الإسلام والحداثة "أو منطق التنوير في الفكر الإصلاحي النهضوي" - ذ- مراد زوين

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسكثر الحديث في السنين الأخيرة عن علاقة الإسلام بالحداثة والمدنية، أو بما أنتجته الحضارة الإنسانية في القرون الأخيرة من خلال مقارنته بالأديان الأخرى أو من خلال تأويل نصوصه وملاءمتها مع العصر بالدعوة إلى الاجتهاد والخلق والإبداع. بيد أن الخوض في هذه العلاقة ليس بجديد على الثقافة العربية والإسلامية، بل كانت طرحت على مدى التاريخ العربي الإسلامي، إما في جدال فكري أو سجالي بين مسلم وغير مسلم دفاعا عن الإسلام كدين وثقافة وحضارة، أو في جدال بين مسلمين أنفسهم: بين من يحاول أي يفصل الإسلام عن الحضارات الأخرى، باعتبار الآخر وحضارته لا يمكن أن يقوما إلا بتدنيس الدين الإسلامي وتقويض دعائمه. أو بين من يحاول أن يجعل من الإسلام دينا وثقافة وحضارة جزءا من الحضارة الإنسانية فاعلا ومنفعلا مؤثرا ومتأثرا، علينا بالضرورة كمسلمين الانخراط فيها كمساهمين ومنتجين بالاعتماد على العقل والعقلانية متشبعين بفكر التسامح والاختلاف وحق الآخر في الوجود.
بين هذا الموقف وذاك ارتأينا أن نقف عند أحد المفكرين العرب الذي ساهم بفكره الإصلاحي –إلى جانب مجموعة أخرى من المفكرين – أواخر القرن 19 في تجديد ونهضة الثقافة العربية: إنه الشيخ محمد عبده.
ما يهمنا من محمد عبده ليس هو ما قاله في هذه المسألة أو تلك بل ما هي منطلقاته النظرية والفكرية أو بالأصح مرجعياته النظرية في حديثه عن علاقة الإسلام بالمدنية أو بالحداثة بشكل عام. إننا لا يمكن أن نفصل محمد عبده عن محيطه الثقافي والتأثر به والمتمثل في التراث من جهة وفي الإصلاحات والتحولات التي جاءت بها ثورة محمد علي بالإضافة إلى آثار ومخلفات الغزو النابوليوني لمصر من جهة ثانية. كما لا يمكننا أن نعزله عن التأثيرات الثقافية الغربية التي سادت القرن 19 المتمثلة في الفكر الليبرالي والنزعة الوضعية على الخصوص. إن هاتين المرجعيتين هما الموجهتان لمنطق تفكير محمد عبده إما في جداله مع فرح أنطون والجامعة من خلال مجلة المنار، وإما في جداله مع هانوتو ورينان من خلال كتابه "الإسلام دين العلم والمدينة"، فيما يخص علاقة الإسلام بالتسامح أو بفصل السلطتين الدينية والسياسية أو بموقف الإسلام من العقل واستعمالاته في الأمور الدينية والدنيوية، مما يجعلنا نقف على خطاب يتجاوز بكثير من حيث رؤيته المتنورة والمندمجة في عصرها، بعض الكتابات النكوصية الموغلة في النصية ومعاداة كل تجديد واجتهاد.
الإسلام والدولة المدنية
في رد محمد عبده على الذين يرون في الديانة الإسلامية عدم التسامح وعائقا للخروج من وضعية الجمود والتخلف بسبب تداخل السلطتين الدينية والمدنية، يعود محمد عبده إلى تذكير هؤلاء بأصول الديانة الإسلامية، وما تحتويه من تشجيع على استعمال العقل وما تدعو إليه من تسامح. فللإسلام، حسب محمد عبده، دعوتان:
دعوة بوجود الله وتوحيده ويعتمد فيها على العقل.
ودعوة إلى التصديق برسالة محمد ويعتمد فيها على القرآن الذي هو معجزة الإسلام وخارق العادة فيه.

