ثقافة، مدنية، قد يكون من الضروري الوقوف لتحديد مفهومي الثقافة والمدنية بعد أن حددنا سابقا مفهوم الحضارة.
أ-مفهوم الثقافة: ظهرت كلمة ثقافة "culture ".. "في الفرنسية بمعناها الدقيق في ق 13، وتلتها في القرن 14 كلمات مثقف/زارع Cultivateur ومزارع agriculteur لكنها لم تكتسب معناها المجازي كمعرفة، كتربية، وعلم إلا في القرن 15 انطلاقا من مشتقاتها أيضا: cultiver، cultive، Inculte، وبشكل متواز يحتفظ المعنيان (زرع، ثقف) بكامل قوتهما، ولن يتمايزا إلا بصفتي cultural (القرن 19) وculturel (القرن 20).
وحاليا هناك شبه اتفاق على أن الثقافة هي نتاج تراكمي لعدة قرون وأنها تعد عملا إنسانيا جماعيا يتضمن عمليات التدخل والتفاعل والتعديل (للطبيعة وللسلوك..). ومن أبرز التعريفات التي أوردها علماء الأنثروبولوجيا للثقافة نذكر:
*تعريف Kilpatric الذي يقول بأن الثقافة "هي ما صنعته يد الإنسان وعقله من أشياء ومظاهر في البيئة الاجتماعية، أي كل ما اخترعه الإنسان أو ما اكتشفه وكان له دور في العملية الاجتماعية..".
*تعريف Kluckhon جاء فيه أن الثقافة هي "..وسائل الحياة المختلفة التي توصل إليها الإنسان عبر التاريخ، الظاهر منها والضمني، العقلي واللاعقلي، التي توجد في وقت معين والتي تكون وسائل إرشاد توجه سلوك الأفراد في المجتمع..".
*تعريف نيلز Nilles يقول بأن الثقافة "هي جميع طرائق الحياة التي طورها الإنسان في المجتمع".
*تعريف رجال التاريخ للثقافة: فقد فسروها قائلين بأنها هي "راسب التاريخ"، إذ ينظرون لها على أنها مجموعة عمليات تاريخية الأصل، تتراكم خلال السياق التاريخي/الحضاري أو تترسب في الزمان التاريخ. فهي تنمو وتنتعش وتترقى كما أنها قد تهاجر من منطقة إلى أخرى.
نستنتج من التعاريف السابقة للثقافة بأنها، بمفهومها العام، تعني التكيف وما تكشفه الثقافة من تدخل الإنسان في تعديل الطبيعة أو تحويلها بإضافة عناصر بشرية على الوجود الطبيعي. وعليه فكل إضافة بشرية على الوجود الفيزيقي أو العالم الطبيعي هي ثقافة. الثقافة بمعنى من المعاني هي الجانب الفكري والروحي لمجتمع ما ولحضارة ما. لذا فهي مرتبطة بلغة وبشعب معينين مما يسمح لنا بالقول إن هناك ثقافة فرنسية ضمن الحضارة الأوروبية وهناك ثقافة عربية ضمن الحضارة الإسلامية، فتكون الثقافة بهذا المنظور/المثال هي الجزء والحضارة هي الكل.
ب – مفهوم المدنية: عادة يقصد بالمدنية مرحلة زمنية/تاريخية زاهرة وزاهية من مراحل تطور الحضارة، وتتكون أساسا من تراكمات كمية زائدة في كم ومحتوى الحضارة (فائض في الماديات وتعقد في المعنويات (العقيدة والفكر والحرية..)). لهذا نقول مع Odoum H.W: "إن كل مدنية حضارة وليست كل حضارة مدنية.." .
وهكذا يمكن القول بالمدنية الفرعونية، المدنية البابلية، المدنية الغربية المعاصرة بينما لا يحق لنا، حسب هذا التصور، القول بالمدنية الإفريقية المعاصرة.
1-2-4-أصناف/أنواع الحضارات:
يمكن إيجاد تصنيف للحضارات، ولو بشكل مبسط، بناء على عدة أسس، لكننا نرى أن الأساس الاقتصادي هو أوضح هذه الأسس لتميزه ووضوحه مقارنة مع غيره، وكذا لتميز ووضوح الأقسام الرئيسية للنشاط الاقتصادي في صورة مراحل تاريخية مختلفة (مصطلح المرحلة هنا يوظف بمعنى مرن). وعليه فاعتمادا على الأساس الاقتصادي تقسم الحضارات الرئيسية إلى 3 أنواع كبرى وهي :
أ – مجموعة الحضارات البدائية: نعتها هنا بالبدائية يعني البداية وليس بمعنى التخلف كما يشاع. وتتميز هذه الحضارات باقتصاديات الجمع والصيد (إنتاج زراعي ورعوي بسيط: الزراعة المتنقلة) وبتنظيم سياسي مبني على أساس القرابة ويبقى فيه كبار السن هم منفذو القانون ضمن نظام قبلي بالأساس.
ب – مجموعة الحضارات العليا: وتتميز هذه بمعرفتها للأبجدية وتسجيل تاريخها بها، وباقتصاديات الإنتاج البسيط: الزراعة الكثيفة + المحراث الخشبي الذي يجره الحيوان بعد استئناسه + صناعة الفخار والحديد؛ وبنظام سوسيوسياسي من بين مميزاته: تمييز اجتماعي: الطبقة الحاكمة ضد طبقات الشعب + تكوين الدولة + حياة القصور + نشوء المدن + وظائف حكومية.
ج – مجموعة الحضارات المادية: وهذا الصنف من الحضارات يتميز بتوفره على اقتصاديات الإنتاج المركب+ الفلاحة والصناعة التجاريتين + تضخم قطاع الخدمات..إلخ.
هذا التقسيم يعتمده بشكل كبير علماء الأنثروبولوجيا الذين يدرسون حاليا الحضارة بمعناها الواسع في أية صورة كانت، وعلى المستويات الزمنية الممكنة. وكان بعضهم يميل إلى دراسة الحضارات البدائية أكثر من غيرها.
1-2-5-العلم الذي يختص بدراسة الحضارة: أنثروبولوجيا أم إثنولوجيا؟
إن العلم الذي يقوم بدراسة الحضارة للمجتمعات الإنسانية يختلف اسمه كثيرا بين المدارس المتخصصة وحتى بين الدول. ولعل هذا الاختلاف راجع إلى عاملين رئيسيين وهما:
أ – اختلاف إسناد العلم إلى المسند إليه: هل يسند هذا العلم المهتم بدراسة الحضارة إلى الإنسان أم يسند إلى الشعب؟ فكلمة أنثروبولوجي مستمدة من الأصل الإغريقي Anthoropos بمعنى إنسان. أما كلمة إثنولوجي فهي من الأصل اللاتيني والإغريقي Ethnos بمعنى شعب أو سلالة أو أمة. هل ننسب هذا العلم إلى الإنسان هنا بصيغة المفرد فنكون في هذه الحالة أمام الأنثروبولوجيا Anthropologie أم ننسبه إلى الإنسان بصيغة الجمع ونكون في هذه الحالة أمام الإثنولوجيا Ethnologie؟ في الواقع إن:
ـ أنثروبولوجيا: كلمة انتشرت في اللغات الأنجلو ساكسونية.
ـ إثنولوجيا: كلمة انتشرت في مجموعة اللغات الأوروبية اللاتينية والجرمانية.
