تجربة الحوار الكاثوليكي مع البلدان المغاربية تجربة متفرّدة، من ناحية تعويل الكنيسة على نتائجها ومقاصدها، ما جعل تلك التجربة واعدة من طرف واحد، من الجانب الكاثوليكي. فالطرف المغاربي، المفتقد لاستراتيجية علمية أو دينية، قد جُرّ جرّا إلى ما يسمّى بالحوار، على مدى أربعة عقود، ولم تنبع المثاقفة من مطلب أكاديمي أو استعداد مؤسّساتي له، بل كان استجابة للمواكبة والمجاراة. كان أوج تلك المثاقفة بتأسيس مجلة "إسلاموكريستيانا" المسماة بـ"إسلاميات مسيحيات" سنة 1975، بإشراف وتسيير لاهوتيين من الآباء البيض، حشِد لها رهط من الجامعيين من تونس بالخصوص، بغرض صنع وعي ديني ليّن وطيّع. غير أن الآباء البيض، الذين ارتبط منشأهم ودورهم بالكنيسة الاستعمارية، لم يوفّقوا في تجاوز الحوار العُصابي مع الإسلام، عبر ذلك التجمّع، الذي سعوا في تشكيله.
كان الطرف المغاربي ولايزال، يحسب الدخول في حوار مع الكنيسة "جلسة شاي"، يعرب فيها عن اعتداله وسماحته وتقبّله للآخر، يَجري فيها حديث عن الأخوة الإنسانية ووحدة العائلة الإبراهيمية. ولم يُدرَك حتى الراهن أن الكنيسة الكاثوليكية، لاتزال تنظر بعين الغيرية للإسلام والمسلمين، وأن الذي يجمعها أساسا هو بأتباع التوراة، بناء على مفهوم "الإخوة الكبار"، الذي اصطنعته وأزاحت منه الجانب الإسلامي، متجاوزة في ذلك الواقع الإناسي والأصول اللاهوتية في الدينين، والتأسيس التوراتي "لأباركنَّك –إبراهيم (ع)- وأكثرنّ ذرّيتك فتكون كنجوم السماء وكرمل شاطئ البحر، وترث ذريتك مدن أعدائها" التكوين(22: 18).
لمتسائل أن يتساءل عن مغزى التقارب الكاثوليكي من الإسلام المغاربي، أو بعبارة أدق مفاوضاته، التي لا يخفى ما ترنو له من استعادة للمواقع القديمة بعد رحيل الكنيسة الاستعمارية، وأرض المغرب تخلو من أهالي أصليين مسيحيين، وحتى إن تواجد أنفار من الناكصين مع تحوّلات العقود الأخيرة، فإن الكنيسة لا تجرؤ على عرضهم وخوض الحوار باسمهم ولأجلهم؟ فالكنيسة لتقريب المسيحية من الأهالي، سعت لاستبدال وكلائها في بلاد المغرب برجال دين مسيحيين عرب، المطران مارون لحام أسقفا في تونس، خلف الأسقف فؤاد طوال، وغالب بدر أسقفا في الجزائر، بدل الفرنسي هنري تيسيي. كل ذلك لإخفاء الطابع الغربي عنها، وتيسير تمرير الحوار التفاوضي عبرهم، الذي يدور حول نقطة محورية تدعو لانفتاح الواقع المغاربي، في تشريعاته وواقعه بحسب ما ترنو له الكنيسة، لا الحوار المعرفي.
فالجانب المغارببي يرى أن حرية التديّن مصونة ومتضمّنة في التشريعات والواقع، غير أن ذلك الاستيعاب والاحتضان، بحسب الرؤية الكنسية، غير كاف. وعادة ما يتلخص المطلب الكنسي في الدعوة إلى المناداة بحرية دينية أوسع وأبعد، تبلغ أقصاها في مطلب حرية الانقلاب الديني. بعبارة جليّة، ترك الخيرة للمغاربي أن يبدّل دينه ويدخل في المسيحية بكل أريحية، هذه النواة اللاهوتية الأساسية للحوار مع الإسلام المغاربي. وفي مقابل ذلك تنتقد التشريعات السائدة، والتوجهات الدينية، بأنها تتهدّد وتتربّص بمن يجرؤ على تجاوز الأمر السائد. كما جرى ذلك أثناء شن حملة على الجزائر خلال العام الماضي، على إثر محاكمة شبّان جزائريين أتهموا بأنهم بدّلوا دينهم، أو لدى إصدار محكمة وهران حكما يقضي بسجن المبشر الكاثوليكي الفرنسي بيار والز، لممارسته أعمال منافية للقانون.
