إنجيل يهوذا الإسخريوطي - د. عزالدين عناية

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أنفاسالأدب الإنجيلي ونشأة النص المقدّس:
خلال القرون المسيحية الأولى، شاع في فلسطين وما جاورها تقليد كتابة دينية روحية، ذو طابع عرفاني، نُعت لاحقا بالأدب الإنجيلي، والكلمة -إنجيل- في أصلها اليوناني، معناها البشارة والخبر السار. ومنذ ما يزيد عن سبعة عشر قرنا، اندثر نص من ذلك الأدب، منسوب للحواري يهوذا سمعان الإسخريوطي، ضمن حملة إتلاف منظَّمة للمؤلفات، التي لم تحز مباركة الساهرين على الجماعة المسيحية الناشئة. كما ساهمت عوامل أخرى في اختفاء عديد النصوص، جراء قسوة المطاردة الرومانية لأتباع المسيحية الأوائل، وما صاحبها من تستر وتقيّة. فقد كانت حقبة القرون المبكرة حرجة على أتباع السيد المسيح، حتى عرفت في التاريخ الكنسي بـ"عصر الشهداء"، لكثرة ما سقط فيها من ضحايا. تضافرت تلك العوامل، لتجعل مجمل الأخبار المروية عن إنجيل يهوذا سمعان الإسخريوطي، الحواري الذي يعنينا هنا، واردة عن خصومه.
فقد أدرك آباء الكنيسة، منذ البداية، خطورة إشكالية تعدد الأناجيل. جرت محاولات للخروج من المأزق، سواء عبر إضفاء صدقية عن بعضها ونزعها عن غيرها، أو عبر محاولات صياغة أسفار موحدة مستخلصة من النصوص الحائزة على شرعية، كالذي قام به السوري ططيانس حوالي 175م، مع ما عرف بسفر الدياتسرون-Diatearon-، أو الرباعية، بحسب الترجمة الحرفية للكلمة اليونانية، وهو أول ملخص يقدّم الأناجيل الأربعة ضمن رواية موحدة غير مجزأة.
فمنذ تحول الإنجيل إلى أناجيل، وما رافقه من يأس للعثور على الإنجيل الكامن خلف الأناجيل، دخلت المسيحية في إشكالية بشأن مشروعية النص المقدس ومصداقيته، فأي النصوص يحوز تلك الأصالة، أو بتعبير كنسي القانونية.
ربما تستدعي المسألة عودة للأصول، للبدايات، لتطارح أسئلة بشأن علاقة المسيح (ع) بالإنجيل، من حيث كتابته من عدمه، خاصة وأن كتابة النصوص المقدّسة غالبا ما أهملها أصحابها وشغلت الأتباع، وضمن أية علاقة جدلية تنزّل النص وحيا أم إلهاما؟ ففي الفهم السائد بين أتباع المسيحية اليوم، يُعتقد أن العهد الجديد وما تضمنه من أناجيل ورسائل، كتبها الله عبر مؤلفين بشر. لذلك يسود الاعتقاد أن النص مشترك البناء، بين ملهِم إلهي ومحرّر بشري، توسط بينهما الروح القدس، صاغه المدون بأسلوبه ولغته وتعبيراته. وقلّ من المسيحيين من يعتقد أن النص موحى مبنى ومعنى، إلا بعض النحل الأصولية، كشأن بعض الفرق البروتستانتية الأمريكية. فقد صار ذلك من الخرافات التي لا يصدقها طالب مبتدئ في الدراسات الدينية المقارنة.

يبيّن اللاهوتي الشمال إفريقي، القديس أوغسطين (354 ـ 430م)، في مؤلفه: ـ De consensus evangelistarum ـ (400م)، أن صياغة الأناجيل تعكس في مجملها ذكريات عامة، أكثر من كونها نظاما تاريخيا متناسقا وصارما، وأن أقوال المسيح ليست منقولة حرفيا دائما، بل مصوغة بعناية لحفظ المعنى فحسب.