ب – اختلاف مناهج المدارس المتخصصة: وهذا ما يظهر في البلدان التالية:
*في إنجلترا: إن الأنثروبولوجيين الإنجليز يستعملون مصطلح الأنثروبولوجيا الاجتماعية لتركيزهم على جوانب التنظيم الاجتماعي مثل القرابة والزواج.. الخ.
*في الولايات المتحدة الأمريكية: يستعمل الأنثروبولوجيون الأمريكان مصطلح الأنثروبولوجيا الحضارية لتركيزهم على موضوع الحضارة عامة.
*في فرنسا: يستخدم مصطلح إثنولوجيا مع تشديد قوي على الموضوعات النظرية والفلسفية في موضوع الحضارة.
*في ألمانيا: يستخدم مصطلح إثنولوجيا (علم الشعوب Voelkerkunde) ويتم الاهتمام بالخصوص بالنواحي النظرية والفلسفية والمادية في الحضارة.
*في مصر: تتنوع التسميات التي تطلق على هذا العلم، لكنها كلها مرتبطة بالمدرسة الأنجلوساكسونية: فتارة يستخدم مصطلح أنثروبولوجيا اجتماعية وتارة أخرى أنتروبولوجيا ثقافية وتارة ثالثة أنثروبولوجيا حضارية.
رغم الاختلاف في اسم العلم الذي يدرس الحضارة كما رأينا، فالمهم هو أن يتم الاتفاق بين الدارسين على أن مضمون ذلك العلم هو دراسة الحضارة بجوانبها المادية والمعنوية في ارتباط واضح بالتفاعلات الداخلية بين عناصر الحضارة وتفاعلاتها الخارجية مع الحضارات الأخرى المعاصرة لها.
1-2-6-حقول البحث الحضاري:
يمكن تصنيف الأقسام الكبرى في الدراسة الحضارية للمجتمعات إلى حقول البحث التالية:
*حقل التكنولوجيا أو الحضارة المادية: يهتم هذا الحقل بدراسة الأشكال المادية للحضارة في صورة وصف وتحليل كل المنتجات المادية للمجتمعات مثل: أنواع السكن+مواد بنائه+المخازن مظاهرها وأشكلها+الغذاء وأشكاله ومصادره وطرق طهيه وتناوله+دراسة أدوات الإنتاج+دراسة أدوات الزينة واللباس+مصانع الفخار والحديد..الخ.
*حقل النظام الاقتصادي: وفيه يتم التركيز على أشكال وخصائص النشاط الاقتصادي الذي تمارسه المجتمعات من صيد بري وأنواع الزراعات ودراسة نوعية الإنتاج: هل هو للاكتفاء الذاتي أم للتسويق؟ + دراسة أنواع التبادل الإنتاجي: مقايضة أم تجارة نقدية؟..الخ.
*حقل النظام الاجتماعي: يدرس نوعية وشكل التركيب الاجتماعي: تنظيم عشائري أم تنظيم قبلي.. ودور ذلك في تحديد أنماط السلوك الاجتماعي العام: الزواج والبنوة والطلاق… + أشكال الأسرة + نظم التربية والتنشئة الاجتماعية + النحت والتلوين + الهندسة المعمارية + الموسيقى + الغناء + المسرح والفولكلور عامة..الخ.
*الحقل التطبيقي: ويعد هذا الحقل أحدث فروع الدراسة الحضارية، وقد ظهر استجابة لمحاولة تطبيق المعرفة العلمية على المجتمعات التي تمر بفترات انتقال حضارية من أنماطها التقليدية إلى أنماط الحضارة الصناعية المعاصرة، وذلك بهدف ضمان قدر معين من صحة الانتقال الحضاري دون حدوث مآسي الضياع بين القيم والمكونات الحضارية القديمة والجديدة. أي باختصار، من أجل تخفيف صدمة الحداثة: تصادم القديم مع الحديث.
هذا التشتت في الحقول والمواضيع خلق تخصصات عديدة كلها تهتم بموضوعة الحضارة، وأحدث هذه التخصصات هو تخصص الأنثروبولوجيا الاقتصادية، كما فرض كذلك تعدد المناهج والمقاربات لموضوع الحضارة كما هو الحال بالولايات المتحدة الأمريكية وغيرها. ومن الملاحظ أن المغالاة في التخصص جعل البعض يخاف، وبشكل كبير، من تشتت وحدة علم الحضارة.
1-3-مفهوم الجدل/الجدلية: أي تعريف؟
اعتبر هيغل Hegel أن الجدل هو قانون الوجود والطبيعة والفكر والمجتمع، وكل هذه المواضيع هي في حالة صيرورة وتغير وتحول دائم. وقد تطور هذا الجدل المثالي الهيغلي إلى الجدل المادي على يد كارل ماركس الذي "يعتبر الظروف الاقتصادية أساسا للفكر، وأن المجتمع يتطور، وأن نقيضه يتولد منه في كل طور من أطواره..". وعلى هذا الأساس فالجدل يسعى إلى الوحدة حيث أن الواقع في عمقه متناقض وممزق. وبما أن الحضارة هي أساس وموضوع علم التاريخ فإن العلاقة الجدلية بينهما تهدف بالدرجة الأولى إلى تحقيق الوحدة بين الموضوعين أو على الأقل خلق تأثير وتأثر بينهما. وتاريخيا يمكن التأكيد أنه كلما تقدمت الحضارة البشرية في الزمان إلا وانعكس ذلك إيجابا على مادة التاريخ كموضوع وكمفهوم وكعلم والعكس صحيح. وهذا هو عين العلاقة الجدلية بين التاريخ والحضارة.
2 – الأنثروبولوجيا (الحضارة) والتاريخ: أية علاقة؟
2-1-إسهامات الأنثروبولوجيا في خدمة التاريخ:
في الواقع إن مناقشة أهمية نظرية التطور بالنسبة للتاريخ والمؤرخ تؤدي بنا حتما، ومباشرة، إلى مناقشة العلاقة بين الأنثروبولوجيا وعلم التاريخ خاصة مع مدرسة الحوليات Ecole des Annales ومدرسة التاريخ الجديد. ولهذا السبب يقول ماري إلمر بارنز "..إن علم الأجناس البشرية "الأنثروبولوجيا" هو التاريخ الإنساني بأكمله الذي دعمته فكرة التطور، وأقصى ما يستهدفه موضوع التاريخ هو دراسة التطور الإنساني.." وفي نفس السياق يأتي د.جفري باراكلو ويقول لنا: "..على التاريخ أن يختار أن يكون أنثروبولوجيا اجتماعية أو أن يكون لا شيء..". وبهذين القولتين يتضح لنا أن العلاقة بين الأنثروبولوجيا وعلم التاريخ هي جد وطيدة خاصة منذ بداية العقود الأخيرة. من هنا تأتي مشروعية طرح السؤال التالي: إلى أي حد تساهم الأنثربولوجيا في تطوير وتحسين المعرفة والكتابة التاريخيتين؟ فيكون جوابنا أنه من بين إسهامات الأنثروبولوجيا للتاريخ نذكر ما يلي:
*إن الأنثروبولوجيا هي العلم الوحيد الذي يستطيع أن يزود المؤرخ بالمعلومات الخاصة بالتطور المبكر للإنسان، وهو الشيء الذي لا غنى عنه في أية دراسة أصيلة لما يسمى بالتاريخ القديم وإعادة صياغة حضارته (اكتشاف حقائق الحضارة الفرعونية والبابلية مثلا عن طريق البحث الأنثروبولوجي).