فبالنسبة للدعوة الأولى يقول محمد عبده: "فلم يعول فيها إلا على تنبيه العقل البشري وتوجيهه إلى النظر في الكون، واستعمال القياس الصحيح والرجوع إلى ما حواه الكون من النظام والترتيب، وتعاقد الأسباب والمسببات ليصل بذلك إلى أن للكون صانعا واجب الوجود عالما حكيما قادرا، وأن ذلك الصانع واحد لوحدة النظام في الأكوان". فالإسلام في هذه الدعوة – حسب محمد عبده – يدعو لمعرفة الله ووحدانيته من خلال استعمال العقل في الطبيعة: "فالإسلام في هذه الدعوة والمطالبة بالإيمان بالله ووحدانيته لا يعتمد على شيء سوى الدليل العقلي، والفكر الإنساني الذي يجري على نظامه الفطري".
    أما بالنسبة للدعوة الثانية، يقول محمد عبده: "فهي التي يحتج فيها الإسلام بخارق العادة، وما أدراك ما هو خارق العادة الذي يعتمد عليه الإسلام في دعوته إلى التصديق برسالة النبي عليه السلام. (....)
    ذلك الخالق المتواثر المعول عليه في الاستدلال لتحصيل اليقين هو القرآن وحده".
وبعد هذا التقديم التوضيحي تطرق محمد عبده إلى تفصيل وشرح أصول الإسلام هي حسبه كالتالي:
النظر العقلي لتحصيل الإيمان: فبالنسبة إلى هذا الأصل يؤكد محمد عبده على دور العقل ومكانته في الإسلام كأساس للاعتقاد والإيمان، ويقول: "فأول أساس وضع في الإسلام هو النظر العقلي. والنظر عنده هو وسيلة الإيمان الصحيح. فقد أقامك منه على سبيل الحجة، وقاضاك إلى العقل، ومن قاضاك إلى حاكم فقد أذعن إلى سلطته".
تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض: وهذا الأصل مرتبط بالأصل الأول، ويوسع من حرية العقل بالمقارنة مع النص: "اتفق أهل الملة الإسلامية إلا قليلا ممن لا ينظر إليه على أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل، وبقي في النقل طريقان: طريق التسليم بصحة المنقول مع الاعتراف بالعجز عن فهمه، وتفويض الأمر إلى الله في علمه، وطريق تأويل النقل مع المحافظة على قوانين اللغة حتى يتفق معناه مع ما أثبته العقل". فمن خلال هذا الأصل يتضح مدى اتساع مجال العقل في الإسلام حسب محمد عبده: "وبهذا الأصل (...) مهدت بين يدي العقل كل سبيل، وأزيلت من سبيله جميع العقبات، واتسع له المجال إلى غير حد".
البعد عن التكفير: في هذا الأصل يحاول محمد عبده أن يبين لنا مدى مكانة مفهوم التسامح في الإسلام، يقول: "هل ذهبت من هذين الأصلين إلى ما اشتهر بين المسلمين وعرف من قواعد أحكام دينهم، وهو إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد حمل على الإيمان".
الاعتبار بسنن الله في الخلق: يأتي محمد عبده بآيات من القرآن لتوضيح هذا الأصل "قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كانت عاقبة المكذبين" (سورة آل عمران، الآية 137). "فهل ينظرون إلى سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا" (سورة فاطر، الآية 43).
ومن خلال هذه الآيات يستخلص محمد عبده: "أن لله في الأمم والأكوان سننا لا تتبدل، والسنن الطرائق التابعة التي تجري عليها الشؤون، وعلى حسبها تكون الآثار، وعلى التي تسمى شرائع أو نواميس، ويعبر عنها قوم بالقوانين".