كما تحاول الكنيسة أن تبرّر حضورها في البلدان المغاربية، من خلال التعلّل بالخدمة الاجتماعية، بين المسلمين، وهو مبرّر صادق أحيانا، في بلدان مازالت تعاني الفقر والخصاصة، على المستويات الاجتماعية والصحية والمعرفية؛ وتتعلّل كذلك بحجّة تقديم خدمات تربوية ودينية للمسيحيين المقيمين أو العابرين، الذين لا يجدون احتضانا في أداء شعائرهم. والواقع أن المسألة أعقد مما يتصوّر، فحاجة المسيحيين الأجانب إلى دور عبادة، في البلدان المغاربية، هو مطلب غير واقعي، فلو أخذنا تونس مثلا، التي زارها خلال العام 2008 أكثر من سبعة ملاييين سائح، جلّهم من المسيحيين، ويقطن بها زهاء الخمسة وعشرين ألف كاثوليكي، من أصول إيطالية وفرنسية وأوروبية، فإن أماكن عبادتها الكاثوليكية، البالغ عددها 12 كنيسة، هي مزارات سياح وليست دور عبادة، ويمكن التثبت من ذلك مثلا من خلال رصد أعداد المشاركين في القدّاس في الكاتدرائية الكبرى وسط العاصمة. فنسبة المسيحيين الممارسين للشعائر في تونس هي نسبة متدنّية، تقلّ عن اثنين بالمئة، من العدد الجملي للكاثوليك المقيمين بالبلد، ناهيك عن نسبة المحافظين على الشعائر الدينية من السياح العابرين، الذين يأتون للمتعة والاستجمام، ولا يبالون بالحفاظ على الشعائر.
ولكن المغزى الرئيسي للكنيسة يبدو متجاوزا لهذا وذاك، عمل الإحسان الموجّه للمسلمين أو الخدمة الطقسية الموجّهة للمسيحيين، إلى هدف استراتيجي، وهو بناء جسور تغلغل في تلك المجتمعات، تطمح إلى الإلمام بسير شؤون الحياة، ومنها الاندساس في التأثير على بعض قطاعاتها الهشة، كالإدعاء تارة بخدمة القطاع النسوي، المهضوم الحقوق، أو العناية بالأقليات والشرائح المتدنّية الحظوظ، المهملة من طرف السلطة المركزية أخرى. فتحاول الكنيسة الاقتراب من الكتّاب والصحفيين المغاربة الذين يحملون رؤى مغتربة عن الإسلام، ونعني بذلك الذين لهم ميولات فرنكفونية في قراءة التاريخ والوجود الإسلاميين، أو الذين يقترحون حلولا اجتماعية وسياسية غربية للخروج من مآزق الاجتماع المغاربي، يفتقدون فيها لرؤى معايشة ونقد للغرب أو للكنيسة. فتدنو منهم الكنيسة بالقدر الذي ينتقدون به الأوضاع الدينية في المغرب العربي أو العالم الإسلامي. خصوصا إذا ما كانت تلك الانتقادات تخدم المصالح الغربية، أو تعاضد المصلحة الاستراتيجية للكنيسة. فيجدون الترحيب من المؤسسات الكنسية، ويدعون للمشاركة في الملتقيات في الغرب لشرح رؤاهم على منابر الجامعات والترويج لها، ويُعرَضون بوصفهم يمثلون الإسلام المعتدل والمتنوّر والديمقراطي والعلماني.
عادة ما تحوز الجزائر المثل السيء، لدى رجال الدين الكاثوليك، عند حديثهم عن أوضاع المسيحيين في بلاد المغرب، وغالبا ما يتناول الحديث أمرين: عدم توفّر أماكن عبادة بالقدر الكافي في هذه البلدان، وعدم تواجد مناخ حرية النكوص عن الإسلام. مفّسرين الأمر بأن السلطات في تلك البلدان تخشى تعاليم الإنجيل، ولذلك لا تسمح بحضور مبشّرين بين ظهرانيها، والواقع أن الناس لا يبالون بذلك الوعظ، بل ينجذبون لسراب حياة الدعة الخادعة في الغرب. ولذلك لم نسمع عن ناكص بدّل دينه، بلغ درجة معرفية عالية في التعمّق في المسيحية، بل ما نسمع هو تهافت بسطاء من العامة، ممن جثّته في الشرق وروحه في الغرب.