وقبل الخوض في المسألة المتعلقة بالحواري يهوذا سمعان الإسخريوطي، نشير إلى بعض الأمور ذات الصلة بموضوعنا، فالمسيح (ع) ما تكلم العبرية ولا اليونانية، أثناء التبشير بدعوته، بل كان خطابه بالآرامية والكتاب الذي أوتي بتلك اللغة، بيْد أن ما تعود إليه المسيحية اليوم من نص مقدس، فهو ترجمة يونانية أُثبِتت قانونيتها بعد مداولات بين 150 و200م، وأن الترجمات الحديثة منحدرة من النص اليوناني وليس لها صلة بلسان المسيح وكلامه.
فقد كشَف نقد المصادر عن حضور عديد العناصر في الأناجيل، ذات الخاصيات الآرامية خلف تلك الإغريقية. كان من رواد هذا الحقل ج. دالمان  G. Dalman (1855ـ 1941م)، وهو من الدارسين الكبار للآرامية. فقد عرض الباحث موقفا متحفظا لما يتعلق بالتأثير الآرامي في العهد الجديد، وكان كتابه البالغ الأهمية في الموضوع: ـ Die Worte Jesus ـ (1898)، الذي بين فيه يقينا، أن اللغة التي تكلم بها المسيح (ع) مع تلاميذه كانت الآرامية، وحتى وإن بدت غير مستحيلة فرضية أصالة الآرامية التي نبعت منها الأناجيل، فإن ألفاظ المسيح المنقولة عبرها تعرض دون أدنى ريب ذلك التأثير الآرامي.
والنقد التاريخي للعهد الجديد، يثبت يقينا ألا وجود لشاهد عيان لمن كتبوا الأناجيل الشائعة بيننا اليوم، كما أن كتابها لا يرتقون إلى درجة الحواريين ولا إلى درجة أتباعهم، بل إن أقصى ما يمكن نعتهم به هو أتباع التابعين.
إنجيل المسيح المتواري خلف الأناجيل القانونية والمنتحَلة
تندرج الأناجيل الحالية: مرقس (كتِب بين 65 و 70م)، ومتى (كتِب بعد سنة 70م)، ولوقا (بين 80 و85 م)، ويوحنا (بين 65 و 90م)، ضمن كتابة أدبية تشبه المذكرات، تَلَت مرحلة البشارة الشفهية، التي سادت خلال عقود المسيحية الأولى، كما استمرت لاحقا عبر الأمثولة والأرجوزة. لذلك ليست الأناجيل الحالية عملا فريدا بل رواية من جملة مئات الروايات الشائعة، أسدلت عليها صبغة القانونية لتوفُّر معايير قبول فيها دون غيرها.
في مقابل القانونية وضعت المنحولة (الأبوكريفية)، التي لم تنل الاعتراف الكنسي. كان ذلك بعد عملية تصفية دقيقة، قدر فيها أن الأناجيل الأربعة: متى ومرقس ولوقا ويوحنا الأقرب من غيرها للتعبير عن فلسفة الجماعة المسيحية النافذة. وأبعدت مجموعة أخرى من النصوص والقصائد المنسوبة ليسوع والحواريين، اعتبرت في عداد الباطنية والمنتحلة، فاق عددها بحسب التقديرات مائة نص. العديد منها، 52 مخطوطة وجدت محفوظة في جرار، اكتشفت خلال سنة 1945 في نجع حمادي بمصر، وهي وثائق تعود لبداية القرن الرابع الميلادي، من بينها إنجيل توما وإنجيل فيليبس. وكذلك مكتشفات لفائف البحر الميت التي عثر عليها بين سنوات 1947 و1957 في المغارات الجبلية الواقعة بمناطق قمران (عمران) ومربعات وخربة ميرد وعين جدي ومسادا، وهي وثائق تعود إلى فترة ما بين القرن الثاني قبل الميلاد ومنتصف القرن الميلادي الأول. منها: إنجيل العبرانيين، وإنجيل المصريين، وإنجيل بطرس، وإنجيل الطفولة لتوما، وإنجيل الأقوال، والإنجيل الغنوصي لمرقس، وإنجيل فيليبس، وإنجيل الطفولة، وإنجيل مرقيون، الذي يلح على ضرورة الانفصال عن شريعة العهد القديم، وإنجيل الأبيونيين، الشبيه بإنجيل متّى من حيث صلته بالمفاهيم الدينية العبرانية، وهو يأتي على خلاف إنجيل مرقيون، لما يقف عليه من مضادة في طروحاته، من خلال الدعوة للتواصل عقديا وتشريعيا مع العهد القديم، وتجلى ذلك في احترام السبت والدعوة لمواصلة سنة الختان. وأخرى مثل، قصة يوسف النجار، وانتقال مريم، وإنجيل برنابا، الذي عثر على إعادة كتابة له، تعود للقرن السادس عشر الميلادي، ولم يعثر بعد على النص الأصلي. وربما أخطر الأناجيل على الكنيسة الثالوثية هو إنجيل أريوس الموحّد، والذي أعدم ذكره لما مثله من ثورة جذرية على مفهوم التثليث.