قلب السلطة الدينية: في هذا الأصل يبين محمد عبده أنه ليس في الإسلام سلطة دينية ولا هيمنة ولا سيطرة على أحد. فالإسلام في نظره دعى لهدم تلك السلطة: "لا يدع الإسلام لأحد بعد الله ورسوله سلطان على عقيدة أحد، ولا سيطرة على إيمانه، على أن الرسول عليه السلام كان مبلغا ومذكرا لا مهيمنا ولا مسيطرا، قال الله تعالى "فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر".
ويضيف في نفس السياق: "ولا يسوغ لقوي ولا ضعيف أن يتجسس على عقيدة أحد، وليس يجب على مسلم أن يأخذ عقيدته أو يلتقي أصول ما يعمل به عن أحد إلا عن كتاب الله وسنة رسوله".
حماية الدعوة لمنع الفتنة: يرد محمد عبده بهذا الأصل على الذين يرون أن الدين الإسلامي دين جهادي شرع فيه القتال، وفي طبيعته روح الشدة على من يخالفه، بخلاف الدين المسيحي الذي هو دين المسالمة والمهادنة. فيجيب محمد عبده بقوله: "ليس القتل في طبيعة الإسلام بل في طبيعته العفو والمسامحة. "خذ العفو وامر بالعرف واعرض عن الجاهلين". ولكن القتال فيه لرد اعتداء المعتدين على الحق وأهله إلى أن يأمن شرهم، ويضمن السلام عند غوائلهم، ولم يكن ذلك لإكراه على الدين ولا للانتقام من مخالفيه". ولهذا في نظر محمد عبده لا تسمع في تاريخ الفتوح الإسلامية ما تسمعه في الحروب المسيحية، عندما اقتدر أصحاب "شريعة المسالمة" أي الديانة المسيحية، على محاربة غيرهم من قتل الشيوخ والنساء والأطفال.
مودة المخالفين في العقيدة: وفي هذا الإطار يعطي محمد عبده مثالا بالزواج كدليل على دعوة الإسلام مودة المخالفين في العقيدة، حيث أن الإسلام أباح للمسلم أن يتزوج من الكتابية، نصرانية أو يهودية، مع الإبقاء على عقيدتها والقيام بفروض عبادتها، وهذا الشكل من التسامح في نظر محمد عبده يعود القلوب

على الشعور بأن الدين معاملة بين العبد وربه، والعقيدة طور من أطوار القلوب يجب أن يكون أمرها بيد علام الغيوب، فهو الذي يحاسب عليها وأما المخلوق فلا تطول يده إليها.
الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة: أعطى محمد عبده أمثلة عديدة يبين فيها الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، نورد من بينها ثلاثا، يتعلق الأول بالحياة، يقول محمد عبده: "الحياة في الإسلام على الدين، أوامر الحنيفية السمحة إن كانت تختطف العبد إلى ربه، وتملأ قلبه من رهبه، وتفعم أمله من رغبه، فهي مع ذلك لا تأخذه عن كسبه، ولا تحرمه من التمتع به، ولا توجب عليه تقشف الزهادة، ولا تجشمه في ترك اللذات ما فوق العادة".
أما المثال الثاني فيتعلق بالصوم، يقول محمد عبده: "فرض الصوم على المؤمنين لكن إذا خشي منه المرض أو زيادته أو زادت المشقة فيه جاز تركه، بل قد يجب إذا غلب على الظن الضرر فيه".
أما المثال الثالث فيتعلق بالنهي عن الغلو في الدين، يقول محمد عبده: "وخشي على المؤمن أن يغلو في طلب الآخرة فيهلك دنياه وينسى نفسه منها فذكرنا بما قصه علينا أن الآخرة يمكن نيلها مع التمتع بنعم الله علينا في الدنيا".
ويورد محمد عبده في هذا الشأن آية قرآنية "وابتغ فيما أتاك الله دار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا واحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض، إن الله لا يحب المفسدين" سورة القصص.

