لم تشهد البلدان العربية، على مدى تاريخها المعاصر، تعاملا ديمقراطيا في تعاطيها مع الشأن الديني، وبالمثل لم تُطوَّر مقاربة علمية في معالجة الظواهر الدينية. ولم تشذ تونس عن ذلك السياق العام رغم المنزع الحداثي المبكّر للدولة منذ مطلع الاستقلال. وهو ما جعل البلاد بعيدة عن مفهوم "الدين المدني"، وأبقى تعاطي السلطة مع الدين، بشتى أبعاده المعرفية والعلمية والتربوية، مفتقدا لرؤية حداثية حقيقية، ودون مطمح الريادة الحضارية التي تطلّعت إليها تونس بين البلدان العربية.
ولعل ذلك التردّي متأت بالأساس مما ساد من إصرار، من قبل جهاز السلطة، على ادّعاء الوصاية على تمثيل الوعي الديني الصائب واحتكار التأويلات الدينية المشروعة. وهو في الحقيقة تقليد متوارث في الاستحواذ على الثروة الدينية الرمزية، مارسته في البداية أُسَر أرستقراطية، ثم خلفتها فيه السلطة -خلال عهدي بورقيبة وبن علي-، كلّ ذلك في غياب تطوير رؤية عقلانية رشيدة. فغالبا ما روّجت السلطة، التي سعت أن تكون عصرية وعلمانية وإن بشكل غائم، رؤيةً أحاديةً للدين، سندها في ذلك خطاب ديني، ظاهره حداثي وباطنه سلفي اتّباعي، تجلى في الخطب الجُمُعية للمساجد، التي استندت إلى مدوّنات فقهية بالية. الأمر الذي جعل عناصر التعاطي مع الحقل الديني، طيلة العقود الماضية، تتخلّص في تعامل عُصابي متذبذب، افتقد إلى أبسط درجات الواقعية والرُّشد والحداثة.
وجرّاء الصراع المزمن بين خطاب السلطة وطروحات الإسلام السياسي، التي لا يمكن اختزالها في حركة النهضة، ترسّخت في تعامل التونسي حساسية مَرَضيّة، وتشكّل وعي ديني مغترب ومشوَّه تجاه كل ما هو ديني، ما زال يجد صداه في رؤى عديد السياسيين من إنتاج العهد البائد. ولم تجد السلطة بدّا من الاستحواذ على الثروة الدينية وتجميد جلّ الأنشطة المعرفية وحتى الروحية منها، بلغ الأمر مداه في الترويج للأسْطَرة والدَّرْوشة والعرافة، التي عوّلت فيها على دهاقنة الفهم الكلاسيكي للإسلام، رغم ما كانت تسعى السلطة إليه من الظهور بمظهر التفتّح والحداثة أمام الخارج.
وبرغم الوجه العصري الذي كانت السلطة تريد أن تظهر به، أكان في العهد البورقيبي أو عهد بن علي، لم تتوان عن تبني واحدية المرجعية الفقهية المالكية المنغلقة، ولم تدخر جهدا في التهجّم على مذاهب فقيهة أخرى علنا (الاثناعشري والإباضي مثلا) حتى ترسّخت رؤية دينية شوفينية تتناقض مع التعددية الدينية.
كانت أداة السلطة في ترويج خطابها السيطرةَ على الفضاء المسجدي، فضلا عن تسريب تأويل ديني عبر وسائل الإعلام، وعبر القطاع التربوي. وكانت الزيتونة (جامعا وجامعة) مربط الفرس الذي تكثّف فيه وحوله الاحتكار، لما تحوزه في المخيال التونسي من قيمة رمزية عالية. واللافت أن الاستحواذ على الزيتونة حنّطها متحفيا وخنقها أكاديميا، حتى باتت أعجز عن إنتاج رؤى دينية حداثية من داخلها: لذلك غدا الحرم الزيتوني أدنى المؤسسات الدينية التاريخية، في العالم الإسلامي، اقتدارا على فهم الظواهر الدينية المحلية والعالمية، وأقلها أهليّة في الإلمام بالتحولات الدينية والاجتماعية لافتقاده للأدوات الحداثية، مثل امتلاك ناصية اللغات الأجنبية، أو تطوير أقسام لعلم الاجتماع الديني أو الإناسة الدينية أو مقارنة الأديان، أو الوعي بالتحديات المسيحية واليهودية الراهنة، وبقي العقل الديني يطوف جيئة وذهابا في تكرار ما قاله السلف.