*عن طريق الأنثروبولوجيا أصبح بإمكان المؤرخ معرفة روح النظم البدائية وسماتها النفسية التي لم تندثر أبدا، بمعنى أنه لا يوجد نظام سوسيوسياسي وثقافي معاصر لا يرجع أصله إلى جذور بدائية، وعليه لا يمكن فهم هذا النظام، بشكل دقيق وموضوعي، إلا بمعرفة كافية لجذوره. ومن الأمثلة على ذلك:
مثال(1): نظم الدين والجنس والحكم والأخلاق الحالية نلمس في أشكالها وصيغها جزءا من التراث البدائي الموغل في القدم. وبفهمنا لهذه الحقيقة يضيق مجال التعصب الوطني ودوائر الغزو الثقافي/الحضاري لأن ذلك الفهم يجعلنا ندرك أن "التقدم التاريخي" للمجتمعات نسبي.
مثال(2): لا تخلو نفسيتنا نحن المعاصرين من بعض الصفات النفسية التي نشارك فيها "الهمج والبرابرة" مع تعديلات وتغييرات نوعية مثل الاعتقاد بالسحر والأرواح الشريرة، وهذه سمات نفسية للشعوب البدائية لا زالت تعيش بل وتعشش فينا نحن المعاصرين.
وبهذا الطرح، فإن الأنثروبولوجيا تربط بين علم النفس الوراثي وبين التطور الفكري للجنس البشري.
*إن الأنثروبولوجيا ساهمت في تقدم فن التحليل التاريخي وذلك عن طريق تفسير تطور تاريخ البشرية وشرح أوجه التشابه والاختلاف في مناحي الحياة البشرية. وهكذا لم يعد المؤرخ يهتم فقط بالأحداث الفريدة (الحروب..) وإنما يسعى إلى معالجة الحضارة البشرية بشكل عام في كل تفاصيلها، جزئياتها وكلياتها. دراسات Tylor وMorgan وغيرهما أكدت على وجود وحدة في العقل البشري، وما الاختلاف بين البشر ومظاهر حضارتهم إلا ناتج عن اختلاف الظروف الجغرافية العامة مما سرع التطور والارتقاء في بيئات وعطل أو بطأ ذلك في بيئات أخرى مختلفة عن الأولى.
*إن الأنثروبولوجيا أكدت نتائج أبحاثها على أن الشعوب تستعير، وبترحيب كبير، مختلف الجوانب المادية للحضارة، ولكنها لا تشعر بالرضا والارتياح بالنسبة لاستعارة العقائد والشعائر الدينية والقيم الأخلاقية (حالتنا الراهنة كعرب مسلمين مع الحضارة الغربية المعاصرة).
*فيما يخص مسألة العرق La Race ساعدت الأنثروبولوجيا على تحرير المؤرخ من التعصب العرقي والفكري بعد أن أوضحت أن مفهوم العرق مفهوم مطاط لا يمكن تحديد مدلوله بدقة تاريخيا. كما أوضحت الخلط الكبير الموجود بين الأقسام المتفرعة عن العرق، وأن ليس هناك جنس آري متفوق في الذكاء ومن حقه السيادة العالمية (ضرب للأطروحة النازية..). وبهذا توجب على المؤرخ أن يتناول، وبحذر بالغ، مسألة العرق Race حتى لا يسقط في التفسير العنصري للتاريخ الذي ينطلق من وهم نقاوة العرق/الجنس (نازية هتلر والمذاهب الشوفينية الأخرى..).
*فيما يخص المسألة الدينية ساهمت الأنثروبولوجيا في التقليل من التعصب عند تناول تاريخ الأديان، كيف؟ فقد أوضح التحليل الأنثروبولوجي للأصول الدينية بأن هناك تشابها كبيرا في أصول جميع أو على الأقل، جل الديانات وفي الأشكال التي اتخذتها ردود الفعل تجاه مسائل ما وراء الطبيعة عند الشعوب قاطبة. فهناك تجانس كبير في جوهر وأساس النظم والشعائر الدينية رغم اختلاف أشكالها وصيغها الخارجية. وقد طبق هذا النوع من التحليل على كل من اليهودية والمسيحية من طرف Hubert وM.Mauss وGardner. وأكدت أبحاثهم على غياب حقائق تؤكد استعلاء ثقافة (ومنها الدين) أو تاريخ شعب من الشعوب.
وهذه النتيجة التي خرج بها الأنثروبولوجيون من دراستهم للأديان قمينة بدفع المؤرخ إلى الدراسة المقارنة للتاريخ الديني منطلقا، دائما وبالضرورة، من قاعدة "التسامح الديني" (يمكن الإشارة هنا إلى دراسة Larson حول "ديانة الغرب" ودراسة Moore حول "تاريخ الدين").
أما جفري باراكلو في كتابه الاتجاهات العامة في الأبحاث التاريخية فيضيف في مجال إسهامات الأنثروبولوجيا للتاريخ ما يلي:
*بفضل المنظور الأنثروبولوجي خاصة ومنظور العلوم الاجتماعية عامة أمكن للمؤرخ أن ينتقل في رؤيته للواقع التاريخي:
ـ من الخصوصية إلى العمومية: "خرافة التفرد"
ـ من الحوادث الفريدة إلى المتشابهات.
ـ من الحادثة المفردة "الحرب مثلا" إلى سلسلة الحوادث أي إلى الهيكل التركيبي العام الذي تعمل فيه الحوادث والشخصيات، لأن هذا الهيكل هو أساس كل حياة اجتماعية لأي مجتمع كان. وهكذا، فبتركيز الأنثروبولوجيا أهدافها على كشف الصورة التركيبية للمجتمع البشري أصبح المؤرخ المعاصر يركز هو بدوره على ضرورة اعتماد مفهوم التركيب في أية كتابة تاريخية جادة، وهذا ما اتضح في كتابات مدرسة الحوليات ومدرسة التاريخ الجديد حتى عند أستاذنا عبد الله العروي…الخ.
*بفضل الأنثروبولوجيا توجه اهتمام المؤرخ المعاصر إلى أمور جديدة كانت مهملة من قبل المؤرخ التقليدي ولا زالت، أمور العلاقات الاجتماعية والعائلية مثل مواضيع الأسرة + القرابة + القانون + المحرمات + الأمن + العادات + التغذية + اللباس + الطقوس والشعائر الدينية والاحتفالية.. وفهم كل هذه المواضيع/القضايا ضمن رؤية تركيبية للكل التاريخي. وبفتح هذه الملفات من قبل المؤرخ تم توسيع مادة وموضوع علم التاريخ من جهة، وتغيير الصورة العامة للبحث التاريخي من جهة ثانية:
ـ التركيب بدل السرد الوصفي
ـ المجتمع بدل الدولة
ـ التاريخ الحضاري بدل التاريخ السياسي.
*بفضل الأنثروبولوجيا أصبح الاهتمام المركزي للمؤرخ منصبا على:
+ التبدلات المادية والسيكولوجية والثقافية العامة للمجتمع المدروس وجعلها أساس أي تقسيم للفترات الزمنية (أي للتحقيب التاريخي).
