الشباب واللغة والتقدم - محمد الحمّار

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
12.jpgإنّ لِمسألة اللغة والتقدم وجهين، وجهٌ ظاهر ووجهٌ خفيّ.
الوجه الظاهر:
- إنّ من لا يتقن لغته لا يقدر أن يعبّر عن نفسه ويتواصل مع الآخرين المنتمين إلى نفس المجتمع أو إلى نفس الثقافة.
- إنّ من لا يتقن اللغات الأجنبية، والانكليزية على رأسها، خاصة في أوساط الشبان،  لا يمكن أن يتواصل مع الآخر المنتمي إلى ثقافة أخرى، وبالتالي لا يمكن أن يحصل التثاقف المنشود بينه وبين ذلك الآخر.
- إنّ من لا يتقن اللغات الأجنبية وبالخصوص الانكليزية لن يقدر على مواكبة العلوم والتكنولوجيا، وهي أدوات للتقدّم بامتياز.
- إنّ اللغة العربية ليست مستعملة الآن كلغة للعلوم.
الوجه الخفيّ:
1.اللغة والفكر
أ- ليست اللغة فقط أداة تواصل فهي فكر أيضا. وقد بدأ منذ الفرن الـ18 التفكير في أنّ اللغة ليست فقط أداة تواصل، بل هي مواقف وأحاسيس وفكر، وذلك قبل مجيء فردينند دي سوسير في أواخر القرن 19 وبداية الـ20 ليؤسس علم الألسنيات، وهو علم اللغات المسمّى أيضا اللسانيات أو اللغويات، وقبل أن يأتي، في النصف الثاني من القرن الـ20 الأمريكي نعوم تشومسكي ليحدث ثورة في علم اللغات بفضل نظرية "النحو التوليدي والتحويلي" المرتبطة بمفهوم "النحو الكلي".
ب- ثم إذا قسمنا الفكر إلى جزأين بحكم أهميته في حياتنا كعرب ومسلمين تواقين  إلى التقدم أي إلى الاستقلالية العلمية ستجد اللغة معبرة عن العلم من جهة وعن الدين من جهة ثانية.
ج- ليس غرضنا إثبات العلاقة بين العلم والدين بقدر ما هي إثبات علاقة اللغة بالتقدم العلمي، ولكن لا يمكن أن نغض الطرف عن دور الفكر لمّا يتسم بالصفاء الديني من حيث دعمه للمجهود العلمي. ولكن هذا يعدُّ بعدُ مشكلا قائما بذاته ويتطلب بحوثا.
د- لنتصور عالما أو مهندسا أو طبيبا لا يتقن اللغة. العلم عنده لا يمكن إلا أن يكون تقليدا واتباعا وجعبة تفرغ بفراغ المعلومات العلمية التي أخذها دون تثبيث في اللغة بواسطة التفكير.

2.هل العربية اليوم لغة التقدم؟
أقصد بـ"لغة التقدم" أن  اللغة هي أساس في الانتماء وأساس في الفهم وأساس في البحث وأساس في العلم وأساس في البناء وأساس في التواصل.
من هذه الزوايا نقدر أن نقول إن العربية أبعد ما يكون عن التقدم. وأكتفي بذكر مثالين اثنين يبرزان استهتار مثقفينا باللغة العربية. ففي أحد الملتقيات الأدبية العربية ذكر لنا أستاذ جامعي ومترجم أنّ :
أ.  أنّ المجامع اللغوية العربية عاجزة بصفة مثيرة  للقلق عن مواكبة ما يجري من تطور في دنيا العلم.
ب. أنّ حركة الترجمة العلمية إلى العربية معرقلة، ما لا يسمح بتلك المواكبة المنشودة.
يُفهم من هذا الكلام أنّ في الأثناء إنّ اللغات الأجنبية هي لغات التقدم وحريّ  بمتكلمي العربية أن يتناولوا العلوم والمعرفة بواسطتها. لكن هل نحن نتقن هذه اللغات الأجنبية؟
3.هل نحن نتقن اللغات؟
برأيي لمّا يكون هنالك انخرام بين المتكلم ولغته الأم سيكون حتما هنالك انعكاس لهذا الانخرام على علاقة المتكلم باللغات الأجنبية أيضا . أعني أنك لما تتقن لغة أجنبية ولا تعتني بلغتك فإن ذلك يدل على هروبك من مواجهة المشكل الفكري والمنهجي.