السلطتان الدينية والسياسية في الإسلام

الخليفة في الإسلام – حسب محمد عبده – لا يمكن تسميته بما يسمى عند الغرب بسلطان إلهي أو تيوقراطي، وذلك لأن السلطان الإلهي: "هو الذي ينفرد بتلقي الشريعة عن الله وله حق الاثرة بالتشريع، وله في رقاب الناس حق الطاعة، لا بالبيعة، وما تقتضيه من العدل وحماسة الحوزة بل بمقتضى الإيمان، فليس للمؤمن مادام مؤمنا أن يخالفه". أما في الإسلام فليس فيه سلطة دينية، سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير عن الشر، وهي سلطة خولها الله لأدنى المسلمين كما لأعلاهم.
ويضيف أن الخليفة في الإسلام ليس هو مهبط الوحي ولا من حقه الاستئثار بتفسير الكتاب والسنة، ومن شروط تنصيبه أن يكون مجتهدا. أي أن يكون من العلم باللغة العربية وما معها، ليتيسر له فهم الكتاب والسنة وما يحتاج إليه من الأحكام، ويتمكن بنفسه من التمييز بين الحق والباطل، والصحيح والفاسد، ويسهل عليه إقامة العدل الذي يطالبه به الدين والأمة معا. وهذه الميزة لا تخصه وحده ولا تعطيه حق امتلاك فهم الكتاب والسنة لوحده: "بل هو وسائر طلاب الفهم سواء، إنما يتفاضلون بصفاء العقل وكثرة الاصابة في الحكم".

وفي تاريخ الإسلام – حسب محمد عبده – ما يشهد على ارتفاع قدر العلماء عن الخلفاء الذين قصروا في الفهم والعلم.
فالخليفة في الإسلام لا ينصب نفسه، ولا بأمر إلهي، فالأمة أو نائب الأمة هو الذي ينصبه، يقول محمد عبده: "فالأمة أو نائب الأمة هو الذي ينصبه، والأمة هي صاحبة الحق في السيطرة عليه، وهي التي تخلفه ومتى رأت ذلك من مصلحتها، فهو حاكم مدني من جميع الوجوه". فللمسلمين حق الطاعة، مادام الحجة ونهج الكتاب والسنة: "وإذا نحرف عن النهج أقاموه عليه وإذا اعوج قوموه بالنصيحة والأعذار إليه. أما إذا فارق الكتاب والسنة في عمله وجب عليهم أن يستبدلوا به غيره ما لم يكن في استبداله مفسدة تفوق المصلحة فيه".
الخليفة إذن عند محمد عبده "مدني من جميع الوجوه". وفي هذا الرد على الذين: "يرمون به الإسلام من أنه يحتم قرن السلطتين في شخص واحد، ويظنون أن معنى ذلك في رأي المسلم أن السلطان هو مقرر الدين، وهو واضع أحكامه وهو منفذها، والإيمان آلة في يده يتصرف بها في القلوب بالإخضاع وفي العقول بالإقناع، وما العقل والوجدان عنده إلا متاع، ويبنون على ذلك أن المسلم مستعبد لسلطانه بدينه". كما يبنون على هذا، عدم تسامح الإسلام مع العلم والعلماء مادام من أصوله "إقامة السلطان واجبة بمقتضى الدين".
ففي نظر محمد عبده أن كل هذا: "خطأ محض، وبعيد عن فهم معنى ذلك الأصل من أصول الإسلام".
كما يرد في نفس الوقت على القائلين: "إن لم يكن للخليفة ذلك السلطان الديني أفلا يكون للقاضي أو للمفتي أو شيخ الإسلام؟". فيجيب محمد عبده بالتأكيد على عدم وجود سلطة دينية في الإسلام، لا للخليفة ولا لغيره، يقول: "إن الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة على العقائد وتقرير الأحكام، كل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة مدنية قررها الشرع الإسلامي، ولا يسوغ لواحد أن يدعي حق السيطرة على إيمان أحد أو عبادته لربه، أو ينازعه في طريق نظره".