فالعهد الجديد كنص مسيَّج، مرّ بعديد التطورات تعلقت بمتنه، ولم يرس على شكله الحالي إلا خلال مجمع ترنتو 1545م، حيث حددت الكنيسة الكاثوليكية جردا نهائيا للكتب المقبولة من المرفوضة وأطلقت عليها اسم القانونية.
هل يهوذا سمعان الإسخريوطي بريء من خيانة المسيح (ع)؟
يُعرَض الحواري يهوذا سمعان الإسخريوطي في التصور المسيحي، على أساس كونه الشخص المقرّب من المسيح، الذي أنيطت به مهمة العناية بالخزينة المالية للحواريين، لذلك عدّت خيانته المدّعاة من المآثم الكبرى. وإن كان الحواريون الآخرون من الجليل، مثل المسيح، الذي ولِد في بيت لحم ونشأ في الناصرة، فإن يهوذا سمعان من منطقة يهوذا. أما لقب الإسخريوطي، فهو مركّب من كلمتين، تعني البداية: إنسان، شخص؛ والثانية: قريوت، وهي نعت لقرية، في مرتفعات يهوذا. والأقرب أن يكون اللقب، على ما ذكر المؤرخ كمال سليمان الصليبي في كتابه: "البحث عن يسوع"، القريوتي أو القرياتي لا الإسخريوطي. حاز يهوذا في التصور الكاثوليكي أساسا صورة قاتمة، نجد دانتي أليغياري ابن الثقافة الكاثوليكية، يضعه في الكانتو XXXIV، في الدرك الأسفل من جحيمه. وقد عملت الكنيسة في الغرب على تعميق كرهه، حتى أن الكلاب لا يسمونها باسمه، وبلغ حد مقته في ألمانيا أن تسمية المولود الجديد بيهوذا تعد مخالفة للقانون.
ويهوذا الذي يعنينا هنا، كان الرفض لما ينسب إليه من مذكّرات مبكرا، فخلال سنة 180م، كتب أحد آباء الكنيسة، المسمى إيرينيوس (وُلد ما بين عامي 115 ـ 120م)، والذي يعود أصله إلي أزمير بتركيا، نصا بعنوان: ضد الهرطقات Adversus Haereses، انتقد فيه عدة أسفار، تخالف مقولات الكنيسة البدئية، بشأن سيرة المسيح (ع) ودعوته. كان إيرينيوس ممن كلِف بالتبشير في منطقة فرنسا حاليا، التابعة حينئذ لبلاد الغال الرومانية. منذ عهده انطلقت محاربة الروايات الإنجيلية الخارجة عن الخط الآبائي بشتى السبل، لغرض إشاعة الرواية المرضي عنها، باعتبار الأناجيل في بداية منشئها مذكرات، شاع تقليد تدوينها بين الأتباع والمؤمنين، كل على شاكلته وهواه.
لذلك لاقت الأناجيل المنعوتة بالأبوكريفية، أي المنحرفة أو الباطنية، والتي في الحقيقة لم تلاق قبولا، طمسا لمقولاتها وإتلافا لها، من طرف الساعين لإرساء تنظيم في فوضى المذكرات ـ البشارات ـ المنتشرة.