+ الأمور العادية والاعتيادية (مثل مواضيع الزواج، الموت، الجنس Le sexe، المجاعة، التغذية، الأوبئة) بدل التركيز فقط على الحوادث البارزة "الشاذة" مثل الحروب والشخصيات البارزة التي تفرض على المؤرخ التركيز على الكتب التاريخية التقليدية والمذكرات والرسائل. وباختراق المؤرخ لتلك الأمور الاعتيادية المذكورة آنفا ثم توسيع مفهوم الوثيقة التاريخية.
صفوة القول، لا يسعني إلا أن أقول مع جفري باراكلو: "إذا كان المؤرخون قد ازداد إدراكهم لما يستطيع أن يقدمه علم الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع لعملهم، فإنهم يعتقدون أيضا أن التاريخ يستطيع أن يضيف بعدا جديدا ذا أهمية حيوية للسوسيولوجي والأنثروبولوجي، وهو بعد الزمن الذي يعترف الجميع بأن علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا لم يعيروه إلا أقل اهتمام..".
وكأن جفري باراكلو يريد أن يؤكد لنا بهذا القول على مسألتين اثنتين:
*المسألة الأولى: مسألة التناهج: Interscience، أو Interdisciplinarité التي تقر بوحدة العلوم الإنسانية.
*المسألة الثانية: مسألة الجدلية ما بين التاريخ وعلم الأنثروبولوجيا، لأنه إذا كان الأول يهتم بدراسة موضوعة الحضارة عبر الزمن وتطورها، فإن الثاني يدرس نفس الموضوع أي الحضارة لكن بالتركيز على كيفية انتشارها لمعرفة تفاعل عناصر بنيتها ومدى اختلاف وتشابه أشكالها ومظاهرها…الخ.
2-2-نماذج ممن كتبوا في الحضارة من خلال التاريخ:
يلاحظ الكثير من الباحثين أن المؤرخين الذين أرخوا أو نظروا للحضارة كمفهوم وموضوعة Thème هم أولئك الذين اهتموا بالتأريخ للتاريخ الشامل (الحضاري المهتم بكل شيء في الحياة لا السياسي فقط) والعام في نفس الوقت (لا تاريخ الدولة القومية أو القطرية فقط وإنما تاريخ المعمور ككل..)، مما مكنهم من صناعة تاريخ أقرب إلى فلسفة التاريخ منه إلى التاريخ حسب دلالته المتعارف عليها، رغم أن "كروتشه" الإيطالي ينكر/يرفض الفرق بين "التاريخ" و"فلسفة التاريخ". إذ أنه عرف بموقفه الغريب من "فلسفة التاريخ" والمتمثل في إيمانه "بأن الفلسفة تاريخ، والتاريخ فلسفة، كما صرح بذلك مرارا.. ولهذا رأى أنه لا محل لفلسفة التاريخ، لأن ذلك في نظره تحصيل حاصل..".
لذا نجد كروتشه يميز بين التاريخ والأخبار، فيقول: "إن التاريخ هو في جوهره فعل الفكر، بينما الأخبار هي فعل الإرادة. والتاريخ فعل للفكر، فعل نظري، لأنه وصف مقولي للأحداث التي أحدثتها الروح الإنسانية في الماضي، وبوصفه فعلا نظريا، فإنه فعل تركيب تاريخي..".
ولعل السبب الذي جعل كروتشه يمزج بين التاريخ وفلسفته ولا يعترف بأي فصل منهجي أو معرفي بينهما يعود، حسب رأي المهتمين، إلى عاملين اثنين:
ـ الأول: هو أن كروتشه يرى أن أي تفكير في التاريخ هو في حد ذاته نوع من التفلسف، ولا يمكن للتفلسف أن يتم إلا بالرجوع إلى الوقائع، أي إلى التاريخ.
ـ الثاني: هو أن كروتشه يرد مجموع المعرفة الإنسانية إلى معرفة تاريخية، كما يرد الفلسفة إلى لحظة منهجية في التاريخ. وطرح كروتشه الذي عرضنا بعض سماته هنا، ينتمي إلى نظريته المعروفة بـ"التاريخية المطلقة" التي كرس لها بحثا خاصا ومستفيضا عام 1939 بعنوان معنى الفلسفة بوصفها تاريخية مطلقة.
عموما إن الذين تفلسفوا في موضوع علمي التاريخ والحضارة ونظروا لهما كثيرون ولا يمكن الوقوف عند آرائهم جميعهم، لكننا سنحاول أن نتعرض لثلاثة نماذج من المؤرخين/الفلاسفة كتبوا في موضوعة الحضارة من خلال اهتمامهم بالتاريخ كمعرفة وككتابة وكتنظير، وهؤلاء هم: العلامة ابن خلدون وهيغل وفرناند بروديل:
2-2-1-نموذج ابن خلدون: نظرية التعاقب الدوري للحضارات:
يعتبر العلامة عبد الرحمان ابن خلدون (1322-1406م) من أبرز مفكري الحضارة العربية الإسلامية الذين لم يقدره المعاصرون له ولا حتى اللاحقون بعده، لكن شغف بآرائه المتأخرون عنه والمحدثون، ومنهم المؤرخ والفيلسوف الإنجليزي الشهير أرنولد توينبي Toynbee (A) الذي كتب عن ابن خلدون قائلا: ".. إن ابن خلدون صاغ فلسفة التاريخ والحضارة وأسماها بالعمران، ويعد بلا شك أعظم عمل من نوعه..".
ويرى امحمد حسين نصر ".. أن ابن خلدون اعتمد على ملاحظة المجتمعات التي عاش فيها، ومنها استنبط قوانين العمران ومعرفة الوقائـع ودراسة الأمم والحضارات وذلك من خلال متابعة رصد المعطيات التاريخية..". لهذا السبب يؤكد البعض على أن نظريات ونتائج ابن خلدون في التاريخ والحضارة (علم العمران) هي نتائج الملاحظة واستقراء الحوادث خلاف غيره من فلاسفة التاريخ الآخرين الذين انطلقوا من نظريات فلسفية وآراء مسبقة طبقوها في دراساتهم للتاريخ البشري. من هنا أن النظرية الفلسفية الخلدونية هي بعدية (أي بعد الاستقراء صاغ النظرية) بينما الآخرون لهم فلسفة أو بالأحرى نظرية فلسفية قبلية (أي بعد أن انطلقوا من النظرية استقرؤوا وقرؤوا التاريخ).
إن الشيء المؤكد من هذا كله، أنه رغم واقعية آراء العلامة ابن خلدون فهي لا تخلو من تأمل فلسفي عميق سواء كان بعديا أو قبليا، بفضله استطاع أن ينظر للتاريخ ويفلسف الحضارة في علاقة جدلية بينهما، فقال بالتعاقب الدوري للحضارات والدول عبر ثلاثة أطوار من التطور:
ـ طور البداوة: كمعيشة البدو في الصحاري والبربر في الجبال والتتار في السهول، وهؤلاء جميعهم لا يخضعون لقوانين مدنية ولا تحكمهم سوى حاجاتهم وعاداتهم (أي أحكام العرف..) حسب رأي ابن خلدون.
ـ طور التحضر: وفيه تتأسس الدولة عقب الغزو والفتح ثم الاستقرار في المدن.
ـ طور التدهر: يكون بسبب انغماس الجميع وعلى رأسهم الحاكم في حياة الترف والنعيم.
