اللغة العربية: تاريخ ومسارات*- ذ.ثريا خربوش

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاس1.  اللغة العربية عبر العصور
سنحاول تتبع مسارات اللغة العربية من خلال كتاب: دراسات في اللغة واللهجات والأساليب1. ونسعى بذلك إلى تقديم جوانب من تاريخها. نبدأ الرصد من خلال العصر الأموي، نليه العصر العباسي،و بما تفرع عنه من مراحل اقترنت بالخلفاء من أمثال هارون الرشيد و المأمون والمعتصم والمتوكل، ثم عهد الأتراك، بعد ذلك زمن الانحلال الذي بدأ منذ القرن العاشر الميلادي، واستمر إلى عهد الانهيار التام، ونختم باستنتاجات.
1.1 .العربية في عصر الأمويين
بدأ العصر بوفاة الرسول (ص) (11 ه-632 م)، وهجرة القبائل العربية إلى مناطق مختلفة في العالم، وبروز عوامل الاختلاط والمواقف الجديدة من العربية وحركة مقاومة اللحن.
هاجرت القبائل العربية إلى الشمال (من فلسطين وسوريا وما بين النهرين حتى جبال طورس وجبال أرمينيا)، وشرقاً (عبر العراق إلى إيران)، وغرباً (عبر شبه جزيرة سيناء إلى مصر وشمال إفريقيا)، ثم إلى سفوح البرانس في المغرب، وأواسط آسيا على شواطئ الهند في المشرق. ولقد ترتب عن هجرة العرب عوامل ومظاهر يُمكن إجمالها في  ما يلي:
الاختلاط وأثره على العربية؛
موقف العرب والموالي من العربية؛
شيوع اللحن ومقاومته وتأثيره السلبي على تاريخ الرواية.
اختلط العرب بغير العرب عن طريق الخدمة في الجيش والتجارة والبيوت والزواج الذي شمل زواج الأسياد أنفسهم بغير العربيات، وشغل الأبناء من أصل غير عربي مناصب رفيعة في المجتمع2.
احتكت العربية بلغات مختلفة كالقبطية في مصر والآرامية في سورية والفارسية في فارس3. وظهر، بفعل تكلم الموالي للعربية، لغة شبيهة بما يُسمى اليوم باللغة المشتركة : lingua franca أو pidgin english: اللغة المعتمدة على وسائل بسيطة متحررة من القيود الصوتية والتركيبية والمعجمية والنحوية (الإعراب).4 ومازال تأثر العربية بالفارسية ظاهراً في عدد من الأسماء المنسوبة إلى البصرة المنتهية بالمقطع –آن، وأشهرها في الأمكنة رباط عبّادان (ومنها كذلك: مهلّبان وأميّتان ومهلّبان وجعفران وعبد الرحمنان وعبيدا للان، ومن أسماء القنوات خالدان وطلحتان).
كان عبدالله بن زياد ينطق الحاء هاءاً والقاف كافاً، و؛حُكي أنه قال: " است أرض"  في أرض، و" افتحوا سيوفكم"  في سلوا سيوفكم.5 وكان الكوفيون يقولون في مجذوم " يِدِي"  وفي سوق " وازار"  (بزار في الإيرانية الحديثة)، واستعمل المدنيون لفظ  "روذق "  (طائر يُسلق ويُنتف ريشه قبل قليه) في السمط و "أشرنج " في شطرنج، و "ممزوج "  في ممصوص، جرياً على نطق الفارسيين الصاد زاياً.6
إلا أن ما تناقلته الروايات من تأثر العربية باللغات الأخرى (الفارسية، خصوصاً) في العهد الأموي لم يكن سوى حالة احتكاك طبيعي ، إذ ظلت العربية قوية. وظل الخلفاء يدعمونها، ويُشجعون تطورها، بل كانوا، هم أنفسهم، بلغاء وأصحاب مقدرة خطابية.
نبغ الشعراء والأدباء في اللغة، ونظموا الشعر بعربية متطورة متماسكة، وأقبل الموالي، بدافع الرغبة في التقدم، على تعلم العربية وإتقانها، فظهر منهم قراء وفقهاء وشعراء.7-
لكن اللحن شاع وساد، ولم يقتصر على الموالي دون العرب، بل شمل كل الأوساط. وانعكس الوعي بخطورته في صناعة أبي الأسود الدؤلي والخليل بن أحمد الفراهيدي لعلم النحو.8
كان الموالي يُخطئون في الإعراب ونطق حروف مثل الحاء والقاف والعين والطاء والصاد والظاء والشين والجيم والخاء. وكان العرب يلحنون في قواعد الجمع والعدد والصيغ ومعاني الألفاظ والتراكيب. وانتشر المُوَّلد في الكلام والكتابة. وقد كانت ظاهرة المولد لهجة لصيقة بالطبقات الدنيا والوسطى البعيدة عن المجتمع الراقي. وإذا كان العرب لم يدونوا اللغة المولدة، فإن مؤلفات النصارى واليهود الذين عاشوا في المشرق تمثل قيمة كبيرة في تاريخ اللغة العربية، لاعتمادها الدارجة العربية أساساً. يظهر ذلك في ترجمة الإنجيل إلى العربية، مثلاً. ويعد من سمات هذه النصوص استعمال الظاء محل الضاد، بعكس اللهجات العربية التي كانت تستبدل الظاء بالضاد.
تولد عن اللحن الدعوة إلى مقاومته بإنشاء حركة التنقية والتصويب وتصحيح اللاحن من الكلام. ويظهر من الروايات عدم موضوعية المصَِّوبين، إذ كان همُّ بعضهم العثور على الأخطاء، وإن اقتضى الأمر تصنّعها، ووصلت هواية التصحيح بالبعض إلى تصويب القرآن نفسه.  ولعل من الدلائل على عدم الموضوعية في الرواية أن النقد كان بحسب الصداقة والعداء. ولذلك تأرجح بين المدح والهجاء. ومما يُذكر مثالا على المبالغة في التصويب تصحيح أبي عمرو بن العلاء الآية 63 من القرآن: إن هذان لساحران.