فمثلا بحسب رواية إيرينيوس، في مؤلفه ضد الهرطقات، استعمل إنجيل يهوذا، المسمى في النسخة اللاتينية بـ: Peuaggelion Nioudas، من طرف مجموعة غنوصية تدعي أن العالم لم يخلق من طرف الإله الواحد الحق، بل من آلهة ثانوية، هي آلهة العهد القديم، التي ينبغي ألا يُهتدى بها وألا تتّبع. وتدعيما لتلك الصورة المقيتة، ينعت الأب إيرينيوس أتباع يهوذا الإسخريوطي بـ"القابيليين"، نسبة إلى قابيل قاتل هابيل، إمعانا في تشويههم. ولابد من الأخذ بعين الاعتبار قرون المسيحية الأولى الحرجة، وهي فترة كانت فيها الكنيسة البدئية، تبحث عن بلورة خصوصياتها وصياغة تعاليمها، بين حدي ضغطين: تربص من الحاكم الروماني، استمر حتى إصدار المرسوم المعروف بقرار قسطنطين سنة 313م، القاضي بالاعتراف بالمسيحية ديانة في الإمبراطورية؛ ونفور ديني من كهنة الديانة اليهودية، الذين يتربعون على التراث التوحيدي.
يلخص ف. ك بورF. C. Baur  (1792-1860) منظّر مدرسة توبنغن، وأحد أهم دارسي العهد الجديد في القرن XVIII، الذي يعود له الفضل في دفع نقد العهد الجديد إلى مستوى يتميز بالطابع العلمي ـ تاريخَ المسيحيةَ، من سنة 40 إلى 160م، ضمن سياق هيغلي، باعتباره تاريخ توتر وصراع، اختُتِم بمصالحة. فقد كان صراع المعارضة التحررية البولسية، برسالتها المنعتقة والمتملصة من الشريعة والداعية في الآن نفسه لكونية الرسالة الكنسية، على تناقض مع تشدد التشريع اليهودي المتبني من طرف الحواريين الأوائل بزعامة بطرس، عبر التأكيد على التعاليم اليهودية. من هذا التعارض بين الأطروحات، ظهرت الكنيسة الكاثوليكية وتشريع العهد الجديد اللذان ألغيا أي خلاف، ووضعا في نفس المستوى بطرس وبولس. كان مسرح هذا التركيب القرن الثاني، حيث تقلص العداء واستعيض عنه بتهديد مشترك من الغنوصية.
الإنجيل الذي يشغلنا في هذه المقالة، والذي سال حبر غزير بشأنه في الفترة الأخيرة، منسوب للحواري يهوذا سمعان الإسخريوطي، في تسع صفحات، وقد عثر عليه مع مخطوطة ضمت 66 صفحة، متكونة من رؤيا يعقوب، وخطاب من بطرس لفيلبس ووثائق أخرى. كان العثور على تلك الوثائق في بني مزار بالمنيا عام 1970، ثم توارت البرديات بين سماسرة المخطوطات والمؤلفات النادرة، بعد رحلة قطعتها من صحارى مصر حتى أوروبا وأمريكا. (يمكن الاطلاع على قصة الإنجيل المنسوب ليهوذا ضمن مؤلف:
Il Vangelo perduto, Herbert Krosney. National Geographic ـ Grupo Editoriale, L'Espreo, Roma, 2006 .
وقد تولى تحقيق الإنجيل المذكور وترجمته فريق متكون من: تيم جول، مدير مؤسسة العلوم الوطنية بأريزونا، وماس سبيكترو، الخبير في استعمال الكربون 14، لتحديد تاريخ كتابة النص، والأستاذ ستيفن إيـمِل، المختصّ في اللغة القبطية بجامعة مونستر بألمانيا. ويشير تحليل البرديات المدوّن عليها النص، بالقبطية الأخميمية (أخميم بلدة بمحافظة سوهاج بصعيد مصر) بأحرف لاتينية، أن تاريخ التدوين يتراوح بين 220 و 340م. والنص منسوب ليهوذا الحواري، والراجح أنه لأحد أتباعه، ولم يقطع الشك باليقين من حيث نسبته للحواري المذكور من عدمه، لذلك يبقى احتمال نقله عن نسخة أخرى تعود ليهوذا واردا.