ورغم أن ابن خلدون يفسر انتقال الدول والحضارات من طور إلى الذي يليه بعوامل ديناميكية يتداخل فيها الاقتصادي مع النفسي مع الأخلاقي..، فإنه يؤمن بـ"الحتمية التاريخية" في نشوء وسقوط الدول ومع حضاراتها. وذلك ما يتضح من خلال آرائه (حياة الحضارات والدول مثل حياة الإنسان في تعاقبها) وكذا من خلال الآيات القرآنية التي يختم بها فصول مقدمته الشهيرة مثل: "تلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا..".
2-2-2-هيغل: الحضارة والإنسان المطلق:
"في الواقع تعتبر فلسفة هيغل Hegel (1770-1831) نتاجا لتطور الفكر الإنساني المتقدم جدليا على مر العصور، فقد استطاعت أن تستوعب شتى مجالات المعرفة الإنسانية وتضمها في نسق كلي في نوع من التركيب الأعلى..". وذلك ما يتضح من خلال كتاباته المتنوعة المشارب والحقول المعرفية والعميقة الدلالة، مما جعل الكثيرين يشيدون بها ويعتبرونها النموذج الأكمل لمطامح الفكر البشري في محاولة الفهم العقلاني للوجود؛ بحيث إنها لم تترك شيئا خارج العقل والمعقولية. فهيغل "..لم يكن عبقريا خلاقا فحسب، بل كان علامة ذا معارف واسعة جدا، فإن عمله أينما قام به، قد كون عصرا كاملا..".
وبقراءة نقدية لجل مؤلفات هيغل، هذا العالم الموسوعي، نجد أن له آراء ونظريات عميقة في موضوعي التاريخ والحضارة. فقد كتب في الحضارة ونظر في مفهومها وحمولته وهو يؤرخ للعقل البشري، كما أنه كتب التاريخ وهو يحاول أن يؤرخ للحضارة. فكانت آراؤه في ذلك جديرة بالبحث والتأمل والتقويم:
*فالتاريخ عنده:
+التاريخ عامة لا يعني عند هيغل التاريخ السياسي وحده ولكنه يعنى الحضارة الإنسانية بكل مقوماتها..
+ تاريخ الإنسانية هو تاريخ الوعي بذاتها وتاريخ التحرر (الاتجاه نحو الحرية).
+ التاريخ الكلي: يبدأ مع الحضارات التي عرفت الدولة لأنها (الدولة) هي التي تجمع الذاتي والموضوعي من خلال أشكالها الثقافية.
+ محرك التاريخ هو الروح/العقل، لأن "العقل هو سيد العالم". وعليه فالموضوع الرئيسي/الحقيقي للتاريخ هو الروح العالمية، والبحث في التاريخ هو في العمق بحث في مدى تحقق وتجسيد العقل/الروح في الواقع التاريخي. فتاريخ العالم حسب هيغل هو حركة عقلية. فالعقل هو محرك التاريخ/الوقائع (التفسير المثالي/الميتافيزيقي للتاريخ..).
*والحضارة عنده:
+ نشوء الحضارة حسب هيغل رهين بنشوء الدولة لأن الدولة لا تقوم إلا على مقومات الحضارة من دين، أخلاق، فن، تقنية، أنشطة لأي شعب من الشعوب.
+ حسب هيغل من الواجب استبعاد الشعوب البدائية من التاريخ وبالتالي من الحضارة، لأنها لم تعرف الدولة، فتلك الشعوب تنتمي إلى مرحلة ما قبل التاريخ أي ما قبل الحضارة. وبهذا الطرح يكون هيغل مستحضرا، وبقوة، الدولة القومية التي دافع عنها هو وغيره من معاصريه خلال ق 19 كما يستحضر كذلك مقولة التقدم/وهم التقدم القائلة بأن التاريخ يسير في اتجاه خطي متصاعد.
+ هيغل يبدأ تحليله للحضارة البشرية من العالم الشرقي الذي يتفق واقعه التاريخي مع الشروط التي حددها هيغل لوجود التاريخ الحقيقي (ظهور الدولة وتكونها + ظهور الوعي الذاتي والموضوعي الذي تعبر عنه الدولة..). وفي هذا الصدد يقول هيغل: "من الشرق بزغ نور الحضارة، وبدأ التاريخ العالمي عندما شرعت الروح لأول مرة تسعى حثيثا نحو الوعي بذاتها أي نحو الحرية..". وتلعب الحضارة، أية حضارة كانت، من منظور هيغل، دورا أساسيا في مفهوم الحرية الذي هو غاية التاريخ.
ويصور هيغل المراحل الحضارية للتاريخ في ثلاثة مراحل أساسية:
ـ المرحلة الأولى: هي مرحلة الروح المباشر في المدينة اليونانية التي تقابل مرحلة الوعي في جدل الروح الذاتي باعتبارها وحدة مباشرة تجمع بين الفرد والجماعة، أي بين الفردية والجماعية/الكلية. ويعتبرها هيغل على هذا الأساس بمثابة "فردوس مفقود أو عصر ذهبي للبشرية".
ـ المرحلة الثانية: وتقابل العالم الروماني والثورة الفرنسية حيث انفصلت خلال تلك الفترتين الفردية عن الكلية، أي عن الدولة، وأصبحت هذه الدولة قوة خارجية معادية للفرد، غريبة عنه. فكان من نصيبه الاغتراب + التمزق + التناقض الذاتي… الخ.
ـ المرحلة الثالثة: وفيها استطاع الروح استكمال دورة تطوره ورقيه مما مكن من التغلب على التمزق والاغتراب، ومن تحقيق كمال التاريخ وكمال الحضارة والتجسيد الفعلي للروح/للعقلوكل ذلك تم حسب هيغل في الدولة الأوربية وخاصة الدولة الجرمانية.
تعقيب: إن المتفحص لمعالم وأبعاد تصور هيغل للحضارة وتطور التاريخ يستشف:
*وجود نزعة مركزية أوروبية قوية في فكر هيغل حيث إنه بدأ في تأريخه للحضارة البشرية من اليونان فالرومان فالثورة الفرنسية فالدولة الجرمانية التي يرى فيها التجسيد الفعلي للكمال الحضاري. وبهذا التصور تكون نظرية هيغل بعيدة عن الموضوعية لأنه "..اعتبر أوروبا سواء اليونان والرومان قديما وألمانيا (دون سائر دول أوروبا والعالم الأخرى) محور التاريخ، وهكذا تجاهل الحضارات في بساطة، الأمر الذي يضعف قيمة نتائجه منهجيا وفلسفيا كما أن تعاليه على المادة التاريخية قد نقص من قيمة أحكامه تاريخيا وموضوعيا.." وفي نفس الاتجاه يردف محمد عزيز نظمي سالم قائلا بأن فلسفة هيغل التاريخية تقوم ..."على أصول ميكيافيلية بعد أن جعلت التبرير ميتافيزيقيا.. فنظريته لا تعبأ بالأخلاق ولا ببؤس الشعوب. ولقد أصبحت نظريته التاريخية جزءا من إيديولوجية أبشع النظم السياسية وأكثرها تعصبا وبربرية، إنه النظام النازي..".