فإذا كانت إذن – حسب محمد عبده – الممارسة السياسية للدولة الإسلامية ممارسة مدنية فإن وضعية الخليفة في الإسلام وضعية مدنية تنشغل بعلاقة الإنسان بالإنسان، وليس بعلاقة الإنسان بخالقه.

الإسلام والسياسة

من خلال ما سبق يتضح أن محمد عبد في دفاعه عن الإسلام، كان يعود دائما، ويأخذ كمرجع له أصول الديانة الإسلامية، ويعطي أمثلة من واقع الدولة الإسلامية في عهد ازدهارها. لكن في هذا الجزء سنحاول استنطاق نصوص وشهادات محمد عبده من خارج هذه الفترة، أي سنركز على كيفية تعامل محمد عبده مع مشاكل عصره، ومع الذين يتكلمون باسم الدين الإسلامي، ومدى احترامهم وتسامحهم مع العلم والعلماء.

يبدأ محمد عبده بتساؤل حول وضعية العلم والعلماء في الوقت الحاضر، يقول: "ربما يسأل سائل فيقول: سلمنا أن طبيعة الإسلام تأبى اضطهاد العلم بمعناه الحقيقي، وأنه لم يقع من المسلمين الأولين تعذيب ولا إحراق، ولا شنق لحملة العلوم الكونية، ومقومي العقول البشرية، لكن أليس العلماء من المسلمين اليوم أعداء العلوم العقلية، والفنون العصرية، أو ليس تبعا لهم". وتبعا لذلك يعطي محمد عبده أمثلة كثيرة عن اضطهاد الفقهاء لرجال الآداب والعلوم، مثل السيد عبد الحميد الزهراوي الحمصي الذي كتب مقالا في الاجتهاد والتقليد فتعرض لحملة رجال الدين، واعتبروا مقاله مرق من الدين، فقبض عليه وسجن. كما أعطى مثالا آخر للشيخ السنوسي الذي كتب كتابا في أصول الفقه زاد فيه بعض مسائل على أصول المالكية، فتعرض لهجوم ومحاولة اغتيال من طرف أحد مشايخ المالكية بالأزهر وهو الشيخ عليش.
ومن خلال هذه الأمثلة ومثلها يحكم البعض على الإسلام بأنه عثرة في طريق المسلمين، وهذا الجمود هو من طبيعة الدين الإسلامي وناشئا من أصوله.
فجواب محمد عبده على مثل هذه الأحكام يكون أكثر مرونة واعترافا بعدم التسامح من بعض المسلمين، لكنه يرى سبب ذلك لا يعود إلى طبيعة الدين الإسلامي وأصوله بقدر ما يعود إلى السياسة، يقول: "ما نسمعه حولنا من سجن من قال بقول السلف فليس الحامل عليه التمسك بالدين، فإنه حملة العمائم إنما حركهم الحسد لا الغيرة. وأما صدور الأمر بالسجن فهو من مقتضيات السياسة". هذه السياسة التي تخاف "خروج فكر واحد من حبس التقليد، فتنتشر عدواه فينتبه غافل آخر، ويتبعه ثالث، ثم ربما تسرى العدوى من الدين إلى غير الدين إلى آخر ما يكون من حرية الفكر يعوذون بالله منها".
فالسياسة عند محمد عبده هي المسؤولة عن الاضطهاد وتقييد حرية الفكر، وهو من الذين يبغظون السياسة، بل من الذين يبغظون كل حرف من كلمة السياسة وهذا النص دليل واضح: "فإن شئت أن تقول أن السياسة تضطهد الفكر أو الدين أو العلم فأنا معك من الشاهدين. وأعوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة ومن معنى السياسة ومن كل حرف يلفظ من كلمة السياسة، ومن كل شخص يتكلم أو يتعلم أو يجن أو يعقل في السياسة، ومن ساس يسوس وسائس ومسوس".
فالسياسة سبب من الأسباب المباشرة التي أدت إلى جمود وضعف الإسلام حسب محمد عبده: "السياسة الشجرة الملعونة في القرآن عبادة الهوى واتباع خطوات الشياطين".