في حقيقة الأمر، بعد اطلاعنا على هذا الإنجيل في ترجمته الإيطالية التي قام بها أنريكو لافانيو، والمنشورة ضمن كتاب: Il vangelo di Giuda, National Geographic, Italia 2006، الذي أعده كل من رودولف كاسير ومارفين ماير وغريغور وورست تبينت لنا بعض الملاحظات، منها: أن النص المنسوب ليهوذا، يتميز بالاختصار الشديد والإيجاز المفرط، نُرجع سببه لعديد الفراغات التي ألمت بالمخطوطة لا إلى طبيعة النص. كما أن السفر لا يرقى إلى مستوى الأدب البِشاري الذي صيغ في الأناجيل الأربعة، وما حوته من عمق روحي ودقة في العبارة. إضافة، أن النص يعبر عن رؤية باطنية نحلية لا تنفتح على عموم المؤمنين، وأن انتماءه للقرنين الثالث والرابع الميلاديين، فيه ما يدل على معاصرته لحقبة الاضطهاد التي ألمت بالمصريين بسبب عسف الأباطرة الرومان، والتي راح ضحية فيها عديد منهم، جراء اعتناقهم المسيحية التي بشر بها القديس مرقس. دفع الاضطهاد الروماني حينئذ إلى انبعاث حركة رهبنة متخفية توارت في الكهوف، حفاظا على الدين، والمخطوط الذي عثر عليه والمنسوب ليهوذا فيه من الدلالات القوية على احتمال انتسابه لتلك الفترة. وما دفع بنسبته إلى الحواري يهوذا، الموقف الإيجابي منه، المستمد من مقطوعة وردت بالنص، خاطب فيها المسيح (ع) يهوذا بقوله: ستسمو فوق الجميع، لأنك ستضحي بالإنسان الذي يخفيني، بعكس الموقف السلبي الشائع عنه، وهو ما لا يثبت حقا نسبته ليهوذا. إضافة أن الأسلوب الذي روجت به مجلة "ناشيونال جيوغرافيك" الأمريكية للإنجيل اعتمد أسلوب الإثارة الصحفية، وابتعد عن الرصانة العلمية المعهودة مع وثائق بالغة الأهمية في التراث الإنساني، كما سيطر الطابع التجاري لا العلمي على عملية الترويج، بدعوى أن الإنجيل سيخلق أزمة لاهوتية للمسيحية السائدة، متناقلة الخبر، على إثر انطلاق حملة التسويق له، أغلب الصحف الغربية.
يهوذا.. جرّاء خيانته كان الخلاص!؟
يثير الإنجيل المكتشف عديد المسائل التي تتناقض مع الأناجيل الأربعة الشائعة حاليا. منها نفي تهمة خيانة الحواري يهوذا الرائجة، بجلب حرس الرومان للمسيح لمعقله والقبض عليه، وكون المسألة لا تزيد عن قيامه بالفعلة تلبية لرغبة المسيح ذاته للقبض عليه، لإنهاء حالة المطاردة التي ترهقه، وإن ظهر يهوذا في الأناجيل القانونية، متى ومرقس ولوقا ويوحنا، على هيئة الخائن الشرير، حيث يعرضه متى، الذي ذكره في إنجيله أربع مرات، يقترف فعلته تحت غواية المال، التي استلم فيها ثلاثين دينارا من الفضة. والحال أن قصة الثلاثين من الفضة مستوحاة من كلام للنبي زكرياء (ع) في سفره في العهد القديم، مروي على لسان المسيح الموعود "فوزنوا أجرتي ثلاثين من الفضة" (سفر زكرياء11: 12). كما تسترسل القصة لتروي ندم يهوذا، الذي انتهت به الحسرة إلى قتل نفسه. حكى متى القصة في إنجيله (26: 14 ـ 25) حينئذ ذهب واحد من الاثني عشر الذي يدعى يهوذا الإسخريوطي إلى رؤساء الكهنة وقال ماذا تريدون أن تعطوني وأنا أسلمه إليكم. فجعلوا له ثلاثين من الفضة، ومن ذلك الوقت كان يطلب فرصة ليسلمه... ولما كان المساء اتكأ مع الاثني عشر. وفيما هم يأكلون قال: الحق أقول لكم إن واحدا منكم يسلمني. فحزنوا جدا وابتدأ كل واحد منهم يقول له: هل أنا هو يا رب؟ فأجاب وقال: الذي يغمس يده معي في الصفحة هو يسلمني. إن ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه، ولكن ويل لذلك الرجل الذي يسلم ابن الإنسان. كان خيرا لذلك لو لم يولد. فأجاب يهوذا مسلِّمه وقال: هل أنا هو يا سيدي. قال له: أنت قلت. في حين يذهب لوقا، الذي ذكره أربع مرات أيضا، إلى أن الشيطان هو الذي أوحى ليهوذا بفعلته النكراء. وأما مرقس، فشبه كبير في روايته بما ذكر لدى متى. وفي إنجيل يوحنا نعت ليهوذا بكونه الشيطان، علما بأن كتبة الأناجيل الأربعة ليسوا من حواريي المسيح (ع).