*وجود "مقولة التقدم" التاريخي حاضرة، بقوة، عند هيغل بحيث يرى أن تاريخ البشرية هو تاريخ خطي متصاعد غايته الأساسية هي بلوغ وتحقيق الحرية المطلقة للفرد. وبهذا يكون هيغل قد آمن مثل ابن خلدون بحتمية تاريخية من نوع مثالي.
كما أن هيغل كذلك يحصر "نفسه، عند نظره في هذا التطور التاريخي للإنسان في تاريخ أوروبا تماما كما فعل ابن خلدون الذي حصر نفسه في الوطن العربي، رغم أن كلا منهما أراد لفكره أن يشمل البشرية جمعاء..".
2-2-3-بروديل (فرناند) وتاريخ الحضارة:
يعد فرناند بروديل Fernand Braudel من القمم الشامخة في الكتابة والتنظير التأريخيين ليس فقط على المستوى الفرنسي بل وكذلك على المستوى العالمي وذلك لطبيعة كتاباته التاريخية، العديدة في كمها، والعميقة في تحليلها، والرصينة في أسلوبها، والمنفتحة على بقية علوم الإنسان في توجهها المنهجي والإبستمولوجي، الشيء الذي أهله لقيادة إحدى المدارس التاريخية الفرنسية المشهورة في الفترة المعاصرة وهي مدرسة الحوليات ثم بعدها مدرسة التاريخ الجديد. وقد يستطيع الناقد المتفحص لكتابات بروديل أن يقتنع، كل الاقتناع، بأن هذا الرجل له آراء سديدة وجديرة بالاهتمام والتقييم في شتى مجالات المعرفة الإنسانية، ومنها أراؤه الخاصة بمفهومي التاريخ والحضارة وكيف تفاعلا زمنيا على مسرح الحياة أي مسرح الجغرافيا. وعليه وطلبا للاختصار فسوف نتعرض لآراء بروديل في موضوعتي التاريخ والحضارة والعلاقة الحميمية بينهما على النحو التالي:
ـ ما الحضارة؟ يرى بروديل أن الحضارة هي كل شيء ولكن الحضارة لا تشكل التاريخ بكامله. وهذا الفهم البروديلي للحضارة راجع إلى انفتاحه على مكتسبات البحث الأنثروبولوجي الذي يرى أن كل شيء يعد حضاريا وأن كل مجتمع بشري له حضارة نوعية مهما كانت درجة رقيه في سلم التاريخ والزمن التاريخي. وعليه فبروديل، حسب رأينا، يتبنى المنظور الأنثروبولوجي البنيوي في دراسة التاريخ مما جعله يرى أن الحضارة "هي الموضوع المركزي للدراسة التاريخية إذا أرادت هذه الدراسة أن تكون جادة". لماذا؟ يجيب Braudel قائلا:
ـ لأنها (أي الحضارة) هي المرشد الممتاز للبحث التاريخي المعاصر
ـ لأنها تخترق الزمن، إذ لا يؤرخ لها إلا عبر "المدة الطويلة" جدا لذا فهي قادرة على قهر الزمن، والتغلب عليه.
ـ لأنها ذات حقائق واقعية مفرطة في طول مددها، وعليه فمعالجتها تندرج ضمن ما يعرف عند المؤرخين بـ"تاريخ البنيات".
ـ لأنها تظل رصينة، وشبه ثابتة في المكان، لارتباطها بفضائها الجغرافي، في الوقت الذي يجري فيه فيلم التاريخ.
من هنا يتبين أن بروديل يرى أن الحضارة هي الموضوع المفضل، وبامتياز، في دراسة التاريخ حتى أنه يكاد لا يعترف إلا بـ"التاريخ الحضاري" لأنه يعبر عن "حضارية" التاريخ في شموليته. وهذا ما يتجلى من خلال كل كتاباته وعلى رأسها كتابين هامين:
ـ أطروحته حول البحر المتوسط التي استطاع من خلالها أن يؤرخ بالفعل لحضارات البحر الأبيض المتوسط مظهرا نقط التشابه والاختلاف بينها، واتجاهات التجاذب والتناحر التي عرفتها تلك الحضارات فوق جغرافية محيط بحيرة الأبيض المتوسط.
ـ كتابه الضخم الحضارة والرأسمالية الذي يقرأ فيه Braudel تاريخ البشر من خلال الأشياء الصغيرة، بروديل لا يفلسف الأمور ولا يحشر نفسه بنظرية عامة للتاريخ ليقرأ البشر وتطورهم من خلالها. يبدأ من الأسئلة الصغيرة ويأخذ البحث عن أجوبة لها. يرى بروديل أن التطور يصنعه البشر، والبشر هم أفواه بحاجة إلى طعام، ومن هذه القاعدة البسيطة يذهب بروديل إلى غرفة الطعام ويبدأ بقراءة تاريخ البشر من المائدة، هناك الخبز، والخبز ثلاثة أنواع: القمح، الذرة والشعير، يبدأ بالقمح ويقرأ تاريخ زراعته وتطور وسائل إنتاجه، ويفعل الأمر نفسه مع الذرة والشعير، ثم ينتقل إلى الأرز وتاريخه، الشوفان وتاريخه.. ثم اللحوم والسمك،.. وهكذا يقرأ بروديل تاريخ البشر من تلك المواد الغذائية ووسائلها وحمولاتها الثقافية المتنوعة. وبذلك كان بروديل يؤرخ للحضارة من خلال إعادة استحضاره لذاكرة الأشياء والبشر معا وكأنه بهذا العمل الجليل قد قام بتحطيم الحدود ما بين التاريخ والحضارة مؤمنا بجدليتهما.
2-3-الحضارات بين الحوار والصراع:
"فور انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط الشيوعية، كان من الطبيعي بالنسبة لبعض المحللين أن يركز على انتصار الرأسمالية الليبرالية وانتشار الاقتصاد الكوني كمعالم رئيسية للمرحلة الجديدة، لكن كان من الطبيعي كذلك، التفكير، اتصالا بالفترات السابقة، أو قياسا عليها، في أن تكون العوامل المحركة للسياسة الدولية هي القوى العظمى..". فالصراع الدولي راهنا اتخذ، بناء على هذه المستجدات، توجهات فكرية متنوعة، فمنهم من يرى في ذلك الصراع شكل صراع اقتصادي (حروب تجارية) ومنهم من يرى فيه شكل صراع حضاري (حروب حضارية) وطرف ثالث يرى فيه لا هذا ولا ذاك ويقول بدلا من ذلك، بضرورة تأسيس حوار الحضارات، لا صراعها مستندا في طرحه هذا إلى درس التاريخ ونواميسه، فهل فعلا أن درس التاريخ يقول بصراع الحضارات أم على العكس يقول بحوارها؟
2-3-1-بروديل وصراع الحضارات المثمر:
يقر Braudel في العديد من كتاباته التي ذكرنا أهمها سابقا، بأن الحضارات عاشت وتعيش صراعا دائما، فدرس التاريخ يؤكد على أن الحضارات الأقوى المنتصرة تتغلغل غالبا في الحضارات الأضعف وتستعمرها مما يجعل هذه الأخيرة تنتقم على طريقتها ووفق أسلوبها الخاص إلى أن تفك الطوق وتكسر شوكة الاستعمار فتنقلب بذلك شر منقلب على الحضارات التي استعمرتها. ويعطينا بروديل مثالا عن هذا الانقلاب الحضاري بالقول إن أوروبا نجحت في غزو واحتلال أمريكا (كريستوف كولمب..) في ق 15 وق 16، لكن مع أواخر ق 20 ها هي أمريكا تنقلب على أوروبا، إنها سنة الصراع في التاريخ، وفي الحضارات.