2.1. العصر العباسي
على الرغم من سقوط الدولة الأموية، فإن العربية ظلت قوية كما كانت. ابتعد العباسيون، بالمقارنة مع الأمويين عن حياة البداوة، وقيم الخشونة والخيام والصحراء. اندمجوا في دوائر المجتمع الإسلامي غير العربي، وحققوا للعناصر الأجنبية المساواة مع العرب.و اعتمدوا، على غرار الأمويين اللغة العربية البدوية التي كانت تُنطق معربة على السليقة، وتمثل العربية الأساس و/أو النموذج.
اشتهر علماء كبار بالفصاحة كابن سعيد المعلم وأبو زيد الأنصاري وخالد بن الحارث وبشر بن المفضل. ولم يكن غريباً في ظل عصر الازدهار، وولع غير العرب بالعربية بروز علماء فارسيين من حجم سيبوبه وبشار بن برد وابن المقفع في طليعة الثقافة العربية العظيمة. وضع سيبوبه للعربية قواعد شاملة اعتمد فيها على عربة سليمة من المولّد، وآذن أسلوب ابن المقفع في النثر وبشار بن برد ببزوغ عهد جديد في العربية اتسم بالبساطة والشفافية والأناقة والتجديد في العبارات والألفاظ والتراكيب إلى حد توظيف اللغة الشعبية الدارجة.
وترتب عن حب العربية وطلب فصاحتها استمرار محاربة اللحن التي ابتدأت مع الأمويين. غير أن تلحين العباسيين وتصويبهم صار على درب الأمويين في عدم الموضوعية ونسبة اللحن بحق أو غير حق تعصباً لمدرسة البصرة، خصوصاً. فقد كان علماء البصرة يعتبرون غيرهم من الكوفيين مفسدين للنحو، كما كانوا ينعتون الرواة بالمصحفين والكاذبين واللاحنين والمكسرين لأوزان العروض.
لم يقتصر تصويب اللحن على طبقة دون أخرى، شمل الرواة والشعراء والفقهاء والمحدثين. وكان عبارة عن جدل عقيم حول معاني الألفاظ وتبادل الاتهامات بالخطأ بين الخصوم، وغير ذلك من القضايا التي وصلت إلى صنع الأحاديث ونسبتها إلى الرسول (ص). ومنها: " أرشدوا أخاكم فقد ظل" ، و"أنا أفصح العرب"، و"أنا أفصح من نطق بالضاد"، و"أنا من قريش ونشأت في بني ساعدة فأنى لي اللحن؟
1.2.1. اللغة العربية في عهد هارون الرشيد
بلغت الدولة العباسية في عهد هارون الرشيد ذروة المجد والسلطان، وعرفت الثقافة ازدهاراً كبيراً بفصل الثراء والتقدم، ونبغت اللغة العربية في انتقاء الألفاظ وتفسير المعاني نبوغاً عظيماً. وعرف العصر، فيما يظهر من استقراء الروايات، التمييز بين عربية المدن التي تتسم باللحن، وعربية الأعراب اللازمة للإعراب.9 وبرزت ظاهرة تضارب آراء العلماء اللغة وعظمائها من مثل أبي عبيدة والأصمعي. فقد أنكر الأعرابي الكوفي ( 150 ه- 231 ه ) أن ألف حالة مما اعتبرها الأصمعي لحناً عربية أعرابية صحيحة. وأشارت الأخبار إلى أن الأعرابي الكوفي لم يفهم كثيراً من الألفاظ الغريبة في شعر الطرماح، وأن أبا عبيدة كان يستغرب كلام بعض البدو الفصحاء.10
بلغت حركة مقاومة اللحن في هذا العهد أعلى درجات نضجها، يظهر ذلك من تأليف الكسائي كتاباً سماه لحن العامة. و لم يكن يسلم من التصويب علماء اللغة كالكسائي نفسه، وأصحاب الشعر الرفيع كأبي نواس والسيد الحميري وإبراهيم الموصلي ومسلم بن الوليد وأبي النضير ومحمد بن يسير البصري وغيرهم.
2.2.1. اللغة العربية في عهد المأمون
ندين في معرفة الوضع اللغوي على عهد المأمون إلى الجاحظ ( 165 ه–255 ه) في كتابه البيان والتبيين. فقد تحدث عن أنواع من الظواهر اللغوية، وأنماط من اللحن واللغات، وميز بين لغة الإعراب المرتبطة بالأوساط العلمية ولغة التحرر من الإعراب التي تطبع أوساط العوام من الناس. أشار إلى لغة الأطفال والحرفيين والأطباء واللصوص والمحتالين، كما تحدث عن ظواهر الثأثأة ( تلعثم اللسان في نطق الثاء ) والفأفأة ( صعوبة نطق الفاء ) واللف (إدخال الكلام بعضه في بعض) والحبسة (ثقل الكلام على اللسان) والنحنحة والسعلة والحلكة والعي (صعوبة النطق بسبب تنافر الحروف). ذكر نطق الأنباط للزاي سيناً، والعين همزة، وقلب الصقالبة الذال دالاً، وتحويل الهنود الجيم زاياً، كما حدد مواطن امتزاج العربية بالفارسية في الكلام والشعر، وشبه كلام الزنوج بالدمدمة والهمهمة، ووصف لكنة اللسان ولثغته وعجمته، وعرض ألواناً من اللحن في الصوت والقواعد والنحو والصرف والألفاظ والأساليب، وتكلم عن ظاهرة محاكاة العرب للأعراب، حيث نعت لغة المضاهاة بالاصطناع، واعتماد الجهر المستكره ( تفخيم حروف الحلق) والتقعير ( إخراج الحروف من الحلق ) والتشدّق والتشادق، ويقصد به (التكلم من زاوية الفم، واستعمال الإعراب خارج المحيط العلمي، واستعمال الهمز في محله وغير محله).
ويُستفاد من الروايات أن لغة الأعراب أصبحت موضع نقد صريح، وأشهر الأخبار في هذا الباب تلك التي تُميز بين نحو نحاة البصرة، باعتباره يعتمد لغة البدو الخُلّص ( الذين كانو يُصفون ب "حرشة الضِّباب وأكلة اليرابيع") ونحو نحاة الكوفة المكوّن من لغة "أشباه الأعراب" أو "أنصافهم: ( من وصُفوا ب" أصحاب الكواميخ" أي المشهيات، و"الشوازير": المخلّلات واللبن الرائب). قال العالم البصري أبو الفضل الرياشي أن عمارة بن عقيل (أحد حفدة جرير) الذي كان يُعتبر حجة في اللغة ويسكن سهول البصرة، جمع ريحا من روح على " أرياح "، والصواب أرواح، وجعل  "خيول"  محل خيل، وعامل همزة القطع في ابن على أنها ثابتة، وقرأ الآية أربعين من سورة يس: ولا الليل سابق النهارَ والصواب: ولا الليلُ سابق النهارِ.