لقد بقي الدين في تونس محتكَرا من قبل السلطة طيلة فترة زادت على نصف القرن، ولكن حين أطلّت الإحيائية الإسلامية، مع مطلع سبعينيات القرن الماضي، استشعرت السلطة أن احتكارها ذلك الفضاء بات مهدّدا، فعملت على وأد أية منافسة بشتى الوسائل، جرّت بموجبها البلاد إلى عديد الصراعات الخطيرة في عديد المنازلات: 1981- 1987- 1989. واللافت أن ما أدمنته السلطة وقعت فيه تيارات الإسلام السياسي، فقد كانت هذه الأخيرة تعمل على احتكار الحقل الديني وتروّج لمشروعية أحادية مضادة. ولكن بعد تلك التجارب المريرة يبدو أن الساحة التونسية خطت خطوات باتجاه الرّشد، باتت فيها القناعة راسخة بين المتحاربين القدامى، بعبثية ولاجدوى احتكار المشروعية الدينية لخطورتها، وإن لا تزال ثلّة تقرّ علنا أو تضمر سرّا غير ذلك.
لكن بعد انهيار صرح خطاب السلطة الديني، المستند إلى "ما أريكم إلاّ ما أرى"، على إثر ثورة 14 جانفي، يظهر مطلب تحرير السوق الدينية نقيضا لما ساد سلفا، باعتباره الطرح الحداثي الديمقراطي في وجه الاحتكار وفي وجه الواحدية التأويلية، المولّدة لشتى صنوف التطرّف، التي خلّفت عديد الانحرافات. فلا مكان لاحتكار أي تيار ديني، أو مؤسّسة دينيّة، أو مسجد، أو كنيسة، أو معبد مقدّرات الاقتصاد الدّيني. فوفق طروحات السوق الدينية الحرّة، يتشكّل اقتصاد الاعتقاد من كافة الأنشطة الروحية والفكرية الدينية التي يعجّ بها المجتمع، على غرار الأنشطة الاقتصادية والتجارية. ذلك أن السوق الدينية تنبني على قدرات استهلاك فعلية، تسعى فيها مجموعات من المنتجين والمزوِّدين لترويج منتوجاتها الدينية المتنوعة. تصير فيها التكتلات والمؤسسات والتيارات والمذاهب، بمثابة شركات تعرض منتَجات لترويجها، بصفة الدين متاع معقّد يلبي مجموعا متنوّعا من الحاجات الفردية والجماعية.
وبالنتيجة، يتيح تحرير السوق الدينية وتوسيعها دخولَ منافسين خارجيين أيضا، جنب العارضين الداخليين، لهم الحقوق نفسها في عرض بضائعهم والترويج لها، أكانوا من التيارات الروحية المغايرة، أو الصياغات الدينية التي لم يعهدها المخيال التونسي. ذلك أن دمقْرَطة الحقل الديني تستدعي رفع الحواجز الدينية التي دأب الناس عليها، مع السعي لترويج بضاعة دينية عقلانية واقعية تقطع مع الأساليب الدغمائية السالفة.
لا يخفى أن الديمقراطية الناشئة في تونس اليوم تخشى من الوقوع ثانية رهن التشدّد، أيا كان مأتاه، وهو خوف مشروع، لما مارست فيه السلطة المدحورة أبشع أشكال التطرّف في تحزّبها لطرح ديني محدّد ونفيها لكافة الرؤى المغايرة. غير أن التنافس الديمقراطي السليم والمرجوّ، بين كافة المروِّجين للبضاعة الدينية، هو الضامن للقطْع مع التطرّف. فكما للتيارات العلمانية واللاّدينية مفاهيمها ورؤاها، أي بضاعتها الدينية المغايرة التي تروّج لها، للتيارات المحافظة بضاعهتا التي تدعو إليها. وليس من حق أي ناشط في السوق الدينية منع من يخالفه الرأي أو المعتقد، ولو كان نقيضا في الديانة أو حتى لادينيا، "قل كل متربّص فتربّصوا، فستعلمون من أصحاب الصّراط السويّ ومن اهتدى" (طه: 135).
ذلك أن التشدّد، داخل الحقل الديني، ينشأ ويتنامى حين يحتكر طرف مشروعية الخطاب. وقد أبرز التاريخ المعاصر للبلاد العربية، في عديد المناسبات، اقتران التطرّف باحتكار السلطات الخطاب الديني المشروع. مما طوّر لديها فيروس التشدّد وقوّاه، حتى انتشر بين مناوئيها بقوة أيضا.
لا يمكن أن تتدعم أركان الديمقراطية ما لم تنته الدولة عن ادعاء احتكار الخطاب الديني المشروع، وما لم تلغ تغليب توجه ديني مؤسساتي دون غيره. فتحرير السوق الدينية يقتضي حياد الدولة وتنظيمها للسوق مع ضمان المنافسة الحرة فيه لا توجيهه.