وفي أطروحته الأبيض المتوسط والعالم المتوسطي في عهد فيلب II نجد بروديل يسوق مثالين ملموسين عن الصراع الحضاري على جوانب بحيرة الأبيض المتوسط:
المثال الأول: يرى بروديل أنه على امتداد زمني طويل يناهز 3000 سنة تقاسمت جغرافية الأبيض المتوسط ثلاثة حضارات كبرى عاشت صراعا شبه دائم فيما بينها وهي:
ـ حضارة الغرب: المسيحية أو الرومانية (روما)
ـ حضارة الإسلام: من المغرب والأندلس غربا إلى المحيط الهندي وما وراءه شرقا، الإسلام حيال الغرب كالقط مع الكلب لكن بالرغم من ذلك فهما عدوان يكمل أحدهما الآخر:
الغرب: ابتكر الحروب الصليبية وعاشها
الإسلام: ابتكر الجهاد وعاشه.
ـ حضارة الإغريق: الكون الأرتودوكسي + الإستنبول + موسكو أو روما الثالثة على حد تعبير بروديل.
المثال الثاني: لإثبات مقولة الصراع الحضاري يسوق بروديل العديد من الأمثلة الدالة من قبيل:
ـ صراع الإغريق مع الإمبراطورية الفارسية في معركة الماراطون عام 1490م.
ـ صراع روما مع قرطاجة في الحروب البونيقية الثلاثة 264 ق.م و202 ق.م و146 ق.م.
ـ صراع الإسلام مع المسيحية في الحروب الصليبية المتعددة.
ويتساءل بروديل قائلا: كيف لا تتصادم الحضارات وهي تجد في حروبها مبرر وجودها... فالبحر المتوسط يدين لحضاراته بحروبه وكذلك بمبادلاته المتعددة التي تمت بين تلك الحضارات (تبادل التقنيات والأفكار والمعتقدات..) رغم الصراع الذي كان بينها. لكن في المقابل يؤمن بروديل بأنه إذا كان هذا الصراع حتميا فهو مثمر في نفس الوقت، إذ لولاه لما تقدمت الحضارات في التاريخ كما أنه يؤمن كذلك بانبعاث الحضارات بعد موتها.
2-3-2-صمويل هانتغتون وصراع الحضارات:
قام صمويل هانتنغتون S.Hintington، باعتباره أستاذ علم الحكم في أيتون ومدير معهد جون م. أولين للدراسات الاستراتيجية في جامعة هارفارد بالولايات المتحدة الأمريكية، بنشر مقاله: "هل هو صدام بين الحضارات" في دورية Foreign Affairs عام 1993. وقد أكد هانتنغتون في مقاله ذاك، على أن الحضارات تعيش منذ فجر التاريخ صداما مريرا، قام بتعداد أمثلة متنوعة عنه من قبيل قوله إن القرن 19 تميز بصدام القوميات بينما تميز عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية بصراع الإيديولوجيات والديانات والثقافات، أي باختصار صدام الحضارات.
ويلاحظ أن أطروحة هانتغتون حول صدام الحضارات The crasch of civilization تعبر عن وظائفية الخطاب الاستراتيجي الأمريكي الحالي عندما يراد لهذا الخطاب أن يكون حدثا مركزيا لإدارة النقاش العالمي وتوجيهه نحو "المركزية الأمريكية". كما أن عناصر الصدام التي يعددها هانتغتون ليبني عليها فرضيته، لا تندرج في نسق ومفهوم "الحضارات"، إنها تعبير عن أزمة نظام عالمي يمر في "النقطة الحرجة" التي تجعل منه على حد ما يقوله الباحث الفرنسي في الإستراتيجيا بيار لولوش Pierre Lellouche "فوضى الأمم". وإن ما يقترحه هانتغتون بصيغة الدعوة إلى تعايش الحضارات واحتواء أسباب انفجارها، هو نوع من سياسة "إدارة الأزمات" في "كوكب الفقراء" الذي تنفجر فيه الديمغرافيا والثقافات (بالمعنى الأنثروبولوجي). ومن هنا تأتي غائية ولا علمية أطروحة هانتنغتون بمثل أطروحة مواطنه فوكوياما.
2-3-3-فرانسيس فوكوياما و"نهاية التاريخ": حتى عام 1989م لم يكن اسم فرنسيس فوكوياما معروفا في أوساط الباحثين، ولم يكن هذا الشاب الأمريكي من الأصل الياباني معروفا بدراساته المعمقة في أي حقل من حقول المعرفة الإنسانية، وبشكل خاص في مجال الأبحاث التاريخية وفلسفة التاريخ، وما أن ألقى هذا الشاب محاضرة بعنوان "نهاية التاريخ" في جامعة شيكاغو عام 1989 وطور أفكارها في كتابه الصادر حديثا في باريس بعنوان:
« La fin de l'histoire et le dernier Homme »
نهاية التاريخ والإنسان الأخير عام 1992، حتى سلطت الأضواء الساطعة بشكل مكثف على أطروحة فوكوياما التي جاءت بقراءة جديدة متميزة تدافع بحماس عن نظرية الدولة الليبرالية الرأسمالية التي نادى بها هيغل واعتبرها نهاية للتاريخ. وكذلك جاءت لتعيد قراءة مقولة نيتشه عن "الإنسان الأخير" ويعطيها أبعادا مختلفة لكنها جديدة تماما عن تلك السمات التي أشار إليها فيلسوف القوة الألماني نيتشه.
"ومن نهاية التاريخ إلى الإنسان الأخير" يتوسع فوكوياما في إعطاء أبعاد فلسفية ونفسية جديدة لحركة التأريخ معتبرا أن الديمقراطية الليبرالية هي الأساس. معلوم أن هذه الأطروحة كتبت في مناخات الإدارة الأمريكية، وهي تعبر عن العقل الاستراتيجي الأمريكي في زمن تتداول فيه الأوساط فكرة "النظام العالمي الجديد" الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية التي أصبحت مركز القرار والقوة في السياسة العالمية. ففوكوياما، كناطق باسم لسان حال الإدارة الأمريكية، يرى أن حدثية التطورات السياسية الأخيرة ليست تعبيرا عن نهاية الحرب الباردة وحسب وإنما عن "نهاية التاريخ" وانتصار النموذج الليبرالي على كل الأنظمة السوسيوسياسية، وأن الشعوب الأخرى التي لم تتوصل بعد إلى تطبيق هذا النموذج الليبرالي ملزمة بحكم "حتمية التاريخ" بتطبيقه سواء عاجلا أو آجلا لأنه هو نهاية التاريخ وكمال الحضارة والعقلنة.