وأوخذ على أصحاب الشعر الرفيع كأبي تمام استعمال الغريب المهجور، والانحدار إلى السوقي المبتذل، وجرأته في الحديث (استعارة) عن "الهموم يكاد الدهر يتصدع منها"، و"مشيب الفؤاد"، و"ماء الملام"، كما عيب عليه استعمال ألفاظ قبيلته طيئ، ومنها " ذو" في "الذي" و"واطأدت "عوض "اتطدت من وطد".
وتأثر شعر المناسبات بالدارجة والأخطاء. فقد كان ابن زبيب المراكبي يستعمل بقي بإشباع كسرة القاف بدلا من الياء، والصواب الإشباع بالضمة، وكان الجمّاز البصري يصوغ من قرأ: " تقرّيت " و "تقرّى " و "قراة "، وعيب على عبد الصمد المتوفي في 240 ه "  البصِرة " (بكسر الصاد ) في البصرة.
إن ما تفيده كتب الجاحظ عن هذا العهد اقتصار الفصاحة على قلة من البلغاء والعلماء، بينما دخل اللحن عالم المثقفين، بدليل ظهوره في لغة الكتابة. فقد كتب إسحاق بن إبراهيم المصعبي إلى المأمون:" وهذا المال مالاً يجب على فلان"، 11وعجز الفضل بن مروان الذي تولى وزارة المعتصم شرح عبارة " الكلأ"  في التعبير: مطرت مطراً كثُر منه الكلأ.
3.2.1. العربية في عهد المعتصم والمتوكل
واشتهر المعتصم ( القرن الثالث الهجري / التاسع الميلادي ) بمستوى ثقافي بسيط. وفي عهده وصل الأتراك إلى مراتب رفيعة في الجيش والحراسة الخاصة، وبدأ مع إدارتهم عصر الانحلال في تاريخ اللغة العربية بالعودة إلى المذهب السني المحافظ (235 ه – 749 م )، وسيادة الحكم العسكري على يد أمير الأمراء الرائق (324 ه – 936 م ).12 ولما تولى المتوكل الحكم، حاول استرجاع الوحدة، وجمع شتات الدولة التي فُككت إلى عشر دُويلات، إلا أن توقف بغداد عن إمداده بالأموال حال بينه وذلك.
تمثل الانحلال اللغوي في انحباس الفصحى في مجال الأدب، بحيث عُرف العصر في تاريخ اللغة العربية بهيمنة التوليد. كثُر اللحن في كلمة الناطقين باسم القصر، ولغة المثقفين، بل أصبحت لغة النحاة أنفسهم لغة مولدة دارجة. ويشهد على انحطاط الثقافة العربية آنذاك ابن قتيبة ( 213 ه- 276 ه ) في كتابه المعرفة، حيث أشار إلى عدم دعم الملوك الثقافةَ والعلمَ، وإهمال العلماء النحو والقواعد وعلوم الشريعة والأنساب والتاريخ. صحيح أن ابن قتيبة لم يبلغ مبلغ الجاحظ في تصوير الوضع اللغوي. ولقد انتقد البطليوسي دفاعه عن الأصمعي، وعدم اعتبار تطرف هذا الأخير في تنقية اللغة، وخلطه بين آراء البصريين والكوفيين. إلا أن كتابه، مع ذلك، يعد سِحِلاً في رصد اختلاف المعاني الذي عرفه القرن الثالث الهجري،13 وأنواع اللحن في اللغة والصرف والنحو. وتجدر الإشارة إلى أن ابن قتيبة نفسه  سُجِل عليه الخطأ في القواعد، على غرار شعراء رفيعي المستوى كالبحتري ( 204 ه – 284 ه ) وابن الرومي ( 221 ه – 283 ه ) .
3.1. اللغة العربية في القرن العاشر الميلادي، الرابع الهجري
 مع حلول القرن العاشر الميلادي، الرابع الهجري بدأت قيم البداوة تتلاشى ، بحيث لم تعد عربية البدو مطمح المثقفين، والمثال الذي يُحتذى. كان السبب وراء ذلك حروب القرامطة (277 ه – 799 م). فقد خربوا الأقاليم وشلوا حركة التجارة وسلبوا ونهبوا قوافل الحجاج، وخطفوا الحجر الأسود من حرم الكعبة ( 317 ه – 930 م )، ونعتوا البدو بكونهم غلاظ غير مثقفين ولا مهذبين، ينقضون العهد، ويخونون ويسرقون، وحطوا من شأنهم، وكونرا لدى الرأي العام صورة سيئة عنهم. وبذلك صارت متعة الاستماع إليهم، التي لم تكن تضاهيها متعة، تتدرج في التلاشي إلى أن زالت في القرن الرابع، ليهيمن النقاش العقيم بين المثقفين حول استعمال الغريب : استنكر البعض كونه يُنافي السهولة والرشاقة والخفة والحلاوة وحرية التعبير، واعتبره البعض الآخر ضرورياً.14
حلت الرواية محل الجمع والتدوين، وأصبحت العناية باللغة تستلزم التزام القواعد، ولا أدل على ذلك من الباب الذي يُخصصه ابن جني ( المتوفي سنة 392 ه ) لأغلاط العرب، حيث يتفق مع أستاذه ابن علي الفارسي (288 ه – 337 ه ) في تفسير غلط الأعراب بعدم توفرهم على أصول يُراجعونها وقوانين يعتصمون بها. وكذا أصبح النحاة يُخطئون كلام الأعراب ما لم يُوافق كلام المدن. وعلى الرغم من بروز أساليب مميزة اقترنت بأسماء رجال كالخوارزمي والهمذاني وابن العميد والصاحب بن عباد والإسكافي وغيرهم، فإن الشكوى من انزياح الفصحى كانت عامة. وتورد المؤلفات أنه كان هناك نوعين من اللغة: لغة العلماء والخطباء والحكماء، ولغة النوادر والمضاحك والسفهاء والسخفاء. الأولى لغت تُتعلم، ويُدرب اللسان عليها، والثانية لغة العوام غير المتعلمين. بل تُفيد أحكام المؤلفين أن لغة المثقفين أنفسهم أصبحت تعاني من الجفاف والمزج بين العامي السخيف والغريب الشاذ. 15