ثم ذكر أسباب أخرى لجمود وضعف الإسلام، كاستلاء الترك والديلم على سلطانه حيث "استعجم الإسلام وانقلب عجميا" وصارت الدولة في قبضتهم: "ولم يكن لهم – يقول محمد عبده – ذلك العقل الذي راضه الإسلام والقلب الذي هذبه الدين، بل جاءوا إلى الإسلام يخشونه الجهل، ويحملون ألوية الظلم، لبسوا الإسلام على أبدانهم، ولم ينفذ منه شىء إلى وجدانهم، وكثير منهم كان يحمل إلهه معه يعبده في خلوته، ويصلي مع الجماعات لتمكين سلطة ثم عدا على الإسلام آخرون كالتتار وغيرهم ومنهم من تولى أمرهم".
وطبيعي في نظر محمد عبده أن يكون هناك عداء للعلم والعلماء من طرف هؤلاء "أما العلم فلم يحفلوا بأهله وقبضوا عنه يد المعرفة، وحملوا كثيرا من أعوانهم أن يندرجوا في سلك العلماء وأن يشربلوا بشرابيله، ليعدوا من قبيله. ثم يضعوا للعامة في الدين ما يبغض إليهم العلم ويبعد بنفوسهم عن طلبه، ودخلوا عليهم وهم أغرار من باب التقوى وحماية الدين، زعموا الدين ناقصا ليكملوه أو مريضا ليعللوه، أو متداعيا ليدعموه، أو يكاد ينقض ليقيموه".
ويضيف محمد عبده، أنهم خلقوا لنا هذه الاحتفالات، وتلك الاجتماعات وسنوا لنا عبادة الأولياء والعلماء المشتبهين بهم ما فرق الجماعة، كما قرروا أن المتأخر ليس له أن يقول بغير ما يقول المتقدم، وجعلوا ذلك عقيدة حتى يقف الفكر وتجمد العقول. كما بثوا – يضيف محمد عبده – أعوانهم في أطراف الممالك الإسلامية ينشرون القصص والأخبار والآراء ما يقنع العامة، بأنه لا نظر لهم في الشؤون العامة، وأن كل ما هو من أمور الجماعة والدولة فهو مما فرض فيه النظر على الحكام دون من عداهم. ومن دخل في شيء من ذلك من غيرهم فهو متعرض لما لا يعنيه، وأن ما يظهر من فساد الأعمال، واختلال الأحوال، ليس من صنع الحكام، وإنما هو تحقيق لما ورد في الأخبار من أحوال آخر الزمان، وأنه لا حيلة في إصلاح حال ولا مآل، وأن الأسلم تفويض ذلك إلى الله، وما على المسلم إلا أن يقتصر على خاصة نفسه.
وهذه الحالة – في نظر محمد عبده – هي التي أدت بالإسلام إلى تشوهات، والمسلم إلى اليأس والخنوع: "هذه السياسة – سياسة الظلمة وأهل الأثرة – هي التي روجت من أدخل على الدين مما لا يعرفه، وسلبت المسلم أملا كان يخترق به أطباق السماوات، وأخلدت به إلى يأس يجاور به العجماوات. فجل ما تراه مما تسميه إسلاما فهو ليس بإسلام، وإنما فقط من أعمال الإسلام صورة الصلاة والصوم والحج. ومن الأقوال قليلا منها حرفت عن معانيها، ووصل الناس بما عرض على دينهم من البدع والخرافات إلى الجمود الذي ذكرته وعدوه دنيا (...). فكل ما يعاب على المسلمين ليس من الإسلام، وإنما هو شيء آخر سموه إسلاما، والقرآن شاهد وصادق "لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد".
وفي ظل هذه الوضعية أي وضعية جمود وضعف الإسلام، كانت لها تأثيرات ونتائج سلبية على عدة مستويات.