حتى وإن بدا لك أنك تتقن اللغات الأجنبية فأنت تغالط نفسك لأنك لا تعدو أن تتكلم إلاّ عمّا  يلائم بعض الأوجه في حياتك عن طريق تلك اللغات ولا يمكنك إذن أن تغوص بواسطتها في داخل أعماقك إلا إذا سعيت إلى الرفع من مستوى مهارتك  اللغوية في اللغة الأم.
4.ما هي شروط العناية باللغة العربية؟
لقد سبق أن اشرنا في النقطة رقم 1 أنّ اللغة فكر فضلا عن كونها وسيلة للتخاطب والتواصل.
ومن هنا يصبح معنى الرفع من مستوى المتكلم باللغة الأم معادلا لمعنى العناية بالفكر والرفع من مستواه. فالتقدم إذن مشروط بالتمكن من اللغة والسيطرة عليها لأنها تحمل كل أنماط الفكر سيما الفكر العلمي وكل فكر آخر يدخل في تركيبة التقدم. و من أهم أنماط الفكر نذكر:
- الفكر العلمي من أجل فهم أفضل للطبيعة وللإنسان وللعلاقة بينهما وبين الإنسان والكون كافة.
 - الفكر الديني المستنير من أجل المزيد من فهم الإنسان وعلاقته بأخيه أو نظيره الإنسان و بالطبيعة وبالكون من التقدم الأخلاقي والعلمي والاجتماعي و الحضاري.
- الفكر الفلسفي للنهوض بالتربية وبالأخلاق وبالتعليم وبالمجتمع  
- الفكر السياسي من أجل رقي أساليب إدارة المجتمع في كافة المجالات إلى غير ذلك مما تعبر عنه اللغة لصالح تقدم الإنسان.
5.ما هو دور التجربة الميدانية في تطوير اللغة الأم وتملّك اللغات؟
إنّ أنماط الفكر التي ذكرناها تتمحور كلها تقريبا حول الفكر العلمي، ما دمنا نطرق موضوع التقدم.
وما هو التقدم اليوم إن لم يكن صفوة مستندة إلى الإنجاز العلمي؟ وما هو العلم إن لم يكن نسيجا محبوكا بواسطة التجارب العينية والمخبرية والميدانية؟
اعتبارا لذلك يمكن بعدُ الحُكم على أن علاقة متكلمي العربية باللغة الأم رديئة لأنّ علاقة المتكلّم بالتجارب الميدانية ضعيفة إن لم نقل منعدمة الوجود. أي أنّ هذا الرابط بين متكلم اللغة واللغة نفسها موجود في وضع انفصال. فما العمل؟
ما من شك في أنّ الإنقاذ، إنقاذ العربية، لا يبدأ بتحسين تدريسها للشباب أو بتكثيف تمارين النحو والصرف والإعراب والقراءة والإنشاء وغيرها من أساليب التعليم اللغوي، وإنّما يبدأ الإنقاذ بالعناية بالفكر العملي والمعارف الميدانية والتجارب في مجال الإنسانيات والطبيعة والاجتماعيات.
6. لماذ لا نهتمّ بالمطالعة؟
لننظر إلى حالة المطالعة مثلا. فكل الأخصائيين يشكون من ندرة المطالعة عند متكلمي العربية. فهل هذا الشح ناتج عن عدم توفر الوقت أو عامل الترغيب أو المواضيع الجذابة، أم أن ذلك الشح عائد إلى انعدام الشهية للقراءة، وهي شهية مفصولة بانفصال الرابط بين المتكلم واللغات عموما؛ وأعني برابط التجربة العملية في العلوم؟ ما من شك في أني أرجح الفرضية الأخيرة.