وعموماً تميز القرن الرابع الهجري بانضمام اللهجات إلى بعضها البعض في كل إقليم، وأصبحت لهجة كل إقليم مميزة عن لهجة الإقليم الآخر. وترتب عن ذلك تميُز لغة الثقافة في كل إقليم من ناحية الصوت والتركيب والمعجم. وأصبح كل إقليم يُسهم في لغة الأدب الفصحى بطريقته. ويعود صمود وحدة اللغة العربية، ونجانسها، على مستوى العالم العربي، إلى كون الحدود الجغرافية بين الأقاليم لم تحل دون اتصال الأدباء والعلماء في أوائل العصر الوسيط.
صارت الفصحى تتعلم وتكتسب، وصارت الفصاحة مقصورة على النخبة، وتتحدد بعدم الخطأ في النحو والإعراب، وبتجنب استعمال الدارجة. لقد دخل المولد الشعر الرفيع نفسه، ودليل ذلك أن المتنبي (303 ه-354) جمع في شعره "ركبة "على " ركبات"، كما في الدارجة (والصحيح في الفصحى ركبتين)، واستعمل" رؤيا" في الحلم عوض" رؤية"، وقرن أن الناصبة بالمضارع المرفوع، وصاغ من الألوان أفعل في قوله: "أنت أسود في عيني من الظلم"، وجمع" آخاء" بدلاً عن "إخوة"، وسهّل " رؤوس" ، فقال "روس"، ورخم اسم العلم بحذف السين من عمرو بن"حابس"  في "حاب"، واستعمل من الشاذ " التوراب" عوض " التراب"، ومن الغريب وظف " جفخت" في " فخرت".
 لقد كان العصر عهد تجاهل الأخطاء، والعناية بالأسلوب والشرح والتفسير. فدخل الفصحى كلام العوام المتأثر بالفارسية ك "لقلق" في " لقلاق"  و"جلنار"  في رمان و"نمكسون"  في اللحم المملح و" سيكباج"  في اللحم المطبوخ و"دونحباج"  في اللبن الحامض و"زيرباج"  في مرق اللحم و" حركوش"  في أرنب. ودخل في الاستعمالي الأدبي من العامية: "ستِّي"  و" شوش"  في أزعج. وتُرك الهمز في قرآن : "قران"، وأظمأ " اظما"، وبريء "بري". كما تم التخلي عن إعراب أواخر الكلمات.
وصف محمد بن أحمد المقديسي الوضع اللغوي في كتابه أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم. ويعد كتابه من أنضج مؤلفات العصر الإسلامي الوسيط (أكمله في 375 ه-955م) .بين فيه الفروق بين لغة المثقفين من ناحية الأصوات والكلام والمعجم. وميز بين عربية سليمة تنتشر في مناطق من الجزيرة العربية: هذيل ونجد والحجاز، وأخرى وحشية: أصحابها سكان السواحل، متأثرة بالفارسية: توجد على ثغور المدينة، حيث حركة التجارة، ورابعة فاسدة وجميلة: موضعها العراق: فاسدة، لأن بها لحناً، وجميلة للوقع الذي تحدثه على السمع.
4.1. العربية في عهد الأتراك
انتهت دولة العباسيين على يد السلاجقة،( أوائل العصر الإسلامي الوسيط ) وتسلم الأتراك السلطة، وامتد حكمهم من خاراسان إلى سوريا. جعلوا الفارسية لغة الحكم والإدارة ، والعربية لغة الفقه والدين والنحو وعلوم اللغة. وتشهد كتب أبو زكريا التبريزي ( 1030 م – 1109 م ) على أهمية تعلم علوم القرآن والحديث الذي لا يُعرف إلا بعلم الإعراب، كونه يُميز بين الخطأ والصواب، وعلوم اللغة، لأنها تُفسر المجازات والاستعارات. لقد أصبح المتعلمون يحتاجون فهم الفصحى بالشرح والتفسير، وأصبح علماء العصر يعتمدون مؤلفات القدماء، ويُلخصونها للمتعلمين: يُعد من هذا الباب كتاب الجوالقي (466 ه – 539 ه) المعنون بالمعرب، وشرحه لأدب الكاتب لابن قتيبة، كما جاء على لسان بعض النقاد كالبطليوسي.
اشتهر الحريري المتوفي 1122 م ) بتنقية اللغة. ومن كتبه ذرة الغواص في أوهام الخواص: صوب فيه أخطاء الطبقات الرفيعة ممن كان ابن قتيبة قد صححها قبله بقرنيين ونصف القرن من الزمن. ومن تصويباته الأخطاء في الإعراب والصيغ والنحو من جمع وتأنيث وسوء استعمال نعم وبئس وهمزة القطع والوصل وأن المصدرية، وأسماء الآلات والأمكنة والأزمنة وأسماء المرة والهيئة والعدد والاستفهام ومنذ الخاصة بابتداء الزمان ومن المرتبطة بابتداء المكان، وكسر شين شطرنج.
لقد كان الحريري يُصحح أحياناً الصواب بالخطأ. فمثلا قصّر بصُر على البصيرة، مع العلم وجوده بمعنى آخر في قوله تعالى: " فبصُرت به عن جُنُب": القصص آية 11. ثم إنه هو نفسه كان ينزلق في الأخطاء، بما فيها تلك التي نبه إليها.
أورد ابن بري المصري ( 499 ه – 589 ه ) في كتابه الحواشي على الصحاح كثيرا مما خطّأه الحريري. إلا أن تصويباته بدورها كانت ضعيفة. ومنها اعتباره "مخوف" و"مخيف" صحيحتان: الأولى بمعنى الذي حصل منه الخوف، والثانية للخواف. كما أنه يُصوب في كتابه مائة حالة بدون حجة أو استدلال.
وباختصار، ضعُف الإحساس بالفصيح حتى اعتُبر المولد فصيحاً. وضعُفت الرابطة بين البلدان الإسلامية، بسبب الحروب، واستقل كل بلد بلهجة وثقافة خاصة. اقتحم المولد الأدب بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ اللغة العربية، وأصبحت لغة الأدب في كل إقليم ذات طابع محلي خاص. ويكفي دليلاً على ذلك شعر أسامة بن منقذ الفارسي العربي المشهور ( 1090 م – 1188 م ) الذي نظمه عن زعازع استيلاء الصليبيين على بيت القدس سنة 1099 م، واسترجاع صلاح الدين له سنة 1188 م: جاء أسلوبه، في رأي النقاد، مطبوعاً بالطابع المحلي السوري.