فعلى مستوى اللغة، يقول محمد عبده: "لا ريب أن القارىء يحيط بمقدار ضرر هذه الجناية على اللغة بكيفية من ذلك أنه إذا تكلم بلغته لغة دينه وكتابه وقومه لا يجد من يفهم من يقول، وأي ضرر أعظم من عجز القائل عن أن يصل بمعناه إلى العقول".
وعلى مستوى النظام والاجتماع يرى محمد عبده: "وأعظم من هذه الجناية جناية التفريق وتمزيق نظام الأمة وإيقاعها فيما وقع فيه من سبقها من الاختلاف وتفرق المذاهب والشيع في الدين".
ومن نتائج الجمود على الشريعة وأحكامها جر إلى عسر في – نظر محمد عبده – أي "حمل الناس على إهمالها: كانت الشريعة الإسلامية أيام كان الإسلام إسلاما سمحة تسع العالم بأسره، وهي اليوم تضيق عن أهلها، حتى يضطروا أن ينالوا غيرها، وأن يلتمسوا حماية حقوقهم فيما لا يرتقي غليها، وأصبح الأتقياء من حملتها يتخاصمون إلى سواها".
أما في العقيدة، فيقول: "نسوا ما جاء في الكتاب وأيدته الستة من أن الإيمان يعتمد اليقين، ولا يجوز الأخذ فيه بالظن، وأن العقل هو ينبوع اليقين في الإيمان بالله وعلمه وقدرته والتصديق بالرسالة، وأن النقل ينبوع له فيما بعد ذلك (...) وأن العقل إن لم يستقل وحده في إدراك ما لابد فيه من النقل، فهو مستقل لا محالة في الاعتقاد بوجود الله".
كما كان تأثير هذا الجمود على متعلمي المدارس النظامية، وعلى تلامذة المدارس الأجنبية والمدارس الرسمية والأهلية.
وفي ختام عرضه عن وضعية الإسلام في أوائل القرن العشرين، وأسباب جموده وضعفه والنتائج التي ترتبت عن هذا الجمود، يرد محمد عبده، على كل من رنان والجامعة فيما يخص وقوف الإسلام كعائق في وجه تطور مجتمعاته، حيث يقول: "إن الإسلام لن يقف عثرة في سبيل المدنية أبدا، لكنه سيهديها وينقيها من أوضارها، وستكون المدنية من أقوى أنصاره متى عرفته وعرفها أهله، وهذا الجمود سيزول".
إن الجمود – في نظر محمد عبده – علة ستزول وذلك بإعمال العقل "للنظر في الغايات والأسباب والمسببات، والفرق بين البسائط والمركبات. وكذلك بإعمال الوجدان لإدراك ما يحدث في النفس والذات من لذائذ وآلام، وهلع واطمئنان". فالدين الكامل – في نظر محمد عبده – علم وذوق، عقل وقلب، برهان وإذمان، فكر ووجدان، فإذا اقتصر دين على أحد الأمرين، فقد سقطت إحدى قائمتيه.
فالعقل والقلب متفقان في الدين الإسلامي عند محمد عبده، ويقول: "وإنه لابد أن ينتهي أمر العالم إلى تآخي العلم والدين، على سنة القرآن والذكر الحكيم".