تاريخ الكنيسة الغربية في البلاد المغاربية تاريخ إشكالي، لعل أصدق خطوات تنقيته، البدء بتلمّس الصفح عما ارتُكب من انتهاكات في سابق عهده. لعل أبرز تلك الأحداث واقعة جامع كتشاوة بالجزائر سنة 1932م، التي ذهب ضحيتها زهاء أربعة آلاف من المعتصمين بالجامع، احتجاجا على قرار تحويله إلى كنيسة. والتي خلّدها شاعر الثورة مفدي زكريا بقوله:
وجامع كتشاوة المستعا د، ما انفك رمزا لإجلالنـا
وهل لافيجيري وطول الســنين استطاع المروق بأطفالنا؟
ومهما يقيمون فيه احتفالا فقد عاد يهفو لأكبادنا.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
كما تحاول الكنيسة أن تبرّر حضورها في البلدان المغاربية، من خلال التعلّل بالخدمة الاجتماعية، بين المسلمين، وهو مبرّر صادق أحيانا، في بلدان مازالت تعاني الفقر والخصاصة، على المستويات الاجتماعية والصحية والمعرفية؛ وتتعلّل كذلك بحجّة تقديم خدمات تربوية ودينية للمسيحيين المقيمين أو العابرين، الذين لا يجدون احتضانا في أداء شعائرهم. والواقع أن المسألة أعقد مما يتصوّر، فحاجة المسيحيين الأجانب إلى دور عبادة، في البلدان المغاربية، هو مطلب غير واقعي، فلو أخذنا تونس مثلا، التي زارها خلال العام 2008 أكثر من سبعة ملاييين سائح، جلّهم من المسيحيين، ويقطن بها زهاء الخمسة وعشرين ألف كاثوليكي، من أصول إيطالية وفرنسية وأوروبية، فإن أماكن عبادتها الكاثوليكية، البالغ عددها 12 كنيسة، هي مزارات سياح وليست دور عبادة، ويمكن التثبت من ذلك مثلا من خلال رصد أعداد المشاركين في القدّاس في الكاتدرائية الكبرى وسط العاصمة. فنسبة المسيحيين الممارسين للشعائر في تونس هي نسبة متدنّية، تقلّ عن اثنين بالمئة، من العدد الجملي للكاثوليك المقيمين بالبلد، ناهيك عن نسبة المحافظين على الشعائر الدينية من السياح العابرين، الذين يأتون للمتعة والاستجمام، ولا يبالون بالحفاظ على الشعائر.
ولكن المغزى الرئيسي للكنيسة يبدو متجاوزا لهذا وذاك، عمل الإحسان الموجّه للمسلمين أو الخدمة الطقسية الموجّهة للمسيحيين، إلى هدف استراتيجي، وهو بناء جسور تغلغل في تلك المجتمعات، تطمح إلى الإلمام بسير شؤون الحياة، ومنها الاندساس في التأثير على بعض قطاعاتها الهشة، كالإدعاء تارة بخدمة القطاع النسوي، المهضوم الحقوق، أو العناية بالأقليات والشرائح المتدنّية الحظوظ، المهملة من طرف السلطة المركزية أخرى. فتحاول الكنيسة الاقتراب من الكتّاب والصحفيين المغاربة الذين يحملون رؤى مغتربة عن الإسلام، ونعني بذلك الذين لهم ميولات فرنكفونية في قراءة التاريخ والوجود الإسلاميين، أو الذين يقترحون حلولا اجتماعية وسياسية غربية للخروج من مآزق الاجتماع المغاربي، يفتقدون فيها لرؤى معايشة ونقد للغرب أو للكنيسة. فتدنو منهم الكنيسة بالقدر الذي ينتقدون به الأوضاع الدينية في المغرب العربي أو العالم الإسلامي. خصوصا إذا ما كانت تلك الانتقادات تخدم المصالح الغربية، أو تعاضد المصلحة الاستراتيجية للكنيسة. فيجدون الترحيب من المؤسسات الكنسية، ويدعون للمشاركة في الملتقيات في الغرب لشرح رؤاهم على منابر الجامعات والترويج لها، ويُعرَضون بوصفهم يمثلون الإسلام المعتدل والمتنوّر والديمقراطي والعلماني.
عادة ما تحوز الجزائر المثل السيء، لدى رجال الدين الكاثوليك، عند حديثهم عن أوضاع المسيحيين في بلاد المغرب، وغالبا ما يتناول الحديث أمرين: عدم توفّر أماكن عبادة بالقدر الكافي في هذه البلدان، وعدم تواجد مناخ حرية النكوص عن الإسلام. مفّسرين الأمر بأن السلطات في تلك البلدان تخشى تعاليم الإنجيل، ولذلك لا تسمح بحضور مبشّرين بين ظهرانيها، والواقع أن الناس لا يبالون بذلك الوعظ، بل ينجذبون لسراب حياة الدعة الخادعة في الغرب. ولذلك لم نسمع عن ناكص بدّل دينه، بلغ درجة معرفية عالية في التعمّق في المسيحية، بل ما نسمع هو تهافت بسطاء من العامة، ممن جثّته في الشرق وروحه في الغرب.
تاريخ الكنيسة الغربية في البلاد المغاربية تاريخ إشكالي، لعل أصدق خطوات تنقيته، البدء بتلمّس الصفح عما ارتُكب من انتهاكات في سابق عهده. لعل أبرز تلك الأحداث واقعة جامع كتشاوة بالجزائر سنة 1932م، التي ذهب ضحيتها زهاء أربعة آلاف من المعتصمين بالجامع، احتجاجا على قرار تحويله إلى كنيسة. والتي خلّدها شاعر الثورة مفدي زكريا بقوله:
وجامع كتشاوة المستعا د، ما انفك رمزا لإجلالنـا
وهل لافيجيري وطول الســنين استطاع المروق بأطفالنا؟
ومهما يقيمون فيه احتفالا فقد عاد يهفو لأكبادنا.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.