5.1. عصر الانحلال التام وبداية النهضة
يمتد هذا العصر بين 1258 م- 1798 م، حيث قضى السيل المغولي على البقية الباقية من مجد الدولة العربية. اكتسح بغداد ( 1258 م )، وأكمل ما بدأه السلاجقة من خيوط الانحلال. حلت مصر محل بغداد، وذلك لسببين: الأول كونها نجت من عاصفة المغول، إذ استطاعت تحت إمرة سلاطين المماليك رد الصليبيين؛ والثاني، الثراء الواسع الذي حققته من تجارتها مع الهند في القرنيين الرابع عشر والخامس عشر الميلادي.
إلا أن البرتغاليين اكتشفوا طريق البحر إلى شرق الهند مما أسهم في إضعاف المصريين، وتمكين العثمانيين من الاستيلاء عليها (1517 م )، وعلى كل العالم الإسلامي، ماعدا مراكش (المغرب).
انطلاقا من هذا التاريخ دخل العرب أحلك المراحل. وامتد الظلام إلى أواخر القرن التاسع عشر، حيث بدأت مصر تصحو بعد حملات نابليون عليها سنة 1798 م. وهكذا شُرع في بناء المدارس والمعاهد على النمط الأوروبي، وظهرت مراكز الترجمة والتعريب والفنون الأوروبية.
تميز العصر باكتساح الألفاظ الدخيلة الإيطالية والفرنسية والإنجليزية اللغةَ العربيةَ. وقد رد على ذلك العرب، وعلى رأسهم محمد علي، بإحياء الماضي وإعادة طبع الكتب القديمة. وفي هذا الإطار أنشِئت مجامع اللغة في القاهرة ودمشق، وبدأ التفكير في تبسيط الفصحى وقواعدها، ومراجعة جديد الألفاظ في الطب والهندسة والكيمياء والطبيعة والحياة العامة، وغير ذلك من القواعد والتراكيب التي تدخل العربية من اللغات الأجنبية.