أليس في هذا الطرح نوع من المجازفة واللاموضوعية في التفكير والتصور؟ أليس هو نوع من التفكير الإيديولوجي (بالمعنى السلبي للإيديولوجيا) البعيد عن كل رؤية علمية؟
"إن نهاية التاريخ المزعومة ستفضي إلى مرحلة ما بعد التاريخ، الصورة المستحدثة لعصر ما قبل التاريخ، إلى الغابة وسيادة القوة المحضة، وإذا كانت عملية الأمركة على صعيد عالمي هي تلك التي رأينا نماذجها بدءا من حرب فيتنام، وانتهاء بحرب الخليج، فإن "نهاية التاريخ" الموعودة ستكون وعيدا للبشرية بالهيمنة والسيطرة والعبودية وليس وعدا بالمساواة والحرية. وإذا كانت أوروبا "الإمبريالية" قد عممت نموذجها "العالمي" في القرن التاسع عشر فصاعدا بواسطة التثاقف، فإن "النظام الجديد" قد يؤدي إلى الإلغاء الثقافي/الحضاري لكل ما هو مختلف ومغاير ومتمايز، وتحويل الثقافات الألفية إلى فولكلور أنثروبولوجي، والحضارة إلى مستحدثات متحفية..".
خاتمة:
صفوة القول، إن الاهتمام بتدقيق المفاهيم وتقعيدها يعتبر ضروريا سواء من الناحية الإبستمولوجية أو من الناحية الديداكتيكية/التربوية خاصة إذا تعلق الأمر بمفهومي التاريخ والحضارة اللذين أعطيت لهما دلالات وتعاريف مختلفة، أحيانا متضاربة وأحيانا أخرى متكاملة تبعا لتضارب أو تكامل الحقول المعرفية والمدارس المنهجية التي توظفهما في أبحاثها وخطاباتها "العلمية". كما أن ازدهار الأبحاث التاريخية منذ "قرن التاريخ" أي القرن 19، وكذا الأبحاث الحضارية على يد علماء الأنثروبولوجيا أدى إلى وجود تقاطعات كثيرة ما بين مفهوم وموضوع التاريخ ومفهوم وموضوع الحضارة إلى حد يكاد يتم فيه التطابق بينهما (التاريخ الحضاري وحضارية التاريخ). فكثرت على إثر ذلك الطروحات التنظيرية والفلسفية، بعضها يقول بأحادية الحضارة وبعضها الآخر يقول بتعدديتها، بعضها يقول بحوار الحضارات وبعضها الآخر يقول بصدامها وصراعها، بعضها يقول بـ"نهاية التاريخ" وبعضها الآخر يقول بـ"عصر ما بعد التاريخ" وكل فريق من هؤلاء الفرقاء يحاول البرهنة على صحة ومصداقية أطروحته بأدلة وأمثلة تتأرجح ما بين الموضوعية العلمية والإيديولوجية المغرضة. لكن في الأخير نقول إن منطق التاريخ ومشروعية حق الحياة لكل كائن بشري، يفرضان الإيمان بحوار الحضارات والثقافات المختلفة، لأن التمايز والاختلاف لا يلعبان أبدا الوحدة والتعايش، فبجدلية الوحدة والاختلاف يتحقق العقل ويتقدم التاريخ وتزهو الحضارات .


المراجع المعتمدة:
*المراجع العربية:
أ – الكتب:
1-عبد الله العروي: مفهوم التاريخ، جزءين في مجلد واحد. البيضاء/بيروت 1992.
2-كامل حيدر: منهج البحث الأثري والتاريخي، بيروت، 1995.
3-قاسم يرنك: التاريخ ومنهج البحث التاريخي، بيروت، 1990.
4-ابن خلدون (عبد الرحمان): مقدمة ابن خلدون، دار القلم-بيروت، 1978.
5-كريستين نصار: الإنسان والتاريخ، طرابلس/لبنان، 1991.
6-إدوارد كار: ما هو التاريخ، ترجمة ماهر الكيالي وبيار عقل، بيروت، 1976.
7-فيصل عباس: الفلسفة والإنسان: جدلية العلاقة بين الإنسان والحضارة، بيروت، 1996.
8-محمد عزيز نظمي سالم: جدلية التاريخ والحضارة، الإسكندرية، 1996.
9-رولان بريتون: جغرافيا الحضارات، ترجمة خليل أحمد خليل، بيروت، 1993.
10-إيلين كلاستر: (المتوحشون والمتحضرون في القرن الثامن عشر)، ضمن كتاب إيديولوجيا الغزو، ترجمة جوزف عبد الله، بيروت، 1984.
11-محمد رياض: الإنسان: دراسة في النوع والحضارة، بيروت، 1974.
12 –عبد الله الرشدان ود.نعيم جعنيني: المدخل إلى التربية والتعليم، عمان/الأردن، 1994.
13-عبد المنعم الحفني: المعجم الفلسفي، القاهرة، 1992.
14-هاري إلمر بازنر: تاريخ الكتابة التاريخية، ترجمة م.عبد الرحمن برج، القاهرة، 1987.
15-جفري ماراكلو: الاتجاهات العامة في الأبحاث التاريخية، ترجمة صالح أحمد العلي، بيروت، 1984.
16-امحمد حسين نصر: مفهوم الحضارة عند ابن خلدون وهيغل: دراسة مقارنة، بنغازي/ليبيا، 1993.
17-هيغل: محاضرات في فلسفة التاريخ، الجزء الأول، العقل في التاريخ، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، بيروت، 1981.
18-هيغل: محاضرات في فلسفة التاريخ، الجزء الثاني، العالم الشرقي، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، بيروت، 1984.
19-وليد نويهض: المفكرون العرب ومنهج كتابة التاريخ، بيروت، 1996.
20-جميل قاسم: مقدمة في نقد الفكر العربي: من الماهية إلى الوجود، بيروت، 1996.
21-روجي غارودي: حوار الحضارات، ترجمة عادل العوا، بيروت، باريس، 1986.
ب – المقالات:
22-جيمس كورت: (تصادم المجتمعات الغربية نحو نظام عالمي جديد)، مجلة الثقافة العالمية، الكويت، العدد 77/1996.
23-فرناند بروديل: (تاريخ المتوسط)، ترجمة بولعيش (م)، مجلة بيت الحكمة، العدد الخامس، 1987.
24-وجيه كوثراني: (صدام الحضارات أم إدارة الأزمات)، مجلة شؤون الأوسط، العدد 30، 1994.
25-مسعود ظاهر: (حول نهاية التاريخ)، مجلة الوحدة، عدد 98/1992.
*المراجع الفرنسية:
26 – Henri Berr : La synthèse en histoire, Paris, 1911.
27 – Raymond Aron : Leçons sur l’histoire, Ed. de fallois, Paris, 1989.
28 – (Rencontre avec Fernand Braudel), Magazine littéraire, n°212, 1984.
29 – Henri Moniot : (L’histoire des peuples sans histoire), in Faire de l’histoire, tome 2, Jacques le Goff et Pierre Nora. Ed. Folio Paris, 1974.
30 – R.Kipling : La Ballade de l’est et l’ouest, Paris, 1892.
31 – Boudouy M.A. et Moussay R. : Civilisation contemporaine, Hatier, Paris, 1976.
32 – Nobert Elias : Civilisation des mœurs, Paris 1977.
33 – Levi-Strauss (claude) : Race et Histoire, Paris, 1977.
34 – Braudel (F) : Méditerranée et le monde méditerranéen à l’époque de Philippe II, A.Colin, 1949.
35 – Braudel (F) : La civilisation matérielle, Economie et capitalisme, 3 tomes, 1980.
36 - Braudel (F) : Le monde actuel et les grandes civilisations du monde actuel, Belin, 1960.
37 - Braudel (F) : Ecrits sur l’histoire, Flammarion.
 
 
 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