ولكن الرواية الواردة في الأناجيل القانونية بشأن الحواري يهوذا الإسخريوطي تحمل في طياتها عديد التناقضات للعين الفاحصة، فمن جانب كان يسوع يعرف مصيره المحتوم، وهو ميت لا محالة بحسب الإرادة الإلهية لتخليص البشر، ومن جانب آخر هناك تحميل يهوذا مسؤولية موته. ولذلك يطرح التساؤل المنطقي، أولم يعبر يهوذا عن الإرادة الإلهية عبر عملية الخيانة، وساهم فعلا في تخليص البشر من خطيئتهم عبر عملية التكفير الجارية من خلال موت المسيح؟. يقول المؤرخ اللبناني كمال سليمان الصليبي في كتابه: "البحث عن يسوع" إن خيانة يهوذا الإسخريوطي ليسوع ـ وهي التي تتفق عليها الأناجيل الأربعة ـ فيها نظر، لكونها غير مقنعة أساسا. ويواصل الصليبي قوله، ذاكرا أن رؤساء الكهنة اليهود لم يكونوا بحاجة إلى خائن من بين تلاميذ يسوع ليتمكّنوا من القبض عليه. وهو الذي دخل أورشليم علانية، فلاقته الجموع من أنصاره هناك بالهتافات لابن داود و ملك إسرائيل . والتصرفات التي قام بها يسوع بعد ذلك في هيكل أورشليم ـ وهو الذي كان اليهود وغير اليهود من الإسرائيليين، ما عدا السامريين وحدهم، يجتمعون فيه للعبادة أو للتشاور في الأمور العامة ـ كانت أيضا علانية. ولعل رؤساء الكهنة اليهود، لم يحاولوا القبض على يسوع داخل الهيكل لمجرد الخوف من الاصطدام بأنصاره هناك، ولذلك تحينوا الفرصة للقبض عليه خارج الهيكل (ص: 90).
فما يرد في الأناجيل الأربعة يتناقض مع ما يرد في النص المكتشف ـ صحت نسبته إلى يهوذا أم لم تصح ـ، حيث يطلب المسيح من يهوذا تسليمه لقاتليه حتى يحرّر روحه من سجن الجسد. فقد جاء في إنجيل يهوذا على لسان المسيح (ع): ستسمو فوق الجميع، لأنك ستضحي بالإنسان الذي يخفيني. والملاحظ أن لفظ الخيانة المتكرر في ترجمات الأناجيل الأربعة الحالية، والوارد باللفظة اليونانية "parad domi" يعني التسليم والإيداع لا أكثر.
والنص الوارد في إنجيل مرقس 14: 48 ـ 49 على لسان المسيح (ع) "كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصي لتأخذوني. كل يوم كنت معكم في الهيكل... ولم تمسكوني". من هذا النص يتبين أن الخيانة ما كان لها بد للقبض عليه، لكن الأناجيل الأربعة تلح على تلك الخيانة. أكثر ما يقلق الكنيسة اليوم في هذه الاكتشافات، أن الأرثوذكسية التي صاغت النص المشروع، تخشى عودة ما أعدمته الرقابة خلال القرون الأولى، من نصوص مغايرة اعتُبِرت غنوصية أو منحولة، لتثير تشككات وتساؤلات جديدة حول النصوص القانونية، من حيث روايتها للحدث المسيحي المبكر. فقد كان الغنوصيون والنحليون معروفين فقط من روايات خصومهم، ولكن بعد اكتشافات مكتبة نجع حمادي، ولفائف البحر الميت، ووثائق المنيا الأخيرة، بدأت المسائل تطرح بشكل مغاير.
د. عزالدين عناية
أستاذ بجامعة لاسابيينسا بروما

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