2.  تاريخ العربية: الخلاصة والاستنتاجات
نستنتج مما سبق أن العربية عرفت خلال تاريخها تأثير لهجات القبائل الوافدة على اللغات الأصلية الفارسية، خصوصا، وتأثر اللهجات الوافدة باللغات الأصلية، كما نستخلص مرافقة العربية "المولّدة" لعربية الإسلام طيلة تاريخها ، وأن المُولَّد اقترن بلغة العوام الدارجة المتحرّرة من الإعراب والنحو (التعريف والإضافة) والتركيب (الرتبة والتطابق) والصرف (الصيغ).
. يلاحظ، على مستوى آخر، انكماش اللهجات في عصر الانحلال،ودخول اللهجات العربية مجال الاقتباس من اللغات الأوربية والأنكَلوساكسونية خلال عصر الانحلال التام وبداية النهضة، وهو الوضع المستمّر إلى الآن.  كما اشتهر عصر الانحلال باختلاف الإنتاج الأدبي نتيجة اختلاف اللهجات الذي انعكس على اختلاف الفصحى، بحيث صارت اللغة العربية لغات عربيات واللغة الفصيحة لغات فصيحات.
ويظهر مما عُرف بالعربية الهجين، أي نُطق الفارسيين العربية على نحو غير عربي ( أنظر الهامش 4 أسفله  ).  يعكس تأثر الأجانب الفارسيين باللسان العربي وتكلّم اللغة الفارسية بطريقة، لا هي عربية، ولا هي فارسية، شأن الوضع اليوم في العامية العربية المغربية، مثلا، حيث تمسّ الهجانة اللغة العربية والفرنسية في آن واحد، إذ تُصاغ الكلمات الفرنسية في قوالب غير منسجمة مع النظام الفرنسي، والعكس تُسبك المفردات العربية في أشكال تخرق القواعد العربية. كما كانت العربية المُولّدة إمّا دارجة لا تلتزم الإعراب، على غرار العاميات اليوم، أو لحنا يخرق قواعد النحو، أو خصائص لهجية تمثّلت في ظواهر مثل التسهيل والترخيم.
ذ.ثريا خربوش
كلية الآداب-المحمدية
مسلك الدراسات العرب
ية