فالتجربة هي التي ستوسع مجالات المعرفة بأشكال الفكر التي أسميناها. والمطالعة مكملة للمعرفة العينية المباشرة. والرغبة في المطالعة تتولد، حسب اعتقادي، من الرغبة في تكميل المعرفة العينية المباشرة. أي أنّ شدّة الرغبة في المطالعة تُقاس بفعالية المعرفة العينية، وإلاّ فلا شيء سيُرغّب الشاب أو الباحث في المطالعة إن كانت المعرفة العملية ضعيفة أو منعدمة الفعالية. بكلام آخر ليست لنا ثقافة عينية وعملية فعالة. ومادام الناس لا يقرؤون فليست هنالك رغبة في تكميل أي شيء،ناهيك أنّ هذا الشيء هو المعرفة العيينة والميدانية، الأس لكل علم معاصر.
هكذا لمّا تسمع، على سبيل المثال، أنّ  دراسة مؤخرة في تونس تبرز أنّ قرابة ربع التونسيين لم يقرؤوا كتابا البتة، فيتوجب قراءة الإحصاء كالآتي: إنّ رُبع التونسيين يعتبرون المطالعة غير صالحة؛ والسبب في ذلك هو أنهم لا يعرفون ماذا سيقرءون؛ والذي منعهم من المطالعة هو افتقارهم لحاجيات تُلبّيها المطالعة؛ وحاجيات المطالعة مفقودة لديهم لأنهم لا يُجيدون التعامل مع النبات والحيوان والكون وبالتالي مع الإنسان مستعمل الطبيعة والمستخلَف في الأرض.  وهذا عجزٌ  يُسحبُ على الثقافة الغربية الإسلامية في طورها المعاصر، وعلى كافة المجتمعات المعنية بها. 
 فيمكن القول إنّ هذا الاستنتاج حجة على أنّه عندما تكون اللغة غير متطورة، مثل حال العربية وكذلك اللغات الأجنبية عندنا، فذلك لا لأنّ الناس لا يطالعون، لكن لأنّ ليست لديهم رغبة في تكميل المعرفة وبالتالي هم لا يقرؤون طالما أنّ المعرفة العينية العملية التجريبية ضعيفة أو غائبة أو غير فعالة.
7.كيف يمكن أن تكون العربية لغة التقدم؟
من الملاحظة الأخيرة نفهم أنّ المعرفة التجريبية تمثل أهم رابط بين اللغة والمتكلم. وإن غاب أو انفصل هذا الرابط انفصل المتكلم عن اللغة الأم. وحتى وإن بدا له أنه يتقن اللغات الأجنبية فذلك تعبير عن توق إلى معرفةٍ مفقودة.
إنّ تحسين المهارات اللغوية سوف يعني حسب هذا الطرح تحسين علاقة المتكلم بالتجربة والفعل في الواقع وتنمية ملكة الملاحظة الميدانية. وهذه بعض المقترحات:
 أ. شرط سيكولوجي أوّلي:
تحويل التلذذ باللغات الأجنبية والتباهي بها إلى تلذّذٍ وتباهٍ باللغة العربية.
ب. شرط سيكولوجي ثاني:
لإنجاز ذلك لا بدّ من تطوير تعلّم اللغات الأجنبية، لا كبديل عن اللغة العربية أو هروب منها بل كمطية لربط أواصر المتكلم مع الواقع ثم إعادة التعبير عنه باللغة العربية.
ج. وربط أواصر المتكلم مع الواقع لا يحدث إلاّ بتشريك الشباب المدرسي والجامعي في تمحيص الواقع والبحث في الطبيعة، مع تدريبهم على التعبير عن ذلك بأية لغة من اللغات شريطة أن يكون التعبير فعلا مرسِّخا للمفاهيم التي ثبتت لديهم من نتائج التجارب الواقعية والميدانية.
 د. الانتفاع بتجربة اللغات الأجنبية لتطوير أساليب الخطابة والكتابة باللغة العربية. والتجربة المقصودة ليست فقط تجربة تعبيرية سطحية تخص الجانب الأداتي للغة وإنما وبالخصوص تجربة للفكر الذي تعبر عنه اللغات الأجنبية.
ه. والفكر الأجنبي هو فكر عالمي لا بد من فهمه بلغاته ثم غربلته وتصفيته لكي يتم الحفاظ على السمين فيه وضخه في الفكر الذاتي الناطق بالعربية.


محمد الحمّار
*** الاجتهاد الثالث، تونس

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