استنتاجات:
يمكن أن نستنتج من خلال هذه النصوص التي شملت علاقة السلطتين الدنية والسياسية في الإسلام، أو تعامل الإسلام مع العلم والعلماء أو في استعمال العقل، مجموعة من الحقائق:
أن محمد عبده في دفاعه عن الإسلام – كباقي أعلام فكر النهضة – استعمل نفس مفاهيم ومرجعية خصومه أي المرجعية الليبرالية. بل حاول تأسيس ليبرالية على قاعدة الإسلام، بمعنى حاول من خلال اجتهاده استنبات وتطويع المفاهيم الليبرالية كالعقلنة والحرية والتسامح... الخ للمرجعية الإسلامية. وهذه خاصية ميزت تفكير أغلب مفكري النهضة كالطهطاوي والأفغاني والكواكبي... الخ وهذا راجع بالأساس
للتأثيرات الفكرية التي هيمنت على الثقافة العربية في أواسط وأواخر القرن 19، التي تميزت بهيمنة الفكر
الليبرالي الغربي ومفاهيم فلسفة الأنوار الكونية. مما جعل الثقافة العربية تعرف "هزة إيجابية" تتحدد معالمها: إما في تبني الفكر الليبرالي كمرجعية وحيدة كما هو الشأن عند فرح أنطون ومجموعة أخرى من المفكرين، وإما في تبني الفكر اللبيرالي من خلال مفاهيم ومحاولة تكييفها مع المرجعية الإسلامية، أو البحث في تاريخ الإسلام عن قواعد لها. ويعتبر محمد عبده والأفغاني من أبرز المفكرين الذين كانت محاولاتهم الفكرية تصب في هذا الاتجاه، بل يتجلى ذلك بوضوح في كتابات الكواكبي الذي حاول تطويع المفاهيم الليبرالية مع الشرع الإسلامي.
أما الحقيقة الثانية تكمن في موقف محمد عبده من السلطتين الدينية والسياسية أو في موقفه من الخلافة ودورها، فهو يهدف بالأساس إلى جعل الدولة كجهاز للسلطة السياسية مركز تفكيره. وهنا يتضح لنا مركز التفكير السياسي العربي في القرن 19، حيث أن السلطة السياسية ووظائفها كانت هي الموجه الأساسي للفكر العربي. فالتقدم أو الخروج من التخلف بالنسبة للمفكرين الأوائل كانت له علاقة مباشرة بوظيفة الدولة أو السلطة السياسية، وأن مفهوم التقدم ينظر إليه فقط من الزاوية السياسية، وهذا يعكس نظرة الرواد الأوائل في تشخيص وتحليل الواقع المتأخر للعالم العربي.
أما الحقيقة الأخيرة، تظهر من خلال مواقف عبده المتنورة والمنفتحة على عصرها، وهذا يؤكد على أن الفكر الإسلامي كلما كان منفتحا على الثقافات والحضارات الأخرى وعلى العلوم المعاصرة كلما كان متسامحا ونابدا للتطرف والتعصب، ومؤثرا في الفكر والثقافة الإنسانيين.



المراجع:

فرح أنطون: "ابن رشد  وفلسفته". دار الطليعة ببيروت. الطبعة I. 1981
محمد عبده: "الإسلام دين العلم والمدنية". منشورات دار مكتبة الحياة. بيروت لبنان. 1989
عبد الله العروي: "- الإيديولوجيا العربية المعاصرة". دار الحقيقة بيروت. الطبعة I.   
 1972 "العرب والفكر التاريخي". الطبعة I. 1983. – "عوائق التحديث" منشورات اتحاد
 كتاب المغرب. الطبعة I. 2006
كمال عبد اللطيف: "التأويل والمفارقة، تحو تأصيل فلسفي للنظر السياسي العربي"         المركز الثقافي العربي – الطبعة I. 1987.
مجلة الوحدة: العدد: 96 السنة II. سبتمبر 1992
علي أوميلي: " – الإصلاحية العربية والدولة الوطنية". المركز الثقافي العربي. الطبعة I. 1985 "في شرعية الاختلاف" – منشورات المجلس القومي للثقافة العربية الطبعة I. 1991.
محمد سبيلا: "الحداثة وما بعد الحداثة" دار تيفال للنشر: الطبعة I. 2000
محمد عابد الجاري: "الثراث والحداثة، دراسات ومناقشات" المركز الثقافي العربي. الطبعة I. 1991.
محمد أركون: "تاريخية الفكر العربي الإسلامي" منشورات المركز الإنماء القومي
        بيروت. الطبعة I. 1986.
"العلمنة والديني، الإسلام – المسيحية – الغرب".
دار الساقي الطبعة I.

مراد زوين
جامعة الحسن II – كلية الأداب - المحمدية

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