هوامش:
 *أود أن أتقدم بخالص شكري، وجميل امتناني للزميل والصديق مراد الزوين الذي لا يبخل علي بأي معلومة  جديدة، ومنها تعريفي  بهذا الموقع المميز أنفاس.  فمن هذا المنبر ، أتمنى أن ُينشر مقالي ، ويصله تقديري.
1- الكتاب لصاحبه يوهان فك، ترجمه إلى العربية عبد الحليم النجار، عن مكتبة الخانجي، 1951. و من دوافع العناية به ومحاولة تقديمه إلى القراء، وخصوصا الطلبة، صعوبة قراءته لأسباب تتعلق بطبيعة الترجمة ومشاكلها.

2 - يعد عبد الله بن زياد، مثلاً، من أم غير عربية، ومع ذلك نصب والياً على العراق بين 30ه و70 ه. كانت أمه تسمى مرجانة (مرجرت).

3 - كانت لغة الفرس الساسانية في قطاع الجيش، وبقيت اليونانية لغة رسمية في مصر إلى حدود سنة87 ه. وظلت القبطية لغة استعمال السكان الأصليين. لم يصل من تأثير القبطية على العربية إلا الشيء القليل، ولعل سبب ذلك يعود إلى أن مصر لم تحظى بكاتب مثل الجاحظ مولع بتصوير عالم الطبقات الدنيا والمتوسطة.

4 - تحيل اللغة اللغة المشتركة في أوروبا إلى خليط من الإيطالية والفرنسية واليونانية، وتشير الإنجليزية المرطنة إلى إنجليزية بسيطة محررة من القيود يجري التفاهم بها في الشرق الأقصى بين الأجانب والإنجليز. ومن أمثلة هذا النوع من العربية ما ورد في قصة تاجر باع المسلمين دواب رديئة، ولما استنطقه الحجاج، أجاب: " شريكاتنا في هوازها وشريكاتنا في ميدانها، وكما تجي تكون". والمقصود: هذه الدواب قد وصلت على ما هي عليه من رداءة من شركائه في الأهواز والمدائن.

 - 5 وتأتي سخرية الشاعر ابن المفرع منه في هذا السياق:
ويوم فتحت سيفك من بعيد                    أضعت وكل أمرك للضياع
ويروى أن هذا الشاعر نفسه كان متأثراً بالفارسية، فقد قيل إن خصومة وقعت بينه وبين عباد بن زياد في خرسان سنة 56 ه ، فهجاه وحقر أسرته. وحين وقعت يد زياد عليه أمر بجره في ثياب مهلهلة مربوطاً إلى قربة وهرة وخنزيرة، فلما سأله صبيان الحي بالفارسية: إين حيست؟ أجابهم: " أت أست، نبيذ أست، نبيذ أست عصارة زبيب أست"، أي: هذا ماء ونبيذ وعصارة زبيب، وسمية البغي (في إشارة إلى الخنزيرة). وجاء في بعض الروايات أن سمية كانت فارسية، وفي أخرى بيزنطية، وأنها أُهديت إلى الحارث ابن كلدة الطبيب، ومن أبنائها نافع الذي كان مولى من موالي الرسول، وأزدة التي تزوجها عتبة بن غزوان مؤسس البصرة، وزياد الذي اعترف به معاوية بن أبي سفيان أخاً من أبيه. ويعود وصف الشاعر لسمية بالبغي إلى نكاحها غير الشرعي.

6 - لم يقتصر تغيير الاستعمال على الكلام، بل تعداه إلى الكتابة، بدليل استعمال جرير( المتوفي في 110 ه) لفظ" رودق" في شعره. كما استعمل الفرزدق من مصطلحات لعبة الشطرنج " البيدق"  (القطعة التي تتحول إلى وزير حين تتقدم إلى الرقعة الأولى). ويرجع معنى البيدق (الرجل القصير) إلى لقب مغني وقارئ زار في أواخر حياته يزيد بن عبد الملك.

7 - من أشهر الخلفاء العرب بالفصاحة الحجاج، ومن الشعراء رؤبة، ومن الموالي القراء الحسن البصري، والشعراء زياد الأعجم وأبو العطاء السندي. ويقال إن الزنوج كذلك نظموا الشعر، وإن لم يصل منه إلا القلة القليلة.

8 - لحن من الموالي: الحسن البصري والفقيه مكحول السوري ورياح الزنجي وأبو العطاء السندي وزياد الأعجم، ومن الشعراء العرب: الطرماح والكميث وذي الرمة وبن ربيعة وغيرهم.

9 - أخُذ على الفراء العظيم (144 ه-207 ه) أ،ه لحن في حضرة الرشيد، واعتذر قائلاً: إن اللحن لازم لسكان المدن، كما يلزم الإعراب أهل البادية. ورُوي أن أبا عبيدة نصحه والده بأن يجعل في كل كتاب لحناً حتى يزول عنه حمق الصواب.

10 - يُروى أن أبا عبيدة زار أعرابية فصيحة (أم الهيثم)، فلما وصفت له مرضها، لم يفهمها، وتساءل إن كان الناس يتكلمون لغتين.
11 - قيل إن المأمون سطر على مالاُ، وكتب في الحاشية: أتكاتبني بلحن يا أبا إسحاق؟ وعلى الرغم من أن النحوي ابن قادم (المتوفي سنة 215 ه) صحح مالاً بكونه منصوباً على التمييز، فقد أصر أبو إسحاق على تعلم النحو.

12 - كان مستوى الأتراك ضعيفاً، باستثناء الفتح بن خاقان الذي قربه المعتصم، ثم جعله المتوكل، بعده، مستشاره إلى أن قتل معه سنة 247 ه.

13 - أشار إلى تحول معنى مأتم الأصلي من اجتماع النساء في الخير والشر إلى الاجتماع في المصيبة، ومعنى الفيء ظل ما بعد الظهيرة إلى الظل مطلقاً، والملّة الرماد الحار الذي يُخبز به الخبز، وتنزه ابتعد عن الماء، والزراعة الذهاب إلى البساتين.

14 -  ومن الغريب الذي يذكر، في هذا العهد: الهِبلع (اللَّقم الأكول)، والعَتلط (اللبن الخاثر الثخين)، والجَلَعْلَع (القنفد)، والقَهقب (الضخم المسن)، والقهْبَلَس (المرأة الضخمة)، والخُزعبلة (الباطل)، والقُذعملة (المرأة القصيرة الخسيسة)، والجرفاس (الرجل الضخم الشديد)، والنعثل (الشيخ الأحمق).

15 - جمع الهمذاني من كتاب الرسائل الألفاظ الغريبة الخالية من التقعر والتفصّح والتكلف لتسهيل استعمالها، وأثنى على ذلك الصاحب بن عباد، وإن اعتبر أن من شأن ذلك أن يضيع على المتعلمين تعب الدرس والحفظ والمطالعة.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